(1)
حين دخلتُ غرفةَ الضريح رأيتُه. كان متهالكًا قد اندلقت على الحصيرة جثّتُه المترهّلة، وجَثمَت روحُه الثقيلة على صدر المَزار كلّه. روحٌ من الرّصاص والزّرنيخ تَكتم الأنفاسَ وتُشيع الخشوعَ والصّمتَ الجنائزيّ. تربّع بموضع الصّدارة مُسنِدًا ظهرَه إلى الضّريح، ومِن حوله تحلّق الحواريّون يجترّون صمتَه ويمضغون الخواء: يمليخا ومشلينيا ومرنوش... وكلبُهم باسطٌ ذراعيه بالوصيد! دخلتُ عليهم بهيئتي الغريبة وهندامي الإفرنجيّ فلم يكن دخولًا، كان سقوطَ حجرٍ في بركةٍ، ورأيتُني أُرشَق من كلّ اتّجاهٍ: دارت في مَحاجرها عيونُهم تتفحّصني، تنتُفني، تنفذ تحت جلدي... لكنّ رؤوسَهم الخاشعة التقيّة لم تستدر قيدَ أنملةٍ نحو رجلٍ دنيويّ ليس لدخوله من قيمةٍ! تخطّيتُ رقابًا حتّى جلستُ قبالته، فكأنّي ما دنوتُ ولا جلستُ، لَم يَنهرني ولم يُقرّبني. ألقيتُ عليهم السّلام بصوتٍ عالٍ كمَن يغرس رايةَ النّصر على أرضٍ زلِقة، فالتقطَت أذناي ردودًا خافتة، أمّا الشيخُ فلم يَزِد عن تمتمةٍ واهنةٍ سمعَتها عيناي من حركة شفتيه، فلا أدري أَكانت «وعليكم السّلام» أم كانت «اغْرب في قعر الجحيم».
وضعتُ ركبتيّ قبالة ركبتيه، فتقاربتا ثمّ تلامستا من غير أن يُنكِرَ عليّ، وقلت:
- مولاي، زادك الله علمًا بالتنزيل وأسرار التّأويل، جئتكَ من بلدٍ بعيدٍ لألقي بين يديْك الأمينتيْن أسرارًا ومَغاليق لا يسبُر غَوْرَها إلّا باطنيٌّ عليمٌ، وقد قال لي العارفون: اقصدْ أرضَ الحطيب المباركة تهتدِ بعد ضَلالٍ وتَرتَوِ مِن زُلالٍ.
انشقّ ثغرُه انشقاقَ أرضٍ طينيّةٍ عن يَباسٍ. سَرّتْه مدحيّتي وسرّني جهلُه بِخبِيّتي، فقد حِدتُ عن نهج الصّدق إلى مَسارب التزلّف، وما جئتُ اليمنَ البعيدَ لرؤية وجهٍ مندوبٍ أثقل من أُحُد، ولكنّي أمام اللّغز الشّائك الذي عجزت عن حلّه خمّنتُ تخمين الغريق بِعُودٍ يطفو، فجعلت من سفري إلى صنعاء لحضور ندوةٍ علميّةٍ فرصةً لاستفسار شيخ دعاة الإسماعيليّة عن الكنز الأثريّ الذي وجدتُه، ورجوْتُ أن أَغنمَ منه علمًا بصاحب القبر الذي نبشتُه ولفافات الرّقائق المطمورة فيه. فعلتُ ذلك بإصرارٍ وعنادٍ رغم معارضة أستاذي عبد العزيز الذي جاء معي لحضور الندوة، فنكص عن رأيي وأبَى، وراح يخوّفني عاقبة إفشاء السرّ لشيوخ المكر الباطنيّ. وضع الشيخ يدَهُ الباردة المعروقة على ركبتي، وضغط برفقٍ يشجّعني على استئناف حديثي من غير أن يلمع بعينيه حماسٌ أو جذوةٌ من فضولٍ، فقلتُ مُجيلًا بصري بين حواريّيه وقد سلّطوا نحوي أنظارًا تَسترق استراقًا:
- أنتم أعلم يا شيخي بفضل كتمان الأسرار، وإنّي أرجو أن تسمح لي بخلوةٍ.
هزّ رأسَه وضغط ركبتي مرّةً أخرى:
- انتظرْ حتّى نفرغ من صلاة الظّهر، ثمّ اتبعْني.
لا أذكر أنّ صلاةً وافقت هوايَ في يومٍ من الأيّام مثلَ ظهر ذلك اليوم، فقد كانت محاذير أستاذي عبد العزيز تملأ قلبي خوفًا ورهبةً، وكان لا بدّ لقلبي المرتجفِ من صلاةٍ، ولِرُكبي التي تكاد تسيل من سكينةٍ ودعاء. أَذكر أنّي في اللّيلة القدريّة المخيفة قد صلّيت أيضًا. فما كان بالهيّن عليّ في تلك اللّيلة أن أنبش قبرًا قديمًا لا أدري هل تسكنه عفاريت الأرض أم شياطين السّماء. كانت ليلةً حالكة الظّلام، وكنتُ فيها مُسربَلًا بالسّواد كساقطٍ في برميلِ حبرٍ. أحاول تهدئة قلبٍ نافرٍ، ضرباته تصمّ أذنيّ وتكاد تخلع صدري، ورأيتُ أنّه لا بدّ لي قبل النّبش المُهلِك من وضوءٍ وصلاةٍ... لم يكن لي في تلك اللّيلة من صديق يشدّ عضدي وليس على مثل ذلك السّرّ يُؤتمَن صديقٌ. وكان عليّ أن أخوض المهلَك وحيدًا.
بِأيّ قلبٍ حجريٍّ جرُؤتُ على القبر في تلك اللّيلة وقد تكشّفَت لي لعنتُه طول النّهار، وطلع عليّ وعلى عمّال الحظيرة ساكِنُه المرعب أشأم من بومِ خرائب. تكشّفت لعنةُ ساكن القبر، وبَدت لي روحه الغامضة المظلمة كأخطبوطٍ هائلٍ بلغ الوخزُ رأسَه فراح يضرب في كلّ اتّجاهٍ بأذرُع جبّارة، وبدأ العمّال في حظيرة منزلي الجديد يدفعون الثّمن من دمائهم ولحمهم الحيّ: ما إن جعل أحدُهم ثقبًا في طرف القبر على غير هدًى حتّى هتف بصاحبه: «يا للغرابة، دهليزٌ في جوف الأرض...» ثمّ رفع الفأس ثانيةً لتوسيع الهوّة فأهوى بها على ساقه وانفجر شلّالٌ من دمه الحارّ! هبّ صاحبُه هبّة عَجولٍ أعشى وقد انغرز في أذنَيه من المغدور صراخٌ وعُواءٌ، وقفز في الحفرة فصادفَت ساقُه في أسفلها ثقبَ الدّهليز وغاصت حتّى جذعه، وتمزّق لحم فخذه وانكسر عظمُه! علا في الحظيرة صراخٌ وأنينٌ، وقهقهاتُ ميّتٍ أو ذبيحٍ قديمٍ انفتحت في قبره كوّةٌ، فخرج علينا والدّماء لا تزال تشخُب من رقبته يطارد مَن أفسد عليه سكينته.
كانت عشيّةً للنّحس والشيطان. لكنّي، والشّرّ يطاردني والخوف يتسلّل إلى روحي، لم أخطئ بوصلتي. وأوحى إليّ حدسي العلميّ أنّ تحت الحفرة العميقة سرًّا أبعد غورًا، فعاهدتُ نفسي أنّي كاشفُه وإن اشتبكتُ في جوفها مع الشيطان الرّجيم.
أخذت العاملَيْن إلى المستشفى ودفعت مستحقّات عملهما ومستحقّات علاجهما. لم يكن قد بقي لي غير يومين للسّفر إلى صنعاء من أجل حضور مؤتمرٍ علميٍّ، فأخبرتُ العاملَيْن بعزمي وَقْف الأشغال، ونويتُ نبش القبر وحدي في تلك اللّيلة مهما كلّفني عزمي الأخرق.
«السّلام عليكم ورحمة الله... السلام عليكم ورحمة الله... ». قالها الشيخ مُيمِّمًا وجهه المعروق عن يمين وشمال مُنهِيًا صلاة الظهر، فانتبهتُ من خشوع الآخرة إلى شأن الدّنيا، ورحتُ أدبّج من الكلام أنشوطةً تسحب شيخًا ينتشي بالمديح راجِيًا أن يَهرف لي بما يعرف.
تبعتُه إلى غرفةٍ خلفيّةٍ رجوتُها زنزانةً لاستنطاقه، لكنّه لم يدخلها وحيدًا، فالتقطتُ إشارةً سيّئةً بأنّ الأمور لن تجري على النّحو الذي أريد: تبعه من قبلي ثلاثة من العماليق، فلم يغلقوا الباب من ورائهم حتّى انتظروا دخولي، وعلمتُ أنّهم ما رجموا بالغيب فعرفوا مبتدئي وخبري، ولكنّ الشيخَ أخبرهم عوض الخشوع في محرابه بما جرى بيني وبينه، وأمرهم بإدخالي إليه، فالتقطتُ إشارةً أخرى سيّئةً، ولَكَمْ صار قلبي وترًا حسّاسًا وطبَقًا لاقطًا. قلتُ له برجاءٍ مرّةً أخرى:
- أنتم أعلم يا شيخي بفضل كتمان الأسرار، وإنّي لأرجو أن تسمح لي بخلوة.
- هؤلاء أُمَنائي يا ابني، كُشفت لهم الأستار وليس لي مِن دونهم أسرار، تكلّم لا بأس عليك.
نبرة صوته كانت تكتسي زيًّا عسكريًّا رغم تجمّلها بمَلمَسٍ من حريرٍ. لقد وجّه إليّ أمرًا، وكان تجهُّم وجهه وحِدّةُ عينيه الضيّقتين الأفعوانيّتين يجعلان الأمرَ جازمًا ومؤكَّدًا لا سبيل إلى النّكوص عنه، ولم يكن لي في كلّ الأحوال من الكلام بُدٌّ، فما غبتُ عن المؤتمر العلميّ الذي جئتُ من أجله، ولا ركبتُ من صنعاء إلى الحطيب لأعود خاليَ الوفاض. فتحتُ محفظتي الصّغيرة فأخذت منها النّسخَ الخمس التي أحضرتُها، نُسَخًا من الرّقائق المكتوبة بخطٍّ عربيٍّ غير مُبينٍ، تلك التي غنمتُها من القبر ليلةَ الرّعب والشّيطان، دفعتها إلى الشيخ قائلًا:
هذه نُسَخٌ من رقاعٍ قديمةٍ وقعت بين يديّ، فبدا لي أنّها لرجلٍ من طائفتكم، فانظر ماذا ترى، وعلّمني ممّا عُلِّمت يا شيخي.
- كان عليكَ أن تأتيني بالأصول، وأن تأتيني بها كلّها. أم جئتَ تختبرني؟
- معاذ الله شيخي، ولكنّ النّسخةَ طِبْقٌ للأصل، والقليل يغْني عن الكثير.
تفرّس في النّسخة الأولى، فما لبث أن عقد ما بين حاجبيه مُظهرًا كلّ اهتمامٍ. علّقتُ عينيّ بوجهه أَستفسر، فتضخّم وجهُه بين عينيّ حتّى صار ملء الغرفة، ملء الفضاء، وما عدتُ أرى غيره. رأيته يُصعّد حاجبَيه ثمّ يَخفضهما، يضيّق عينيه ثمّ يفتحهما، يَفغر فمه، يُكوّر جُمعه، ويزدرد ريقَه... وما إن نظر في الصّفحة الرابعة حتّى قفز كالمصعوق فانتصب واقفًا وصرخ بي:
- أين الرّقائق يا طالبَ حتفك؟ أين تخبّئها؟ ثكلتك أمّك إن لم تدفعها إليّ السّاعة! أين وجدتَها، أين؟
تملّكني الخوف. بدا أنّ قصّة الأمير المُغامر لا تليق بي، وأنّها تنحرف نحو نهايةٍ مُفجِعةٍ. غادر الأمناء مجالسَهم فاقتربوا منّي، وقذفوا بسهام عيونهم وجهي المتصبّبَ عرقًا. ضربوا من حولي حصارًا غير معلَنٍ حتّى سمّروني في موطئ قدميّ من دون أن يتكلّم أحدُهم في حضرة الشيخ. قلت له بِنبرةٍ خفيضةٍ:
- رقاع مهترئة وجدتُها صدفةً. وجدتُها في تجويف حائطٍ خربٍ.
لم أكن أقصد الكذب، ولكن هذا ما قاله خائفٌ مصدومٌ حين كان عليه أن يقول كلامًا، فقطع الشيخ تصريحي وهو يُشير إلى الضّريح من خلفه:
- لا تكذب عند رأس الوليّ فيَشُلّك ويُعميك. لقد استخرجتَ هذه الرّقاع من قبرٍ قديمٍ. كانت موضوعةً عند رأس الدّفين، وكان عند قدميه خنجرٌ!
رأيتُني في تلك اللحظة عاريًا كيوم وُلدت، وخُيّل إليّ أنّ الشيخ يرى منّي ما تحت ورقة التّوت، وعلمتُ أنّه أكبر من أن يكون شيخًا رثًّا يحرس ضريحًا.
- أجل مولاي، قد عرفتَ وصدقتَ، وقد جئتُ أستفسر عن الدّفين مَن يكون، وعن الرّقاع مَن كتب متونها وحواشيها، ثمّ إنّ...
تقدّم نحوي صارخًا وقذفني بأمرٍ صارم: «اُصمت. فإنّ كذبَك اليومَ قاتلُك».
دفعني الأمناء نحو أبعد زاوية في غرفة الضريح، وصار احتجازي أمرًا معلَنًا، ثمّ تكدّسوا على الشيخ يتسارّون، يتناظرون، يتغامزون... نشروا النّسخ بين أيديهم فتتبّعوا سطورها بسبّاباتهم، فسّروا وقدّروا، وقذفوني من أسفل عماماتهم بنظراتٍ متوعّدةٍ. تقدّمتُ منهم فقطعتُ تهامسَهم، وقلت بلهجةٍ عاتبةٍ تكاد تكون غاضبةً:
أيّها الشيوخ الأفاضل، قد أسأتم الاستضافة وكتمتم العلم، وتكادون تغلقون الباب عليّ وتوثقون يديّ، فإن كانت لكم معرفة بما سألت عنه فأفيدوني، وإلّا فاتركوني وشأني.
قلت ذلك ومضيتُ نحو الباب، فامتدّت يدان إلى كتفي تجذبانني حتّى كدت أقع على ظهري، وعادوا إلى محاصرتي. قال لي الشيخ وهو يُمسك بإبهامه وسبّابته بعضَ ما ظهر أسفل عمامته من شعر أبيض:
إنّك يا رجل موعودٌ بما شئتَ من المال إن سلّمتَني الرّقائق، وهذه شيْبَتي تضمن لك، وإنّك لمنذورٌ للقتل إن جَحدتَها، فقد أوصانا أئمّتنا ودُعاتنا بالبحث عن تلك الرّقائق أنّى وُجدت وحرقها من دون تأخيرٍ، فالتمسْ لنفسك السّلامة والمَكرُمة يرحمك الله.
ما كنتُ أنوي تسليمَهم كنزي ليطّلعوا عليه، إلّا نُسَخًا قليلةً، فكيف وأنا أسمعهم يَجهرون بنيّتهم حَرْقَهُ. بدا لي عزمُهم أخرق وإصرارهم بلا مبرّرٍ. قلت له:
أنا عالم تاريخٍ يا سيّدي، وهذا كنزٌ أثريٌّ فريدٌ، يكشف قسمًا من تاريخنا ويُعلّمنا ويبصّرنا، فكيف تطلب منّي تسليمه إليكم لتحرقوه؟ وأيّ مبرّرٍ لهذا العزم الغريب؟
اقترب منّي ووضع يده على كتفي. خفَض صوتَه وانفرجت أساريرُه انفراجةً ميكانيكيّةً قسريّةً. بدا أنّه قد قرّر ملاينتي حتّى يحصل على مبتغاه.
ما دمتَ عالمَ تاريخ، ونحن نُجلّ العلم والعلماء، فسوف أخبرك بحقيقة الأمر فتنصاع عن يقينٍ وهدى: الرّقاع التي بين يديك هي مزامير حسَن الصبّاح، المُكنّى بشيخ الجبل، كتبها في قلعة أَلـْمـُوت، ثمّ أردفها أحدُ أتباعه بحاشيةٍ لشرحها، وقد كان الصبّاح أوّلَ أمره داعيةً إسماعيليًّا مهتديًا، لكنّه ما برح أن ابتدع وضلّ، فأنكر إمامة المُستعلي بالله بن المستنصر، وجعل لنفسه شيعةً من المارقين زعموا أنّ الإمامة للمخلوع نزار بن المستعصم، وزعموا له ذريّة من بعده... ما دمتَ عالمًا بالتاريخ فلا شكّ أنّك تفهم ما أقول.
انتابني إحساس غامر والأسرار الجليلة تتكشّف أمام ناظريّ، فما قرأتُه من الرّقائق، وإن كان نَزرًا قليلًا، يَعضُد كلام الشيخ بكلّ دقّةٍ:
أجل سيّدي أجل، إنّك تقصد فرقة الحشّاشين الذين استقرّوا بقلعة أَلمُوت المسمّاة عشّ النّسر في أنحاء قزوين. وكانت لهم قلاعٌ أخرى حصينةٌ في فارس والشّام، واشتهروا بالاغتيالات والقتل... كانوا أشهر فرقةٍ إسماعيليّةٍ في عصرهم.
لا تُسمّهم إسماعيليّين، فإسماعيل بن جعفر منهم براءٌ. قلت لك إنّهم ابتدعوا ومَرقوا من الدّين... كان حسَن الصبّاح في زمن دولتنا الفاطميّة الشّريفة، عند حُكم مولانا الإمام المستنصر بالله، قد استقرّ بالقاهرة ثلاث سنواتٍ يأخذ العلم عن كبار علمائنا من الباطنيّة، حتّى علِم أسرار التنزيل والتّأويل، وغاص في علومنا المحجوبة الخَفِيّة، فلمّا كتب الله عليه الزيغ والضلالة أفشى أسرار فرقتنا وعلومَها لأهل الظّاهر من الرّعاع والجهلة. ومزاميره اللّعينة التي كتبها تكشف كثيرًا من علومنا الباطنة ممّا أمرنا الأئمّة بسَتره عن العامّة، وهي علوم جليلةٌ لا يحصّلها غير المهتدين الخُلّص بعد التّدرّج في المراتب سنين طويلةً من عمرهم. وقد علم أئمّتنا أنّ المارق أوصى بدفن رقاع مزاميره معه، وعليها حاشيةٌ تشرحها، فتجعل ما انفضح أكثر انفضاحًا، زاعمًا أنّ مزاميره تتضمّن عقيدته الصّحيحة وكفاحه في الدّعوة حتّى تكون له شفيعًا يوم القيامة... فلمّا هلك في قلعة ألمُوت وهو شيخٌ ضالٌّ، أخذه نفرٌ من أتباعه كما أوصى، فدفنوه في قبرٍ بعيدٍ بالغرب غير معلومٍ، وسوّوا عليه التراب وركضت عليه الخيل فظلّ مجهولًا حتّى زماننا. ولقد تتبّع دعاتُنا والمهتدون من فرقتنا نُسخَ المزامير التي اكتتبها أتباع الصبّاح فأحرقوها وما بقيت غير الرّقاع الأصليّة التي دُفنت معه...
سكت الشيخ قليلًا كأنّما يستريح من رحلةٍ بعيدةٍ. استرجع أنفاسه اللّاهثة وهو يتفحّص وجهي ليرى أثر كلامه وأردف:
قد بيّنتُ لك، وما كنتُ مضطرًّا، كلَّ ما تريد أن تعرفه عن الكنز النّجس الذي وجدتَه، وقد علمتَ أنّه لا بدّ لنا من حرقه، فليست وصايا الأئمّة ممّا نَحيد عنه، ولا أسرار دعوتنا ممّا نسمح بهتكه فنموت ملعونين، لكنّك لستَ على دعوتنا، فأنت صاحب دنيا وشأنك في كنزك البيعُ والشّراء، لذلك ندفع لك مالًا يُغنيك فتَدَع هذا الأمرَ راضيًا مسرورًا. ستبيت اللّيلة عندنا ضيفًا مبجَّلًا ريثما نتدبّر أمرنا، ثمّ يرافقك غدًا رجلان من أُمَنائي يَلزمانك كظلّك حتّى تسلّمهما الرّقاع في بلدك فيدفعان لك المال، ويكون لك بيننا ذِكرٌ حسنٌ. وإيّاك أن تغدر أو تنكث، فإنّنا نقتلك وإن في بطنِ حُوت.
أردتُ طمأنتَهم كما أرادوا طمأنتي. لِكُلٍّ لسانُه وتحت كلٍّ سيفُه، وراحت عيناي تدوران في الغرفة الواسعة ترصدان مَنافذها، وعقلي يشتغل بطاقته القصوى.
- ولكنّ حقيبتي بقيت بالفندق ولا بدّ لي من جلبها فإنّ فيها...
قطع عليّ اعتذاري بكلماتٍ صارمة، فما كان مستعدًّا لسماع أيِّ استدراك:
- لا عليك يا رجل. سنحضرها إليك بعد زمنٍ وجيزٍ...، وإن كنتَ تريد شراء هدايا لأهلك من اليمن السّعيد، فاذكر لنا ما شئتَ منها وتخيّرْ الأغلى ونحن نحضره لك عربون صداقة.
قلت راجيًا طمأنتَهم بعد أن نضجت فكرة الهروب في مخيّلتي:
- أشكر لكم كَرمَكم. سأطلب منكم أن تحضروا لي بعض الهدايا، ولا أشُقّ عليكم بأغلاها، لكنّ بطني
الآن أولى وأنا جائعٌ، فائتوني بطعامٍ ممّا اشتهر به اليمن ولا أجده في بلد آخر.
تبادلوا ابتسامات رضًى، وظنّوا أنّهم بلغوا غايتهم برشوةٍ لمعدتي ومالٍ لأطماعي، فهتف بهم الشيخ في نبرةٍ حماسيّةٍ:
آتوا ضيفي المبجّل طبقًا من «المَندي» وآخر من «السّلته»، فإنّه لا يجدهما في بلدٍ آخر. أحضروا له خبز «الطّاوة» وناولوه من الحلويّات «المكفوف» و«المسمسم»... ليسرع أحدكم فإنّ ضيفي جائعٌ.
في لحظةٍ خاطفةٍ مجنونةٍ، حين لا يكون بين الحياة والموت سوى عثرةٍ أو التفاتة، جريتُ نحو نافذةٍ كان نصفُها مفتوحًا فاستويتُ عليها بقفزةٍ واحدةٍ، وألقيتُ بجثّتي نحو الخارج قبل أن أرى الحضيض الذي سيتلقّفني، سمعتُ صراخًا من خلفي ودويَّ ضربةٍ عنيفة بمحدوف حطّم النّافذةَ فأتبعني زجاجُها المتناثر، وجريتُ في المنحدر دون التفاتٍ. رجوتُ أن أجد عبد العزيز في السيّارة حيث تركتُه منذ ساعةٍ. إن كان قد نزل منها أو ابتعد عنها بضعة أمتارٍ فإنّ الفاصل بين الحياة والموت قد صار أدقّ من شعرةٍ. ارتميتُ على الكرسيّ بجانبه وصرخت:
- انطلِقْ بنا، إنّي مطارَد... مطارَد.
ضغط عبد العزيز على مزوّد السّرعة ضغطًا جنونيًّا، وانطلقت السيّارة القويّة تطوي الأرض طيًّا. تسمّرت عيناي في المرآة العاكسة، وتوقّعتُ لحاق المطاردين ِبِلا هوادةٍ. صوّر لي خوفي سماعَ شخيرِ محرّكاتٍ عملاقةٍ من خلفنا، وصريرِ فرامل حادّةٍ تمزّق الإسفلت، ولعلعةِ رصاصٍ وانسكابِ دماءٍ... فلمّا خرجنا من قرية الحطيب وتوغّلنا في الطريق السريعة رويتُ لأستاذي باقتضابٍ ما حصل ونفَسي لا يزال متقطّعًا وصدري يعلو ويهبط. فقال:
أولئك هم «البهرة» الذين حدّثتك عنهم، باطنيّةٌ مستعليةٌ من بقايا الفاطميّين، هم اليوم خليطٌ من اليمنيّين والهنود وبضع جنسيّاتٍ أخرى. لهم هاهنا نفوذٌ ويدٌ طولى، إن لم نحسن التصرّف في هذا الوضع الخطير قد يقتلونك قبل أن تجد سبيلًا إلى المغادرة.
في تلك اللّحظة تذكّرت أمرًا زاد من فزعي: فقد تركتُ بين أيدي خصومي محفظةً فيها بطاقة هويّتي وجواز سفري ووصل الإقامة في النّزل! يمكنهم معرفة كلّ شيء عنّي ومطاردتي في كلّ مكانٍ. قلتُ ذلك لعبد العزيز فزاد اضطرابه وراح يلقي عليّ من اللّوم أحمالًا، فما تركتُ محفظتي هناك إلّا بسبب غفلتي وقلّة احتياطي للمكاره، ورحتُ أفسّر له أنّ المحفظة سقطت منّي لحظةَ قَفزي نحو النّافذة حين لم يعد التراجع ممكنًا. قال لي مُنهِيًا تقريعه الثقيل، فكأنّما أنزل قبضته عن خناقي:
ليس أقدر على حمايتك من سفارة بلدنا. فلْنمضِ إليهم. هم الذين يستطيعون تأمين عودتك إلى الوطن.
- ولكنّهم إن علموا بالرّقائق الأثريّة أخبروا عنها الشرطة فتولّوا مصادرتها. خسارة حياتي أهون عليّ من خسارتها.
لستَ مضطرّا إلى ذكر شيءٍ عنها. مَزار محيي الدّين موقعٌ أثريٌّ يقصده السيّاح من كلّ مكانٍ. قل إنّك ذهبتَ للسّياحة، وتبادلتَ النّقاش مع شيوخٍ فيه، فرموك بالكفر ودعوا إلى قتلك... قل إنّ أتباعًا لهم همّوا بك إذ سمعوا التحريض، فهربتَ منهم وطاردوك بهراوات وسكاكين...
في السّفارة بدا عليهم الارتباك. اعتبروا الأمر جللًا، فملؤوني بعد خوفي خوفًا، وتناوبوا على التحقيق معي، كلٌّ يريد أن يسمع القصّة بنفسه. قال لي أحدهم:
- إذَن وقعتَ في جماعة البهرة. رحتَ تتعالم عليهم وتسفّه عقيدتهم.
- لم أقصد شيئًا من ذلك، لكنّي بغير إرادتي قد وقعتُ فيهم، وعلمتُ بعد ذلك أنّهم البهرة.
- إنّهم لا يسمحون بأيّ مساسٍ بعقيدتهم أو عاداتهم، لكنّهم لم يقصدوك، فأنت مَن قصدتَهم. حظّك منكودٌ يا صاحبي. أرجو أن نتمكّن من حمايتك حتّى موعد إقلاع أوّلِ طائرة.
سمعتُ مسؤولي السّفارة يخابرون الشرطة اليمنيّة، وحضرت بسرعةٍ سيّارتان مدجّجتان. تكلّموا وأسرّوا وجهروا، ثمّ نادوني فأعادوا استنطاقي أمام ضبّاطٍ يمنيّين، قال لي أرفعُهم رتبةً:
- جئتَ اليمنَ لافتعال المشاكل إذَن؟ وعملتَ مشكلة مع المكارمة؟
- مع البهرة سيّدي، مع البهرة.
ابتسم الضابط وعاد يتأمّلني بإشفاقٍ، كأنّه يرى مقصلتي:
- هؤلاء هم أولئك، وحظّك بكلّ حالٍ منكودٌ.
قرّ قرارهم على اصطحابي إلى النّزل لجلب أمتعتي، وإيوائي في السّفارة تلك اللّيلة، واتّصل آخرون بالمطار لحجزِ مقعدٍ لي في أوّل طائرةٍ تقلع صباح اليوم التالي.
بلغنا النزل فألفينا حالةً من الفوضى، والشرطة عند كلّ المداخل تمنع دخول النّزل أو الخروج منه إلاّ بعد تفتيشٍ دقيقٍ. أُخبِرنا أنّ رجالًا مسلّحين، لا يُدرى إن كانوا إرهابيّين أو من عصابات المخدّرات، قد دخلوا بحثًا عن نزيلٍ أجنبيٍّ لكنّهم لم يجدوه، ففتّشوا غرفته ولا يُعلَم بعدُ ما أخذوا منها! وقعتُ عليهم من السّماء ليعرفوا تفاصيل القصّة وخباياها، ثمّ دخل رجال الشرطة غرفتي حذرين. دخلوها بأنوفهم وعيونهم قبل سيقانهم، باحثين عن أيّ أثرٍ قد يدلّ على تفخيخها. ولمّا سمحوا لي بالدّخول أخيرًا وجدتُها منهوبةً كمدينة استباحها التّتار لتوّهم.
كنتُ في كلّ ما مضى من الأحداث أتماسك وأشتدّ، لكنّي في غرفتي بالنّزل آنئذٍ شعرت بفزعٍ يكتسح وجداني، وأحسست بقلبي يسقط في جوفي. صرتُ أتصوّر أنّ كلّ شرطيٍّ من المكلّفين بحراستي قد يكون بهريًّا فيطعنني من قُبُلٍ أو من دُبر، وكلَّ حائطٍ في النّزل أو في السّفارة قد ينشقّ، وكلَّ سقفٍ قد يتصدّع فيخرج منه بهريٌّ يطعنني ويصرخ: خذ هذه من الأئمّة المعصومين.
أعادوني إلى السّفارة واستقرّ بي المقام وراء جدرانها ساعةً أو نحوها، خلف باب مغلَقٍ حصينٍ، فتنفّست الصّعداء وتبرّدت، وإذا بهم يدخلون عليّ بأستاذي عبد العزيز وقد ألبسوه معطفًا طويلًا ووضعوا غطاءً على رأسه ونظّارةً سوداء على عينيه، فصار بمثل الحال التنكّريّة التي جلبني بها رجال أمن السّفارة! بادرتُ بإلقاء التحيّة عليه وقد اكتنفني شعور بالخجل الشديد. ففي حمأة خوفي على نفسي، والأحداثُ تتسارع من حولي، نسيتُ أمرَه، وقد كان رفيقي في رحلة الحطيب، ولولاه ما قُدّرت لي النّجاة... كان عليه أن يخضع لمصيرٍ لم يختره، وأن يبيت معي لاجئًا في السّفارة ويُرحَّل صباح اليوم التالي، إذ صار هو أيضًا مطلوبًا للبهرة، وصار تأمين حياته أهمّ من حضور المؤتمر العلميّ. علمتُ أنّ السيّارة التي اكتراها ورحنا بها إلى الحطيب قد خُلِّعت أبوابها في مرآب الفندق، وأخذوا منها وثائقه الشخصيّة وحاسوبه المحمول. كان أستاذي في حالةٍ من الجزع يَشي بها صوتُه المتقطّع وحركاتُه العصبيّة، لكنّه ظلّ متقنّعًا بمظهر المهابة التي جعلها منذ عرفتُه إزارَه الدّائم.
حين دخلتُ الجامعة منذ عشرين عامًا مفعَمًا بالحماس والرّغبة في التحصيل العلميّ، كان عبد العزيز مزيودات أوّل قامةٍ عاليةٍ انحنيتُ أمامها. هو رجل أكاديميٌّ صارم، ذو علمٍ واسعٍ وثقافةٍ وتهذيبٍ، يجتهد في إعداد الدّروس لطلبته فيكدّ نفسه كلّ الكدّ ولا يكتفي كبقيّة الأساتذة بالدّروس الجاهزة التي يكرّرونها كلّ عامٍ. لم يكن نشاطه منحصِرًا في التّدريس الجامعيّ، فقد كان شعلةً من النّشاط الدّؤوب في المعهد الوطنيّ للآثار حيث يرأس اللّجان العاملة في التّنقيب الأثريّ، وينتقل من شرق البلاد إلى غربها إذا تناهى إليه خبرُ راعٍ عثر على قنديلٍ فخّاريٍّ. وقبل تخرّجي حضرتُ معه دروسًا ميدانيّة وتربّصات، فرأيتُه يضرب بالمسحاة أو الإزميل لا يستنكف من الخوض في الأتربة والغبار، وينظر إلى كلّ لُقية وإن كانت كسرًا فخّاريًّا كأنّها جوهرةٌ لا تُقدَّر بمالٍ. مرّ على ذلك زمنٌ حتّى عدتُ للتّدريس بالكليّة نفسها التي درَست فيها، فكان أوّل سؤالٍ سألتُه ورِجلي على العتَبة: أما يزال السيّد عبد العزيز مزيودات رئيسَ قسم الآثار بالكليّة؟ ولم يكن من شيءٍ يجعلني فخورًا بنجاحاتي الدّراسيّة أكثر من شرف بلوغي مرتبة زمالة أستاذي عبد العزيز. لم أزل بعد ذلك أعامله بلباقة تلميذٍ مؤدّبٍ وأناديه أستاذي أو السيّد عبد العزيز حتّى قال لي يومًا بتواضعٍ ليس من دأبه:
- صرتَ اليوم زميلًا لي، فارفع عنك التّكليف ونادني باسمي.
- ليس بهذه الكلّيّة زميلٌ لك، فلا أحدَ في مستواك يا سيّدي، فلا تتواضَعْ أكثر ممّا ينبغي، أمّا رفع التّكليف فثقيل عليّ... ثقيل عليّ حقًّا.
لكنّه أصرّ على رأيه، وظللتُ أتدرّب على ذلك مدّةً طويلةً فأجِدُ في قلبي صُدودًا وأكادُ لا أُتقنُه.
جاؤونا في غرفة السّفارة بحشيّتين عجفاوين وضعناهما على الأرضيّة الرّخاميّة الباردة، وبغطاءين وطبق طعامٍ، فأكلنا نزرًا يسيرًا، وتكوّمنا عند الرّكن كفرخَين مقرورين. قال بنبرة أسفٍ:
- سرقوا وثائقي الشخصيّة وحاسوبي المحمول. وعلى الحاسوب دروسٌ وأعمالٌ أكاديميّةٌ هامّةٌ لم أحتفظ بِنُسَخٍ منها.
كان يتكلّم بمرارةٍ، وكنتُ أتّهم نفسي في ما حصل، فكأنّما أُسقى ماء الحنظل. لم يسعفني كلامٌ لمواساته، لكنْ كان عليّ أن أقول أيّ كلام فسألتُ:
- هل كانت الرّقعة التي تحمل الرّسم السرّيّ في السيّارة أيضًا؟ هل سرقوها؟
أجابني بعصبيّةٍ:
- عن أيّ رقعةٍ تتكلّم يا أبله؟ كأنّي ما درّستك ولا عرفتُك! تلك كانت وثيقة موتك وقد أتلفتُها قبل أن نذهب إلى الحطيب!
يوم التقينا في المطار لنركب إلى صنعاء، أخبرتُ عبد العزيز عن الرّقاع التي استخرجتُها منذ ليلتَين من قبرٍ قديمٍ مجهولٍ، ومعها خنجرٌ منقوشٌ، وأخبرتُه أنّي بعد اطّلاعٍ سريعٍ على بعضها تبيّن لي أنّ كاتِبها داعيةٌ أو زعيمٌ من الطّائفة الإسماعيليّة، فرأيتُ أنّ رحلتي إلى صنعاء فرصةٌ مواتيةٌ لإطلاع شيوخ البهرة عليها، فهُم ينتسبون إلى الإسماعيليّة، وقد يسعفوننا بمعلوماتٍ أو تفاسير تعيننا على فهم تلك الوثائق. سُرّ السيّد عبد العزيز كلّ السّرور بعثوري على ذلك الكنز الثّمين، وظلّ يضغط كتفي وعيناه تَبرُقان بَريقَ النّصر. سرى فيّ حماسُه الفيّاض فقرفصتُ في بهو المطار بين الغادين والرّائحين، وعالجتُ حقيبتي حتّى استخرجتُ النّسخَ الستّ التي جلبتُها فوضعتُها بين يديه. راح يقلّبها ويفكّ حروفها وقال:
- نقّبتُ في أجواف هذه الأرض شمالًا وجنوبًا فما عثرتُ قَطُّ على شيءٍ بقيمة ما وجدتَ مصادفةً. هذا فتحٌ أثريٌّ سيكون له ما بعده.
لكنّه لم يتحمّس لَعرض نُسَخ الرّقائق على شيوخ البهرة اليمنيّة، وقال لي مُتوجِّسًا:
- هذه الوثيقة ذات قداسةٍ عندهم، وسوف يسعون إلى استرجاعها منك بأيّ طريقةٍ، وربّما قتلوك من أجلها.
مساءَ ذلك اليوم عدنا إلى تصفّح النّسخ وقراءتها بعد أن استقرّ بنا المقام في النّزل بصنعاء، ورأيتُ عبد العزيز يلمسها بأصابع مرتعشةٍ كأنّما يفكّك لغمًا، ثمّ عاد إلى تحذيري من خطورة إطلاع شيوخ البهرة عليها، لاسيّما أنّي في بلدهم ولستُ بمأمنٍ. فلمّا رآني مصرًّا على رأيي، قرّر اكتراء سيّارةٍ ومرافقتي إلى الحطيب، ووَضَع خطّةً للطّوارئ:
- يجلس شيخ دعاة البهرة عادةً في مَزار محيي الدّين، وهو عند مرتفع الهضبة الذي يَعسُر الوصولُ إليه بالسيّارة، لكنّي سأحاول قيادتَها إلى أقرب مكانٍ من المزار يمكن بلوغه، وأنتظرك على أهبةٍ... فإذا رأيتَ خطرًا عليك فبادرْ بالهروب إليّ...
لم أر لذلك من ضرورةٍ، غير أنّه ما كان يليق بي أن أكسر خاطر صديقٍ يخاف عليّ، ثمّ تبيّنتُ أنّ حدسه كان صائبًا، وكأنّه كان يقرأ الغيب بوَهَجه العلميّ.
سألني ونحن جالسان على طرف سريري في الفندق، وأنا أستخرج الرّقاع وأطرحُها على ركبتيّ:
- لمَ جلبتَ ستّ صفحاتٍ عدًّا وحصرًا؟ لماذا لم تكن ثلاثًا أو عشْرًا؟
- وجدتُ الرّقاع على ثلاثة أصنافٍ تعبيريّة: المتنُ وهو النصّ الأوّليّ الذي كتبه الدّاعي أو الإمام، ثمّ الحاشية وهي شرح على المتن، كتبه أحدُ تلامذته أو أتباعه، أمّا الصّنف الثالث فهو من المتن لكنّه ذو اختلافٍ وغرابةٍ، وهي رسومٌ سبعةٌ مثل الرّموز التي كانت توضع قديمًا للإشارة إلى دفائنَ سريّةٍ، فجلبتُ من كلّ صنفٍ صفحتين.
منذ وصولنا إلى النّزل اطّلع عبد العزيز على الصّفحات الستّ باهتمامٍ، وعاد إلى رسمٍ منها يتأمّله، ثمّ يرفع رأسه فيشرد بعيدًا ويعود إلى تفحّصه. علمتُ حاجته إلى التّركيز فانشغلتُ عنه ببعض شأني، وكلّما أردت العودة إليه وجدتُه بمثل ما تركتُه عليه من الانشغال والذّهول، حتّى استمرّ الحال زهاء ساعةٍ وضجرتُ كلّ الضّجر.
اقتربتُ منه وقلت له برفق:
- سيكون غدُنا مرهقًا أستاذي، والرّحلة إلى مزار محيي الدّين بالحطيب طويلةٌ. فلنخلد إلى النوم، فإنّ اللّيل يوشك أن ينتصف.
قام شاردَ الذّهن، فناولني من نُسخ الرّقاع خَمسًا، وطوى الأخرى التي ظلّ يتأمّل رسمَها ساعةً فوضعها في كتابٍ من كتبه وقال لي:
- لا تأخذ هذه النّسخة إلى شيوخ البهرة. تبدو لي رسالةً مشفّرةً وأظنّ أنّ بها خطرًا عليك!
ليس من طبعي أن أسمح لأحدٍ بالتدخّل السّافر في شؤوني، حتّى إن كان عبد العزيز مزيودات! قلتُ بنبرة احتجاجٍ رقيقٍ:
- وما أدراك ألّا يكون ذلك الرّسمُ في تلك الرّقعة هو المفتاح الضّروريّ لفهم أسرار الرّقائق كلّها؟
انتابه غضبٌ مفاجئٌ لم أتوقّعه، وصرخ:
- كفّ عن العناد بلا معرفة، ولا تجادلني في هذا الأمر بحقّ ما تعلّمتَ منّي منذ عشرين عامًا!
كتمتُ مرجلًا يغلي في أعماقي، واصطنعتُ هدوءًا محمولًا على عاصفةٍ:
- حسنًا أستاذي. افعل ما ترى.
غمرتني ذكريات ما حدث ونحن مكوَّمان في الرّكن البارد بغرفة السّفارة، وقد فاجأني عبد العزيز بخبر تمزيقه الصّفحة التي احتفظ بها من الرّقاع حين سألتُه ما إذا كانت قد سُرقت مع وثائقه الشخصيّة من السيّارة المكتراة. ظلّ صوتُه الغاضب يدوّي بسمعي:
- عن أيّ وثيقة تتكلّم يا أبله؟ تلك كانت وثيقة موتك، وقد أتلفتُها قبل أن نذهب إلى الحطيب!
أردتُ أن أفهم مقصده، وكان عليّ لبلوغ الغاية مداراته حتّى لا أستفزّ غضبه مرّةً أخرى، فقد بدا مقتنعًا أنّ ما حدث لنا من سوءٍ كان بسبب عنادي وقصور فهمي. عدتُ إلى سؤاله بصيغةٍ أكثر لطفًا وهو ممدّدٌ على الحشيّة في ركن غرفة السّفارة الباردة:
- قلتَ لي أستاذي إنّ بالرّقيقة من الخَطر عليّ ما جعلك تتلفها، لكنّي لم أفهم ما تَعنيه وأودّ أن تشرح لي الأمر.
نظر إليّ نظرةَ رثاءٍ طويلةً كما ينظر مُزارعٌ إلى بقرته الوحيدة التي تحتضر، وسكت حتّى ظننتُ أنّه لن يكلّمني في ذلك الأمر. ثمّ قام إلى حقيبته فأخرج كيس بنٍّ صغيرًا سكبه في فنجانٍ وأعدّ قهوةً باردةً من دون سكّر. أشعل سيجارةً ودخّنها صامتًا، حتّى ارتشف ثمالة قهوته وأنا أنظر ولا أتكلّم. فلمّا عنّ له الكلام ابتدرني بنفسه:
- ما فائدة كلامي معك وأنت تسمع وتعاند، واللَّجوج أسوأ من أصمّ.
- معاذ الله أستاذي، لكنّي أجتهد فأصيب وأخطئ، وأعود إليك فأتعلّم وأقوّم.
- حسنًا، سأفسّر لك الرّسم لتعلم أنّك لو أخذتَه معك إلى شيوخ الحطيب لقُتلتَ من ساعتك، فقد صدر حكمٌ منذ ألف عامٍ بإعدامك لحظة اطّلاعهم على الرّسم السرّيّ... أتذكر الحيلة الدّمويّة التي كان يلجأ إليها الملك قديمًا للتّخلّص من فردٍ نافذٍ في حاشيته؟ يعطيه رسالةً مختومةً ويأمره بتبليغها إلى أحد وُلَاتِه وقد كتب فيها: إذا جاءك رسولي هذا فاقتله! هذا ما كاد يُفعل بك وأنت تجهل الرّسالة القاتلة التي تحملها بنفسك!
كان لغزًا عصيًّا، وأمرًا في منتهى الغرابة، لكنّ قشعريرة الخوف سرت في جلدي وتملّكت الرّهبة قلبي لِعلمي أنّ أستاذًا بقامة عبد العزيز مزيودات لا ينطق عن هوًى، وقد أثبت ما جرى في اليوم الأخير من وقائع أنّ توقّعاته كانت الصّواب. اقترب منّي أكثر، وصارت نظرتُه إليّ مليئةً بالعطف:
- صِف لي ذلك الرّسم إن كنتَ تذكره، فالوصف يسبق التفسير. ثمّ اذكُر لي ما عنّ بذهنك من تأويله.
ذكرُه جيّدًا، ويمكنني وَصْفه لك كأنّي أنظر إليه السّاعة: لقد بدا لي الرّسم رسمَيْن متجاورَين عجزتُ عن فهم صلة أحدهما بالآخر. فالأوّل هو رسم الحمامة التي تحضن جمجمةً وعَظمَيْن متقاطعَيْن، والثاني هو الإلهة القرطاجيّة تانيت في جوفها جَرّةٌ! ترمز الحمامة إلى الحبّ والسّلام. فكيف تحضن ما يرمز إلى الخطورة والموت، أعني الجمجمة والعظمَيْن؟ في الرّسم تناقضٌ مقصودٌ. وقد أراد صاحبُه القول، على ما أظنّ، إنّ ما يسود في تلك الأيّام من سلامٍ هو حالةٌ مؤقّتةٌ، لأنّ الحمامة لا تحضن بيضها الذي يبشّر بمزيدٍ من السّلام للأجيال القادمة، بل تحضن جمجمةً وعظمَين، ما يعني أنّ الموت والدّمار سيفقسان قريبًا...
كنتُ أتكلّم بحماسٍ، وأشعر أنّي قد وُفّقت أو أكاد في تأويل الرّسم وفكّ طلاسمه، ولم أرفع عينيّ عن وجه عبد العزيز وأنا أتكلّم منتظِرًا في كلّ مرّةٍ أن يتحمّس لتأويلي أو أن يضرب بجُمعه على صدري قائلًا «وِي ي ي» ككلّ مرّةٍ يعجبه فيها منّي قولٌ، لكنّه ظلّ صامتًا منغلِقًا، بوجهٍ محايدٍ كقاضٍ محلَّفٍ، فاستأنفت كلامي:
- بين الجزء الأوّل من الرّسم والجزء الثاني تناقضٌ آخر، فآلهة الحبّ والأمومة تانيت في جوفها جرّةٌ، والجرّة رمز الكنوز والمال والوفرة، فهل سيكون في المستقبل الذي يعنيه الرسّامُ موتٌ ودمارٌ أم كنوزٌ ووفرةٌ؟ إنّ الجزء الأوّل من الرّسم يحذّر بتشاؤمٍ، والثاني يعِد ويُمنّي، وفي كلّ الأحوال أستاذي، ليس للرّسم علاقةٌ بشخصي، ولم أفهم قولك إنّه شهادةٌ بموتي أو أمْرٌ بقتلي...
تبسّم عبد العزيز وتنحنح، وسكت وتمهّل، كعادته قبل أن يُفاخر بعلمه، وهي سيّئتُه الوحيدة التي تليق به كثيرا حتّى تصبح إحدى فضائله الجمّة، وقال:
الحمامة ترمز إلى السّلام في حضارتنا المعاصرة ومجالِ وعينا الحاليّ، أمّا في زمنِ إنتاج الرّسم فليس من حمام يُؤبَه به غير الزّاجل الذي يُتّخَذ لنقل الرّسائل فيقطع بها البرور والفيافي، ولقد كانت الحمامة
ترمز إلى المسافر أو المغترب أو عابر السّبيل. أمّا الجمجمة والعظمان المتعامدان فإرثٌ للقراصنة يرمز إلى الموت، أو إلى أمرٍ بالقتل، وقد ظهر هذا الرّمز وانتشر بانتشار ثقافة «الرّقص من الموت»، هل تعرف فنّ الرّقص من الموت؟ إنّه عملٌ فنّيٌّ مروّعٌ، إذ كان النّاس زمن المجاعات والحروب الطّاحنة والطّاعون الأسود يحتشدون في المقابر لتحدّي الموت والسّخرية المُرّة منه، وهناك يسكرون ويضحكون، ويمارسون الجنس فوق القبور، على أشلاء الموت، قبل أن يحصدهم بعد يومٍ أو بضعة أيّامٍ... في ظلّ تلك الأجواء ظهر الرّمز المخيف: جمجمة وعظمان متعامدان، وصار الملك إذا أراد تصفية معارضيه في مدينةٍ، جاس فيها المُخبرون ليلًا ليرسموا على أبواب منازل معارضيه رمز الموت، ثمّ يمرّ الجنود من ورائهم ليقتلوا مَن في تلك المنازل... وإذا أراد حاكمٌ تدمير مدينةٍ أو استباحَتها كتب اسمها أو رسم خريطتها وأردف ذلك برسم جمجمة وعظمين فيكون في ذلك أمرٌ لقادته العسكريّين بإفناء تلك المدينة...
سكت عبد العزيز وهو يرى شدّة فضولي، وشرب ماءً وتنحنح وتمهّل فما استأنف إلّا بعد لَأْيٍ.
بذلك يا ابنَ أبيك، يكون تفسير الجزء الأوّل من الرّسم كالتّالي: هذا الغريب المسافر الذي جاء برسالةٍ من بعيدٍ، وهو الذي ترمز إليه الحمامة الزاجلة والمقصود به شخصك، يجب أن يُقتل، هنا فوْرًا. هل تعلم لماذا قلتُ: «يُقتل هنا فوْرًا»؟ لأنّ الجمجمة تحت الحمامة وليست أمامها ولا وراءها ولا بعيدة عنها بمقدارٍ، ما يعني وجود تلازم وثيقٍ زمانًا ومكانًا... بكلّ بساطةٍ يا صاحبي، لو اطّلع شيخ الحطيب على ذلك الرّسم لما فكّر في اعتقالك فوجدتَ فرصةً للهرب، بل لأمرَ بقتلك فورًا وما خرجتَ من تلك الغرفة حيًّا.
قاطعتُ عبد العزيز وهو لا يكفّ عن الرُّغاء بحماسٍ فيّاضٍ:
وما أدراك يا صاحبي أنّ شيخ الحطيب يفهم كلّ المسائل المعقّدة التي ذكرتَها، فيُصيب في تأويل الرّسم ومقاصده؟
الإشارات والرّموز عند الباطنيّة علمٌ كاملٌ يخضع لقواعد دقيقةٍ مثل الرّياضيّات وسائر العلوم الصّحيحة، لكنّه لا يُدرَّس بل يُورَّث. ثمّة سلالات من الأئمّة وحتّى من الدّعاة توارثوا ذلك العلم وأتقنوه كلّ الإتقان. لقد أمكننا بعد انتشار الطّباعة ووسائل الاتّصال الحديثة والجامعات ومراكز البحث العلميّ... أن نحصل على جزءٍ من تلك المعارف الخفيّة، ومع أنّي متخصِّصٌ بهذا العلم فإنّي لا أجزم بصواب تأويلي لإشارةٍ مّا حتّى أجد في الحفريّات التي أُنجزها ما يكون مصداقًا لِرأيي. ولقد وجدتُ عشرات النّقائش والرّسوم التي تصوّر حمامةً وكانت تدلّ دومًا على الشّخصَ الغريب أو المسافر أو عابر السّبيل، وسأبدّد الآن شكوكك كلّها فلا تجادلُني بعدها في شيءٍ ممّا أقوله.
- أجزم أنّ كلامك حقٌّ أستاذي، لكنّي أستفهم لأستيقن.
- حسنًا، حسنًا، أنت رجلٌ متزوّجٌ، ربّ عائلةٍ، ولك منزلٌ بل فيلّا واسعةٌ فخمةٌ، فمِن المفترَض إذن أن تكون قد خبّأتَ الرّقائق في منزلك، لكنّك لم تفعل ذلك، فقد خبّأتَها في منزل أمّك!
عادت قشعريرة الخوف تكتسح جسدي كلّه، فوَحُرْمة كلّ ما أومن به ما أطلعتُ على هذا الأمر أحدًا. خُيِّل إليّ أنّ عبد العزيز قد فتح جمجمتي، ووضع رأسي تحت مجهرٍ ضخمٍ يرى من خلاله كلّ خليّةٍ في مخّي. أردتُ أن أقول له: هذا لا يُصدَّق. كيف عرفت؟ كيف حدستَ؟ كيف تأوّلتَ؟ لكنّي لم أقل كلمةً، وظلّ وجهي معلَّقًا كنقطة استفهام بحجم الغرفة كلّها:
هذا ما يكشفه الجزء الثاني من الرّسم: الآلهة تانيت وبِجوفها جرّة! تعلم أنّ تانيت لم تُعبَد في الشّرق. فأهل الشّرق كانوا يَعبدون الآلهة عشتار ولها رمزٌ آخر، أمّا تانيت فقد عُبدت في قرطاج، وكانت ربّة الأمومة والخصب، وهي صنوُ الإله بعل حتّى إنّهم كانوا يسمّونها «وجه بعل حمون»، وفي ذلك توجيه لِمَن يتأوّل الرّسم بأنّ الرقائق، وهي الكنز الذي ترمز إليه الجرّة، مخفيّةٌ في بيت أمٍّ، وأنّ بيتَ الأمّ في قرطاج ببلاد إفريقيّة... وهكذا فإنّ الصبّاح قد وجّه منذ ألفٍ عامٍ رسالةً مشفّرةً إلى أتباعه اليوم، فكانت نبوءاتُه دقيقةً كلّ الدقّة. قال لهم: إنّ مسافرًا غريبًا يأتيكم ينطوي على خطورةٍ مؤكّدةٍ عليكم، فاقتلوه فورًا حيث يأتيكم، أمّا كنزي من المزامير التي تركتها لكم فإنّكم تجدونه مخفيًّا في بيت أمّه ببلاد قرطاج.
سكت عبد العزيز وأخذ يفتح أزرار قميصه العلويّة، فقد ألهبه الحماس حتّى ارتفعت حرارته واحمرّ وجهه في تلك الغرفة الباردة المقرورة. قلتُ له:
- وهبتَني منذ عشرين عامًا علومًا لا تُقدَّر بثمنٍ، وها إنّك تَهَبُني عمرًا جديدًا. كلّ ساعة أعيشها بعد هذا اليوم هي مِنّةٌ أخرى منك وفضلٌ آخر من أفضالك.
* * *
حين نزلتُ في مطار بلَدي مخفورًا مُحاطًا برجال الشرطة، انصبّت عليّ نظرات الرّيبة والاتّهام، تجلدني، تهتك حُجُبي، وتنفذ إلى عظامي. قرأتُ في عيون النّاظرين سوادَ ضمائرهم وسوءَ ظنّهم: مهرّب كوكايين... إرهابيّ... حشّاش... خاطف أطفال...، نظر النّاسُ إليّ وأوسَعوا. كانوا يخشون أن يلمس طرفُ معطفي أطراف معاطفهم، فَلم تنفكّ عن جلدي قشعريرةٌ وحرارةٌ حتّى ركبنا سيّارة الشّرطة وأمِنتُ من العيون، ثم انطلقت بنا تمخر الطّريق نحو مخفرٍ قريبٍ. أجْروا معي تحقيقا أوّليًّا اكتفوا فيه بمعرفة ما حدث في قرية الحطيب اليمنيّة وتسجيل بيانات هويّتي. أبدوا شكّهم في الرّواية التي سردتُها على مسامعهم، وقد دبّجتُ تفاصيلها بكلّ طاقة ذهني المتعَب أثناء سفرة الطّائرة. قال لي المحقّق:
- من الغريب حقًّا أن يتداعوا لقتلك ويُطاردوك بِسبب نقاشٍ تافه مثلما ذكرتَ. لِذا -معذرة يا صاحبي- فأنا لا أصدّقك. تذكّرْ مليًّا، لعلّك نسيتَ شيئًا أو تتكتّم على شيءٍ.
وجد أخيرًا فرصة للصّراخ في وجهي وحصري في الزّاوية حين تفطّن إلى اختلاف عنوان بيتي المسجَّل على بطاقة الهويّة عن العنوان الذي صرّحتُ به. نفش ريشه تذاكِيًا وانتبه إلى فطنته الوقّادة. قلتُ له:
- العنوان المسجّل في بطاقتي صحيحٌ تمامًا، وهو عنوان بيتي، لكنّكم سألتموني عن عنوان إقامتي في الأيّام القادمة فأمليتُ عليكم عنوان بيت أمّي. فهناك تجدونني حين تنوون استدعائي لاستكمال التّحقيق.
كانت زوجتي قد أخذت الأبناء لقضاء العطلة في منزل والدها الرّيفيّ البعيد، فلَمْ تبْق لي رغبة في العودة إلى منزلي الصّامت البارد، ثمّ إنّ الرّقائق مخبَّأةٌ في مستودع بيت والدتي وبي لهفةٌ لقراءتها وفكّ رموزها.
اختتموا التّحقيق وطلبوا منّي ألّا أغادر المنزل أو أنتقل إلى أيّ مكانٍ إلّا بعد استشارتهم، إذ قد أتعرّض للملاحقة والأذى، لذلك أبلغوني أنّهم سوف يكونون جاهزين لمرافقتي وحراستي إذا اضطُررتُ إلى الانتقال نحو مكانٍ أريده، وما عليّ آنئذٍ إلّا إبلاغهم. ركبنا سيّارةً مشبوكةً بالحديد فانطلقت بنا، ووجدتُني مُقرفِصًا في صفّ الكراسي الخلفيّة واضِعًا حقيبتي بين ساقيّ كلاجئٍ يتعرّض إلى الطّرد.
انتبهت أمّي إلى سيّارةِ شرطةٍ ترسو أمام باب منزلها، وينزل منها ابنُها الذي يُفترَض أنّه في بلدٍ بعيدٍ. هرعت جَزِعةً بأسرع ما تسمح به قامتُها المنحنية ورُكبتاها المتيبّستان، فأمطرتني بزخّاتٍ من الأسئلة المترادفة من غير أن تترك لي فرصةً لجوابٍ، وأمسكَت بيدي تجذبني إليها وتقذفهم بنظرات الرّيبة، ولعلّها تصوّرَت أنّها تخلّصني منهم. غمزتُ الضّابطَ الذي نزل معي من السيّارة وقلتُ لأمّي:
- هذا الضّابط محمّد، وقد كان صديقًا لي وزميلًا أيّام دراستي بالجامعة. التقينا في المطار صدفةً فأصرّ على إيصالي بسيّارة عمله...
سكتُّ هنيهةً أستبينُ أثر كلامي، وفهم الضّابط قصدي فابتسم لأمّي وترفّق بها:
- حلّت بك البركة، وطال عمركِ يا حاجّة...
أردفتُ قائلًا:
- لديه عمل الآن وعليه الانصرافُ، لكنّه سيعود إليّ في يومٍ آخر لنشرب قهوةً ونتحدّث برويّةٍ...
قلتُ ذلك لمعرفتي بأنّ الشّرطة سيعودون إليّ، ويأخذونني لاستكمال التّحقيق أمام فرقةٍ مختصّةٍ، فسمعتني أمّي ومحّصت، وانتهى بها الأمرُ إلى تصديقٍ كَذوبٍ وطُمأنينةٍ جزِعةٍ.
انكببتُ على الرّقائق مذهولًا عن كلّ ما حولي، أفكّ طلاسم وأسرارًا مردومةً منذ ألف عامٍ. كانت بعضُ الرّقائق قد انضغطت وتلاصقت، أحاول فكّها بما أمكنني من اللّطف والتّؤدة فلا تَسلم أحيانا من التّمزّق. بعض الحروف امّحت وبعض الكلمات بدأت تتفسّخ، لكنّها في الجملة قابلةٌ للقراءة.
﴿متن﴾
* مزمور الحمد للإمام المعصوم* 1ـ لك الحمدُ يا إمامي، يا ساكنَ السّحاب يا جاعِلي سوطَ العذاب وهازمَ الأحزاب وجدتَني ضالًّا فأرسلتَ عُميرة زاراب وفقيرًا فجاءني خَراجُك من كلّ باب وعائلًا فرزقتَني جنّاتِ نخلٍ وأعناب 2ـ صوتُكَ في قلبي ذاتَ صباحٍ زَمْجَر ظلّ ثلاثًا، عَشْرًا، يهتفُ، يهدر قُم يا حسنَ الله تعطَّر وبأجمل أثوابكَ فتدثّر إنّي اخترتُكَ لبلوغ الكشفِ الأعظم فاسلُكْ سُبُلَ النّور إلى السرّ الأكبر. 3 ـ قُم يا حسَنُ فإنّي سأمهّد قدّامكَ دربَك، وسألكُز مِن تحتكَ فرسَك سترفُس حَسَكًا، وسترزح ثِقْلا فاشدُدْ نعلكَ وتصبَّر موعودٌ أنتَ بِمَكرُمتي سأبارك زادك في المِخلاة وأُكثِر اِهبط مصرَ ففيها إمامُ زمانك، مولاك المستنصر أدركْ دينَك، بايِع مَهديًّا مِن ذريّة جعفر مصدوقًا تذهب، غيرَ فرِيِّ مَرْضِيًّا ستعود إلى الرَيِّ وعلى العرشِ ستُرفَع يا صبّاحُ فأبشِر 4ـ بـيموده شد أز كنبد بر من جهل ودو جويان خرد كشت مرا نفس سخنور(*) علمتُ بواطنَ آي القرآن المعمور وغُصتُ من الشّرع وأحكامه في بحر مسجور، فقِهتُ العرفان الجمَّ، وسرّ الدّين المستور منهاجَ التّعليم قد اخترتُ، وبعقلي القاصر لا شيء تأوّلتُ فبَيْني وبين إمامي قبَسٌ من نور |
5ـ عقلي وهّاج بمصابيح النّور وقلبي أضواءٌ وقناديل أبكي للمستور من آل عَلِيٍّ، حتّى تتبلّل أكمامي واللّحيةُ والمنديل أشواقي للمعصوم محمّد بن إسماعيل 6 صه، ما هذا رعدٌ، هذا صوت محمّد بن إسماعيل، مه، ما هذا برق، هذا سوط محمّـد بن إسماعيل |
سيعود فيَنزل من سُحُبٍ، وجناحاه ملء الأفق كجبريل، يملأ أرضَ الله بعدله، يمحق شرًّا وضلالاتٍ وأباطيل 7 ـ لكَ الشّكر يا معصوم هديتَني في الفتنة العمياء طريقَ الله وحِفظُكَ نجّاني من سطوة بدر ذي الجبروت وذي الجاه يدكَ البطّاشة أسقطت الصّومعة، فخارت يُمناه وارتعشت قائمتاه، يومُ غديرٍ آخر كان بمصر قال الله: مَن كان نزارٌ مولاه فأنا مولاه. |
﴿حاشية﴾
حدّثني أبو الفتح السّرميني طيّب الله ذكرَه، أنّه سمع السيّد الأساسَ حسنًا الصبّاح يقول: ما تفرّقت شاءٌ فضَلّت وبعثرتها السّبُلُ بعد موت راعيها كما تفرّقت شيعةُ العراق بموْت عليٍّ، وفاطميّةُ مصر وفارس بموت المستعصم... وأحسبُه قال: إلاّ مَن رحم ربّي.
وحدّثني سهل بن قباذ عن أبيه حديثًا طويلًا، وكان قباذ مؤمنًا ثَبْتا مِن رعيل الباطنيّة الخُلّص الذين أخذوا قلعةَ ألـْمُوت فقال: كنّا معشر الفاطميّة على يقينٍ من عقيدتنا وأئمّتنا حتّى مات الإمام المستنصر واختلف النّاس في الإمامة من بعده بين ولَديه نزار والمستعلي، وكان مُبتدأ الفتنة الوزيرُ بدرٌ قائد الجيوش، إذ أوعز إلى ابن أخته المستعلي بالتمرّد على أخيه الأكبر وطلب الإمامة لنفسه، ثمّ لاحق نزارًا بعد موت أبيه حتّى حصره في الإسكندريّة وقتله وشرّد أتباعَه... لكنّ السيّدَ الأساس حسنًا الصبّاح قادنا في ظُلمات الفتنة على بصيرةٍ، فما لجلج ولا شكّ بعقيدته قَطُّ، ولقد أخبرنا أنّ الإمامة مثل النّبوّة اختيار من الله وليست مِنحةً بِيد الوزير بدر يصرفها لِذي قرابةٍ، وأخبرنا أنّ مِن سنن الله أن يجعل الإمامة في البكر من أبناء الإمام، يَرث عن أبيه علمَ الباطن وأسرار التّأويل.
اضطربت الإسماعيليّة في ذلك الزّمن اضطرابًا شديدًا، وفسدت عقائد وغلبت أهواء، فأتبع أهلُ مصر الوزير بدرًا وأقرّوا بإمامة المستعلي رغَبًا ورهبًا، وعاد كثيرٌ من إسماعيليّة الشّام قرامطةً وأنكروا إمامة الفاطميّين منذ مبتدئها، وما بقي مِن أحدٍ على بصيرةٍ غيرُنا، فسمّانا السيّد الأساس الفرقة الهادية وسمّى عقيدتنا الدّعوة الجديدة، وازددنا تمسّكا في بحر الضّلالات المتلاطم بِهدْيه وبصيرته.
سكت سهل بن قباذ مُستذكِرًا، وراح ينكت على الأرض بعودٍ يابسٍ ثمّ قال: تسامرنا ليلةً بمنزل مخلاف بن بازيار، ومعنا جمْعٌ من المهتدين الجدد من بلاد الدّيلم قد قدموا لأداء البيعة، فحدّثهم مخلاف قال: حصَرنا السّلاجقة في قلعة أَلمُوت، وطال بنا البلاء حتّى كادوا يتسلّقون علينا أسوارها، وراح قائدهم اللّعين أرسلان تاش يدعو السيّدَ حسنًا للاستسلام، ويُطمعُه بحَقن دمه مع عشر رِقابٍ يختارها، فجاءه الإمام المستنصر في منامه يشدّ عضده ويبشّره بالنّصر، فقال له السيّد: يا إمامي، كنْ شفيعي عند الله فما عاد بينك وبينه من حجابٍ. إنّي عبده الأوّاب المحاصَرُ المستضعَف أطلب منه كيت وكيت، وأرجو أن يستجيب لي في كيت وكيت، فقال له الإمام وبه نورٌ ومهابةٌ وعليه سندس وإستبرق: شفعتُ لك عند الله يا حسن فأعطاكَ بِلا مَنّ ثلاث نِعَم ما أعطاها نبيَّه إلّا مَنّ عليه بها في قرآن يُتلى، أفلا تكون عبدا شكورًا؟ ألا تكون عبدًا شكورًا؟ ثمّ نفض ثوبه غاضِبًا وولّى. قال مخلاف بن بازيار فيما روى: بكى السيّدُ وهو يحدّثني هذا الكلام. أي بكى والله، كما ترون النّاسَ يبكون فتنحدر دموعٌ من مآقيهم وقال: وجدني ضالّا فهدى، ووجدني شريدًا فآوى، ووجدني فقيرًا فأغنى...
سكت مخلاف فانبرى معشرُ السّامعين من الدّيلم يستزيدونه ويستفسرون، فقال لهم مخلاف: لو كنتم قد خلوتم بي لحدّثتُكم في هذا الأمر بما يكون لكم فيه عبرةٌ وهدًى، لكنّي أستحي أن أكلّمكم وبينكم قباذ، فإنّه لو علمتم صاحب السيّد الذي ما إن دعاه في سهول دامغان حتّى ترك شياهه وتبعه، وإنّه لو علمتم قد كان تابعه الذي يحمل عنه حذاءه وعصاه ولا تفوته ممّا ينطق كلمة، وقد منحه السيّدُ لقبَ سردار(*) فأنّى لي أن أتكلّم في حضرته ولستُ بأهلٍ...
فضرب قُباذُ على فخذ مخلاف بن بازيار وقال له: بَل أنت أهلٌ لكلّ مَكرُمة يا مخلاف. تكلّمْ لا بأس عليك فقد أذنتُ لك، ولكنّك تتكلّم كثيرًا في الظّاهر، وقد تُغفل شيئًا من أمر الباطن وأنا به عليمٌ. فإن رأيتُ ذلك منكَ صوّبتُك. عدّل مخلاف جلستَه، فأثنى على لطف الأئمّة وعنايتهم بالمؤمنين وقال: أدركَت أفضالُ الأئمّة وشفاعتُهم السيّدَ الأساس مذ كان ضالًّا على مذهب آبائه الاثني عشريّة، إذ أرسل الله إليه بعلم سابق وخطّة معلومة ذلك الرّجل الذي لم يكن يهتمّ به ولا يُلقي له بالًا المسمّى عميرة زاراب، فألحّ في دعوته إلى منهج الحقّ الإسماعيليّ، حتّى اهتدى بعد ضلالةٍ.
قال سهل بن قباذ: لم يزل مخلاف يفسّر للدّيالمة ما أشكل من حديث السيّد وقوله في مزمور الحمد: وجدتَني ضالًّا فأرسلتَ عُميرة زاراب، وفقيرًا فجاءني خَراجُك من كلّ باب، وعائلًا فرزقتَني جنّات نخل وأعناب ... حتّى قطع عليه أبي كلامَه فقال: على رِسلك يا صاحب العلم فإنّ لي في هذا قولًا: فلا تظُنّوا أنّ عميرة زاراب رجُلٌ من لحم ودم، إنّما هو الهداية حين يريدُ لك الإمامُ الغائبُ أن تعرفه فتبدأ رسلُه الخفيّة في استدراج عقلك وقلبك، وقد سعى رجالٌ منّا في البحث عن عميرة زاراب في الريّ فما وجدوا إسماعيليّا بهذا الاسم ولا أخبرهم ذو ثقةٍ أنّه عرف بهذا الاسم أحدًا. أمّا الجدل بين السيّد وعميرة هذا، فهو الصّراع داخل الوجدان العميق بين الحقّ والباطل والنّور والدّيجور.
وسعيتُ، أنا واضِع هذه الحاشية، إلى كبير الدعاة حسين القايني بقلعة قوهستان أسأله عن رحلة السيّد الأساس إلى مصر، وكان القايني صادقًا مصدوقًا لا أَتّهمه لو أخبرني أنّ الشمس تطلع من مغربها،
(*) لفظة فارسيّة معناها السيّد
فقلتُ له ونحن نتسامر: نشدتُك اللهَ وسلالةَ المعصومين أن تحدّثني عن رحلة السيّد للقاء الإمام المستنصر ثمّ سَجنه في مصر ونفيه إلى إفريقيّة، فإنّي أريد أن أسمع منك في ذلك حديثًا ثَبْتًا لا أسأل عنه بعدك أحدًا من الخلق...، فقال لي: الحقَّ أقول يا ابن أخي، فقد ركِب السيّد إلى مصر، فظلّ فيها يطلب العلم ويوغل في البواطن والأسرار، وارتضاه الإمام المستنصر فعيّنه برتبة حجّة على فارس كلّها ما إن يعود إليها. فلمّا أتَمَّ سنتَه الثّالثة في مصر اشتدّت الفتنة التي أيقظها الوزير المارق بدر الجمالي. وكان بدرُ المُرتدُّ قد استوثق من ولاء الجند بزيادة العطاء، وجعل رجالَه وخاصّته على مفاصل الدّولة، وبثّ عيونه في كلّ ركنٍ وزاويةٍ يأتونه بالشّاردة والواردة، حتّى أحكم قبضته على كلّ شيء، فاستضعف الإمامَ الذي استَوزره ولم يعد يخافه أو يأبه بأوامره. وكانت للوزير أختٌ قد تزوّجها سيّدي المستعصم منذ زمنٍ وأنجبت له ولدًا شبّ عن الطّوق، لقّبه الوزيرُ بالمستعلي بالله وأراد أن يحرف إليه الإمامةَ من مُستحِقِّها البِكرِ نزار. فإنّه لفي غيّه ومَكره يجرؤ على الأئمّة ويكتسب آثامًا لا تُمحى، حتّى هرع إليه مُخبِروه يُحذّرونه: فإنّ رجُلًا من الريّ اسمه، في ما ذكروا حسن الصبّاح، يجول بين النّاس ويدعوهم إلى الثورة من أجل الإمام المستضعَف، ثمّ يدعو إلى ابنه نزار من بعده، ويسفّه المستعلي، فيجتمع عليه النّاس في كلّ موطئٍ يطؤه... فبادر الوزير بأخذه أخذ جبّارٍ مقتدرٍ ورماه في السّجن والبَخس، لكنّ السيّدَ الصبّاح تحدّى الوزير بكبرياءٍ، وأنذره بالويل والثّبور إن لم يطلق سراحه قبل مضيّ ثلاث، فلمّا كان اليوم الرّابع أفاق الوزير على خبرٍ فاجعٍ، فقد سقطت منارة السّجن العتيدة المشيّدة من الحجر الصّقيل، وأسقطت من تحتها الجدار الغربيّ، وقد دُفن بعضُ السّجناء تحت الرّكام، ومَن بقي منهم حيًّا وجد فرصة للهروب، غير ذلك الرّجل من الريّ لم يُقتَل ولم يهرب. قال للوزير حين جاء يتفقّد السّجن: قد جاءك الإنذار يا بدر، فلا تُنكر أنّك رأيتَ وسمعتَ، وأنا أمهلك ثلاثًا أخرى تكون بعدها الهَلكةُ لك ولِنسلك.
امتلأ قلب الباغي رعبًا، وجمع المنجّمين والسّحرة، فأشاروا عليه بالعدول عن التّفكير في قتل الرّجل الغريب، والامتناع عن سَجنه ساعةً أخرى، ونصحوه بنفيه عن مصر والاحتيال في الأمر حتّى لا يعود إليها مرّةً أخرى، فإنّه خراسانيٌّ من الريّ وليست مصر بلده ولا بلد جدوده. فلمّا عرف السيّد الأساس ما يُبيّتون لم يمتنع عن الخروج، إذ كان قد ملّ المكوث واشتاق إلى استئناف رحلاته الدّعويّة في أرض الله الواسعة، لكنّه أصرّ على ملاقاة الإمام لتجديد بيعته الموثوقة فامتثل الوزيرُ صاغرًا، ثمّ أرسل عيونَه ليعرفوا ما يجري وما يُقال بين الإمام المستضعَف وتابعه الأمين.
قال حسين القايني، وإنّي لأصدّقه لو أخبرني عن طلوع الشّمس من مَغربها: الحقَّ أقول يا ابن أخي فاسمعْ منّي ما لا تُكذَب فيه ولا تُخدع، فإنّ السيّد الأساس قد دخل على الإمام المستنصر وعنده كبير الدّعاة عبد الملك بن عطاش، فما إن رآه حتّى فاض به الحماس، ونَتَر سيفَ أحد الحرّاس فخلع صليلُه القلوبَ وصرخ صرخةً منكرةً: «لبّيك يا إمامي حتّى ترضى، لبّيك ولبّيك، مُرني بِمَن استضعفوك لأروِيَ من دمائهم حَدّ سيفي...! قال له المستنصر: بورك فيك يا حسن، أعد السّيف إلى صاحبه واجلس. لكنّ السيّد لم ينفكّ عن هياجه: أتُستضعَفُ وفي أعناقنا بيعتك ولنا سيوفٌ وسواعد؟ مُرني فلن أكون وحدي، وفي مَواليك كثيرٌ مِمّن لا ينقضون ولا ينكثون، ولَتريَنّ منّا ما يسرّك... ، فنهض إليه ابن عطاش وأخذ بيده حتّى أجلسه، وجرى بعضُ مَن حضر من الحرس إلى الوزير يخبرونه بما جرى.
قال له المستنصر في ذلك المجلس: يا ابن الصبّاح يا حافظ عهدك وبيعة إمامك، إنّك مِن كبار الدّعاة وإنّك سيّد المتكلّمين، وأنا أربأ بك أن تَسفك دمك الفتنةُ الخرساء، وإنّا على أبواب فِتَنٍ كقطع اللّيل المظلم، فلأبعدنّك عنها ولأدّخرنّك لأيّام أشدّ. اخرجْ من مصر يا حسن فقد وطئها بدرٌ وفجَرت، وادخل القيروان فإنّها مِن بعدنا أرملةٌ تجترّ أحزانها وتبكي علينا، وإنّ النّاس في إفريقيّة قد عضّوا أنامل النّدم وقرعوا سنّ التّوبة إذ فرّطوا في إمامتنا وخرجوا عن دولتنا، فما رأوا من بعدنا إلّا سوادًا وما ذاقوا إلّا أكدارًا. اُخرُج إليهم يا حسن فإنّا أعطيناك إفريقيّة!
تنشر الكلمة هنا مقطعًا من رواية "قيامة الحشاشين" بإذن من الروائي التونسي المرموق "الهادي التيمومي" وقد صدر العمل 2020 عن دار مسكيلياني للنشر والتوزيع.