«تاكيكارديا» سيرة روائية حديثة للروائي السوداني المبدع د. أمير تاج السر؛ صدرت عن دار هاشيت أنطوان ببيروت، سنة 2019؛ ويحيلنا النص إلى هوية د. أمير كطبيب، وروائي في فترة عمله كطبيب بمستشفى للنساء بالسودان في تسعينيات القرن العشرين؛ ورغم إشارات السارد للحقيقي – في النص – فإن الإحالة إلى المؤلف قد انطوت على شخصية السارد الذي يحدثنا من خلال عالمه الداخلي، ومعرفته الشخصية بالحدث، وبالآخر / الآخرين أو الشخصيات الفنية؛ كما يؤسس السارد لخبرات مشتركة مع المروي عليه طبقا لتعبير جيرالد برنس؛ فهو يحيلنا إلى حدث له بنية، ومجموعة من المتواليات المنطقية، والوحدات السردية الوظيفية؛ فثمة حدث يقوم على ظهور شخص مجهول، يثير الأسئلة – في وعي الراوي – حول وفاة مريضة تدعى شريفة مختار؛ وكان سبب الوفاة هبوط في القلب؛ ولكن الشخص المجهول أراد أن يثير أسئلة ساخرة - تطورت في النص – إلى حوارية افتراضية، وأسئلة حول عالمه الداخلي، واتصال عقدته بالأم، والطفولة، ثم أسئلة الوجود، والهوية، ومدلول الحياة؛ ومن ثم فالنص يعزز من الاتصال بين السارد، والمروي عليه عبر تطور الشخصيات، والأحداث في وعي السارد، وإحالته المباشرة – في النهاية – إلى فعل الكتابة الذي يتضمن التخييل، وإمكانية إعادة إنتاج العلامات الواقعية في صيرورة السرد؛ ومن ثم يؤكد أيضا التداخل بين الحقيقي، والنصي في توجهات ما بعد الحداثية عبر اكتشاف السارد لشخصيات فريدة في تكوينها، وتطورها، وظهورها، وغيابها المفاجئ، أو اتصالها الوجودي بأخيلة الفن، أو بلاغة الأثر، أو الحكايات، والأساطير، أو فنون الأداء، والكتابة؛ ومن ثم لا تنفصل علامات الشخصيات في الوجود اليومي عن حضورها المحتمل في صيرورة السرد.
وتشير عتبة العنوان / تاكيكارديا إلى التمازج بين الحقيقي والنصي في العلاقة بين هوية المؤلف / السارد كطبيب، والتيار الإبداعي للحياة، والذي يتداخل – بصورة رئيسية – مع فعل الكتابة وأخيلته من جهة، وتداخل كل من مدلول تسارع دقات القلب في الطب مع تلاحق حضور الشخصيات الاستثنائية في وعي ولاوعي المؤلف من جهة أخرى؛ ومن ثم يؤكد العنوان صيرورة السرد في فعل تشكيل الكينونة من خلال صور الآخر، والتجلي العلاماتي لبعض الشخصيات الواقعية في فعل الكتابة؛ فالشخصية قد تنطوي على بنية استعارية خفية، تتجلى في عالمها الافتراضي المكمل، وآثاره، أو في الوعي المبدع للسارد، وفي تلقيه لحضورها، واختفائها كظواهر تقع بين التشكل، والاحتجاب في آن.
وتقوم رواية د. أمير على التبئير الداخلي طبقا لتعبير جينيت؛ والذي يرتكز على منظور الشخصية الرئيسية، وعالمها الإدراكي، والخيالي؛ ورغم أن السارد قد يصف بعض الأمراض النفسية لشخصياته؛ مثل الفصام الاكتئابي في حالة رحمة، أو رحمات، أو يحيلنا إلى تاريخ بعض الشخصيات مثل عالم الشخص المجهول؛ فإنه قدم هذه الإشارات انطلاقا من مهنته كطبيب، أو من خلال تتبعه التدريجي لعالم الشخصية، واستقصائه لما يحيط بها من ملابسات؛ ومن ثم لم يقدم تاريخ الشخصيات ابتداء، وإنما عبر عمليات من التدرج المعرفي الذي يكشف عن بعض الإشارات، ويؤجل بعضها؛ لتظل الشخصيات واقعة بين الظهور، والغياب، والتجلي العلاماتي في فعل الكتابة.
وينطوي نص د. أمير الروائي على نوع من التجريب في بنى الأدوار العاملية، والفواعل طبقا لمنهج غريماس في سيميائيات السرد؛ فالذات ترغب – وفق مهمة ذاتية - في إحداث تواصل روحي، وإبداعي مع الشخصية التي يلتبس واقعها بالنص في مستويي الواقع، وفعل الكتابة بما يتضمن من عالم افتراضي؛ ومن ثم تشكل شخصيات المستشفى، وما اتصل بها من وقائع جزئية موضوعات للتواصل، وموضوعات للكشف، وإعادة التكوين في النص؛ وقد جاءت هذه الشخصيات بصورة تعددية أفقية، وإن عمق السارد من حضور المجهول رأسيا في بنية الأحداث، ولكنه نسج من واقعه وتاريخه شخصيات أخرى؛ مثل والده الممثل الفكاهي القديم عثمان تسلية، أو شخصية الزبير البحار الذي اتصل بعالم الحكايات، والأساطير؛ ومن ثم يعود السارد للتوليد الإبداعي الأفقي للشخصيات الاستثنائية التي تأتي كموضوعات للذات الساردة؛ فالموضوع هنا تجريبي في انتشاره الأفقي الإبداعي، وفي حضوره كدورات صغيرة للوجود، والغرابة، والانشقاق، والاختلاف، والعالم الخيالي، والغياب؛ وهي بنى متكررة بصورة إبداعية دائرية تحتمل الإكمال دائما منذ بداية العمل؛ وسنجد أن بعض الشخصيات التي تجلت كموضوع للاكتشاف، والتواصل من قبل البطل، والمرسل – قد أتت بصورة تجريبية – ضمن عامل البطل المساعد؛ مثل عثمان تسلية الذي أعان البطل في اكتشاف ماضي ابنه، وفي مهمته الأصلية / تحقيق تواصل إبداعي بين الواقع وعالم الكتابة الافتراضي، ويحقق الدور العاملي المساعد أيضا الزبير البحار صاحب حكايات الجنيات، وغموض البحر الذي يشبه تراث ألف ليلة؛ ومن ثم يشترك كل من الفاعلين في الدور العاملي التجريبي نفسه؛ مثلما مثل السارد كلا من المرسل، والبطل؛ وقد جمع أيضا عبد المطلب عثمان - صاحب الأسئلة الساخرة المؤجلة عن شريفة مختار، أو بصورة لاواعية عن أمه، أو عن مدلول الحياة نفسه – بين كل الدور العاملي للخصم / العائق، وكذلك نجده يتجلى كموضوع للكشف، والاختلاف، والظهور الاستثنائي، والغياب؛ مثل موضوعات السارد الأخرى؛ فهو أيضا فاعل تجريبي مزدوج في سيميائيات السرد؛ وهو ما يكسب النص ثراء دلاليا وبنيويا من جهة، ويؤسس لجمليات الانتشار، والإكمال المحتمل في بنى الموضوع من جهة اخرى.
يقوم – إذا نص د. أمير تاج السر – على التنوع، والانتشار، والتعددية في الشخصيات كموضوعات للاتصال بوعي السارد المبدع؛ ونستطيع استنطاق البنى الداخلية لهذه الشخصيات من خلال دورات من الظهور الأدائي الغريب أو الإبداعي، وتشكيل عالم خيالي افتراضي، والغياب، وقابلية الإكمال؛ فرحمة أو رحمات المريضة بالفصام الاكتئابي تتجلى في ظهور يتسم بالتناقض إذ تتسول، وتبكي بصورة هستيرية، وتتمخط، وتمركز عالمها الخيالي على آثار لعلامات؛ مثل العنكبوت، وشوك السمك؛ وكانت تراها كالكنوز(1). أما شخصية ضراب / فني التخدير؛ فقد تحول إلى كتابة أشعار حب لرحمة، ثم رسم صورا لسيدات وقورات، ثم مال سلوكه إلى العنف؛ وتمركز خياله على علاقة خيالية بملكة حلمية (2) . أما شخصية الطفل المعجزة التاجر الذي عشق ممرضة، ثم غاب بصورة مفاجئة؛ فقد تولد عنها شخصية واقعية وسريالية معا؛ هي شخصية مطرب يدعى عثمان شناكل كان يجر خلفه سلك الميكروفون في الفرح المؤجل كالذيل للقرد (3) ؛ ورغم أن شخصية سوسو الطرب قد بدت شخصية واقعية، تحاول توظيف فضاء المستشفى لمصالحها (4)، فقد عكست – بصورة إبداعية – العلاقة بين نوازع الهو، و التدمير الداخلي معا طبقا لتصنيف فرويد للغرائز؛ وقد عكست شخصية الزبير البحار عودة الحكايات، والأساطير القديمة؛ إذ أخرج للسارد ليفة عادية ملمسها غريب، رأي أنها لجنية اسمها الدورة (5). أما عالم عبد المطلب / المجهول؛ فتجلى في طبيعة الرسائل الافتراضية غير المباشرة (6)، التي بدت مثل حفر على كهف قديم، أو نوع من الاتصال الذي يقوم على تخاطر مؤجل مع السارد.
تلاحقت – إذا - بنى الشخصيات بصورها، وحالاتها الأدائية المتناقضة؛ لتصنع عالما خياليا؛ يشكل كينونتها، ويتطور من داخل البنية الإدراكية لوعي المؤلف / البطل، كما أن بنية الغياب – في صيرورتها – سوف تستدعي الانتقال من مجال السرد الواقعي إلى مجال التجلي العلاماتي في فعل الكتابة، وما ينطوي عليه من إكمال محتمل.
ولأن رواية د. أمير تاج السر – تقوم بصورة رئيسية – على التمازج بين التجلي الواقعي الاستثنائي للشخصية، وتجليها العلاماتي الآخر، أو الأدبي، يمكننا قراءتها وفق مدلول الاستعارة الإدراكية، أو المفاهيمية في اللسانيات الإدراكية المعاصرة، طبقا لجورج لاكوف، ومارك جونسون في كتابهما تجسد الفلسفة؛ فالاستعارة المفاهيمية تنسج تعبيرا قد يبدو متداولا، وينطوي على تشبيه متضمن، ويحمل مجموعة من العلاقات بين مجالين معرفيين، وسمات كل منهما التفصيلية المتوازية؛ ومن ثم يمكننا أن ننسج استعارتين إدراكيتين حول رواية د. أمير تاج السر؛ تقوم إحداهما حول العلاقة بين مجالي الوجود الواقعي، أو اليومي للذات، والوجود الإبداعي الذي يشبه الكتابة في بنى الشخصيات؛ أما الأخرى فسوف تقوم على العلاقة بين مجالي فضاء العالم الخارجي، وفضاء المستشفى؛ وطبيعة تحقق الهوية الشخصية، والأداء في كل منهما.
يرى كل من جورج لاكوف، ومارك جونسون – في كتابهما تجسد الفلسفة – أن المفاهيم الفلسفية المجردة؛ مثل الزمن، والذات، والعقل، تنطوي على مدلول مجازي؛ وهي تقبل التجسد عبر الاستعارة المفاهيمية، أو الإدراكية بطرائق نسبية متباينة؛ والاستعارة – إذا – تنتشر في الثقافات الإنسانية جميعها؛ وهي ليست مجردة تماما، وإنما تتجسد في الخبرات الواقعية، واليومية؛ كما ان المعرفة تتكون من مفاهيم مجازية، وتتضمن جوانب متعددة، تمثل أساسيات فهم العالم؛ وقد طبقا الاستعارة المفاهيمية على علاقة كل من تقدم الزمن، بحركة الأشياء؛ فموقع الرائي يوازي لحظة الحضور، ونقطة المواجهة توازي المستقبل، والنقطة الخلفية توازي الماضي، والأشياء توازي الأزمنة. (7)
هكذا يؤسس كل من لاكوف، وجونسون – ضمن اللسانيات الإدراكية – لإمكانية تطبيق نموذج دينامي للاستعارة المفاهيمية، يمزج بين الفلسفي، والأدبي، والأنساق اليومية، المعرفية الممكنة عبر مجالي المصدر، والهدف، وإمكانية فهم كل منهما من داخل النقاط التفصيلية للآخر؛ ومن ثم يمكننا فرض استعارة تعبر عن العلاقة بين كل من الوجود اليومي الواقعي للذات، وتجلى الشخصية كعلامة تشبه شخصيات الفن في رواية د. أمير تاج السر؛ فالشخصية – في العمل – تنبثق، وتتطور بصورة تشبه بنية النص في الوعي، واللاوعي، كما قد تتطور ضمن فعل الكتابة رغم نشوئها ضمن إحالات السارد إلى الخبرة الواقعية اليومية؛ ومن ثم يمكننا فهم التجلي العلاماتي للشخصية من داخل تفاصيل بنية الوجود الذاتي الواقعي عبر استعارة مثل:
تتشكل شخصيات الواقع وفق حضور ظاهراتي فني؛ ومن ثم سوف تتضمن الاستعارة مجالا معرفية يمثل المصدر؛ وهو الحضور الذاتي الواقعي، او اليومي، ومجالا يمثل الهدف؛ وهو التجلي الفني والعلاماتي الممكن للشخصيات.
وتقوم فكرة النطاق المعرفي / الهدف على إحالة العلامة إلى الآخر المتضمن في بنية المدلول نفسه؛ ومن ثم فالعلامة تتطور من داخل صيرورة الدوال في فعل الكتابة؛ وهو ما يذكرنا بحديث دريدا عن كمون الدال / الآخر في بنية المدلول في كتابه في علم الكتابة؛ إذ يرى أن المدلول ليس بريئا تماما في فعل الكتابة؛ فهناك علاقات مختلفة، تخفي ذلك الجانب من الدال الذي يتجلى كطبقة للمدلول، لا يمكن اختزالها؛ ولهذا يتضمن الفلسفي دائما الأدبي بداخله. (8)
يؤكد دريدا – إذا في دراسته للكتابة، وسلسلة المكملات لدى روسو- حضور الآخر في بنية المدلول؛ ومن ثم يمكننا ملاحظة الطيف العلاماتي الكامن في بنى الشخصيات التي انبثقت في خبرة السارد الواقعية في رواية د. أمير تاج السر؛ فهذه الشخصيات – رغم حضورها اليومي – تنتمي عبر التلميح إلى ما فيها من استعارة، أو تشبيه، أو علاقة بشخصيات خيالية أخرى إلى المجال الإبداعي للعلامة.
سوف تتشكل الاستعارة الإدراكية المؤولة لمجالي الحضور اليومي للسارد، والتجلي العلاماتي للشخصيات – إذا – وفق مجموعة من العلاقات بين النقاط التفصيلية المشكلة لكل مجال، ويمكن فهم الآخر من خلالها؛ فتيار الحياة؛ وإنتاجيته للشخصيات والأحداث في وعي المؤلف، يوازي تداعيات الكتابة، وصيرورة الدوال في تكوين الشخصية، والمنظور الإبداعي المتعلق برؤية الآخر لدى السارد، يوازي هيمنة العالم الخيالي على الشخصيات الأخرى، والشخصيات الفنية نفسها كموضوعات للمؤلف، توازي الموضوعات التفصيلية لعالم الشخصيات الخيالي؛ مثل الآثار، والحكايات القديمة، والأسئلة المؤجلة، والرسوم، وتتبع السارد لتطور الشخصيات، ومصائرها، يوازي انخراط الشخصيات في حالة التطور بما فيها من صخب، وغياب محتمل، أو تتبع إجابات مؤجلة عن مدلولها الوجودي اليومي، والبحث عن الحوار الإبداعي مع الآخر لدى السارد، يوازي البحث عن موضوع خيالي في وعي، ولاوعي الشخصيات، وأخيرا نجد أن السارد يتحول لنقاط؛ مثل السفر، والكتابة، وإعادة تشكيل العلامة، بينما تغيب الشخصيات في دوال أخرى، أو تغيب في تيار الحياة الذي يشبه الكتابة.
ويمكننا أيضا أن ننسج استعارة إدراكية أخرى تشير إلى الاتصال بين كل فضاء العالم، وفضاء المستشفى؛ وستقوم استعارة الفضاء على فرضية أن للمستشفى حياة مجازية فائقة، أو عالم خيالي أدبي؛ ومن ثم سيكون المجال / المصدر هو العالم الخارجي، بينما المجال / الهدف هو المستشفى بما تنتجه من شخصيات متجانسة إبداعيا، وتشير إلى دورات وجودية تتصل بالمحتمل، والأدبي، والطيفي؛ فتوالي الأحداث، والشخصيات في العالم الخارجي بصورة لا مركزية معقدة، يوازي انتشار الشخصيات الاستثنائية في المستشفى، والاتصال بين العالم الخارجي والمستشفى بصورة أفقية، يوازيه دائرية الذات، والأخيلة في نطاق المستشفى، وما يحمله من عمق رأسي في المكان، وإن خرج من دائرته؛ وسنعاين اتصال العالم الخارجي بالبطل، بينما يبدو فضاء المستشفى أكثر اتصالا بالشخصيات الأخرى، وعالمها الخيالي، ويعبر الفضاء الخارجي عن الاتساع وتعددية النقاط المتداخلة، بينما يشير فضاء المستشفى إلى اتساع يتجاوز بنيته، وسيشير الفضاء الخارجي إلى حالة من اللاتجانس الذي يتضمن الإبداع، بينما سيشير فضاء المستشفى إلى تجانس جزئي يتضمن نوعا من اللاتجانس الداخلي الواسع.
هوامش الدراسة:
(1) راجع، د. أمير تاج السر، تاكيكارديا، هاشيت أنطوان ببيروت، لبنان، 2019، من ص 19: 21.
(2) راجع، د. أمير تاج السر، السابق، من ص 29: 31.
(3) راجع، السابق، من ص 42: 48.
(4) راجع، السابق، ص 71، 72، 144.
(5) راجع، السابق، ص-ص 131، 132.
(6) راجع، السابق، ص-ص 109، 110
(7) George Lakoff and Mark Johnson, Philosophy in The Flesh, The Embodied Mind and Its Challenge to Western Thought, Basic Books, A Member of The Peruses Books Group, 1999, p. 188, 189.
(8) راجع، جاك دريدا، في علم الكتابة، ترجمة: د. أنور مغيث، ود. منى طلبة، المجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة، ط2، 2008، ص 309.