يعود الطبيب والكاتب السوداني إلى حقيبة الذكريات، وإلى ما بقي فيها من أطياف ورؤى لتلك السنوات التي قضاها في مصر، أو التي صحب فيها بعض أعلام الثقافة المصرية في زياراتهم المختلفة إلى برلين التي استقر وعمل بها، كي يكشف لنا عن بعض ألق الماضي الذي يعاني الآن من الأفول.

تطلعات الصبا وأضواء القاهرة المبهرة

حامد فضل الله

 

حصلت في عام 1955 /1956 على الشهادة الثانوية وتقدمت بها لجامعة الخرطوم ودخلت امتحان المعاينة ضمن ثلاثين طالبا لاختيار عشرين منهم لكلية الطب وكنت ضمن العشرة الذين أحيلوا إلى كلية العلوم – وتبخر الحلم. كنت حريصا على دخول جامعتنا العريقة والوحيدة وقتها وكنا نطلق عليها "جميلة ومستحيلة".

كانت الجامعة معقل النضال الوطني والفكري وساحة المحاضرات والمناظرات السياسية والثقافية من طلابية وحزبية، ونحن الطلاب الجدد كُنّا ننظر بإعجاب واندهاش لهذه الحياة الخصبة الغنية بالمعرفة، وكُنّا كشباب نستمتع بأحاديث الكبار، هذه الحوارات الديمقراطية الخصبة العميقة وأفئدتنا مطمئنة لهم وقلوبنا منشرحة بها. كان اتحاد طلاب الجامعة ينظم الندوات ويتنافس ويتناوب في قيادته الاتجاه الاِسلامي (الاِخوان المسلمين) بقيادة طالب القانون دفع الله الحاج يوسف، والاتجاه اليساري (الحزب الشيوعي) بقيادة طالب الآداب/ الاقتصاد عمر مصطفى المكي. وكذلك كنا ننظر بدهشة وإعجاب إلى مساجلاتهما «صراع الجبابرة» بين دفع الله وعمر.

وأذكر عندما قابلت مولانا دفع الله الحاج يوسف ــ وقد أصبح من كبار رجال القانون في بلادنا ــ بعد أكثر من أربعين عاماً في القاهرة،  التي حضر إليها مستشفيا وأنا زائراً،  ذكرت له تلك الفترة الخصبة وقلت له لقد كنا نحن طلاب (البرلم) (Prelim) نجلس في الصفوف الخلفية رهبة واحتراما لكم أنتم الكبار ونتابع بشغف وقلوب مفتوحة سجالك مع عمر مصطفى المكي – قال لي وهو يبتسم: "كان عمر عندما تحضر الشرطة أو البوليس السري بحثا عنه، يختفي في غرفتي قبل أن نقوم بترحيله خارج العاصمة، فالبوليس لا يتصور أن عمراً يمكن أن يختفي في غرفتي"!!. هكذا كان الخصم السياسي في سودان الخمسينيات لا يحترم خصمه فحسب، بل ويعمل على حمايته.

لم يفارق ذهني حُلم دراسة الطب، فقبل أن أكمل عامي الأول في كلية العلوم، شددت الرحال إلى قاهرة المعز جريا وراء تحقيق الحُلم. وعندما وصلت كانت المنح الدراسية المخصصة للسودانيين قد وُزعت على أبناء الطائفة الختمية وأبناء الموسرين من التجار السودانيين وخرجت خالي الوفاض. وكانت تقدم مع المنح أيضا إعانة شهرية للمعيشة أيضاً. قررت أن أبقى في القاهرة، حتى العام الدراسي القادم، رغم ضيق الحال، ولكن الحياة وقتها كانت سهلة والمعيشة رخيصة، بجانب كرم الأسر المصرية وترحيبهم ومساعدتهم للضيف وللغريب، وما كنت غريبا في مصر.

كان المد الثوري قد عم البلدان العربية، بانتصار الثورة المصرية وقيادة الزعيم الخالد جمال عبد الناصر، وكانت الثقافة المصرية في قمة ازدهارها والصحافة المصرية في عصرها الذهبي وكنت أحضر الندوات الثقافية والأدبية في نادي القصة وشاهدت لأول مرة يوسف إدريس الذي تربع بعد ذلك أميرا لكتاب القصة المصرية والعربية وكنت استمع إلى حديث الأربعاء لطه حسين في كلية الآداب بالقاهرة. لا يمكن وصف الشعور الذي يمتلكك وأنت اليافع القادم من جنوب الوادي، جالسا في حضرة العميد: الجسم النحيل واللبس الأنيق والطربوش على الرأس المتين وهو يلقي دروسه بصوته الرخيم. وكنت قد شاهدت العميد من قبل على شاشة السينما في دار سينما الخرطوم، عندما تم عرض فيلم ظهور الإسلام والفيلم مأخوذ من كتابه "الوعد الحق" والذي يشرح فيه الطابع الثوري للإسلام في مكة المكرمة والدعوة إلى الحرية والعدالة الاجتماعية والمساواة ويصور حياة العرب في الجاهلية وفترة صدر الإسلام. وقد كتب العميد حوار الفيلم بنفسه ولا تزال الكلمات التي قدم بها الفيلم محفورة في رأسي: "فنان يجرب فنه للمرة الأولى متيمنا بظهور الإسلام".

كنت أقضي نهاري أحياناً في مدرسة الألسن التي أنشأها رفاعة رافع الطهطاوي في عام 1835 بداية كدار للترجمة عن اللغات الأوروبية وكذلك نشر مختارات من عيون التراث. وقد ضُمت مدرسة الألسن عام 1973 إلى جامعة عين شمس باسم كلية الألسن. وفي المساء كنت أزور المنتديات الثقافية ومنها نادي القصة. هناك شاهدت الروائي الكبير نجيب محفوظ ويوسف السباعي والطبيب يوسف إدريس الذي اختطفه الأدب ليتربع أميراً للقصة القصيرة والقاص يوسف الشاروني الذي درسنا اللغة الفرنسية في مدرسة فاروق الثانوية بالخرطوم، وقد زرع فينا في سن مبكرة حب الأدب، فقرأنا "فاوست" رائعة الكاتب الألماني العظيم جوته مترجمة الى العربية وكذلك رواية المومس الطاهرة لجون بول سارتر، في نسختها العربية. سحرتنا بأسلوبها وأذهلتنا بمضمونها، وهزتنا من الداخل وتركت تأثيراً بالغاً على عقولنا الغضة. وكانت هاجساً ودافعاً لنقاشاتنا المتواصلة، وقررنا "البيان بالعمل"، ويا لها من تجربة، طهرتنا فكرياً واجتماعياً وحسياً. وكذلك كنت أتابع بشغف الملحق الثقافي للصحف المصرية وخاصة لجريدة المساء.

كانت جريدة المساء برئاسة خالد محي الدين تحتضن الكتاب الناشئين من السودان وهم طلابا في الجامعات المصرية مثل: محمد الفيتوري، وجيلي عبد الرحمن، ومحي الدين فارس، الذين كانوا يجسرون ويجربون ويبحثون عن جوهرة الإبداع الشعري، وأبو بكر خالد والطيب زروق في مجال الإبداع القصصي.

قرأ مبارك حسن خليفة الطالب آنذاك بكلية آداب القاهرة، بحضور رجاء النقاش – الناقد الأدبي والصحفي المعروف فيما بعد والذي كان أول من قدم كاتبنا الكبير الطيب صالح إلى الجمهور العربي وصار من أعز أصدقائه – والقصيدة على ما أذكر كانت بعنوان «ألوية المهدية» يشيد فيها بالثورة المهدية وقائدها الإمام محمد أحمد المهدي الذي قاتل وطرد الاستعمار التركي من السودان. أرسل رجاء النقاش القصيدة إلى مجلة الآداب في بيروت التي كان مراسلا لها في القاهرة. طار مبارك من الفرح وهو يرى قصيدته منشورة على صفحات الآداب العريقة. اشتهر مبارك بعد ذلك بقصائده الوطنية ولقب بشاعر المتاريس وصار أستاذا في كلية التربية في جامعة عدن باليمن.

بدأت علاقتي قارئا لمجلة الآداب في بداية المرحلة الثانوية، كنا مجموعة متآلفة ومتجانسة يجمعنا حب قراءة الأدب ومن المدهش أننا كنا نحصل على مجلة الآداب بسهولة في الخرطوم، وأحيانا في بعض المدن السودانية الأخرى في ذلك الزمن الغابر مقارنة بالحاضر. كانت الآداب نافذتنا إلى الكتاب والأدباء والشعراء من لبنان وسوريا والعراق وفلسطين أمثال: سهيل إدريس، ونزار قباني، والسياب، ونازك الملائكة، والبياتي، وأدونيس، والعلامة إحسان عباس، الذي عمل في بداية خمسينيات القرن الماضي، كأستاذ في كلية غردون التذكارية ــ الآن جامعة الخرطوم ــ قسم اللغة العربية، التي كان يرأسه محمد النويهي أستاذ النقد الأدبي المعروف.

كنا نستقبل الآداب كل شهر بفرح ونقرأها بشغف حبا للمعرفة والاستمتاع بالأدب الراقي ونقرأ كذلك بتمعن صفحة: «قرأت العدد الماضي من الآداب» التي كان يحررها شهريا واحد من كبار النقاد، ناقدا ومحللا مواد العدد السابق، كان ذلك يساعدنا في استيعاب ما استغلق علينا من النصوص السابقة، فنصبح أكثر قدرة على التذوق والاستمتاع وتنمية ذائقتنا النقدية. كانت الآداب أيضا نافذتنا للفكر القومي العربي والفكر الأوروبي – مثل الماركسية والوجودية التي كانت وقتها موضة العصر. عندما كنت شابا مدمنا على قراءة الآداب كنت أحلم بأن أكتب يوما فيها. وقد تحقق هذا الحلم بعد أكثر من نصف قرن من الزمان. عندما نشرت لي الآداب قصتي القصيرة «الجدار» – كم كنت سعيدا وفخورا أن أرى قصتي منشورة واسمي مرسوما على صفحات المجلة البيضاء الناصعة – المجلة الرائدة التي لا تزال تواصل دورها التنويري في نشر الثقافة الرفيعة والفكر الرصين.  كما تم نشر مجموعتي القصصية القصيرة في مجلة "أدب ونقد" القاهرية (2010)، وكان الناقد الأدبي المعروف وأستاذ النقد والأدب العربي في معهد الدراسات الشرقية والأفريقية بجامعة لندن سابقاً، صبري حافظ قد أطلع على بعضٍ منها، وعلق على أقصوصة "عنبر دقدق"، بكلمات موحية ومعبرة ولافتاً النظر للعلاقة بين الطبيب والمريض قائلا: "كثيراً ما أغنى الأطباء عالم الأقصوصة بتجاربهم اليومية، التي يتعاملون فيها مع الاِنسان في أشد لحظاته ضعفاً وهشاشة، هنا يكشف القاص السوداني برهافة وشعرية واقعية، عن أن الطبيب لا يقل ضعفاً عن مرضاه". ثم كتب في موقع أخر: "في قصصه القصيرة يمتزج الشجن والحزن الشفيف، بهموم الذكريات وأوجاع الغربة، وكنت قد تعرفت على صبري حافظ منذ سنوات خلت، وقتها كان محاضراً في جامعة لندن، وحضر إلى برلين بدعوة من معهد الدراسات العليا، وقدم محاضرتين عن الأدب العربي، واحده في المعهد والأخرى في قسم الدراسات العربية والاِسلامية في جامعة برلين الحرة.

علمتُ، بينما كنت استمتع بهذا الجو الثقافي الرفيع والغذاء الروحي والفكري في قاهرة المعز، بفتح باب التقدم للدراسة بالخارج. غادرت القاهرة على عجل قاصداً الخرطوم للمنافسة في البعثات الخارجية غير الحكومية. كانت الحكومات الأوروبية شرقاً وغرباً بجانب الاتحاد السوفيتي تقدم لحكومة السودان منحا مجانية للدراسة الجامعية وللدراسات فوق الجامعية أيضاً، لمساعدة الدولة الفتية بعد خروجها من ربق الاستعمار. لقد تم اختياري لدراسة الطب في المانيا الديمقراطية، وهكذا أصبح الطريق ممهداً لتحقيق الحُلم. وتم تسجيلي عام 1958 في كلية الطب بجامعة هاله - فتنبرج، التي نشأت عام 1817 باسم جامعة مارتن لوثر، نسبة للقس الألماني (1483 ــ 1546)، المصلح الديني الكبير ومؤسس الكنيسة البروتستانتية.

 في بداية تعلّم اللغة الالمانية وقع في يدي مقالاً لأستاذ الفلسفة جورج كلاوس Georg Klaus عن السيبرنيطيقا Cybernetics Kybernetik» وهو العلم الخاص بتخزين ونقل المعلومات  آلياً ودراسة الذكاء الصناعي، فتذكرت في الحال بأنني قرأت مقالا باللغة العربية في احدى الصحف المصرية عام 1952 تحت عنوان السيبرنيطيقا لمحمود أمين العالم يتناول في المقال آخر التطورات العلمية في أوروبا وعن الثورة الصناعية الثانية وعن العلم الجديد وعلاقة الصناعة بالفلسفة والسيطرة على الواقع المادي وتنظيم الواقع الاجتماعي. لم أفهم المقالين في ذلك الوقت لعامل السن وصعوبة المادة وبداية معرفتي باللغة الألمانية. ولكن اسم العالم أصبح لا يفارق ذاكرتي وكانت هناك صعوبة في الحصول على انتاجه الفكري، ففي المانيا الديمقراطية، كانت نافذتنا إلى الخارج، اذاعة وصحافة الحزب الحاكم الوحيد وسيطرة الأيدلوجي على المعرفي.

 أكملت الدراسة دون تعثر والعودة إلى الوطن والعمل في مستشفيات العاصمة السودانية وفي جنوب السودان، قبل العودة للمرة الثانية إلي المانيا، ولكن إلى برلين الغربية جنة الرأسمالية، لدراسات عليا (التخصص) في كلية الطب بجامعة برلين الحرة، وهنا اصبحت أكثر تحركاً وحرية وخاصة عندما تم اختياري عضوا في اللجنة التنفيذية ومجلس الأمناء للمنظمة العربية لحقوق الاِنسان ومقرها في القاهرة، ورئيسها الشخصية الحقوقية الفذة الأستاذ محمد فائق. وهكذا تجددت زياراتي للقاهرة.

ربطتني مع مصطفى هيكل علاقة صداقة واحترام متبادل، بعد ما استقر نهائياً في برلين الشرقية تجنباً لملاحقة الأمن في بلده. وهو من الأوائل الذين انتظموا في الحركة اليسارية الماركسية في مصر، وينتمي إلى أسرة أرستقراطية عريقة. ومصطفى كاقتصادي كان يعشق الفن ويكتب في الأدب وترجم مع زوجته الألمانية قصائد من شاعرنا الكبير محمد الفيتوري بالألمانية وصدرت في كتاب (ديوان) بعنوان "معزوفة لدرويش متجول" وهو عنوان لديوان وقصيدة مشهورة للشاعر. ويحمد لمصطفي أنه قدم أول ترجمة لشعر محمد الفيتوري بالألمانية وصدر الديوان عام 1987، في برلين الشرقية، المانيا الديمقراطية سابقا.

اهتمت ألمانيا الديمقراطية مبكراً بترجمة الأدب العربي وكانت السيدة دوريس كيلياس، Doris     Kilias الباحثة في معهد الدراسات الرومانسية في جامعة هومبولت في برلين، والمستشرقة الألمانية، قد وهبت سنوات حياتها لتعريف القارئ الألماني بالأدب العربي المعاصر. فنقلت إلى الألمانية العديد من أعمال نجيب محفوظ منها، اللص والكلاب وزقاق المدق وملحمة الحرافيش وقصر الشوق الجزء الثاني من ثلاثية القاهرة الخالدة خلود كاتبها، وتوثقت علاقتي معها عن طريق منظمتنا "حوار الشرق والغرب"، التي كان يديرها باقتدار وحماس الصديق المصري الوفي أحمد عزالدين، ومشاركتها الفعالة، عندما أقمنا ندوة كبيرة عن الأدب العربي بحضور الروائيين المصريين المبدعين، من جيل الستينيات، بهاء طاهر وجميل عطية إبراهيم. كما ساعد أحمد في ترجمة رواية قصر الشوق، وقد نوهتْ كيلياس بذلك في المقدمة "أشكر السيد أحمد عز الدين على المساعدة القيمة في توضيح وشرح للمقاطع النصية الصعبة". وقد أجريت معها حواراً في منزلي بمشاركة الصديق المصري العزيز نبيل يعقوب قادما من مدينة دريسدن. وكان الحوار طويلا ومتشعبا ومثمرا، ونشر بالكامل في مجلة القاهرة الثقافية، العدد (158) يناير 1996 والتي كان يشرف على رئاسة تحريرها غالي شكري.

لا نزال في ذكرى ناجي نجيب، المولود في صعيد مصر، الذي درس في برلين الغربية وحصل على شهادة الدكتوراه، كان ضليعا في الأدب العربي والترجمة، وأشرف على ترجمة العديد من النصوص الأدبية العربية، وكان يشرف في دار نشر Edition Orient على إصدار سلسلة ثنائية اللغة من ضمنها رواية عُرس الزين، رواية مبدعنا الروائي الطيب صالح الذي نقلها إلى الألمانية المستشرق وأستاذ الدراسات العربية والاِسلامية، الصديق  شتيفان راشموت، سنوات طويلة قبل صدور المجموعة الكاملة لإعمال الطيب صالح، التي ترجمتها السيدة ريجينا قرشولي، أستاذة الأدب العربي بمعهد الشرق بجامعة لايبزج، وقد قدمت وناقشت من قبل قصتي القصيرة بعنوان "الآخر" مع طلابها. لقد اختطف الموت مبكرا الصديق ناجي نجيب وفقدنا باحثاُ رصينا.

ومن ضمن الذكريات الجميلة تعرفي على العلامة رشدي سعيد وهو أحد أبرز رجال العلم في مجال الأبحاث الجيولوجية وأبرز خبراء الري واحد العارفين بأسرار نهر النيل، عندما كان أستاذاً زائرا لمعهد الدراسات العليا، وقد شرفني، عندما زارني في منزلي مع الصديق أحمد عزالدين، يدهشك بتواضعه الجم وحديثه الشيق، ولا تصدق أنك امام قامة علمية عالمية.

تعرفت على نصر حامد أبو زيد في بداية هجرته القسرية، عندما استضافه معهد الدراسات العليا أيضاً، قبل أن يشغل كرسي الفيلسوف الأندلسي أبن رشد لدراسات الاِسلام والاِنسانيات في جمعة أوترخت هولندا. وعندما حصل على جائزة أبن رشد عام 2005 في برلين أيضاً.  إن رحيله المبكر والمفاجئ مثل خسارة كبيرة للعلم وخاصة، أنه كان يخطط لدراسات عديدة، منها الدراسات القرآنية، وهو الموضوع الأهم في مجمل أعماله العلمية، وتفسير جديد للقرآن الكريم ودراسة نقدية للتفاسير الموجودة. وشارك في تحرير " الموسوعة القرآنية.  

كنت أحرص عند زيارتي للقاهرة، أن ألتقي بالصديق صنع الله إبراهيم، الذي تعرفت عليه أثناء عمله في وكالة الأنباء الألمانية في برلين الشرقية، قبل رحيله إلى موسكو للدراسة في معهد للسينما، وكنا نحتفي به عندما يحضر إلى برلين محاضراً، بدعوة من مؤسسة فريدرش ألبيرت أو عندما جاء لتسلم جائزة أبن رشد للفكر الحر عام 2004 وكان موضوعها "الأدب الملتزم". وصنع الله واحد من أبرز كتاب جيل الستينيات، الذين أيدوا التجربة الناصرية بإخلاص وصدق واكتووا بنارها. وقد قرأت كل أعماله الأدبية ومنها روايته بعنوان "برلين 69"، التي أرخ فيها فترة وجوده في برلين الشرقية، كما صدرت روايته "اللجنة" باللغة الألمانية، وقام بالترجمة المستشرق الألماني هارتموت فندرش.

 ولا تزال مخزونة في ذاكرتي، ذكرى الصديق رمزي زكي، تعرفت عليه وهو طالب دكتوراه في جامعة العلوم الاقتصادية ببرلين الشرقية، وتواصلت وتوطدت علاقاتنا عبر سنوات طويلة بعد مغادرته المانيا.  يعتبر رمزي واحداً من المع علماء الاقتصاد في البلدان العربية وأصدر العديد من الكتب الهامة في مجال تخصصه، وقد رافقته أثناء مرضه الأخير قبل رحيله الموجع. لقد جسده الروائي المصري صنع الله إبراهيم، في أحدى شخصيات روايته الشهيرة بعنوان "شرف".

عندما أزور القاهرة، كنت أحرص على الحصول على كل أعداد مجلة "فصول" السابقة، مجلة النقد الأدبي من الوزن الثقيل وكذلك الاِصدارات الجديدة، وعندما أعياني البحث في الحصول على كتاب "الاصوليات الاسلامية في عصرنا الراهن" الذي قام محمود أمين العالم بتحريره ذهبت مباشرة الى مكتبه، وحظيت هناك بلقاء العالم نفسه وجدت فيه تواضع العالم وشموخ المفكر وحساسية الأديب الناقد الفنان. لقد أهداني نسختين من الكتاب بجانب أعداد أخرى من "قضايا فكرية"، المجلة الفصلية، التي كان يشرف عليها محمود بنفسه، لقد كتب العالم عن محمد ابراهيم نقد، السكرتير النابه للحزب الشيوعي السوداني، وعن شاعرنا محمد الفيتوري وقاصنا طالب الطب زروق.

وكان لي شرف تقديم كلمة مؤسسة أبن رشد للفكر الحر بتاريخ 8 ديسمبر 2001، في تكريمه بفوزه بجائزة المؤسسة لعام 2001، في مجال النقد الأدبي. أقدم هنا بإيجاز بعض الفقرات من كلمتي الطويلة، التي استشهدت فيها بنصوص كثيرة من كتاباته المتنوعة:

تقول في بحثك العميق بعنوان "الهشاشة النظرية في الفكر العربي المعاصر": هناك أزمة في الفكر العربي المعاصر ولا سبيل إلى فصلها عن أزمة الواقع العربي نفسه، موضوعياً وتاريخياً. وتواصل في مكان آخر:- "إننا ما نزال أحوج إلى فكر نظري نقدي تأسيسي، وخاصة في هذه المرحلة من حياتنا العربية التي يتفاقم فيها التشتت والتفكك والتسطح والاغتراب والتخلف في الفكر والواقع على السواء، على حين يتفجر عصرنا بمنجزات معرفية وتكنولوجية باهرة تكاد تشكل نقله جديدة في حضارة الإنسان".

ولا أزال اتذكر مناقشتك لفكر وفلسفة الحداثة، عارضاً لتاريخها وواقعها وصورتها في العالم العربي بقولك: "برغم الاختلافات المتنوعة والمتناقضة لمفهوم الحداثة، فهناك ما يمكن استخلاصه منها جميعاً في ضوء تعاملنا المعاصر مع هذا المفهوم، أي أن هناك ما يمكن اعتباره قاسماً مشتركاً عاماً، رغم هذه الاختلافات. القاسم المشترك هو مبدأ التغيير التجديدي التطويري التجاوزي للواقع الإنساني والاجتماعي." كما قمت بنقد بل إدانة لفكر ما بعد الحداثة مستعيناً بإسهامات مفكرين وفلاسفة أوروبيين معاصرين، تعرضتَ إلى أفكار المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي ومدرسة فرانكفورت- النظرية النقدية في أبحاث هوركهايمر، أدورنو، هربرت ماركوزا وصولاً إلى يورجن هابرماس، الفيلسوف الألماني المعاصر، الذي يعتبر من أبرز الفلاسفة المعاصرين تصدياً لاتجاه ما بعد الحداثة وخاصة في نقده لفوكو، دريدا، ودولوز وامتدادهم في الفكر الألماني المعاصر. يعتبر العالم يورجن هابرماس من أبرز المعبرين عن الاتجاه العقلاني ونقد الطابع التقني الوصفي القمعي للعقل في الممارسات الرأسمالية والاشتراكية ومحاولة تنمية البعد الموضوعي الإنساني للعقل من خلال نظرية "العقل التواصلي" التي تجعل من الفلسفة نشاطاً عقلياً حياً فاعلاً مع الواقع الإنساني في مختلف تجلياته السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعلمية والتكنولوجية والفكرية والثقافية عامة.

لا نزال نحن في برلين نتذكر مداخلتك الثرية، امام الجمع الكبير والنوعي في "دار الأدب" في برلين وانت تتسلم الجائزة، وتختمها: "ولهذا… فلنحرص على الدعوة إلى الحوار الفكري والثقافي والسياسي والاجتماعي والعلمي، لا إلى شحذ الصراعات الدينية وتفجيرها وتغذية الكراهية العرقية والعنصرية بين الشعوب، توعية وتعميقاً للتضامن الانساني، دفاعاً عن قيم العقل والحق والعدل والحرية والتقدم والإبداع والتجديد في حضارة العصر. في ختام مقالك بعنوان "التكوين" 1993 تقول: "أما أنا فما زلت في الطريق العاصف الذي بدأته منذ تلك السنوات البعيدة، أتحرك في مساراتها السياسية والفكرية والأدبية قدر طاقتي، وما زلت أتعلم وأحاول أن أتكون وأتجدد كل يوم وأن أكون نافعاً للناس والثقافة".

تقول في كتابك الجميل "الرحلة للآخرين"، "ليس الموت نهاية الحياة، عندما لا يكون اكتمالا صحيحاً لعمر زاخر بالجهد المثمر أو تحقيقاً لعمل مشرق، بل يكون كمالا حياً وبادية لحياة أعمق ... اللهم هبني أن أعرف – أن أعبَر – أن أعمل – أن أبدع. هبني القدرة على أن أحسن النهاية التي تضع البداية للآخرين وأن أحسن البداية التي لا تنتهي بنهايتي".

واختتمتُ كلمتي: سوف نعود نحن والأجيال القادمة إلى كتاباتك لتبعث فينا روح التفاؤل والأمل والتساؤل وتعلمنا أن للحياة معنى، وللنضال معنى. في كلماتك المضيئة نجد معاني الخير والحب والتسامح والجمال. متعك الله بموفور الصحةِ والعافيةِ وأنت لا تزال على الساحة تواصل عطاءك لأبناء وطنك في مصر والبلاد العربية. تحية لك يا ضيفنا الكبير وأنت القابضُ على مُثلك، ومبادئك، مثل القابض على الجمر.     

تحية لك يا ضيفنا المُكرم فأنت، محمود وأمين وعالم.

والآن تربطني علاقة  طيبة ودودة مع الشاعرة والمسرحية والاِعلامية  الفذة السيدة عزة حسن، التي تنشر قصائدها باللغتين العربية والألمانية، وتدهشك  بنبرات صوتها الجميل والغنائي، عندما  تقدم  شعرها الحديث، أو عندما تصدح بأغاني أم كلثوم، أمام الجمهور العربي والألماني، واستذكر قولها "الشعر هو لغة ونغم في ثوب الجمال". 

 

بعد أربعة وأربعين عاماً من العمل المتواصل علقت سماعة الطب في الشماعة. بكامل التوفيق والراحة النفسية والرضا الداخلي وحسن الختام..

هذا النص فقرة من مقال طويل (75 صفحة) بعنوان "من حقيبة الذكريات"، أختتمته:

أنني أكتب عن تجربة شخصية وعن شخصيات التقيت بهم على درب الحياة، وربطتني مع بعضهم علاقات وطيدة وحميمة أعتز بها، بعضهم الآن في رحاب الله يرقدون في مثواهم الأخير في أمان وبعضهم لايزال على قيد الحياة، يواصلون النضال، كل على طريقته وحسب رؤياه من أجل مستقبل واعد وزاهر يعم فيه السلام الدائم والعدالة الاجتماعية والمساوة والحرية لجميع البشر. وبما انني أكتب عن فترة طويلة وكغالبية المثقفيّن السودانيين من الذاكرة فأنبه منذ البداية وأطلب المعذرة، إذا كان هناك ثغرات في السرد أو خلط في الأسماء أو السنين.

أنني منذ شهور حبيس الدار بسبب فيروس "كورونا" اللعين وبسبب تقدم العمر، فعندما تلوح بارقة من أمل ويتم الحراك، سوف تكون محطتي الأولي في طريقي إلى السودان، مصر الحبيبة، لتجديد الذكريات الحميمة والعطرة وأنشد مع شاعرنا الأحيائي الكبير محمد سعيد العباسي:

يا حبذا دارٌ نزلت وحبذا إبداع من ذرى الوجود ومن برى
مصرٌ وما مصرٌ سوى الشمس التي بهرت بثاقب نورها كل الورى
لقد سعيت لها فكنت كأنما أسعى لطيبة أو إلى أم القرى
وبقيت مأخوذاً وقيد ناظري هذا الجمال تلفتاً وتحيرا
فارقتها والشّعر في لون الدجى واليوم عدت به صباحاً مسفرا

       .....

وأصدح مع تاج السر الحسن من شعرائنا الحداثيين:
مصر يا أخت بلادي يا شقيقة
يا رياضًا عذبة النبع وريقة
يا حقيقة
مصر يا أم جمال وأم صابر
ملء روحي أنت يا أخت بلادي

     .....