يتابع الطبيب والباحث السوداني المخضرم ذكرياته عن الواقع الألماني الذي عاش فيه عقودا، سعى خلالها لأن يكون فاعلا في محيطه الألماني المباشر، وفي وضع السودان والعالم العربي من ورائه على خريطة الفهم الصحيح في الواقع الألماني، وأن يكون جسرا بين ثقافتين، يقدم هنا أحد مستشرقيها البارزين.

شخصيات في الخاطر (الراحلون)

فريتس شتيبات والاستشراق الألماني

(24 يونيو 1923 ــ 7 أغسطس (2006 Fritz Steppat Prof.

حامد فضل الله

 

الاستشراق الألماني

لا تهدف هذه الحلقة التعرض لتاريخ الاستشراق الألماني وتطوره، فهذه مهمة لا اتمتع بالقدرة عليها، وانما أود الإشارة بأنني كنت أحيانا أحضر المؤتمرات الخاصة بالاستشراق كمستمع فقط، ولأتعرف على بعض المستشرقين، الذين أصبحوا عونا لنا لاحقاً في المنظمات العربية، التي كنت أشارك في ادارتها، وكذلك لبناء علاقات على النطاق الشخصي أيضاً.

أذكر الآن المستشرق الكبير فريتس شتيبات Fritz Steppat هو أول مدير مهم لمعهد جوته بالقاهرة (1955 ــ 1959)، ومدير لمعهد الشرق في بيروت (1963 ــ 1968)، وأستاذ للدراسات الاِسلامية في جامعة برلين الحرة (1969 ــ 1988).

أصدر المعهد الألماني للبحوث الشرقية في بيروت في عام ،2001 مجلداً خاصاً، تكريما لمديره السابق، بعنوان "الإسلام شريكاً"*، ويضم 477 صفحة ويحتوي على أبحاث مختارة من أبحاثه العديدة. جزء كبير منه يغطي فترة القاهرة وبيروت، هنا عناوين بعضها: التغيرات في استقلال لبنان، جهود الأمن الإقليمي في الشرق الأوسط، مسار الأمة الجزائرية، الجوانب الروحية والاجتماعية للصراع الجزائري، ثورة ناصر بدايه جديدة، جمال عبد الناصر، محمد علي، طه حسين ودمقرطة نظام المدارس المصرية، الفتوات والعلم، أولاد حارتنا لنجيب محفوظ، النقد الأصولي الاِسلامي لمفهوم دولة الثورة الاِسلامية، الطائفية في الرواية اللبنانية، توفيق يوسف عواد، طواحين بيروت، ملاحظات حول دور العلماء في التواصل بين الأديان، عشرة أطروحات حول الأصولية الاِسلامية ... إلخ

يقول فريتس شتيبات في مناقشة أطروحة صِدام الحضارات وبطريقة غير مباشرة مع أطروحة "الاستشراق" لإدوارد سعيد: "إن الاستشراق شكل نافذة جيدة على الشرق، تم التعريفُ من خلالها، وطوال قرنٍ ونصف القرن، بالعرب والاِسلام، وحضارتهما، بطرائق موضوعية وودودة في أكثر الأحيان. وأيا يكن الرأي الآن، بعد تغير الظروف والمناهج، في تلك الدراسات؛ فإنه يكونُ علينا النظر إليها من جانبين: جانب الجهود المبذولة في نشر النصوص العربية القديمة كنشرات علميةً، شكلت منهجاً سار عليه في ما بعد المحققون والدارسون العرب. وجانب العروض الشاملة والمتخصصة للتاريخ السياسي والثقافي العربي الاِسلامي، ودراسات التاريخ الديني، وتطورات الحضارة الاِسلامية في عالم ما بعد الكلاسيكية، وصولاً إلى الدولة العثمانية".

المعروف أن إدوارد سعيد لم يتعرض للاستشراق الألماني، بسبب أن الألمان المستشرقين ما كانوا فاعلين أقوياء في "المؤسسة"، فضلاً عن أن "المؤسسة" ما كانت رئيسية في الحركة الاستعمارية في العالمين العربي والاِسلامي، وهو يعني بذلك، بأن الاستشراق الألماني لم يكن منخرطاً في مشروع استعماري، أو في خدمة الدولة الألمانية ومتلقيا الدعم منها، وهذا ما خالفه فيه الدكتور رضوان السيد أستاذ الدراسات الاِسلامية في الجامعة اللبنانية، وحاصل على دكتوراه من جامعة توبنغن بألمانيا، مبيناً أن "الألمان كانوا يملكون "رغبات" استعمارية شرسة ومعلنة، ولكنها ما صارت فاعلة إلا لاحقاً".

كما قام الراحل عبد الغفار مكاوي (مصر)، وهو من خريجي الجامعات الألمانية، وأستاذ الفلسفة السابق في جامعتي القاهرة والكويت، بترجمة كتاب شتيبات الى العربية، كما ترجم من قبل قصائد لبرتولد برشت و كذلك "الديوان الغربي الشرقي" للشاعر الألماني الكبير جوته، ترجمة رائعة مقارنة بترجمة غير موفقة قام بها عبد الرحمن بدوي. وعبد الغفار تلميذ الأستاذ شتيبات، وقام  بإهداء كتابه "النور والفراشة، مع ترجمة النص الكامل للديوان الشرقي لـ جوته وتعليقات وشروح"، مسطراً: "إلى أستاذي الدكتور فريتس شتيبات (معهد الدراسات الاِسلامية ــ جامعة برلين الحرة)، أحببتَ بلادي وأحببتني، علمتني ووقفتَ دائما بجانبي، هل تقبل زهرة حبًّ ووفاء من غرس يديك؟

أسسنا في عام 1992 "منتدى حوار الشرق والغرب"، وسعدنا كثيراً، عندما قبل الأستاذ شتيبات عضوية الشرف في منظمتنا الوليدة، ولا أزال أذكر مشاركته في الندوة الكبيرة بعنوان تاريخ القرآن، وعن النسخ القديمة للترجمة الألمانية للقرآن، وشارك في تلك الندوة الأستاذ هارتموت بوبسين من جامعة ارلانغن، كما قام بوبسين بانجاز ترجمة جديدة للقرآن الكريم، الطبعة الأولي 2012، "دار بك" ميونخ، وهي حصيلة لجهود استمرت 10 سنوات. ولعلني أذكر هنا باختصار دور الصديق الراحل العزيز المصري أحمد عز الدين، فهو صاحب فكرة "منتدي حوار الشرق والغرب"، الذي استطاع أحمد أن يجمع له عدد من الأساتذة من جامعة برلين الحرة ومثقفين المان كأعضاء. لقد كان التعاون بيننا مثاليا، فكلانا كان مهموما بهموم الوطن العربي وبمشاكل التواصل مع المجتمع الألماني. لقد كان أحمد هو العمود الفقري للمنتدى ــ هذا المنتدى الذي ترك بصمات واضحة تذكر له حتى الآن ــ لما يتمتع به من نبل وصدق ونزاهة وإنسانية.

كما نشير هنا الى تيودور نولدكه وكتابه المشهور "تاريخ القرآن"، الذي صدر عام 1860، وصدرت له الآن ترجمة حديثة، قام بها الصديق اللبناني جورج تامر، وصدرت الطبعة الأولى في بيروت 2004  وحقوق النشر محفوظة لمؤسسة كونراد ــ أدناور، وقد أهداني المترجم مشكوراً نسخة من ترجمته الجيدة، حسب تقييم الأستاذ رضوان السيد. كما قدم الأستاذ شتيبات عام 1989، محاضرة قيمة بعنوان " بين الثقافات ــ الآيات الشيطانية لسلمان رشدي"، بعد صدور الرواية باللغة الألمانية. قدم الأستاذ بنبرة هادئة، بالرغم من حالة الاحتقان والجو المتوتر والهيجان، تلخيصاً وافياً لمضمون الرواية بموضوعية، ثم تعرض للجانب الفني والأدبي والفلسفي، ومضيفاً":

"إذا طلب من عالم إسلامي إبداء رأيه في كتاب رشدي المثير للجدل، فلا يسعه إلا أن يؤكد أنه يتعارض مع الاِسلام في العديد من النقاط. القرآن كلام الله، والنبي شخص غير معصوم، ولكنه حامل القرآن وهو أعلى سلطة بعده، فأن التشكيك فيه، يعني التشكيك في الاِسلام، كما يعني التشكيك في بر الله أيضاً .. أن تهمة الكفر خطيرة للغالية .. لذلك يحجم علماء الدين المعاصرون، عن إعلان أن المسلم غير مؤمن، وواحدة من حججهم، هي أن هذا متروك للرب فقط. يعني الدين بالنسبة للعديد من المسلمين، أكثر بكثير مما يعني للناس في المجتمع الصناعي الحديث، فهو يقوم على التعريف بالذات والهُوية، أكثر من الجنسية أو الطبقة أو ما شابه". "أولئك الذين يعيشون في عالم تهيمن عليه قوى غريبة يتشبثون بشدة بهويتهم، ومن الواضح أن هذا هو الإسلام بالنسبة لغالبية المسلمين. إن تشويه سمعة دينك يعني الإضرار بعمق باحترامك لذاتك. من المؤكد أن المهاجرين المسلمين العاديين في إنجلترا لم يتمكنوا من فهم فلسفة كتاب رشدي، أو تقدير ميزته الفنية، لكن ما اقتبسوا منه وجد مثل هذه الإساءة - لذا أحرقوا الكتاب. نأمل كثيرًا أن يتعلم المسلمون تحمل مثل هذه الكتب بهدوء أكبر. لكن هذا يفترض أن إحساسهم بالذات قد تعزز وتغير. من أجل هذا لا يمكننا أن نضحي بحرية التعبير التي كسبناها بشق الأنفس - وحتى يومنا هذا لا نحترمها مطلقًا. لكن يجب في نفس الوقت، أن نجري مناقشة مثل هذه الكتب بطريقة تناسب شركاءنا في مجتمع متعدد الثقافات، وتقود لتوضيح بأننا نتفهم مشاكلهم.

نتيجة لتطور العلوم الاجتماعية والمنهجيات الجديدة، وما بعد الحداثة، ما كان من الممكن أن يبقى الاستشراق الألماني على صورته الكلاسيكية، فتارة ينضم الى علم التاريخ، او الأنثروبولوجيا او علم الاجتماع ... والآن توجد في الجامعات الألمانية العديد من المعاهد، التي تعني بالدراسات الاِسلامية والعربية.

قام توماس شيفلر بتحرير كتاب شتيبات وكتب مقدمة ضافية، كما أورد أسماء العديد من مساعديه وخاصة الذين عملوا معه في معهد الشرق في بيروت، وأصبحوا فيما بعد أساتذة في جامعات ألمانية أو أمريكية أو سويسرية، كما أشرف شتيبات على رسالة دكتوراه للصديق السوداني صلاح حمودي ، الذي عمل لاحقا أستاذا في جامعات المملكة العربية السعودية.

كما نود أن نشير باختصار الى الأستاذة غودرون كريمر، خليفة شتيبات في كرسي الدراسات الاِسلامية، ومواصلة نهجه بالاهتمام بالدراسات العربية والاِسلامية الحديثة، كما أصدرت كتابا بعنوان" تاريخ الاِسلام"، صدر عن دار نشر "بك" ــ ميونج عام 2005، كما نشير الى الأستاذة أولريكه فرايتاج مديرة مركز الشرق الحديث في برلين، والمحاضرة في معهد الدراسات الاِسلامية في جامعة برلين الحرة. لقد استضافت من قبل في مركزها، أستاذ التاريخ في جامعة الخرطوم، الراحل محمد سعيد القدال، ومنذ فترة قصيرة البروفيسور أحمد إبراهيم أبوشوك، حالياً أستاذ التاريخ الحديث في جامعة قطر، كما قدمتْ كلمة التكريم الرائعة والضافية في حفل تكريم السيدة فاطمة أحمد إبراهيم، رائدة العمل النسوي في السودان، الفائزة بجائزة أبن رشد للفكر الحر لعام 2006. اما المستشرقة الكبيرة الأخرى، الأستاذة أنجليكا نويفرت، سوف نتحدث عنها بإسهاب في حلقة قادمة.

* Fritz Steppat, Islam als Partner, Würzburg, 2001