يكشف الباحث المغربي هنا عن جدلية الترحال المكاني والنصي في رواية منطقة بعينها من مناطق المغرب العربي، هي منطقة بني ملال والأحياز والتي أنتجت عددا لا بأس به من الروائيين اتسمت رواياتهم بمجموعة من الخصائص المشتركة فنيا وموضوعيا، وإن سيطرت عليها أطروحة الترحال إلى أصقاع جغرافية ونصية.

الرواية وأسئلة الخصوصية

جدلية الترحال المكاني والنصي

محمد أبو العلا

 

من خصوصيات الرواية ببني ملال والأحياز، انتقال عدوى الهجرة والارتحال من مرجع الواقع إلى خطاب روائي يستعيد سرد حكايا نازحين شطر الشمال. وآخرين، على مرّ التاريخ، تركوا الماء السلسبيل والجنان ويمّموا شطر أرض يباب. من مؤشرات هذا الملمح؛ ما يبدو راشحا في منجز روائيي الجهة، من إصرار على تقديم شخوص متخيلهم وكأنها نازحة بفعل حقد عرقي، أو نشاط بركان، تستوي في ذلك روايات (مقاهي المكسيك) لعبد الواحد كفيح، و(لعبة الأقنعة) لمحمد رفيق، و(رياح المتوسط) لعبد الكريم عباسي، و(كتيبة الخراب) لعبد الكريم جويطي، و(أحلام عنيدة) لمحسين عبد العالي، و(أيام خائنة) لعبد السلام شرماط، في حين تقترن الهجرة المضادة إلى نفس الفضاء بالفجيعة وفداحة الانفصام، في (موسم صيد الزنجور) لإسماعيل غزالي، و(كتيبة الخراب) لعبد الكريم جويطي، و(أحلام عنيدة) لمحسين عبد العالي.

محفل السرد وأوديسا هروب جماعي
بالنظر إلى الروايات المنتخبة للقراءة، تبدو جل محافلها السردية مؤطرة بفضاء لافظ وغرب حاضن، مخلّص من كينونة متشظية مُشكّلة لوعي جمعي خارج المتخيل، ولأوعاء ذوات ساردة داخله. فعلى امتداد السرد الموازي لمشروع ارتحال مجهض، أو منته بسوء مآل، تتشكل مدارات الأخيلة، وترسم المصائر وفقا لآليات تخصيب قصص الهجرة المفجعة، في تطابقها مع «أنا» ساردة، أو في انفصالها عنها بسير غيرية لم تعد الفضاءات تسع حلم تحليقها خارج السرب. هذا بالموازاة مع تخصيب الروايات المعنية بهجرة نصية إلى نصوص غربية أو عربية داعمة، مما أضفى على ملمح التنسيب لجغرافيا الجهة، دمغة كونية وسّعت من أفق النصوص الحاضنة بالتناص.

يوازي هذا المنحى، ما عرفته «التواريخ المحلية»، من اهتمام متزايد، السنوات الأخيرة. وهو ما أفضى الى تجسير تخييلي، بين النصوص الروائية وبين «مسوغات» حكائية، أمست «مشاريع» سرود مشبعة ببوتقة تتقاطع بين منظورات متوزعة بين «الحيز الضيق»، حيث انوجدت، وبين آليات السرد التخييلية، وما تفتحه من آفاق للنص الروائي. في إطار توصيف بانورامي عام للروايات أعلاه، تبدو الذوات الساردة والمسرودة، وكأنها سربة خيل جافلة على خط الانطلاق، قبل الإغارة الفاشلة على الأمداء الواصلة بين اغتراب واغتراب مضاعف، وهو ما سنجلّيه بالوقوف من داخل النصوص المقترحة، على آليات صوغ متخيلها بسرد مواز لمسافات العبور، أو الاسترجاع ، أو الذهاب والأوبة:

"حريك رشيد" في رواية «علبة الأقنعة»، لمحمد رفيق نحو أوربا، نازحا عن دوار مثقل بالبطالة وديون القرض الفلاحي (هي لعنة وجوده منذ أن وعى نفسه في الوجود وهو يهمس في أعماقه، بحثا عن كشف جديد، وتجربة تقوده إليها المطايا والحكايا، لذلك أصرّ الراوي أن تكون جغرافيا بلدة بني عامر منطلق رحلته في الوجود، لسبر أغوار الجسد و الكون)

هجرة « عبدو» في «مقاهي المكسيك» نحو أوربا ممعنا من النافذة في المتواري من حكايا خلف القطار (ارتجت عجلات القطار، استفقت من غفوتي، رفعت رأسي لأجد وجوها غابت وأخرى حضرت … في الوقت الذي ما خطفت أنا نظرة إلا أدركت أنني و صلت لآخر محطة يتوقف بها قطاري كل يوم، كالمعتاد) .

هجرة موقوفة التنفيذ لـ"ميمون الحلاق" في «كتيبة الخراب»، بعيدا عن خراب عاطفي وخراب فضاء كان يانعا فأمسى متصحرا: «بدا لي في عرضه هذيانا خاصا. هممت بقول رأيي بصراحة في ما قدمه لكن الجدية التامة التي قدم بها عرضه أربكتني؛ فطفقت أتملى الجسد النحيف المنهك الذي يريد أن يجابه البحر؛ وذلك الوهج الذي أضاء عينيه وهو يتكلم ويخبو …»، «وربما بتلك النظرة الممتلئة، بإدانة تامة نجحت بعد بضعة خطوات في أن أقول: آلتك تلك صالحة لحوض سباحة".

هجرة «حبيبة» شهرزاد الحكاية في رواية «أحلام عنيدة» عن أرض تحلم بها مشروعا للورد.(سل عني قريتي، يرتد إليك السؤال رجع صدى. لا يعرفها الكثيرون … وأنا أيتها القرية، أنا الزائرة الضيفة، صاحبة البيت، الراحلة العائدة، القادمة إليك. أنا المشتاقة إلى الورد المكتوي بجمر الفقر).
هجرة زاكور في (أيام خائنة) نحو فرنسا هروبا من دوار الدلالة بمسغونة، زمن السيبة. (تأبط منجله، وفي زاده قطعة خبز وقربة ماء صغيرة، ثم انطلق نحو المجهول، مودعا دواره، مال مع الطريق كسيلان الماء، لا يدري أين سيصل؟).

هجرة «ميمون» زمن الاستعمار بعيدا عن القصيبة في رواية «رياح المتوسط» (استلقى ميمون تحت شجرة يمعن النظر تائها يفكر في مصيره الذي اختاره بنفسه .. هتافات داخلية تغمر فؤاده، يفكر بعمق في موضوع هجرته إلى فرنسا التي ستقلب حياته رأسا على عقب.).

انطلاقا من هذا الجرد لوضع السارد في الروايات المقترحة، يبدو إصرار كُتاّبها جليا على تشييد أوديسا عبور جماعي لأبطال مغرر بهم، شبيهين برفاق أوديسيوس، الذين قضوا جراء حماقاتهم العمياء؛ هي ذاتها حماقات «ميمون الحلاق» في رواية «كتيبة الخراب»، و"ميمون" في رواية «رياح المتوسط»، قدر الاسم ووسم الروايتين بطوفان مائي منحسر في «كتيبة الخراب» عن مدينة يانعة في ذاكرة السارد، و"فنيسيا ماء" في ذاكرة روبي، وعنوانا طافيا فوق خلجان؛ إشارة لغلاف «رياح المتوسط». برزخ مائي فاصل بين واقع مرّ وحلم مؤجل أو مجهض بانتكاسة تجريب درّاجة مائية أسطورية، لعبور البحر، في بركة ماء (كتيبة الخراب)، وفداحة ما بعد عبور شراع «ميمون» في «رياح المتوسط» إلى فرنسا/ تشظيه بين نداء شبقي لصديقته «فرنسواز»، وهاتف حب «فاطمة» العذري من عمق الجبال.

اسمان وهويتان، ينتصب بينهما «ميمون» بين الماضي والمآل، مفترق سبل، وحكايا تختزلها نظرة ميمون المتحسرة في «كتيبة الخراب» إلى الآخر(الأنثى)، بعد التنكيل به من طرف شقيقها في ساحة «الغدير الحمرا»، ونظرة «ميمون» في «رياح المتوسط» في حفل راقص من خلف رقبة «فرانسواز» إلى أسرته السادرة في صمت مؤشر على اغتراب مؤقت في فضاء الآخر/ فرنسا الضيف الثقيل بالأمس (المستعمر)، والمُضيّف هنا والآن (قصر ميشال)، واغتراب مؤبد لميمون، وقد آل إلى ميمون آخر شبيه بخلدون/ دوف الذي تختزله رواية «عائد إلى حيفا» لغسان كنفاني: «الإنسان في آخر المطاف قضية»:

وقفت الأميرة فرنسواز في الحفل بأحلى وأغلى فستان لها بين الحضور، اقتنته في معرض للموضة كعادتها، وميمون بجانبها هو الآخر يرتدي بذلة أميرية أنيقة. كل الأنظار متجهة صوبهما، بدآ يرقصان على موسيقى هادئة، همست فرنسواز في أذن حبيبها: ميمون حبيبي، هل تتزوجني؟ أرغب في عرس زواج تقليدي أمازيغي صرف في القصيبة، على نغمات العيطة، وإيقاعات الطبل، ورقصات وأهازيج أحيدوس، والكمنجة و لوطار لم يجبها ميمون … بل لوح ببصره من خلف رقبتها، فالتقت عيناه بأعين جده، ووالدته، وإخوته وهم يتابعونه باهتمام

في اليوم الموالي، تلقى ميمون مكالمة هاتفية من القصيبة:

ألو .. ألو

ألو من معي من فضلك؟

أنا فاطمة، الحمد لله على سلامتك ميمون؟ "ص: 393."

ويتشابه مصير «ميمون» هنا مع مصير «زاكور» شخصية أخرى لعبد السلام شرماط في رواية «أيام خائنة»، أيام متشابهة بلون الأبيض والأسود ولون الماضي ومرارة الانتساب إلى فضاء مثخن بالكلفة وفوضى «صويلحات»، هكذا يعيّن السارد مفارقة أرض «مسغونة» مسقط الرأس زمن السيبة؛ حيث ماء دافق وشجر وارف وبؤس لا يغيض، وزمنان متاخمان: ما قبل الاستقلال وما بعده؛ يجثم فيهما الآخر (فرنسا) على الذاكرة والمجال، أو يرحل للتو مُخلّفا وراءه صدوعا بحجم الهوة، بين «ميمون» و"فرانسواز" في رياح المتوسط، و"زاكور" و"سيمون" في "أيام خائنة".

ومقابل التماثل بين «سيمون» و"فرنسواز"، يبدو التباين بيّنا بين «ميمون» و«زاكور» الجندي في صفوف الجيش الفرنسي الذي لم يحارب ألمانيا، بل غرز بندقيته في شجرة، بعد أن فكّ لعبة الكبار تحت وطأة السؤال : مع من يحارب؟ ومن يحارب من؟ هل يحارب مع من حاربه بالأمس، ويضع يده في يد من كانت طائرات بلدها تدك الديار وتُروّع أطفال ونساء بلده، فالاحتراب هنا أو هناك سيان، قتل للإنسان:
"لم يصوب بندقيته ولم يطلق منها أية رصاصة، بل غامر لإنقاذ الناس، وإخراجهم من حفر النار التي كانت تحيط بهم." وعي متقدم لذات ساردة (زاكور) بناء على ما عاينته العين من آلام، بعد أن ساح في بلده بحثا عن قوت يومه، وتجشم السبل البعيدة نحو جيش العدو اضطرارا حين تقطعت به الأسباب، إلا أنه سرعان ما سيتحول إلى وعي شقي، بعد الذي آلت إليه ذاته، عند عودته إلى الدوار جنديا منكلا بأبناء جلدته (صويلحات).

وتتقاطع شخصية «زاكور» في نفس الرواية مع شخصية «حمو الخنيفري»، مُجترحَين نفس المسار نحو فرنسا، والمسار ذاته عند الإياب، توافق في الرؤى وإن اختلف المسعى مع «حمو» الهائم، متأبطا آلته «لوطار»؛ باحثا عن والده الذي رحل للدفاع هو أيضا عن فرنسا، حيث ربحت فرنسا حربها، وخسر هو حروبه الصغيرة، بعد أن ترك زوجته «حجو» وابنه «حمو» وتزوج زواج متعة بفرنسية .
بهذا ترسم الروايتان (رياح المتوسط) و(أيام خائنة) تناظرا سرديا جليا، سواء على مستوى مصائر الشخوص، أو على مستوى الفضاء من حيث مفارقته ورمزيته، مع وصل زمن متخيل الروايتين بحالة التمزق التي عاشها جيل ما قبل الاستقلال وما بعده، جرّاء عسف الاستعمار، ووطأة شيخوخة ظالمة عصفت بالمجتمع الفرنسي بعد أن قضى جُّلُّ شبابه؛ ولم يبق أمام نسائه إلا التفكير في الآخر من شباب المستعمرات، بعد أن صار نسل فرنسا الحر في خطر محدق لا يستثني ولا يختار، (رياح المتوسط).

استراتيجية التجريب: محكي العبور ودائرية المحكي:
ويلاحق قدر النزوح القسري سارد «مقاهي المكسيك» لعبد الواحد كفيح، في رحلة مكوكية يلتهم فيها القطار المسافات مقابل التهام السارد/ القارئ لصفحات الرواية، عبور فوري للمكان وعبور للنص، وبين عبور وآخر يطفو فعل القراءة – من خلال استراتيجية تجريب تحسب للمبدع كفيح. متماهيا مع فعل الكتابة، دون تحديد للتخوم الفاصلة بين ما يقرأ للتو في الحاضر، وما انكتب كرونولوجيا في تواز مع محطات القطار. بين السارد والقارئ، ثم بين ماضي الكتابة الذي آل بفعل حبك سردي إلى قراءة فورية. هكذا تقدم رواية عبد الواحد كفيح نفسها موهمة القارئ بتجاور سردين، سرد يعبر الحاضر وسرد يستحضر الماضي بالاسترجاع، إطلالة لرأس «عبدو» من النافذة متأملا ما يفعله العبور السريع في الأمكنة المتوارية، وإطلالة رأس «بوقال» من المقروء/ المحكي، متألما من شرخ الجسد (رأس غليظة)، هروب الأم وجفاء الناس. هي لعبة تسريد للهجرة وفق تجريب محبوك، تنتصب فيه الرأس المشتعلة حكيا/ كتابة، ورأس الحاكي (السارد) الذي هو رأس الحكي كله (راس لمحاين) موضوع الرواية الرئيس، سواء في خروجه القاسي من رحم أُمّ لفظته مثلما لفظته الأرض، أوفي إشارة لما جلبته الرأس لباقي البدن وللنفس من سخرية وتقريع.

وتطل علينا شخصية «الشيبة العاصية»؛ كناية ونكاية في رأس أخرى طافية كعنوان إلى جوار عنوان آخر «لما لا تنتظريني يا أمي»، عنوان برأسين، يختزلان محكي الذات الساردة (عبدو)، ومحكي ألم الذات المسرودة (بوقال)، مسافة ألم مدون كتابة، ومسافة قراءة، ترحال مكاني وترحال نصي.

وينتهي سارد كفيح عابرا، ليبدأ سارد محمد رفيق عابرا هو الآخر في رواية (علبة الأقنعة)، منقولا بقوة السرد من حيز إلى حيز، كما ينقل لاعب شطرنج «شاهه» الأثير من مربع إلى آخر. مقام قصير، كسب وخسران مبين، وإصرار على اللعب من جديد. هو ذا المسار الدائري الذي قطعه رشيد، من أرض أثقل فلاحيها القرض الفلاحي، ليعود إلى حيث سينطلق من جديد، من بطالة مقنّعة إلى لعبة أقنعة، حيث يجرّب محمد رفيق أدرمة سرده بفصول تراجيدية، يفتح فيها الكاتب الستار عن مشهد انتشاء ممثله/ سارده، ويسدله حين يأتي عليه الدور: "لكي تحصل على استقلالك عليك أن تحارب في أدغال بعيدة جدا شعبا يأمل هو أيضا في التحرر والانعتاق من ربقة الاستعمار".

أما رواية «كتيبة الخراب» فتشيد معمارها السردي بناء على هجرتين متعاكستين، الأولى بملمح كوميدي بطله «ميمون الحلاق»، الراغب في قطع خلجان البحر المتوسط بدرّاجة دونكيشوتية كما سلف، والثانية بملمح تراجيدي بطلته زوجة «روبي»، الساعية إلى غرس شجيرة فيكيس في فضاء يانع بالأمس دارس اليوم (بني ملال). نحن إذن إزاء سائحة قادمة من الدانمارك، حاملة لوصية ووفية لمدينة لم يعد لها أوفياء، بعد أن غدا أهلها مثل طيور الخواضة محلقة بعيدا عن أعشاشها، بعد أن عاث في الأرض نكاية في بشرها وشجرها من وسمهم الكاتب بـ«كتيبة الخراب»، حيث يمكن اعتبار شجيرة «فيكس» نصا أيقونيا مؤشرا على سياق مثاقفة مختل.

وبين الذهاب والأوبة لـ«القرية»؛ مسقط رأس الساردة «حبيبة»/ شهرزاد الحكاية في رواية «أحلام عنيدة»، يقطع مؤلفها محسين عبد العالي بشخصياته مسافات ضاجّة بأحداث تدمي القلب، حيث تطالعك منذ مطلع الرواية قوافل عائدين اختيارا أو اضطرارا احتماء من كلح الوقت، واشتياقا لتراب الأرض ولشجرها؛ للزرع اليانع وللضرع؛ لثغاء حمل، وشجن حسون شارد، لزيتون منسكب زيتا نورانيا في المعاصر؛ للبيادر وما حوت، للورد البلدي الذاوي في حقول أرادها «زهير» بلا تخوم، وأرادها خصوم الجمال تصحر تراب وأشواك صبار . يموت «زهير» كمدا وتعود امتداده «حبيبة» بحب لا يغيض وتحد ّلا يلين لإحياء ما وئد: «وأنا أيَّتُها القرية، أنا الزّائرةُ الضيفةُ، صاحبةُ البيت، الراحلةُ العائدة، القادمة إليكِ… أنا المشتاقةُ إلى الورد، المكتوي بجمرِ الفقر».

ويعود بوبكر الفنان التشكيلي الذائع الصيت، ملوحا بلوحات كاسدة، لم يسدد بها أقساط شيكات أو يسكت بها مخمصة أبناء؛ ليلوذ بحضن «القرية»؛ فمن غيرها يحميه من ثقل الدين ويوفر دواء «ريم». ومقابل من عادوا ينتصب «الصافي»، عينة ممن تشبثوا بالأرض نائحا صفو أيام حين ابتسمت جادت عليه ب»البشير» بعد عقم، ونعته «الزاهية» رفيقة الدرب: «هذا تأويل رؤياك يا أمي، بدا نارا على علم، لا غبار عليه. هل تذكرينها؟ أليس أفول القمر وفاة والدي «بوزكري»؟ وغروب الشمس رحيل زوجتي «الزاهية» بعد أبي؟ أليس إشراقُ البدر هذا الولد اليتيم الذي رزقته؟ آه يا الزاهية
ألقى الصافي بِثقل رُكبتيْه على جسد الأرض جاثيا، متصبِّبا عرقا، صرخ صرخة غضبٍ شقَّتْ سماء البادية، وأيقظتْ فيه الإحساس بالخَيْبَة والصَّغار كأن حالُ الصَّافي يقول: «يا رافع السماوات بغير عَمَدٍ. ماذا أقول للولد؟ ماذا أقول له حين يكبر؟ وقبل أن يكبر؟ وَمَنْ له إلى أن يكبر؟ بل كيف أصبر على مُواراة «الزاهية» في الثَّرى بيديَّ هاتين؟"

ومن عزّ الألم يأتي الفرح مواسم، فتشتعل البلدة كرنفالا بلا حدود؛ يخرج الجميع من بيات شتوي ثقيل، إلى موسم الحصاد ونضج التين، على غرار أسلاف الإغريق متأبطين آلات متواضعة: كمان مبحوح ؛ مقص وبندير؛ أجساد رجال مثخنة الأرض «ركزا» ، وصدى نساء خلف يشرخ السماء وجدا لتوقيع «التدراز"

وبقدر ما يوقع الروائي المحسن محسن عبد العالي في هذه الرواية على متخيل هجرة شاعري لا حدود لاستعاراته؛ يبصم على مبنى سردي مائز؛ ابتداء من محفل السارد مؤنثا من خلاله صوته بصوت ساردة مهيمن على الحكايات والمطالع؛ و انتهاء بالمحكي الذي يعلن منذ البدء أيضا عن دائريته؛ عن الذهاب والأوبة، وعن نهاية/ بداية الرواية:( آلو).. .. وانقطع الاتِّصالُ بباريسَ، هل سأعود حقا إلى فرنسا يوما ما؟ أم أنها نهايةُ البداية والرواية.

تسريد الهجرة بين غرائبية المحكي والواقعي:
وبعيدا عن تيمة عبور البحر المتوسط المستفحلة في روايات الجهة؛ تبدو رواية «موسم صيد الزنجور» لإسماعيل غزالي بوسمها الخارجي، وباستراتيجية سردها الداخلي، مثخنة بتعاقب العبور نحو بحيرة الأطلس المتوسط (أكلمام)، حيث ينتصب الجبل شامخا، جاذبا زواره الأجانب بفضائه الفانتازي، ثم مطمرا أحلامهم تحت مائه.

واللافت أن إسماعيل غزالي هذا القاص والروائي المدهش، وأحد الأصوات الجديدة المؤثثة للمنجز الروائي المغربي الحديث، راكم في صمت منجزا سرديا وارفا تعدى خمس روايات، إذا نحن احتسبنا روايته الأخيرة «ثلاثة أيام في كزابلانكا»، كما اعتلى منصة البوكر بروايته موسم صيد الزنجور سنة 2014 (اللائحة الطويلة). وتشكل عناوين رواياته ومجاميعه القصصية مداخل مغرية للاشتباك الفوري على المشارف، قبل ولوج عوالمها الداخلية الآسرة: «بستان الغزال المرقط» ،«التمتمة»، «رقصات الخلاء» و«غراب، غربان، غرابيب» و«النهر يعض على ذيله»، و«موسم صيد الزنجور» التي تتقاسم مع «كتيبة الخراب» قدر حلول السارد عازف الساكسفون الفرنسي مع قدر حلول زوجة روبي بناء على وصية، وصية الوالد بالبحث عن جذور شجرة الأنساب في أعالي الأطلس (عائلة الأم)، ووصية روبي إفسال شجرة فيكيس في دير الأطلس.

إلا أن جويطي إن ظل على امتداد ريبرتواره الروائي وفيا لمسار واقعي لم يحد عنه قيد أنملة، فإسماعيل غزالي ظل مخلصا لتجريب سردي أثرى به بقوة المنجز السردي بالجهة كما خصب متخيلها بهجرة نحو تخوم أخرى، حال هذه الرواية الفانتاستيكية التي جعلت من أكلمام بحيرة أخرى طافحة بالدهشة، وقبلة هجرة مكللة بالفجيعة، من خلال الاستدراج القاسي للشخوص نحو حتف داهم، ابتداء من إرباك القارئ بعنوان مراوح تأويلا بين بداهة التأشير على موسم صيد مائي «موسم صيد الزنجور» وموسم صيد آدمي، وانتقال الجبل الحاضن للمتخيل إلى فضاء حمّال لاستعارات وحكايا متعالية عما هو متداول من محكيات مغرقة في الواقع.

من هنا فخط الرجعة الوحيد الذي سلكته شخصية روبي في «كتيبة الخراب» المنتهي بفجيعة رمزية لشجيرة نادرة، سيؤول في موسم صيد الزنجور إلى حكايا فجائع شخوص أجنبية، تتراص مثل خيوط النول، إلى الحد الذي يجعل النسيج الحكائي يعسر في عمومه على فهوم قراء يتلمسون خيطه الناظم، حيث الأمر يتطلب وقتا لفك لغز الاختفاء المتكرر في الرواية، الشبيه بالوقت الذي يستغرقه فك السارد عقال الصنارة من فخ النبات الداغل، ذات حوار مع فيرجينيا الخلاسية من أب انجليزي وأم إماراتية….  «لحظتها غمزت صنارتي، فقمت إليها لأجس النبض، وكنت على يقين من أن الشوكة علقت في النبات، وهذا سيكلفني جهدا إضافيا.

شوط فاشل بامتياز.

قلت لفيرجينيا وأنا أرسم ابتسامة فوق ذلك.

لا بأس، لا بد من تكرار المحاولة.

استغرق الأمر وقتا كبيرا كي أفك عقال الصنارة من فخ النبات الداغل) ص: 59.

تشكل فيرجينيا، عينة شخصيات متخيلة منذورة للاختفاء، في تقابلها مع شخصيات واقعية (مرجعية) تؤشر توقيعاتها وصورها على جدار الفندق، على اختفاء مضاعف من جهة وتحديد الإطار الزماني والمكاني للنص (أحداث القصة من جهة ثانية، حيث تم استثمار توثيق حضورها الواقعي لإسناد التخييل الفانتاستيكي، مقابل التوثيق بالحكي لآثار المحو السريع للشخصيات المتخيلة، التي بدأت رحلتها إلى الجبل بدق وتد خيمة أو رسو عربة سياحية، لتنتهي مصائرها على التوالي في خلجان البحيرة التي يرقد في عمقها الزنجور، وعلى شطآنها أقدار غامضة. "حل المساء الرصاصي، وكانت له رائحة احتراق الزعتر، ولم يطهر أثر لفيرجينيا، وظل غيابها لغزا عالقا في ذهني، وقد عزز من حدة الريبة والهلع فقدان الفتى العشريني. ص:183 «رقصة اللوثيان" .
ومقابل الحكي المضاعف ينهض حكي ثالث بملمح واقعي محلي، آثر إسماعيل غزالي أن يقفل به دائرة محكيه الأجنبي، ويتعلق الأمر بقصة «شامة» التي سينتهي بها مسار الهجرة مع أسرتها من حيث انطلقت مسارات شخوص وافدة، أي من عمق الجبل نحو أزغار (السهل) ثم الهجرة إلى الخارج رفقة فنان أجنبي، وهو ما يعني حجز الرواية لجواز مرورها إلى لائحة الروايات المهاجرة، والجنوح بالمتخيل نحو سرد آخر منتصر لشخوص بهوية محلية متحللة من غرائبية السرد العالي (الجبل) نحو سرد واقعي سريع الإيقاع، ويمكن هنا مقابلة بطء إيقاع الشخصيات الغربية الوافدة على البحيرة، حيث الهدوء والتأمل الذي يسبق العاصفة بإيقاع التدحرج السريع للشخصيات المحلية نحو الأسفل( السهل) حيث تواتر الأحداث والسقوط الجماعي المدوي.

من هنا يعن لنا توصيف السرد في رواية «موسم صيد الزنجور» لإسماعيل غزالي بالسرد الخلاسي، نسبة إلى تأصيل الحكي الموصول بشخصيات أجنبية في فاتحة الرواية، بأخر محلي في خاتمتها . أما ما يسوغ انتساب الرواية إلى هذه الورقة فهو ملمح الجنوح النسبي شطر تيمة الهجرة نحو الشمال الراشحة بقوة في باقي الروايات المنتخبة للقراءة. ويظل السؤال، المرتبط برحلتي العبور والترحال بين المكاني والنصي، في قدرة هذه النصوص على تخصيب التخييل الروائي بأفضية وسمات تمكننا في النهاية، من تلمس هذا الأفق الذي تفتحه الرواية المغربية. حيث لا «الأنا» السارد، ولا المبنى الحكائي، قادران لوحدهما على تقديم سمات محددة، بقدر ما ولدته هذه النصوص من طرائق في الكتابة، وهو ما سيؤشر لا محالة على قراءة جديدة، غايتها مقاربة هذه الدينامية الداخلية للنصوص، تخييليا ونقديا.

 

  • محمد أبو العلا، ناقد وكاتب من المغرب، من إصداراته: «اللغات الدرامية: وظائفها وآليات اشتغالها في النص المسرحي العربي»، «المسرح المغربي من النقد إلى الافتحاص»، المسرح والسرد: نحو شعريات جديدة»، «المسرح المغربي: سؤال التنظير وأسئلة المنجز»، ورواية "حين يزهر اللوز"