يسعى الناقد المصري المرموق هنا إلى بلورة الخلفية النظرية التي انطلق منها الخطاب الشعري التسعيني في مصر، وما ينطوي عليه من نقلة فكرية وموقفية من موقع الإنسان في الواقع، وجنيولوجيا حضور الماضي في الحاضر، والإنسان في المكان وفقدانهما معا لمركزياتهما القديمة نحو بنية مغايرة للذات والعلامة والواقع.

الخطاب الشعري التسعيني

والإنتاجية الإبداعية لبنى الذات، والعلامة، والواقع

محمد سمير عبدالسلام

 

تشكل الخطاب الشعري التسعيني في مصر في سياق مواصلة فعل التجريب؛ والإنتاجية الإبداعية المستمرة للذات، والعلامة، والاستعارات، والتشبيهات الكامنة في بنية الحقيقي، وتحولاته في الوعي، واللاوعي؛ ومن ثم قدم جيل الشعراء التسعينيين في مصر إضافات إبداعية تتصل بالماضي؛ بما يحمله من توجهات حداثية، وما بعد حداثية، قد نمت عالميا منذ نهايات القرن التاسع عشر، وبدايات القرن العشرين، وتطورت في الستينيات، حتى تصاعدت توجهات ما بعد الحداثية في السبعينيات، والثمانينيات من القرن العشرين؛ كما اتصلت إضافات هؤلاء الشعراء ببنية الحضور، والسياق الثقافي الاجتماعي في التسعينيات؛ لتعيد إنتاج مسيرة التجريب بروج جديدة، أو حساسية شعرية مختلفة، ولكنها لا تنفصل تماما عن الماضي، وتؤسس – في الوقت نفسه – لجماليات سوف تمتد في إبداعات الألفية، والأجيال التالية، ولكن ضمن سياقات ثقافية، واجتماعية جديدة.

ونستطيع أن نميز روح التجربة التسعينية في بكارة معايشة الواقع اليومي في اتصاله البنائي الأصلي بالصور، والتشبيهات، وعلامات الحلم، وآثار الفنون الأخرى؛ فثمة نوع من بكارة المعايشة الحقيقية لما هو جمالي، أو افتراضي؛ والذي كان كامنا بدرجة كبيرة في تفاصيل الواقع، والحياة اليومية، والسياق الثقافي؛ ومن ثم فتغير النظر إلى الذات والعلامة قد استمر – في هذه الفترة – وفق تحولات ثقافية جديدة قد أثرت تقنيات كانت موجودة سلفا، ولكن ليس وفق هذه الروح النسبية الجديدة؛ فامتزاج الصور الحلمية بالواقع قد وجد في الخطاب الشعري السبعيني؛ ولكنه هنا صار أكثر التصاقا باليومي، والبسيط، والعابر، والأشياء الأكثر هامشية؛ كما أن تداخل الفنون قد وجد بصور مختلفة كلاسيكية وتجريبية من قبل، ولكن الخطاب الشعري التسعيني قد ارتكز – بدرجة أكبر – على توليد علامات الفنون الأخرى ضمن الفضاءات التي تشير إلى بنية الحقيقي؛ مثل سلالم البيوت، والغرف المغلقة، والشوارع، والمقابر؛ ومن ثم صارت الذات مثل علامة تقع في فضاء ملتبس، ومملوء بالتشبيهات، والاستعارات التي تؤكد تصور بودريار في كتابه التشبيهات، والمحاكاة؛ فالذات هنا قد تخففت من موقع المراقب المنتج للصورة، وصارت تقع في حالة من الأداء المصاحب للصورة، دون أن تنفلت أيضا من تأثير الماضي، وجمالياته.

لقد عزز الخطاب الشعري التسعيني من جماليات التحول الدينامي المستمر للعلامات، وتجاوزها لمركزية المدلول، والسخرية، ومعايشة الحلمي، واللامعقول، وما وراء الواقع، وصور الفنون الأخرى ضمن حالة أدائية تقع بين فضاء افتراضي مؤجل ضمن بنية الحقيقي، وفضاء واقعي مملوء بالصور المدهشة البكر التي تؤجل اكتماله دائما في الوعي، واللاوعي.

ويعرف جيل التسعينيات عالميا بأنه – تقريبا – الجيل الذي ولد بين عامي 1965، و1980؛ وقد سمي بالجيل الذي اتخذ رمز الحرف (X)؛ وقد قامت كريستين هينسلر، وآخرون – في كتاب الجيل إكس، والاتجاه نحو العالمية – بتوصيف الملامح الثقافية لجيل التسعينيين؛ وأهمها الاتجاه إلى العالمية، وعبور الزمكانية، وعمق السخرية، والتناقضات الجمالية، واستمرار طرح الإشكاليات المتعلقة بعلامات الأساطير، وثراء مدلولها، والوقوع المستمر بين الحدود الواضحة للمكان، والذوبان في بنية العالمي الواسعة في آن(1).

ربطت كريستين هينسلر، إذا، بين التحولات الثقافية التي عايشها التسعينيون، وتشكل الوعي الإبداعي المختلف في إنتاجيتهم الإبداعية؛ فحالة عبور الزمكانية، قد أنتجت نوعا من الدهشة المستمرة، أو التساؤل المستمر الممزوج بسخرية عميقة، وثراء دلالي للعلامة، أو قبول للتناقضات الدلالية، أو الأدائية؛ كما أكدت عدم خروج الوعي الإبداعي التسعيني تماما من بنية الحدود المكانية؛ وربما أسهمت تلك الملحوظة - في خطاب كريستين – إلى تعميق حالة التعارض الداخلي الحاد بين بنية المكان، وانفتاحه الممكن؛ ويمكننا ملاحظة هذه الحالة في الخطاب التسعيني في مصر أيضا؛ فالتسعيني يمارس حالة الانفتاح على الفنون الأخرى على درج قديم محدود، أو في حارة هامشية، أو شارع تقليدي؛ ومن ثم أتفق معها في أهمية دراسة بنية المكان الواقعي، وثراء مدلوله في خطاب التسعينيين الشعري.

ويمكننا قراءة بنية التجريب في الخطاب الشعري التسعيني – بصورة تفصيلية – وفق مفهوم الجينالوجيا طبقا لتصور ميشيل فوكو؛ وهو ما أطلق عليه ديفيد جارلاند تاريخانية الحضور عند فوكو، وانتقال فوكو من الأركيولوجيا إلى الجينالوجيا؛ ويومئ جارلاند إلى مفهوم تاريخانية الحضور بوصفه نوعا من تموضع الماضي في بنية الحضور، أو استعادة بنية كانت هامشية في الماضي في سياق علاقات قوة، وأنظمة معرفية مختلفة، ومن ثم يقوم المحلل بطرح الإشكاليات المتعلقة بالتجلي الآخر للماضي بصورة نقدية مستمرة، وغير شمولية أو حاسمة.(2)

يؤكد توصيف جارلاند لجينالوجيا فوكو – إذا – الطابع الإشكالي لعودة لحظات هامشية من الماضي في بنية الحضور من جهة، ودينامية التحليل النقدي لأنظمة المعرفة/ القوة التي تتصل بالماضي، وتموضعه الآخر في بنية الحضور، وما يتصل بها من أسئلة، واحتمالات من جهة أخرى؛ ومن ثم فبنى الماضي – عند فوكو – تؤسس لاختلاف مضاعف، وعلاقات، وروابط احتمالية جديدة؛ فالمكونات التجريبية الأسبق – في التجربة الشعرية التسعينية مثلا – تؤسس لإعادة النظر في حضورها الأول، ومدى تحولها، أو تغير موقعها في علاقات القوة، والرؤى الفكرية التي صاحبت حضورها الزمني الآخر.

لقد أراد الخطاب الشعري التسعيني أن يقدم نوعا من الاتساع الإشكالي لبنى الذات، والعلامة، والحقيقي في سياق تجريبي يعود بصورة أساسية لماضي التجريب في بنية الصورة، ولكنه يؤسس أيضا لاستعادة تقع ضمن سياق علاقات قوة أخرى مختلفة، وأشكال معرفية متجددة حول الذات، وعلاقتها بالميديا، والتشبيهات طبقا لبودريار، أو الأطياف طبقا لدريدا، أو الفضاء التجريبي ما بعد الحداثي طبقا لليوتار؛ ومن ثم لم تأت استعادة الصور الحلمية السريالية وفق الأنظمة نفسها التي أنتجت مدلول الذات في بدايات القرن العشرين؛ ومن ثم جاء التجريب التسعيني بصورة أحدثت طفرة في بنى تفاصيل الحقيقي، وفق استعادة أخرى لعلامات الحلم في بنية الحضور التي أعادت إنتاج الذات وفق علاقتها بالأطياف، والحالات الأدائية، ومعايشة الصور في الممارسة اليومية نفسها بما تحمله من تناقضات بنيوية، وطبقات عميقة لامركزية من الدلالات الأدبية للواقع.

ويشير ميشيل فوكو في دراسته حول الجينالوجيا والتاريخ – ضمن كتاب قارئ ميشيل فوكو – إلى أن البنى التاريخية المستعادة تنطوي على اختلاف، أو لاتجانس؛ ومن ثم تتجلى كإحساس تاريخي، يتطلب تحرير العناصر الهامشية في التحليل؛ ويؤكد فوكو أن التاريخ يصير فعالا حين يولد نوعا من توقف الاستمرارية في كياننا، وحين توضع القوى بصورة متقابلة ودينامية، وحين تتشكل طرائق النظر المتنوعة للغة، وأشكال الخطاب.(3)

يعيد فوكو – إذا – النظر إلى الماضي وفق ما هو مختلف، أو هامشي، أو مستتر، ومدى تجليه في تعارضات القوى، وأشكال الخطاب بصورة نقدية دينامية في بنية الحضور؛ ومن ثم فالاتصال بالتاريخ – عند فوكو – لا يؤدي إلى نتائج حاسمة، وإنما يطرح تموضع الماضي لنقاش نقدي متجدد، أو مفتوح وفق إدراك التعارضات، وأشكال الخطاب المتنوعة، والتي قد تتجلى عبر فعل تفكيك أو ما يطلق عليه فوكو تحرير الهامشي الكامن في بنية الماضي، ودرجة تجليه الأخرى في بنية الحضور.

وقد قام خطاب التجريب التسعيني – في مصر – على إرادة التجريب الإبداعي في مفاهيم (الذات – العلامة – الواقع)؛ ومن ثم ينطوي الخطاب على مكون من الماضي؛ وهو التجريب الذي وجد في بنية الصورة منذ نهايات القرن التاسع عشر، وبدايات القرن العشرين، ولكنه أيضا ينطوي على رغبة – واعية، أو غير واعية – بتحرير عملية التوسع الأدائي لهذه الأحاسيس التجريبية القديمة نفسها؛ ويبدو أن التوسع الأدائي لبنى الحلم، وتداخل الفنون، والواقع كان كامنا أو هامشيا في الخطابات التجريبية السابقة، وتم تحريره وفق علاقات القوة والمعرفة الجديدة في بنية الحضور التسعينية؛ ومن ثم واصل الخطاب التسعيني تحرير إرادة التوسع التجريبي في بنية الصورة؛ فاستعادها من الماضي في سياق تطور الميديا، والتحولات الثقافية التي أعادت تشكيل الذات في بنية الحضور التسعينية نفسها وفق تعابير أخرى مكملة لتاريخها الحداثي؛ مثل التشبيه، والشبح، والحضور الأدائي التمثيلي.

وبالطبع استوعبت التجربة الشعرية التسعينية تجارب بودلير، وإليوت، وسان جون بيرس، ومالارميه، وأندريه بريتون، وهنري ميشو، وأراغون، وأبولونير، وغيرهم؛ فضلا عن التجريب في الصورة في العقود التي سبقتهم؛ ولكنها أرادت أن تمنح معايشة الذات لواقع مملوء بالأخيلة، والصور حساسية مختلفة تتصل بتحولات بنية الحضور التسعينية، وتناقضاتها، وأنظمتها المعرفية التي تنطوي على الفجوات المجازية، والتداعيات الحرة المفتوحة، والمعايشة البكر لحلول الصور الجمالية في العالم الداخلي، واليومي للمتكلم.

ويمكننا قراءة بنية الحضور التسعينية، وتحولاتها الثقافية عالميا – وفق التصورات الفكرية الجديدة التي وجدت وقتها في تصور ليوتار عن الفضاء الواقعي التجريبي ما بعد الحداثي، وتصور جان بودريار حول امتزاج الحقيقي بالتشبيه، والميديا، وتصور دريدا عن استدعاء الشبح في الخطاب؛ وقد صدرت الأعمال التي سنشير إليها – في طبعاتها الأولى – في فترة التسعينيات؛ ولهذا ستمنحنا رؤية للتحولات الثقافية التي تسهم في استنتاج التحول الديناميكي لعلاقات القوة التي أنتجت الخطابات الجديدة حول مفاهيم الذات، والعلامة، والحقيقي، وعلاقتها ببنى التجريب المستعادة من الماضي.

يمزج ليوتار – في كتابه حكايات خيالية ما بعد حداثية – بين الجمالي، والاجتماعي؛ وذلك عبر توصيفه للبنية التجريبية للمكان من جهة، ووفرة البنية الملموسة للأشكال الفنية، ومدى تشكيلها للبنى الثقافية من جهة أخرى؛ ففضاء المدن الكبرى – عند ليوتار – يفكك بنية الهوية التي لا يمكن أن تقع بالكامل ضمن المكان، أو خارج المكان؛ والمدن – بتناقضاتها، وأغانيها المفككة الممزوجة بالمأساوي – تشبه قصيدة النثر لدى بودلير، وبول فيرلان، وأبولونير؛ كما يرصد ليوتار وفرة الأشكال الجمالية الملموسة؛ مثل النغمات، والإيحاءات، والتكوينات التي تتجلى في الثقافة كحقيقة للرغبة المستمرة الفائقة في إنتاجية الأشكال، والتي تبدو كتحولات خيالية فنية.(4)

لا يمكن فصل الاجتماعي، والثقافي – عند ليوتار – عن وفرة التكوينات الجمالية، وما تنطوي عليه من تحولات؛ كما يتحول لديه مفهوم الذات في اتساع المدينة، وتناقضاتها بين الغناء، وغياب التناغم التكويني الأسبق؛ فالذات تقع بين الداخل، والخارج دون مركز، وتبدو في حالة من الخضوع للتحولات الخيالية، والإنتاجية الإبداعية للصور، والعلامات؛ ومن ثم يرتكز خطاب ليوتار ما بعد الحداثي على الفضاء التجريبي الذي يستنزف تناغم الهوية الذاتية، ويمزج بين الذات وقصيدة النثر، أو الذات ووفرة الصور، أو التحولات الأسطورية المحتملة ضمن السياق الثقافي؛ ولهذا سنعاين تجربة المعايشة للصور بصورة فائقة تتجاوز مفاهيم الهوية الأسبق في الخطاب الشعري التسعيني؛ فالواقع أو المكان في المدينة صار ذا بعد خيالي، أو بعد ينطوي على فراغ إبداعي يتعارض مع مركزية الفيزيقي الملموس.

ويفكك بودريار – في كتابه ذكريات لطيفة – بنية الحقيقي عبر الإشارة إلى اللاواقعي الكامن في بنية الأشياء؛ وهو ما يمثل نوعا من التجاوز للفلسفة التقليدية، وبداية لدمج الحقيقي بنوع من الانحراف الساخر من بنيته؛ ويشير بودريار إلى دور التليفزيون في إحداث التساؤل حول الظلمة؛ فهو يشبه النهار المزدهر الممتد، ويجسد – بصورة غير مباشرة – مخاوف الظلمة كما يؤجل النهايات في مراوحته بين دورتي الليل، والنهار لدى المشاهد.(5) لقد تجلى الواقع بصورة تنطوي على وفرة التشبيهات، والصور، والإضاءة المستمرة المقاومة للظلمة في الميديا لدى بودريار؛ ومن ثم فهو يرتكز على معايشة خبرات واقعية محسوسة، تجعل الذات في حالة مستمرة من الاتصال بالصورة، أو تعيد التساؤل حول بنيتها الحقيقية، وإعادة اكتشاف تشبيهاتها الكامنة، والجانب المتجاوز للواقع، والذي يسخر من تماسك الشيء، أو الواقع، أو الذات بمفهومها التقليدي.

إن التناقض الثقافي، وجماليته – في فكر بودريار – بين الامتلاء بالصور، وعلامات الميديا، والمخاوف العميقة، والحقيقي، وانكساراته التكوينية الساخرة، وعلاماته اللاواقعية، قد تجسد في ممارسات الخطاب الشعري التسعيني عبر الدهشة المضاعفة إزاء تضاعف التشبيهات الواقعية، والكامنة في تفاصيل الحقيقي نفسه؛ ومن ثم صارت الذات تسخر من حضورها التقليدي الأسبق، ومن حالة الانفصال بين الحقيقي، والصور الإعلامية، أو المواد الفيلمية، والفنية، أو النصوص، والقصص، والخرائط.

أما دريدا فيستدعي مدلول الشبح في كتابه حمى الأرشيف، انطباع عن فرويد؛ ويجمع بين استدعاء كل من مارسيليوس، وهوراشيو لشبح والد هملت في مسرحية شكسبير، واستدعاء شبح فرويد في خطاب الباحث يروشالمي الذي وجهه لفرويد عقب وفاته؛ ويرى دريدا أن استدعاء الباحث لطيف فرويد يشبه المونولوج القصصي؛ فالتوثيق هنا يمتزج بغياب فرويد، واستبداله بالشبح المجازي.(6) لقد مزج دريدا بين الأزمنة عبر استدعاء طيف والد هملت، وطيف فرويد، وإعادة إنتاج مصطلح الطيف نفسه في الخطاب النقدي من جهة، والمزج بين الحقيقي، والنصي حين أعاد قراءة الخطاب كمونولوج قصصي من جهة أخرى؛ ومن ثم يؤكد دريدا تغير النظر إلى كل من الذات، والعلامة، والواقع؛ فالذات تختلط بالبنية المجازية للشبح، وتصير هويتها مؤجلة أو تقبل الإكمال، والعلامة تقع ضمن استبدالات مستمرة للدوال في فعل الكتابة؛ أما الواقع فيختلط ببنية النص؛ فهو يتصل بعلامات الماضي، ونصوصه، وأطيافه.

وسنعاين تواتر الهويات التمثيلية الأخرى التي تعيد تشكيل الشبح – طبقا لتصور دريدا – في الخطاب الشعري التسعيني، وفي بنية الصوت المتكلم الذي يتصل بالماضي، بينما يبحث عن المكمل، أو الاستبدالات التي تشبه لعب الكتابة؛ فأطياف الحكايات، والأساطير، وشخصيات الفن تعود بصورة ملتبسة ضمن تناقضات الخبرة الواقعية نفسها بكل تفاصيلها المؤجلة في حضورها العلاماتي المحتمل الذي يستنزف مركزيتها. لقد أعادت التجربة الشعرية التسعينية – إذا- أبنية العلامات الحلمية، والعلامات التي تنتمي للفنون الأخرى، والأطياف، وأخيلة الفضاء، وحضوره المجازي، وتناقضاته الثقافية إلى المشهد، والخبرة الواقعية النسبية في حالة من الأداء المتجاوز لمركزية الذات.

ونلاحظ أن الصور الحلمية قد أتت في بدايات القرن العشرين ضمن أنظمة معرفية، وقوى ثقافية تجريبية، تحاول استنطاق العالم الآخر الثري، واللامرئي من الذات؛ بما يحمله من آثار الطفولة، وعلامات الغرائز، وبنى الحلم الرمزية كما عرض فرويد لها في تفسير الأحلام، أو حالة دورا؛ ولكن يبدو أن حالة التوسع الحلمي في الحقيقي كانت كامنة أيضا في خطاب الطليعة؛ وتطور الصورة؛ فقد ظهر دالي كعلامة واقعية – حلمية في فوتوغرافيا لفيليب هالسمان، تعود إلى نهاية الأربعينيات، وفي بعض مشاهد الفيديو اللاحقة، وفي تكوينات دوشامب الملتبسة، وكتابات جون كيج الشعرية في السبعينيات؛ ولكن تجربة التسعينيين ارتكزت – بصورة رئيسية - على هذا المكون الذي كان لاحقا في تيارات الطليعة السابقة؛ لأن القوى الثقافية قد أعادت تشكيل الذات، والعلامة، والحقيقي بالصورة التي أشرنا إليها في بنية الحضور التسعينية؛ ومن ثم صارت الفنون حاضرة – بصورة طيفية، أو لامعقولة – في الأماكن التي كان ينظر إليها سابقا كفضاءات تقليدية، أو ذات حضور بنيوي منفصل عن عالم الصور.

ويمكننا أن نعاين تموضع الماضي في السياق الجديد لبنية الحضور التسعينية عالميا من خلال كتابة الشاعرة الأمريكية كارين فولكمان؛ وهي من أبناء جيل التسعينيات؛ وقد وسعت من بنى الألوان، والعلامات الحلمية، وعلامات الأسطورة في المشهد الذاتي النسبي، وتناقضاته في قصيدة لها ضمن ديوان مساجلة؛ فالذات المتكلمة تنسج خطابا ذاتيا نسبيا، تستدعي فيه صور الحلم المتعلقة بالعين التي تشبه الوهج الأخضر، أو النحاس الصدئ، وتنخرط في مغامرة خيالية لتصل إلى الآخر/ المخاطب، ثم تحيلنا إلى أن الكائنات الأسطورية الخضراء، والسيكلوبات في عقلها ستميل إلى السكون في مجرة خيالية، وتعيدنا إلى صورة طفلة صغيرة تبكي بداخلها، وتستبل علامات الوقت بعلامة العين الحلمية.(7)

الذات المتكلمة تعود – إذا – إلى بنية الصور الحلمية المقطعة المستدعاة من عوالم اللاوعي؛ ومن ثم تعيدنا إلى تراث التجريب، ولكنها تومئ – في بنية الخطاب – إلى حالة شبه متكررة في الواقع اليومي؛ فالعين تتشكل باللون الأخضر حلميا في المشهد الواقعي؛ أي أن الذات تنخرط في خبرة أدائية، تتسع فيها علامات الحلم، والأسطورة بصورة متناقضة ولا مركزية جديدة؛ فقد انتخبت الذات مكون اتساع الحلم في بنية المشهد الواقعي؛ لتستحضر هوية تمثيلية أخرى تتجلى في صاحبة العين الحلمية، والطفلة الخيالية، والكائنات الأسطورية الخضراء التي تجلت بداخل الخبرة الذاتية، وفي أوقات من اليوم؛ وقدمت الشاعرة نوعا من التناص يقوم على المحاكاة الساخرة الجديدة في استدعاء علامة السيكلوب ذي العين الواحدة في الأوديسا؛ وكأن التداعيات تسير هنا وفق منطق السخرية من مركزية الذات، والعلامة معا فالسيكلوب الأخضر يقع بين العين الحلمية، والعالم الداخلي، وصورته الأولى في الأوديسا؛ ومن ثم فالمدلول التسعيني للذات قد استدعى خطاب الحلم التجريبي، والمكون الثقافي الآخر/ الهامشي الذي صار رئيسيا هنا؛ وهو اتساع العلامة الحلمية في المشهد اليومي؛ كما توحي علامة اللون الأخضر ببناء فضاء تشكيلي شبحي في المكان الواقعي المؤجل / الغرفة؛ فتداخل الفنون هنا جاء بصورة أدائية بعيدة عن التداخل البنائي التصويري بين أثرين جماليين، ولكنه تشكل – بصورة طيفية - في الفراغ، وفي الخبرة الأدائية.

لقد أحدثت كارين فولكمان استبدالات مضافة، وتحولات سيميائية لكل من علامتي اللون الأخضر، والعين الحلمية في أنساق خطابية متباينة حول سؤال التجريب؛ فهي تستعيد رمزية الحلم، والفضاء التشكيلي ضمن أخيلة الهوية، وتحولها الممكن، والفضاء اللامرئي، وعلامات اليومي المضافة للتراث السريالي الأسبق؛ كما تستبدل العين الواقعية/ الحلمية بالعين/ الزمن في نهاية النص.

وإذا تأملنا قصيدة أربعة سيناريوهات لمشهد واحد للشاعر المصري المبدع أسامة الدناصوري – ضمن ديوانه مثل ذئب أعمى 1996 – سنلاحظ حساسية الصوت المتكلم للتحول الثقافي التسعيني في بنى الذات، والعلامة، والحقيقي؛ فالغرفة تنطوي على حيوات مجازية تعددية متفاعلة، وتفكك مركزية الصوت؛ وهي تذكرنا بفضاءات ليوتار ما بعد الحداثية؛ فالذات تتخلى عن موقع الهيمنة، أو مراقبة الشيء باتجاه الحياة الإبداعية الأدائية مع الشيء، وتشبيهاته المحتملة، والمشاهد السينمائية الشبحية الكامنة بين المرئي، واللامرئي، وتستدعي بنية العلامة رمزية الحلم بصورة يومية جديدة؛ فثمة رموز تواترت – في الماضي في دراسات فرويد للحلم – قد أتت بشكل موح، وأكثر التصاقا ببنية اليومي المؤجل؛ مثل الغرفة، والباب، والحروب الطيفية، والعين، والسرير؛ فاليومي صار حلميا في الوعي، واللاوعي؛ إذ إن الذات تعاين الخبرة الأدائية بنوع من الدهشة المصاحبة لتشبيهات الواقع، واستعاراته، ومشاهده؛ فبنية الحلم التي وردت من قبل في الكتابات التجريبية الأسبق، تتموضع – في خطاب الدناصوري الشعري – فيما وراء الآني الملتبس، دون مركزية؛ فالذات تنقل نفسها في حياة الأشياء الصغيرة بصورة تمثيلية مضادة لخطاب الوحدة وما ينطوي عليه من نظر عميق إلى الداخل، وتضع هذا الخطاب في حالة تعارض مع حالة ولوج الحياة الخاصة للشيء بصورة حلمية مغايرة، أو مضادة؛ ورغم أن الدناصوري ثمانيني بحكم مولده، أو يقع بين الثمانينيين، والتسعينيين؛ فإن تجربته أثرت المشهد الشعري التسعيني في مصر، وجسدت التحولات الثقافية التسعينية؛ وبخاصة في التمازج الكثيف بين اليومي، وتشبيهاته المحتملة المضاعفة.

يقول أسامة الدناصوري في نص أربعة سيناريوهات لمشهد واحد:

"لماذا تشعر بالوحدة؟/ ولديك سرير بهذا الاتساع/ وعلى مرمى بصرك/ سماء واطئة من الجير/ تتجول فيها بعينيك السارحتين/ لتكتشف ما شئت من بورتريهات ناقصة/ لغرباء مسالمين/ وحروب صامتة لا تنتهي .../ بإمكانك أن تنطرح على ظهرك/ مفرشحا ساقيك وذراعيك/ وبعين حجرية/ تصوب نظرة دائمة/ إلى المصباح المتدلي من السقف/ وبقليل من الإنصات/ بإمكانك أيضا التسلي/ بملاحقة دقات ساعتك الخاصة".(8)

لقد أحالتنا الذات إلى مشهد للوحدة، بينما هي تستنزف بنية الوحدة من داخل علاماتها؛ مثل السرير، والغرفة، والسقف؛ وكأنها توحي بأن هذه العلامات هي مفتتح لعوالم حلمية تجريبية قيد التشكل؛ كما تشير إلى فعل التجول الذي يوحي بوقوع الذات في فضاء ما بعد حداثي يتضمن الداخل، والخارج معا؛ وإن مراقبة الذات لعلامات الأشياء تتضمن الفعل الأدائي لا المراقبة المنفصلة عن الموضوع، أو المتعالية؛ فالذات تتحرك مع عقرب الساعة، وتشارك في الحروب الحلمية السينمائية الطيفية بين المرئي، واللامرئي؛ ومن ثم يعكس نص الدناصوري حضور الذات كعلامة في واقع مملوء بالصور، والتشبيهات، والسخرية من خطاب الوحدة باتجاه السرد الشعري، وصيرورة العلامات الحلمية/ اليومية.

وقد تواترت هذه الحساسية التجريبية التي استعادت ماضي التجريب في سياق التحول باتجاه الصور الحلمية والافتراضية، وحالة الأداء التمثيلي في كتابات عدد كبير من شعراء التسعينيات في مصر، وكذلك بعض الثمانينيين؛ مثل إيمان مرسال، وعلاء خالد، ونجاة علي، وكريم عبد السلام، وعماد فؤاد، وشريف رزق، وهدى حسين، ومؤمن سمير، وأسامة جاد، وعيد عبد الحليم، وعزمي عبد الوهاب، ومحمود خير الله، والبهاء حسين، وجيهان عمر، وغيرهم؛ وأعتقد أنه يمكن استعادة ذلك الخطاب التسعيني في سياقات تجريبية أخرى في العقود التي تلت العام 2000؛ وذلك بوصفه حلقة تجريبية قابلة لإعادة التشكل الدينامي في بنى أخرى للحضور.

* هوامش الدراسة:

(1) Read, Christine Henseler, Generation X Goes Global, Mapping A Youth Culture in Motion, Routledge, New York, London, 2013, p. 14. 15.

(2) Read, David Garland, What is a History of the Present, On Foucault Genealogies, Punishment, society, v. 16, 4, 366: 379.

(3) Foucault, Nietzsche, Genealogy, History, in Foucault Reader, Edited by: Paul Rabinow, Pantheom Books, New York, 1984, p. 87. 88. 89.

(4) Read, Jean Francois Lyotard, Postmodern Fables, Translated by: Georges Van Den Abbeele, University of Minneapolis, Minneapolis, London, 1997, p. ix, iv, 29.

(5) Read, Jean Baudrillard, Cool Memories, Translated by: Chris Turner, Verso, London, New York, 1990, p. 169.

(6) Read, Jacques Derrida, Archive Fever, A Freudian Impression, Translated by: Eric Prenowitz, University of Chicago Press, Chicago, London, 1998, p. 39, 40.

(7) Read, Karen Volkman, Spar, University of Iowa Press, Iowa City, 2002, p.3.

(8) أسامة الدناصوري، مثل ذئب أعمى، 1996، طبعة إلكترونية، الرابط:

http://aldanasoury.com/index.php/%D8%AF%D9%88%D8%A7%D9%88%D9%8A%D9%86/item/215-%D9%85%D8%AB%D9%84-%D8%B0%D8%A6%D8%A8-%D8%A3%D8%B9%D9%85%D9%89-1996.html

 

msameerster@gmail.com