يحيلنا الروائي السوري المبدع خليل النعيمي إلى فعل التشكيل المستمر للكينونة؛ ولكن في سياق استدعاء أصداء الماضي، ونغماته الملحة المتكررة في الوعي، واللاوعي، والسخرية أحيانا من اكتمال فعل تشكيل الكينونة نفسه عبر الكشف عن حالات التحليق السلبي بين السماء، والأرض، أو الانفصال العبثي بين الذات، والآخر، أو الكشف عن إغواء الصور الجمالية في بنية الواقع، ولكن دون اتصال إبداعي أصيل بهذه الصور، والتشبيهات الوفيرة؛ ومن ثم نرى الذات تنخرط دائما في حالة الأداء الجمالي العابرة للانفصال العبثي، أو لبنية التأجيل الكامنة فيما وراء القوة الإبداعية المصاحبة للحظة الحضور المتناقضة؛ وسنعاين مثل هذه الحالات التي تجمع بين إرادة تشكيل الكينونة، والسخرية، والتأجيل، والتحليق، والأداء الإبداعي المحتمل في خطاب السارد في رواية خليل النعيمي "تفريغ الكائن"(1)؛ فالذات المنتجة للخطاب السردي تستدعي أصداء الذاكرة ضمن القوى الثقافية المؤثرة، والحالات الإدراكية الآنية في سياق لحظة الحضور التي يستدعي فيها البطل / السارد أصالة الماضي في الشام، وحالة الانتظار، وإعادة تركيب وتفكيك الذات في باريس؛ ولهذا يأتي الماضي دائما محولا في علامات، وانطباعات، وبنى حلمية، ومحادثات كثيفة، أومحادثات تجمع بين فعلي الاستدعاء، ومحاكاة بنية الحلم المقطعة في رواية تيار الوعي.
الذات / المسند إليه – في خطاب خليل النعيمي الروائي – تحيلنا دائما إلى المسند / تشكيل الحياة الشخصية، وصورة الأنثى بصورة إبداعية وفق ازدواجية السخرية، وولوج حالة الأداء التي تجمع بين بنية الحلم، ووفرة علامات العالم، وتشبيهاته؛ فالسارد / البطل – في رواية الخلعاء – يجمع بين السخرية، واللامبالاة، ويوجه خطابه للأنثى / المروي عليه المحدد وفق تعبير جيرالد برنس؛ ويرى أن الحياة لعبة نعايشها بمرح واستياء، ويتناص – بسخرية ما بعد حداثية مع هملت – ويستبدل المعضلة بالمضحكة، وتبدو الأنثى في حالة اتصال بالسارد، وتعبر عن خوفها من ولوج لعبته في آن(2)؛ أما السارد / البطل – في روايته الرجل الذي يأكل نفسه – فيرى أن العالم يمضغه؛ ولهذا ينبغي أن يقوم بتفكيكه، وإعادة تركيبه باستمرار؛ ومن ثم يحيلنا أيضا إلى الانخراط في اللعبة التي تنطوي على الدخول المرح، والساخر، والتراجيدي للتاريخ وفق سياق الحضور الذي يؤثر في انتقاء الصور، والمحادثات، والذكريات، والانطباعات(3).
ويواصل خليل النعيمي – في تفريغ الكائن إذا – تلك اللعبة التي تقوم على تفكيك الكينونة، وإعادة تركيبها، ويؤكد مدلولها الآني الذي يذكرنا بتصور مارتن هيدجر حول علاقة الكينونة بالزمن؛ فالاستدعاء الواسع للماضي، وانطباعاته، ودواله المحولة – عند خليل النعيمي – ينطوي على درجة واسعة من القوة التأثيرية لبنية الحضور، وطرائق إنتاجها لمدلول الذات، والعلامة في السياق المنتج لخطاب البطل / السارد؛ وهو ما يذكرنا بتصور ميشيل فوكو عن طرائق إنتاج علاقات القوة لمفاهيم بعينها في بنية الحضور؛ فالسارد يوجه خطابه للمروي عليه؛ وهو يحلق في مبنى عال بباريس، يتأمل السفن المضيئة على نهر السين المظلم؛ ويسعى لإعادة إنتاج كينونته بين أصالة الشام، وأصداء الماضي المتناقضة، وفعل تحقيق الكينونة الذي يبدو واقعا بين التأجيل، والأداء الإبداعي / الخيالي المفرط في باريس؛ ولكن فعل تشكيل الكينونة الفردية – في الرواية – لا ينفصل عن علاقات القوة الثقافية المشكلة لسياق لحظة الحضور؛ فالذات – في هذا السياق – تقع بين قوى النزعة الفردية، والانفصال العبثي، والملل، أو الفراغ، والتهميش المؤقت، والأداء الإبداعي المضاعف، والكامن في تشبيهات الواقع، لا الواقع نفسه؛ ومن ثم سنجد الذات تعيد إنتاج كينونتها في مجموعة من العلامات، أو الدوال الحلمية / الواقعية التي تحول الماضي، ولا تعكسه حرفيا؛ مثل علامات الوحش، والتهام قطعة من الأب، والمرأة المعدنية، والحبيبة التي تنقل نفسها في علامة الموج، والمرأة ذات الثوب الأصفر التي تجمع بين التجسد الفيزيقي، والتجسد الجمالي المحتمل، والتجسد الطيفي الذي يعكس الفراغ، ويستنزفه في آن؛ وكثيرا ما تعاين الذات حالة اتصال مؤجلة، أو ممزوجة بنغمة الانفصال؛ مثل علاقتها بعازف البيانو في المقهى؛ فهو يمثل قوة التهميش، والجمال، ويشبه الذات بينما ينفصل عالمه عنها في المشهد.
وتوجه تلك الذات الساردة خطابها السردي الاستعادي الحلمي لنوعين من المتفاعلين؛ وهما المروي عليه من الدرجة صفر طبقا لبرنس؛ وهو المروي عليه الكامن في الإشارات السردية عن اللحظة الحضارية الراهنة، وبنيتها الثقافية المعقدة، ويمكننا أن نفترض أيضا أن هذا المروي عليه عليم بمنطق التداعيات الحرة للذكريات، والأحلام، والمحادثات في رواية تيار الوعي؛ أما المتفاعل الآخر – في رواية تفريغ الكائن – يكمن في طيف الأنثى المسعادة؛ وهو المروي عليه المحدد / أو الشخصية في توصيف برنس أيضا؛ فأحيانا يوجه السارد خطابه مباشرة لطيف الأنثى المحبوبة المستعادة؛ وكأنها حاضرة معه في باريس؛ ومن ثم تسهم هذه الصورة الثانية من المروي عليه في المزج الجمالي بين الأزمنة، والفضاءات، وطرائق المتكلم في تعديل خبرات الماضي عبر دمجها بالحلم، وحلم اليقظة؛ كما تسهم في استرجاع الطيف التمثيلي المحتمل للآخر.
يخاطب السارد أحيانا أنثاه – بصورة محددة – ويقول إنه كان يقف في وجه الضوء الذي بدأ في الانحسار، بينما كانت تتجه هي إلى الشمال، ثم يدخلها في حلم يقظته الإبداعي، ويراها تتململ كأن نملا تسلق فخذيها، وعبر ظهرها المظلم، بينما تعترض هي على أسئلته الوجودية المتكررة. (4)
هكذا يسهم استدعاء طيف الأنثى / المروي عليه المحدد في مزج الأزمنة في سياق الحضور، ومحاولة تعديل الماضي عبر مزجه بالانطباعات، وأحلام اليقظة التي تعيد إنتاج حالات المرح، والتراجيديا، والسخرية، وقيمة سؤال الوجود في آن.
والنص – وفق ارتكازه على الذات المنتجة للخطاب – يقوم على التبئير الداخلي وفق تعبير جيرار جينيت؛ وأرى أنه يمثل شكلا تجريبيا من رواية تيار الوعي؛ لزيادة مساحات الحوار الحلمي، وارتكازه على مجموعة من العلامات التجريبية المحولة، والتي تعكس الاتصال ما بعد الحداثي بين النص، والواقع في علاقتها بعلامات مستوى ما قبل الكلام الذي ميز روبرت همفري رواية تيار الوعي من خلاله في كتابه تيار الوعي في الرواية الحديثة.
ويمكننا قراءة بنية نموذج الأدوار العاملية طبقا لغريماس – في تفريغ الكائن لخليل النعيمي – عبر علاقة الذات / البطل بالموضوع / الوعي الحاد بالكينونة، وتحولاتها، ويبدو أن الذات تقوم أيضا بدور المرسل في هذه المهمة السردية، بينما تقوم الأنثى، والمبدعين، والأفراد المهمشين الآنيين بدور المستقبل، بينما يبدو طيف الأنثى معينا للسارد؛ أما الخصم؛ فيكمن في دوال الفراغ جميعها؛ مثل المرأة المعدنية، والوحش الذي التهم الأب، وأخيلة الحرب القديمة.
وسنعاين نوعا من التعارض السيميائي الرئيسي يكمن في بنية تفريغ الكائن، وتنوعها الإشاري / الدلالي؛ ويمكننا الكشف عن تنويعاته السيميائية، والدلالية عبر مربع غريماس السيميائي / الدلالي؛ فعملية تفريغ الكائن من تاريخه بهدف إعادة تكوينه باستمرار، تتعارض مع حالات الاتحاد بين العلامات، والفضاءات في الممارسة الأدائية الخالية من التأمل، والمتواترة في النص؛ وسيشير محور الاختلاف المقابل لبنية التفريغ إلى الإعلاء من حالات التمازج التشبيهي الحلمي في مستوى ما قبل الكلام؛ وسيقابل بنية التمازج – في محور الاختلاف – الإعلاء الواقعي من حالات الوحدة، والعبث، والفراغ، وبروز الجانب العدائي من الآخر؛ ومن ثم ينطوى موضوع التفريغ على علاقات دلالية سيميائية وفيرة؛ توحي بالتنوع، والاختلاف، وزيادة نسبة الاحتمالية عن نسبة الإخبار في بنية النص السردي.
وإذا تتبعنا لغة الخطاب السردي، وتداخلاته الخطابية، ووسيلته في التأثير على الآخر، وغرضه؛ سوف نلاحظ أن لغة الخطاب تقوم على السرد الكثيف، وسرعة الإيقاع أحيانا، وتكرار بعض الصور؛ مثل صور المياه، وسفن السياح، والمقهى التجريبي، والطابق العالي في باريس، وفضاءات الشام العتيقة، كما تراوح اللغة بين لحظات الوعي الحاد بالحضور، والحضور الطيفي، أو الغياب في بنية الحلم الاحتمالية الكثيفة، واتصالها البنائي المتقطع أحيانا بالواقع؛ ويتداخل خطاب السارد أحيانا مع مجموعة من الخطابات حول النزعة الفردية، والحضور العولمي، وتحولاته، والنظرة الإبداعية للوجود، وخطاب إشكالية الوجود، وتجلي الظواهر في الوعي، وخطاب توصيف الانفصال العبثي بين الذات والآخر، أو الذات، والشيء، أو الذات والفضاء أحيانا؛ بينما يتخذ السارد من فعل الحكي وسيلة لإفراغ الكائن، وإعادة تركيبه؛ ومن ثم يكشف الحكي عن وظيفة إعلامية، ووظيفة وجودية تشبه تشكيل الهوية السردية وفق خطاب بول ريكور؛ وسنلاحظ أن السارد يحيلنا إلى غرض لا يمكن استنزافه، أو بلوغ نهاياته في بنية الخطاب؛ وهو التفكيك، والتركيب المستمر لمحتويات الذات عبر الإحالة إلى صور وأطياف محولة من أصداء الماضي، وبنية الحضور الواسعة المؤثرة، والمتغيرة دائما.
وسنلاحظ – وفق بعض آليات تحليل الخطاب – تجلي موضوع تفريغ الكائن في هذا المقطع من خطاب السارد؛ يقول:
"كنا نجلس معا على الطريق؛ طريق البيت الجواني، داخل البيت .. أتكلم بلا كلام ... أريد أن أمشي، أن أركض، أريد أن أراها، وأن تراني، أن أراها بلغة الضوء".(5)
يحيلنا النص إلى وجهة النظر التي تؤكد التمازج بين الفضاءات، والأطياف، وإلى الجمع بين البيت، والذات؛ وهما الموضوعان الأكثر تكرارا في المقطع؛ كما يؤكد الخطاب بنيتي الحكي، والأداء بوصفهما وسيلتي التفريغ، وإعادة التكوين المستمرة لصورتي الذات، والأنثى؛ كما نلاحظ القوة المناهضة لفعل التحقق الإبداعي، أو فعل الولادة المتكررة البهيجة في العالم؛ هي تكمن في بنية السلب الكامنة فيما وراء النفي في قوله "أتكلم بلا كلام"؛ وكأن الخصم الشبحي يكمن في مفردات الحكاية الوجودية نفسها؛ ولهذا ارتكز على حالتي الأداء، وقوة الإدراك الحلمي فيما وراء بنية السلب؛ ليتجاوز الوقفات العبثية، أو نغمة الصمت.
*البنى التجريبية / التشكيلية لعلامات الفضاء، والآخر، والشيء:
تتواتر البنى التجريبية / التشكيلية في خطاب خليل النعيمي السردي؛ وبخاصة في بنى علامات المقهى، والمرأة، والشيء / الثوب الأصفر؛ إذ يمنح السرد مثل هذه العلامات التشكيلية بعدا ديناميا تجريبيا؛ وهو ما يسهم في تعزيز حالة الحضور الإبداعي الأدائي بدرجة كبيرة؛ فهذه العلامات الواقعية تمتزج بعالم الفن، وعلاماته، وأطيافه الوفيرة التي توشك أن تستبدل حتميات الواقع، ولحظات الاغتراب، والصمت، والانتظار المتكررة؛ أو هي تشكل قوة موازية لهذه اللحظات في المشهد الواقعي المؤجل.
يلج السارد بنية المقهى التجريبية؛ فيعاين صورة واقعية لامرأة وابنتها؛ وبينما ترتشف الابنة السائل، يلاحظ السارد مجموعة من العلاقات الحلمية التي تقع بين الاتصال، والانفصال بين الشفتين، ثم يحيلنا إلى وفرة الصور في عالمنا. (6)
لقد انتقل المقهى من كونه مكانا واقعيا إلى بنية حلمية تشكيلية جمالية تنطوي على الصور الموحية الوفيرة التي توشك أن تستبدل الفضاء الفيزيقي، وأفراده؛ فقد ذكرني الموقع بمقهي إدوارد مونك التعبيري، وبمدلول الوجود الشبحي التمثيلي طبقا لدريدا، وبالتواصل اللاواعي بين الذوات في عالم المقهى الافتراضي الكامن – في الخطاب – فيما وراء بنية الواقع الأولى.
ويحيلنا خطاب السارد إلى خبرة إدراكية فائقة عاينها في باريس حين أحس بتأثير الشمس، ورغبته في أن يلتهم عضوا من أعضائه، ثم رؤيته للمرأة التجريبية التي ترتدي ثوبا أصفر؛ فهي تبدو عريضة ثم يميل تكوينها إلى الطول، بينما تتحول علامة الثوب الأصفر من تجليها الواقعي إلى حضورها المجرد في الفضاء. (7)؛ وكأن السارد ينتقل من ذات الآخر / المرأة إلى حضورها الظاهراتي الخيالي في الوعي، وينتقل من حضور الشيء / الثوب الأصفر إلى ألعابه الجمالية الكامنة – في بنية الخطاب – فقد يشير الثوب الأصفر إلى لوحة تجريدية، أو إلى حضور دينامي للوحة تجريدية في فيلم سينمائي تجريبي في الوقت نفسه؛ وكأن الخطاب يؤكد نزوع الواقع للاحتفاء ببعض العلامات ما بعد الحداثية / الإبداعية، أو إلى استخدامه لقوة التخييل في إعادة إنتاج العالم الذي يسعى لالتهامه؛ كما تذكرنا رغبة السارد في كل من فعلي التهام أعضائه، وتشكيل كينونته من خلال العلامات التشكيلية بعلاقة التجميع والتفكك في تصور فرويد لمجموعة الغرائز في كتابه الأنا والهو؛ فالذات تريد أن تدخل الفضاءات التجريبية الكامنة في بنية الواقع نفسه؛ لتحقق حضورها الإبداعي المؤجل في كل من ولوج التشكيل الجمالي، أو فعل الحكي بوصفه تشكيلا للهوية الفردية.
*التجانس، والاختلاف في بنية الخطاب في بنى الإشارات المرجعية للكائنات الحلمية، والسفن المضيئة، والكائن الفارغ:
تعزز دراسات تحليل الخطاب، والتداولية المعاصرة من استنطاق العلاقات الدالة على التجانس، أو التفسير، أو الانعكاس، أو الاختلاف في بنى الخطاب ككل، أو في بنى الجمل، والعبارات في تحليل المحادثات ضمن السياق الفعلي للمتكلمين؛ وأرى أن دراسات الأنافورا قد أسهمت بدرجة كبيرة – في تحليل الخطاب، والمحادثة – في الكشف عن علاقات التجانس التفسيرية التي تعود إلى مكونات الخطاب الأولى؛ وتقوم علاقات الأنافورا – في الخطاب أو المحادثة – على علاقة الإشارات المرجعية اللاحقة بمثيلاتها الأولى / السابقة في الخطاب؛ للكشف عن درجة التجانس، أو التناغم في الخطاب؛ وقد انتقيت العلامات المتعلقة بالإشارات المرجعية المتواترة إلى الكائنات الحلمية السريالية، والسفن، والكائن الفارغ؛ والعودة إلى ورودها الدلالي الأسبق في بنية الخطاب السردي؛ للكشف عن تجانسه، واختلافه الداخلي في تفريغ الكائن لخليل النعيمي.
ويرى يان هانغ – في كتابه الأنافورا – أن العلاقة بين اللواحق، والسوابق – باعتبارية العودة إلى السوابق في بنية الخطاب – تتصل بكل من استمرارية الموضوع المشار إليه، أو عملية التداخل في المساحات الطويلة من بنية الخطاب؛ حيث تتم إعادة استخدام الموضوع في الخطاب؛ ويؤكد تصور غيفان في أن عمليات التشفير تقوم بدرجة أساسية – في الخطاب – على فرضية استمرارية الموضوع، أو الإضافات المحتملة للكيانات الشخصية، أو المبادئ، أو الفرضيات الجزئية. (8)
هكذا يؤكد تصور يان هانغ دور العلاقات اللغوية البنائية في إحداث التجانس الخطابي عبر عمليات الإحالة المتكررة، أو الإضافة، أو التداخل؛ وسنجد أن الكائنات الحلمية، وسفن السياح، والكائن الفارغ هي إشارات مرجعية متكررة في خطاب خليل النعيمي السردي في رواية تفريغ الكائن؛ وسيكشف تحليل التجانس في بنية الخطاب عن ثراء دلالاتها، ودورها في إحداث التماسك السيميائي، والدلالي.
يشير السارد إلى كيان الوحش البشري الحلمي الذي خطف قطعة من لحم والده، وأخذ يركض كالذئب، ويصفه بأنه آكل للحم (9)، ويشير أيضا - في نهايات النص - إلى تكوين الرجل – الكلب الذي بدا من قبله الجانب العدائي. (10)
ويمكننا قراءة مثل هذه الإشارات المرجعية الحلمية / الوحشية وفق دلالات مستوى ما قبل الكلام الكثيف / المتقطع في بنية رواية تيار والوعي، ووفق تصور فرويد عن دلالات رموز الوحوش، والوحوش البشرية في كتابه تفسير الأحلام.
يرى فرويد – في تفسير الأحلام – أن رموز الوحوش تتصل بمخاوف الأب اللاواعية، أو بأشخاص اقترنوا – لدى الحالم – بخبرات عاطفية حادة، أو بنماذج الطواطم القديمة؛ مثل الحصان الوحشي، أو الكلب الوحشي، أو بطاقة الهو في صراعاته مع الأنا. (11)
هكذا يؤكد خطاب فرويد التفسيري تنوع إشارات الوحش الرمزية، واتصالها بالحياة العاطفية، أو بأصداء الذاكرة الجمعية، أو بنوازع الهو التي تبدو طليقة محررة في عالم الحلم؛ وسنجد أن السياق الذي ورد فيه الوحش البشري آكل اللحم في تفريغ الكائن لخليل النعيمي قد اقترن بالآلية العبثية، ولكن بصورة تبدو موغلة في القدم، وتشير أيضا إلى نوازع الهو، أو التحولات السيميائية – في فعل الكتابة – لعقدة أوديب، أو إلى نوازع التفكك التي تشبه تصور فرويد عن تناقضات الغرائز.
وإذا عدنا إلى الإشارات المرجعية الأولى التي مهدت – في خطاب خليل النعيمي السردي – لتجلى هذه الكائنات الحلمية من مستوى ما قبل الكلام، سنعاين الإشارة إلى المرأة ذات الأصابع المعدنية؛ وهي تبدو كإشارة حلمية محولة عن خبرة واقعية، أو تبدو كإشارة يتداخل في بنيتها التشبيه، وأصداء الواقع؛ ولكنها مهدت في بنية الخطاب الأولى للتجانس بين الكيانات الحلمية الثلاث.
يروي السارد عن تلك المرأة ذات المخالب المعدنية التي اقترنت بنغمات رعب، وبإدراكه للفراغات الحقيقية أو الاستعارية الكامنة في رأسه، ثم سقوطه الحلمي / العمودي، وركوبه بعد ذلك للهواء بدون رأس. (12)
يمهد – إذا – كيان المرأة المعدنية إلى تواتر الكيانات الحلمية الوفيرة في بنية الخطاب وفق منطق الأنافورا من جهة، وتشير إلى الاتساع الأول للكيانات الحلمية التي شملت بنية السارد نفسه في الإشارات الحلمية الأولى في الخطاب؛ وكأنه يمهد لظهور أفعال حلمية قادمة تتصل بالرعب، أو الالتهام الذاتي، أو العداء الذي يعزز – من زاوية أخرى – من بهجة تلقي التكوينات الحلمية في الوعي، واللاوعي.
وإذا تتبعنا الإشارة المرجعية للسفن المضيئة، سنجد السارد يتخذ إزاءها موقع المراقب لحركتها الدائرية الصاخبة في عمق النص؛ ويرتكز على تأويلها وفق الآلية العبثية المتكررة؛ ويتساءل حول معنى الإنهار إن لم يأخذنا إلى نقاط جديدة. (13)
إنه هنا أكثر انفصالا عن بنية العلامة، رغم ارتباطها البعيد بمدلول تشكيل الكينونة؛ فالسفن تشير إلى حالة انتقال وجودية تبدو هنا مؤجلة في تلك الدائرية العبثية التي يراقبها السارد، ويؤول من خلالها حالة من حالات الصمت، أو التوقف، وقد يستشرف فيما وراء المشهد الدائري للسفن حالة أدائية إبداعية تتجاوز بنية الحضور.
ولا يمكن فهم إشارة السفن، ودورانها الآلي في المقطع السابق، دون العودة إلى دلالاتها الأولى في بنية الخطاب؛ فقد أسهب السارد – في البدايات – في وصف ضوء السفن، وانعكاساته على الأحجار، واتخذ موقع المنتظر، أو الباحث عن شيء يتجاوز الظلمة، ويتجاوز نظارات السياح؛ ورغم أنه رصد بنية الاختفاء المصاحب لحضورهم؛ فإن مساحات الضوء كانت أوسع، واتصلت ظلمة المشهد بمثيلتها الأصيلة في الشام في الماضي. (14).
لقد كان المدلول الإنساني أكثر حضورا في التجلى الأول للسفن في الخطاب؛ وكأن السياح يحاولون البحث – مثل السارد – عن أصالة الحضور الفردي فيما وراء بنية الغياب في الظلمة، أو فيما وراء ميكانيكية الرحلة؛ كما يؤسس الخطاب هنا إلى البحث عن النور، ولو داخل الظلمة، ويمزج بين فضاءي باريس، والشام، ولم يسهب في وضع البطل كمعلق في الهواء؛ فقد كان متصلا بعض الشيء بمدلول البحث عن الوجود داخل مشهد السفن، وخارجه، كما أكد إمكانية وجود استبدالات للغياب بواسطة النور، أو النور المجازي الذي يقع بين الداخل، والخارج؛ وهو ما يؤول بقاء الجانب الذاتي / الوجودي في مراقبته الأخرى للسفن؛ والذي بدا في التساؤل عن غياب الغاية من دورانها، وفي عمق الانفصال بين الذات التي تجلت كمراقب، وحركة السفن الصاخبة الميكانيكية المجردة التي تؤدي إلى فراغ قد يمتلئ بحضور إبداعي افتراضي مغاير للأول.
أما الإشارة إلى الكائن الفارغ؛ فقد جاءت بصورة تفسيرية، أو كدور مؤقت في عمق النص؛ فقد استخدمها السارد ليكشف تحول المرأة من البحث عن الحب إلى ممارسة دور الكائن الفارغ (15)؛ ولا يمكن فهم هذا الدور الذي استدعاه السارد تأويليا – في الخطاب السردي – إلى بالعودة إلى إلحاح فكرة تفريغ الكائن على وعيه ولاوعيه في بدايات الخطاب؛ وسندرك أن التفريغ يتم بصور عديدة قد تأتي من الداخل، أو من صيرورة الذات في العالم، وهو عملية إشكالية مؤقتة، ترتبط باستدعاء الماضي، ومعاينة تحولاته بصورة حلمية – خيالية في المستقبل.
يشير السارد إلى إلحاح فكرة أن يفقد الإنسان شيئا فشيئا صفاته، ويتحول إلى إنسان شبيه، ثم عودته إلى هوس التخلص من الالتصاقات القديمة، وهوس تفكيك الذات، وتركيبها. (16)
تقع عملية تفريغ الكائن – إذا – بين تحولات العالم، ورغبة الذات في التفكيك، وإعادة التركيب المستمرة لماضيها الذي يبدو هنا ديناميا، وممزوجا بالإنتاجية السردية أو الأدائية لعلاماته، ومحادثاته؛ ومن ثم يفهم التفريغ بأنه حدث مؤقت، أو تأويل مؤقت؛ يستلزم الرؤى الدينامية الإبداعية في تشكيل الذات؛ وتوحي الإشارات المرجعية الأولى في الخطاب بهذا المدلول؛ لتؤجل مركزية التفريغ في عمق النص؛ فالذات تمارس – إذا – فعلي استدعاء الماضي، ومعاينة تحولاته الحلمية أو الافتراضية في بنية الحضور والمستقبل معا.
*المحادثات المستدعاة – الحلمية في بنية الخطاب:
تتواتر المحادثة – في رواية تفريغ الكائن لخليل النعيمي – طبقا لإيقاعها الأول في ذاكرة السارد من جهة، وحضورها الحلمي الآخر في زمن الحكي من جهة أخرى؛ كما تحيلنا بنية المحادثة إلى الوهج الأول للأنثى / المخاطب، وإمكانية عودة طيفها ضمن تطور بنية المحادثة في تداعيات الخطاب، وأخيلته الراهنة؛ ومن ثم فهي محادثات تجريبية؛ لأنها تنطوي على ذوات، وأطياف، وفضاءات متقاطعة، وأزمنة متداخلة، وكثافة تشبه عبارات الحلم القصيرة، أو الممزوجة بحالة من الأداء، أو بمعاينة خبرات مستوى ما قبل الكلام.
ويمكننا قراءة واحدة من المحادثات التجريبية الكثيفة في الرواية من خلال المبادئ الرئيسية لتحليل المحادثة في الدراسات التداولية المعاصرة؛ مثل درجة التناغم، والتأشيرات السياقية، والإشارات المرجعية الرئيسية، وأفعال الكلام، وسياق الموقف؛ وبهذا الصدد يرى جورج يول – في كتابه التداولية - أن التأشيرات السياقية تشمل التأشير الشخصي عبر المراوحة بين الأنا، والمخاطب / أنت في بنية المحادثة، والتأشير المكاني الذي يوحي بالتقارب، أو التباعد الفيزيقي، أو النفسي، أو الإشارة إلى الموقع التمثيلي، والتأشير الزماني الذي يتموضع فيه الماضي بعيدا، بينما يوحي الحاضر بالقرب؛ أما الإشارات المرجعية فتحوي الأسماء، والضمائر، والكيانات التي يمكن الاستدلال عليها تداوليا؛ وقد تكون موجودة، أو غائبة؛ أما أفعال الكلام –طبقا لتصنيف سيرل – تتضمن التأكيدات أو التمثيلات، والتصريحات، والتعبيريات، والموجهات، والالتزامات، أو الوعديات.(17)
ورغم أن بنية المحادثة – في خطاب خليل النعيمي – تختلف عن المحادثات التي تقع ضمن موقف اجتماعي محدد بين المتفاعلين؛ فإن مبادئ تحليل المحادثة تكشف عن دلالاتها عبر سياق مركب من لحظتي الماضي، وتحولاته الراهنة في زمن الحكي الذي يستدعي الأحداث، والأطياف؛ ليعيد تكوينها، ويعاين آثارها المختلفة في موقف التأمل الراهن للسارد.
يروي السارد محادثة كثيفة مع أنثاه:
"- كنت قبلا أترجرج بيني، وبينك، وصرت أتموج مثل موجة تعلو، تعلو لتكمل، وتكتمل لتتبدد، وتتبدد بلا أسف، لا، لم أعد أفهم لم يتألم الإنسان عندما تتلاشى موجاته، في حين يفرح البحر بارتداد موجه إليه؟
- كنت أحسب أننا واحد ..
أريد أن أمتلك تاريخي مثل فردة حذائي، لا أريد أن أفهم". (18)
توحي المحادثة الكثيفة السابقة بنوع من التناغم المؤجل؛ فالسارد يدرك انفصال عالمه عبر الفعل (أحسب)؛ بينما تدل عملية استدعاء شبح الأنثى؛ ومن ثم المحادثة الكثيفة على تناغم السارد مع طيف الأنثى المستعاد؛ وكأن أصداءها المتكررة تأتي من الخارج، والداخل معا.
ويحيلنا خطاب الأنثى إلى المراوحة بين ضميرها الشخصي، وذات السارد / المخاطب، ثم تعود لتوصيف ضميرها الشخصي من داخل تمثيلات الأمواج، والبحر، بينما يجمع السارد طيف الأنثى ضمن (نحن)، ثم ينفصل إلى الذات المتكلمة عبر رغبته في امتلاك تاريخه؛ ومن ثم يؤكد السارد رسوخ طيف أنثاه بداخله، دون مراوحة بين الأنا، وأنت، ثم يشير إلى رغبة في امتلاك، يوحي – في بنية الخطاب المتجاوزة لنص المحادثة – بوجهة نظره حول تلك الرغبة؛ فالامتلاك قد يؤدي إلى التشكيل الإبداعي الكامل المحتمل للماضي في عوالمه الحلمية؛ وتراوح الأنثي بين الماضي البعيد، ثم صيرورتها في الماضي الأقرب؛ مثل صعود الأمواج، وهبوطها الطبيعي، دون أي أسف على الماضي في لحظة المحادثة؛ ومن ثم فهي تنتقل من حالة التفاعل النفسي مع السارد إلى تمثيلات الصعود الطبيعي، والتوافق مع حتميات الحضور، بينما يعزز السارد من قوة بنية الحضور في الفعل / أريد الذي ينقل نفسه – بكثافة – في تمثيلات الماضي المستعادة التي يريد أن يمتلكها ضمن فعل التكوين، او التحويل المستمر لأصدائها؛ أما تأشيرات المكان فتقرب الأنثى من كيان موجات البحر نفسيا، وتبعدها تدريجيا عن عالم السارد؛ وإن لم تفقد حالة التناغم معه؛ بينما يستشعر السارد ذلك البعد المؤقت، فيسرع باستدعاء طيف الأنثى في ضمير نحن، ويؤكد رغبته في امتلاك تاريخه؛ ليقترب من علاماته نفسيا بصورة تسمح بالتشكيل الآني المتجاوز لبنية التفريغ التي تبدو مهددة للذات، أو حتمية.
أما الإشارات المرجعية لدى الأنثى فقد تراوحت بين ذات السارد، وذاتها، والموجة المتصاعدة، والبحر؛ وهي كيانات تمثيلية تتوافق – في معظمها – مع زاوية تأويلها لوجودها، وهويتها التي تسعي للتوافق مع التصاعد، والهبوط / الزمني الطبيعي؛ لهذا غلبت الكيانات التفسيرية لعلامات الأمواج، والبحر على الكيانات الدالة على الأزمة الوجودية الأسبق منها؛ ويؤكد السارد – في المقابل – كيانهما المتحد القديم، والكيان الطيفي الآخر للأنثى خارج بنية الماضي في لحظة الحكي، وينسب التاريخ إلى ذاته؛ مثل الإشارة المرجعية للحذاء أيضا؛ وكأنه يميل إلى رغبة التجميع التي تشبه غريزة الحياة لدى فرويد، وإن انطوت على شعور فائق بالأزمة، والتأجيل، والتفكك.
وقد غلبت الأفعال الكلامية الدالة من فئة التمثيلات على خطاب الأنثى؛ فهي تقوم بتوصيف ذاتها، وذات الآخر فكريا عبر استعارة الموج، والبحر الذي يؤول توافقية الحضور لديها، بينما غلبت على عبارات السارد الأفعال الكلامية التي تنتمي للتعبيريات؛ حيث يحيلنا دائما إلى الرغبات في تشكيل الهوية، أو النوازع الإبداعية المستدعاة من الوعي، واللاوعي.
وإذا أردنا أخيرا أن نتأمل سياق الموقف، سنجد أن الوهج الأول للماضي قد جاء في هيئة أصداء، وتمثيلات قابلة للتشكل في المستقبل عبر استدعاء صوت الأنثى الآخر في بنية الوحدة المؤجلة، والكامنة أيضا في صيرورة تلك الأصداء المتخيلة في المستقبل، أو في الفضاءات الأخرى المملوءة بالصور المجازية في عالم البطل.
*هوامش الدراسة:
(1) راجع، خليل النعيمي، تفريغ الكائن، دار كتب عربية؛ طبعة إلكترونية، وصدرت عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر ببيروت، 2009.
(2) راجع، خليل النعيمي، الخلعاء، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2007، ص 6 وما بعدها.
(3) راجع، خليل النعيمي، الرجل الذي يأكل نفسه، دار كتب عربية، ص 7، وما بعدها.
(4) راجع، خليل النعيمي، تفريغ الكائن، دار كتب عربية، ص 172.
(5) راجع، خليل النعيمي، السابق، ص-ص 5، 6.
(6) راجع، السابق، ص-ص 103، 104.
(7) راجع، السابق، ص 110، 111، 112.
(8) Read, Yan Huang, Anaphora, A Cross Linguistic Study, Oxford University Press, New York, 2000, p. 303.
(9) راجع، خليل النعيمي، السابق، ص-ص 184، 185.
(10) راجع، السابق، ص 239.
(11) Read, Sigmund Freud, The Interpretation of Dreams, Translated by A. A. Brill, Wordsworth Editions Limited, 1997, p. 270.
(12) راجع، خليل النعيمي، السابق، ص-ص 77، 78.
(13) راجع، السابق، ص-ص 129، 130.
(14) راجع، السابق، ص 20.
(15) راجع، السابق، ص 131.
(16) راجع، السابق، ص 11.
(17) راجع، جورج يول، التداولية، ت: د. قصي العتابي، الدار العربية للعلوم ناشرون ببيروت، ط1، 2010، من ص 28: ص 41، وص 81.
(18) راجع، خليل النعيمي، السابق، ص 175، 177.