كثيرا مايعجب قارئ بكاتب او مبدع او شاعر اعجابا شديدا من خلال قراءاته له حتى يقابله ويتعرف عليه فيصدم فيه كشخص وانسان، فكثيرا ما توجد هوة شاسعة بين مايكتب المبدع من أحلام ورؤى شاهقة، ويرفع من رايات خافقة ملونة، وبين واقع هذا المبدع وأخلاقياته وسلوكه اليومي. وقد حدث هذا لي في مطلع تعرفي بالوسط الأدبي فى مصر وكنت طالبا بجامعة القاهرة فى نهايات الستينيات. وبدأت فى التردد على مقاهي ريش والاتيلية وغيرها من اماكن تجمع الادباء والشعراء. واقتربت من بعضهم شخصيا، فكان هذا اللقاء – المفجع وقتها- احد مراحل نضوجي الشخصي واكتسابي لمعرفة الفرق بين ما يمكن ان يقوله ويبدعه الانسان وبين مايفعله كل يوم. وكان رجاء النقاش من القليلين الذين لم افجع عند الاقتراب منهم، بل على العكس. فقد كان في شخصه وقوله ومسلكه كما هو في كتاباته، نفس المبادئ النبيلة، والمشاعر الجميلة، والترفع عن السفاسف والبذاءات اللفظية والفعلية معا.
* * *
أصدرت مجلة الهلال المصرية العريقة عددا خاصا بعنوان "رجاء النقاش- القلم. الانسان" شارك فيه اكثر من خمسين كاتبا عربيا تحية وتقديرا للناقد المصري الكبير الذى قدم للأدب العربي والثقافة العربية اسهامات جليلة يندر ان يقدمها شخص واحد، وذلك عبر ما يزيد عن نصف قرن من العطاء والابداع في مجالات النقد والادب والصحافة والثقافة.
وما كان ان تفوتني هذه المناسبة الجميلة المعبقة بعطر التقدير والعرفان لكى اكتب فى حب رجاء النقاش، ذلك الفارس النبيل لأدب الزمن الجميل، وللرجل أفضال ادبية شاملة على جيلى كله، وأفضال أدبية بالنسبة لى شخصيا، يهمنى هنا أن أكتب عنها.
النقاش الإنسان:
كثيرا مايعجب قارئ بكاتب او مبدع او شاعر اعجابا شديدا من خلال قراءاته له حتى يقابله ويتعرف عليه فيصدم فيه كشخص وانسان، فكثيرا ما توجد هوة شاسعة بين مايكتب المبدع من أحلام ورؤى شاهقة ويرفع من رايات خافقة ملونة وبين واقع هذا المبدع وأخلاقياته وسلوكه اليومى.
وقد حدث هذا لى فى مطلع تعرفى بالوسط الأدبي في مصر وكنت طالبا بجامعة القاهرة فى نهايات الستينيات وبدأت فى التردد على مقاهي ريش والاتيلية وغيرها من اماكن تجمع الادباء والشعراء واقتربت من بعضهم شخصيا، فكان هذا اللقاء –المفجع وقتها- احد مراحل نضوجي الشخص واكتسابي لمعرفة الفرق بين ما يمكن ان يقوله ويبدعه الانسان وبين مايفعله كل يوم.
وكان رجاء النقاش من القليلين الذين لم افجع عند الاقتراب منهم، بل على العكس. فقد كان في شخصه وقوله ومسلكه كما هو في كتاباته، نفس المبادئ النبيلة والمشاعر الجميلة والترفع عن السفاسف والبذاءات اللفظية والفعلية معا. ويمكن ان يلقى لقائي الأول برجاء النقاش ضوءً على أحد خصال هذا الناقد الأدبي الهامة في علاقته بالأدباء الناشئين.
فعلى أثر تخرجي من كلية هندسة القاهرة في صيف هزيمة 67 الهائلة، بدأت استكشاف الوسط الأدبي في مصر، الذى كان يتناقل قصيدة "هوامش على دفتر النكسة" لنزار قباني الممنوعة فى مصر تناولا سريا سحريا، فقد كانت هي المرة الاولى في عمر جيلي – جيل الثورة - التي نقرأ فيها كلمات بها أي نقد للثورة ولزعيمها وللحالة العربية بشكل عام. وفى جو الاحباط العام والانكسار القاتل واليأس الشامل بعد ضربة الحرب السريعة الباطشة. كتبت قصيدة قصيرة جدا وارسلتها لمجلة الهلال في براءة كانت بلاشك وراء جرأتي في ان ارسل للهلال – مرة واحدة – وهى اهم مجلة ثقافية في مصر – منتظرا ان تنشر لي قصيدة وانا لم انشر في أي مكان من قبل!
وبعد ذلك بأيام عدت الى البيت ذات مساء، ليقول لى أبى أن رجاء النقاش اتصل تليفونيا يريدك ان تقابله. وفعلا ذهبت الى مكتبة وانا أكاد أطير من الدهشة المصحوبة بالتوجس، من ان يكون الغرض من المقابلة هو تقديم النصيحة المعتادة من ناقد كبير لشاعر ناشئ، بأن يستمر في المحاولة والمثابرة لعله يكون من الممكن نشر شيء له في المستقبل.
وحين دخلت الى مكتبه في خجل وتردد قابلني رجاء النقاش بدفئه الإنساني الذى لايفارقه، مما أراحني كثيرا. وكان في مكتبه احمد عبد المعطى حجازي، وأعطى النقاش قصيدتي لحجازي فقرأها، وأثنى عليها. وقال لي النقاش انه سينشر قصيدتي القصيرة قريبا. وفعلا نشرت، وقد كتب النقاش بعد ذلك بما يقرب من ثلاثين عاما عن هذا اللقاء في مقال عنى بجريدة الاهرام بعنوان "الشاعر لا يضيع" (17 مارس 1997) ما يلي:
"الشاعر المصري الذى أتحدث عنه اسمه فرانسوا باسيلي وقد تعرفت عليه سنة 1969 وكنت ايامها رئيسا لتحرير مجلة "الهلال" الشهرية. وفى احد الايام تلقيت رسالة عادية في البريد بها قصيدة وليس معها سوى كلمات معدودة يقدم فيها الشاعر نفسه، ويرجو نشر قصيدته. وقد أعجبتني القصيدة لبساطتها وعذوبتها وطابعها الإنساني الجميل، فنشرتها على الفور. وبعد ان نشرتها جاءني صاحبها زائراً في مكتبي، فوجدته شابا صغيرا وديعا يوحى بالنظافة الروحية، والتهذيب الحقيقي الذى لا افتعال فيه، ولا ادعاء. ولا أظن انثنى لقيته سوى مرة واحدة اخرى قدم لي فيها قصيدة ثانية نشرتها له".
مكتشف المبدعين:
توضح هذه الحادثة الأسلوب المدهش الذى يتعامل فيه رجاء النقاش مع الادباء الناشئين؛ فهو يبحث عنهم ويشجعهم وينشر لهم بلا قيد ولا شرط، ودون ان يطلب او يتوقع منهم تلك الطقوس الطويلة، التي يتطلبها غيره، طقوس الاطراء والمديح والنفاق وتقديم فروض الولاء والطاعة، ولم اكن أجيد أيا منها. وللمقارنة أقول أنني، في نفس تلك الفترة، قابلت وأعطيت أشعاري لنقاد مصريين آخرين، هم د. لويس عوض وكان من اكبر نقاد مصر وقتها، والناقد المميز غالى شكري، والاستاذ الكبير يحي حقي، ولم احظ بتشجيع جميل وحنون من أحدهم سوى من الاستاذ العظيم يحي حقي، الذى نشر لي ثلاثة قصائد مرة واحدة في عدد واحد من مجلة (المجلة) المصرية.
اما الدكتور لويس عوض فزرته في مكتبه واستنتجت من اسلوب حديثه معي ان الحصول على تشجيعه ستكون عمليه مجهدة طويلة الامد، وكان مكتبه في (الاهرام) بالغ الفخامة، ولكنه لم يعرف عنه طوال حياته النقدية سوى احتضانه لشاعر واحد هو صلاح عبد الصبور.
اما رجاء النقاش فقد قدم للأدب العربي عددا كبيرا من الادباء باحتضانه وتشجيعه له، وتقديم اعمالهم باحتفاء وحماس وبلا قيد او شرط. ومن اشهر هؤلاء محمود درويش وسميح القاسم وقد قدمهما النقاش للعالم العربي باحتفاء خاص باعتبارهما "شعراء المقاومة الفلسطينية." دون ان يهمل التأكيد على ان احتفاءه بهم ليس سببه السياسة، او المشاعر الوطنية، وانما السبب جدارة اشعارهم وقيمتها الفنية والانسانية. وقد اثبتت الايام صدق إحساسه الفني.
كما كان له فضل مساندة احمد عبد المعطى حجازي الذى كان له – مع صلاح عبد الصبور – دور ريادي في تغيير الذائقة الشعرية في مصر من الشعر العمودي الى شعر التفعيلة الذى كان يوصف ايامها بـ "الشعر الجديد". ودخل النقاش بهذا في معارك ضارية ضد سدنة الشعر العمودي وقتها مثل عباس العقاد وصالح جودت وغيرهم، انتصر فيها فرسان الشعر الجديد في النهاية، اذ اصبح هو السائد في مصر والعالم العربي حتى تقدمت قصيدة النثر لتصبح هي السائدة اليوم.
وقد ذكر عدد لابأس به من الكتاب كيف كان لرجاء النقاش معهم مواقف مشابهة لموقفه معي، فلديه دائما ذلك الاهتمام الشديد بالمواهب الجديدة. يتعامل معها بحنو واحترام ومحبة شخصية وامانة عفوية، هي خصال اساسية في طبيعته النقية الجميلة.
عذوبة البساطة:
يتميز رجاء النقاش بدفء أنساني يلفحك بمجرد اقترابك منه، تبثه شخصية مصرية اصيلة، تنضح بعذوبة البساطة وعفوية ومرح المصري "ابن البلد"، الذى يمنح بكرم وتلقائية من جيبه ومن نفسه معا. اضف الى ذلك احساس مرهف بالفكاهة يتميز بها معظم المصريين، ولكن يفقدها الكثير من "الكبار" الذين تستولى عليهم مشاعر التعاظم والتكبر وانتفاخ الذات. ولقد لمست الدفء وعذوبة البساطة في رجاء النقاش عندما زرته في مكتبه بدار الهلال عام 1998 بعدما كتب عنى ذلك المقال الطويل بـ(الأهرام) الذى اشرت اليه لأشكره. ولكنه اصر على ان يأخذني معه للعشاء في احد مطاعم السيدة زينب الشعبية الجميلة. وهناك – مع اطباق المشويات ومشروب اسمه "ويسكي ابن البلد" لم يكن به أي شيء من الويسكي، ولكن كان مزيجا من الشوربة الساخنة، وماء المخلل والشطة وربما الحلبة. وكان لشدة سخونته وحرقته يلدغ الذوق ويدفئ الجسد، فاعلا فيه فعل الويسكي، ولكن بدون الخدر العقلي – حدثنى النقاش ليلتها بحماس عن كتابه الجديد عن نجيب محفوظ، وحدثته عن إعجابي بالعرض المميز الذى حضرته عن حرب العبور. وسألته ان كان هناك اعمال فنية اخرى مماثلة عن حرب العبور. فقال لي في مزيج من الاستنكار والدهشة: "تسألني الآن بعد ربع قرن عن حرب العبور، ان مشكلتنا اليوم هي العبور من ميدان التحرير الى ميدان رمسيس"!
وضحكنا معا ضحكة مجلجلة لم تكن ما وراءها من حسرة خافية على احد.
النقاش والسلطة:
رغم ان نجم النقاش بدأ لمعانه في الستينات بما يكفي، لان يعرضه ذلك - كما تعرض كتاب آخرون في ذلك الوقت - الى معتقلات ومضايقات، كما حدث للويس عوض ومحمود امين العالم وصنع الله ابراهيم وغيرهم، الا ان النقاش لم يعتقل مثل غيره. ولعل ذلك كان بسبب عدم انتماء النقاش للفكر اليساري او الشيوعي، اذ نشأ في بيت إسلامي متدين في اعتدال. ولم تجذبه ايديولوجيات غربية: لا يسارية ولا يمينية.
كما ان ميوله الفكرية ذات طابع ادبى وفنى وإنساني عام، لا يشكل الفكر السياسي فيها رافدا اساسيا. ولذلك لم يشكل خطرا على النظام الناصري. بل على العكس كان اتجاه الثورة العروبي العلماني سياسيا المنحاز للتجدد والابداع ثقافيا وفنيا، مع الانحياز الاجتماعي للفقراء واولاد البلد في تمسك عام بالاعتزاز بالتراث العربي والكرامة العربية، كانت هذه كلها هي نفسها ميول النقاش الطبيعية، وبذلك لم يكن في حاجة للصدام مع السلطة، ولا الى منافقتها اذ كان متسقا تماما معها.
وقد تغير هذا في عهد السادات، اذ انقلب السادات على هذه الاتجاهات الناصرية، وطرد رموز الثقافة من مواقعهم، وسلم مقاليد الثقافة المصرية لرموز اليمين السياسي والديني، ففقد رجاء النقاش رئاسة تحرير (الهلال) ومُنحت الى صالح جودت، فأعادها فجأة الى اكثر من نصف قرن للوراء. وترك النقاش مصر على اثر ذلك غاضبا حزينا، وكتب مقال وداع مؤثر. وذهب الى قطر حيث اسس جريدة الراية، ومجلة (الدوحة) وكانت مجلة ثقافية مميزة. وقد كتبت في ذلك الوقت مقالا ناريا بعنوان "نعى مجلة الهلال" نشرته مجلة (الآداب) اللبنانية في مكان كلمة المحرر وقتها، قمت فيه بتشريح عدد خاص اصدره صالح جودت عن القمر، وكان الاتحاد السوفيتي قد اطلق اول صاروخ للقمر، واوضحت كيف ان العدد لا يمت للعصر بصلة، رغم ان موضوعه هو الصاروخ العصري. اذ لم تظهر به سوى قصائد عمودية بائسة خالية من الشعر – لشعراء لم يكن معظمهم على قيد الحياة!
وكتب جودت قصيدة يتغزل فيها في القمر وفى حبيبته بأسلوب شعرى قديم مفتعل. ولم اكن ادرى وقتها حتى وانا اكتب "نعى مجلة الهلال" حجم وفداحة الكارثة الثقافية التي حلت بمصر. وكان العنوان الاكثر دقة لمقالي – لو كنت اقرأ الغيب – هو "نعى الثقافة المصرية". فالذي اثبته الأيام هو ان تلك الفترة التي اسلم فيها السادات المجتمع المصري، والثقافة المصرية، لقوى اليمين المتزمت كانت هي بداية الانهيار الثقافي الهائل الذى مازلنا نشاهده مستمرا امام اعيننا الى اليوم.
التصاق المبدع بإبداعه:
اذا اردنا الخوض في الفلسفة النقدية لرجاء النقاش، سنجد ان لها دعامتين اساسيتين. الدعامة الاولى هي اهتمامه بشخصية المبدع قدر اهتمامه بإبداعه. فشخصية المبدع وسلوكه وواقعه الحياتي هي محل اهتمام شديد من النقاش، يرى فيها الكثير مما يفسر لديه الاتجاه الإبداعي الخاص للمبدع. فيوغل فيها باحثا عن اسرار النشأة والتكوين والبيت والدراسة والعمل والأنشطة السياسية، ليأخذ من مصابيحها كلها اضواء تكشف له اسرار العمل الإبداعي نفسه. وهناك امثلة عديدة على اهتمام النقاش بالجوانب الشخصية للمبدعين والكتاب، منها مثلا نشره للرسائل الشخصية المتبادلة بين الناقد المصري انور المعداوي والشاعرة الفلسطينية فدوى طوفان.
اعتمد عليها النقاش في تقديم تحليل نفسى لشخصية المعداوي. ويبدو ان للنقاش هنا اهتماما بل هياما كبيرا بفهم الحياة الشخصية للمبدع كمدخل لفهم ابداعه، وربما كان هذا هو سر اهتمامه الزائد بالادباء الشبان والمبدعين المغمورين، فهو لاينظر اليهم فقط كمنتجين لمادة ابداعيه جديدة وواعدة، ولكنه يرى فيهم جوانب مثيرة من جوانب الظاهرة الانسانية نفسها، فكل مبدع هو انسان مميز معقد فريد يستحق ان نستكشف كل مكنونات نفسه ومزاجه وسلوكه وعواطفه وأفكاره حتى نصل الى فهم اعمق لما يبدعه لنا من رواية او قصة او شعر او نقد او فن.
وعلى هذا الضوء تزول الدهشة التي قد تصيبنا لأول وهلة عندما نكتشف ان عددا كبيرا من مؤلفات النقاش تحمل عناوين تتعلق بشخصيات المبدعين اكثر مما تتعلق بإبداعهم. فنجد له العناوين التالية- كمثال: شخصيات وتجارب/ ملكة تبحث عن عريس/ عباقرة ومجانين/ نساء شكسبير/ لغز ام كلثوم/ فى حب نجيب محفوظ/ لويس عوض فى الميزان.
فى هذه كلها وغيرها يهتم النقاش بشخصية المبدع قدر اهتمامه بإبداعه ذاته ولا يفصل كثيراً بين الاثنين. وعليه فيمكن القول ان مدرسة النقاش النقدية هي مدرسة نفسية انسانية واقعية تبحث دائما عن الانسان – والإنساني- في العمل الإبداعي الذي تتصدى لنقده وتحليله، وتقدم هذا البعد الإنساني كعامل لا ينفصل عن المنتج الإبداعي نفسه.
أيديولوجية الإبداع:
الدعامة الثانية لمدرسة النقاش النقدية – والتي يمكن رؤيتها نتاجا طبيعيا للدعامة الاولى – هي اهتمامه الشديد بالبعد الايدلوجى للمبدع وللعمل الإبداعي، مما يصل احيانا الى حد الحكم على العمل الإبداعي حكما متأثرا بأيديولوجية المبدع. وان كان من المهم هنا ملاحظة ان النقاش قد قام بتطوير فلسفته النقدية بشكل أساسي في العقدين الاخيرين، بما يخفف من اهتمامه بأيدلوجية المبدع، وينحاز اكثر الى القيمة الفنية للإبداع – وان لم يكن ذلك بشكل مطلق.
ولعل اشهر مواقف النقاش فى هذا الصدد هو موقفه الشديد من ادونيس احد اهم الشعراء العرب المعاصرين وعلى الاغلب احد اهم عشرة شعراء فى تاريخ الشعر العربى كله. اذ كتب النقاش مقالا شديد اللهجة ضد ادونيس عام 1988 بعنوان "ايها الشاعر الكبير.. انى ارفضك!" اعاد نشره بعد ذلك مصحوبا بمقال ثان لا يقل عنه هجوما ضد ادونيس في كتابه "ثلاثون عاما مع الشعر والشعراء" الصادر عام 1992. كتب النقاش: "الكتاب (الثابت والمتحول) كله طعن ظاهر على العروبة والآدب العربي والفكر الإسلامي – وهو طعن واضح الغرض – مكشوف الهدف. وليس فيه شيء من الموضوعية او الامانة العلمية او سلامة الفهم للنصوص .. فأدونيس يرفع راية التجديد الشعرى الكامل. ولكنه تحت هذه الراية يريد القضاء على كل الجذور في الشعر العربي والشخصية العربية معا في وقت واحد."
وقد قرأت منذ بضعة سنوات ان رجاء النقاش تراجع عن هذا الرأي، واقام مأدبة كبيرة على شرف ادونيس احتفى به فيها ودعا اليها عددا كبيرا من الادباء والشعراء. والحقيقة ان هذا حدث نادر في الوسط الأدبي العربي او العربي عموما فلا احد من "الكبار" في أي مجال ادبى او سيأسى او غيرها يعترف انه أخطأ، فعدم الاعتراف بالخطأ خاصية عربية اصيلة، لم يكسرها سوى جمال عبد الناصر عندما اعترف بمسئوليته الكاملة عن كارثة 67 وقدم استقالته.
ولهذا فإن مراجعة النقاش لموقفه من أدونيس هو دلالة جديدة على ما تتمتع به شخصية النقاش من خصال فريدة ومميزة ونبيلة بشكل يكاد يكون نادر المثال. ونلاحظ انه حتى في ذروة غضب النقاش، ورفضه لأدونيس، اشار اليه بالشاعر الكبير، ولم ينكر عليه شاعريته الكبيرة، وهو نفس ما فعله بعد ذلك في كتابه عن الناقد الكبير د. لويس عوض "لويس عوض في الميزان" والذى اختلف فيه بشدة مع عوض في موقفه من اللغة العربية الفصحى، ومواقف اخرى عديدة، لكنه اخذ يكرر ويؤكد في نفس الوقت اعترافه بدور لويس عوض الكبير في النقد العربي وفى تعريف القراء العرب بعيون الآداب العالمية بحاسة نقدية مميزة وثراء ثقافي موسوعي.
الالتزام بالعروبة:
احد المواقف الاساسية لرجاء النقاش هو انتماؤه العربي الحميم والتزامه بالعروبة فكرا وثقافة ومصيرا. وهو لا يكل في الدفاع عن العروبة بكل جوانبها. وقد امتد دفاعه والتزامه العربي لأكثر من ثلاثين عاما. فقد نشر عام 1978 كتابه "الانعزاليون فى مصر" يختلف فيه بشدة مع لويس عوض وتوفيق الحكيم – وكانت لهما رؤية مخالفة ترى ان مصر متفردة بتاريخها المصري وان كان لها من امتداد فليكن باتجاه اوروبا والحضارة الغربية، باعتبارها مستقبل النهضة الانسانية. ومؤخرا – فى مطلع 2007 – قرأت للنقاش مقالا يهاجم فيه الكتاب الذين يهاجمون العروبة ويهزؤون بها، فهو إذن كاتب لا يبدل افكاره حسب الموجة واتجاه الرياح، كما فعل بعض اليساريين الذين تحولوا الى اسلاميين او ليبراليين او رأسماليين. وهم كثر. وهنا ايضا نجد اتساقا بين فكر النقاش وطبيعته التي تنفر من التلون والتنكر والسير في الزفة. فالنقاش رجل يقول ما يؤمن به بغض النظر عن شعبية هذه المواقف.
فالنقاش ملتزم التزاما حميما بالعروبة والثقافة الاسلامية. ولا يعنى ذلك تشدده او انغلاقه الديني، فقد كتب مقالات عديدة عن الأقباط وتاريخهم ووطنيتهم. وقال انه كان في صغره يستمع من والده عن الزعيم القبطي ويصا واصف ومواقفه الوطنية المشرفة، بينما وصف والده بأنه كان من اكثر المتفقهين في الدين الإسلامي علما ومعرفة بأصول الدين .. ومع ذلك كان يتحدث لأبنائه في كل مناسبة عن زعماء الاقباط الوطنيين، ولاشك ان النقاش قد أكتسب من هذا حرصه على تراثه الإسلامي من ناحية مع انفتاح على الآخر واهتمام بالأقباط من ناحية اخرى.
الدفاع عن العروبة والتراث الإسلامي من ناقد عربي مسلم هو أمر طبيعي ومتوقع ومنشود، طالما لا يمنع ذلك من الوقوف الى جانب حركات التجديد في الخطابين الأدبي والديني معا، وهو موقف يقفه النقاش دائما، فقد دافع مؤخرا عن كتاب للشوباشى يدعو لتجديد اللغة العربية فوقف مؤيدا لمطلب تبسيط النحو، كما كتب مقالات ضد الرجعية والتزمت في الخطاب الديني وفى السلوك الاجتماعي، فهو مجدد ومؤيد متحمس لحركات التجديد في الخطاب الأدبي والفني والديني، دون ان يجرفه ذلك الى منزلق معاداة التراث واحتقار الذات والنظر بدونية لكل ما هو عربي او محلى، ومن هنا كان حبه وحماسه الشديد لنجيب محفوظ الذى وصل الى العالمية عن طريق المحلية، ولهذا ايضا كانت مشكلته مع أدونيس التي قام بتصحيحها حين أثبتت الأيام ان فكر أدونيس - على قسوته في نقد التراث العربي الإسلامي - هو بالضبط الطريق الى تجديد هذا التراث وجذبه لمجاراة العصر ومعايشته.
لكل ماقدمه رجاء النقاش من فكر وادب وابداع نقدى ومعارف واضافات ثقافية تتسم كلها بمسحة راقية رهيفة من الجمال والنبل والتألق، ولما له من فضل ادبى على شخصيا، وعلى عشرات وربما المئات غيرى، أشعر بالفرح الحقيقي وأنا اكتب عنه هذه الكلمات القاصرة، مشتركا مع الآخرين الذين سبقوني –في عدد مجلة الهلال – في الاحتفالية الحارة الجياشة الغارقة في حب رجاء النقاش.
كاتب من مصر يقيم في نيويورك