ثلاثمائة متر، مسافة رحتُ أقطعها كل يوم، ذهابًا وإيابا، عدة مرات بين البيتين العتيقين في ذات الزقاق منذ أن استسلمت جدتي في خضوعِ لا بد منه لإرادة التنقل بين جهتيّ عالمي.
ثلاثمائة متر، أطول، أقصر، بقليلٍ أو بكثير، لا أعلم بالضبط، لكنه الرقم الذي رسخ في ذهني مع تردد صوت جدتي مضطرب النبرات بلا ملل من تكرار حكاية غدر أمي بأبي وزواجها صديقه بعد فقدانه في براري الحرب ومرور الفترة القانونية التي تسمح بتحررها من أسر ارتباطها القديم، وكأنها كانت تعد أيامها يومًا تلو الأخر في سرها و... كلام كثير يتلجلج في الأفواه، ثرثرة متقطعة ما بين غمزٍ ولمز بالكاد تتنبه لوجود الصبية التي بدأت تدرك معنى الحديث وما ينقع فيه من سم المغزى، يشرع لي باب المخيلة العاتية، تجعلني أحيانًا أتفادى النظر، في خجلٍ وانكسار، إلى عينيّ أمي، منطوية على لهفةٍ كبرى لاختراقهما، البحث عن دنيا بأكملها محتجبة عني في لمعان تلكما العينين الواسعتين، الجذابتين من غير كحلٍ، والمستقرئتين كل ما يتوالى على مسامعي من لغو العجوز المخبولة ـ اسم جدتي لديها ـ وصديقاتها المتملقات الحمقاوات في قسمات وجهي المسوطة بألسنتهنّ الطويلة الطاعنة في شرفها.
تهب لحث الخطى إلى الدار التي سكنتها أعوامًا مع أبي المفقود لتعاود العراك مع حماتها السابقة، يسمع تصايحهما كل الجيران، قبل وبعد خروجهما مهرولتين نحو الباحة الخارجية ثم عتبة باب الدار الحديدية المضرَّجة بالصدأ، إحادهما تلاحق الأخرى للانقضاض عليها مثل صقر كاسر يهبط من ارتفاع لاقتناص فريسته، تصيران فرجة للجميع، حتى المارين صدفة عبر الزقاق، لا تجرؤ أيٌ من النسوة على التدخل لفض الشجار فتنوشها مخالب المرأتين المتوحشتين، تكتفي فقط بالتزام مكانها ضمن دهشة العيون المنتظرة نهاية المشهد الصادم الذي لا ينفك عن التكرار كل فترة، يتغَّبش بمدامعي المتفجرة كنزف المنتحر وصرخاتي المخروسة بزعيقهما المستلِب عقليهما بالكامل.
ما كانت تستطيع فعل هذا مجددًا، يكبلها قسم الظلاق الذي هددها به زوجها ـ العم صاحب ـ إن لم تكف عن الشجار مع المرأة العجوز، المحطَمة رغم كل ما تبديه من صلابة وسلاطة لسان.
تقلِّد أمي صوته الأبح بطريقة مضحكة، تقول متبرمة: وكأنها أمه بالفعل، لا ينسى أبدًا عطفها ورعايتها له بعد وفاة والدته وهو صغير، مثله مثل والدكِ تمامًا، يعني لا سبيل لخلاصي من جنونها وجبروتها، حماتي للمرة الثانية ـ تُقوِس كفها الأيمن حول ذقنها في حيرةٍ ساخرة: كأنها قدري.
كانت الكلمة (قدر/ي) كثيرًا ما تربكني كلما سمعتها، مصحوبة بتأوهات وحسرات جدتي أو أمي، ولطالما صارعت سؤالي في ليالٍ عاتية الأرق عن فحواها الحقيقي ومدى تأثيرها في مسار حياتنا، القدر (العجيب!.) جعلني بنت ابراهيم الذي أخفته الحرب كذرة رمل تنثرها الريح على خط الحدود الماطرة موتًا لثمانِ سنوات أطفأت فرح القلوب، لا أتذكره على الإطلاق، صورته شحيحة الابتسام، وكأنه يترقب حكم الفراق الملوِح إليه من بعيد، بالكاد تنصاع لحديث جدتي المسهَب عنه، تنهِك صوتها غصةٌ تلو أخرى، ملامح وجهه الطويل بعض الشيء كانت تخيفني وأنا صغيرة، اغمض عينيّ أو أشيح بوجهي ثم أركض للاختباء في حضن أمي خشية أن يخرج لي من خلف الزجاج ذي الإطار الخشبي الأسود، يعنفني بصوتٍ غليط وإن لم أفعل أمرًا خاطئًا، تبحلق بي جدتي في خليطٍ من اللوم والحزن، تخبرني أنه أبي وعليّ ألا أخاف النظر اليه ـ صورته ـ لأنه يحبني جدًا وسيأتي ذات يوم ليلاعبني ويضاحكني حتى أغفو على حجره، لكنه لم يأتِ، تركني عند عتبة اليتم، أعرفه ولا أعرفه، أشفق عليه، أكاد أترحم على روحه باكية، وأيضًا أثور على تيهه الملعون الذي أفقده كل شيء وسلَّم أمي إلى أحضان رجلٍ آخر، لعله كان عشيقها الأول بالفعل وحب أبي هو الدخيل على حياتها، تمامًا مثل القصص والروايات الرومانسية القديمة التي توصيني الاعتناء بها لدى طلبي قراءتها؛ ألا أثني أطراف الصفحات كعلامةٍ إلى ما وصلتْ يي القراءة، ألا أفتح الكتاب كما أتصفح مجلة فتنفرط أوراقه المصفرة، ألا أتركه في الصالة عرضةً لتهكم أو عصبية جدتي الجاهلة، تستعجل لوحة غلافه استعاذها المتواصل من الشيطان الرجيم، وقد يدفعها الحنق إلى تمزيقه ورميه في سلة الزبالة، أو تقدم على إحراقه في لوثةٍ من تلك اللوثات التي خبرتها أمي عنها جيدًا.
ليتني لم أقرأ من تلك القصص والروايات شيئًا، فقد ألقتني في جحيمٍ آخر غير جحيم جدتي المسلط على الدنيا ما دام ولدها الحبيب غائبًا عنها، جحيم فتاة الخامسة عشر عامًا، مرآة والدتها تُبرز أمامها مفاتن جسدها المحتفظ بأنوثة ريانة تروي عود الفتاة الغض بسرعةٍ تلحظها جلياً في دهشة عينيَ الجدة وتهلل وجه الأم المتفاجئة بعنفوان خروج صغيرتها من قمقم الصبا في غفلةٍ منها.
تفاجأتُ أيضًا حد الذهول بل الخوف من الجنون أن جسد أمي، لا سواه، يداخلني ويُلهب دنيايّ الجديدة بلذة الشبق وقسوته، لعلها تكون ذات القسوة المعتصرة حرمان جسدها الشاب قبل نحو تسع سنوات، على السرير الذي أستلقي عليه دون أملٍ في نوم قد ينقلني بدوره إلى أحلام أكثر استثارةً وإجهادا.
وافقت جدتي على عودتي إلى غرفة والديّ المهجورة، بعد زواج أمي وانتقالي للنوم في غرفتها الكئيبة الخانقة، عرفتُ كيف أضغط جيدًا على الوتر الحساس لديها، بحثي عن حياة أبي المجدولة بين جدرانها منذ طفولته، تشممي عبق أنفاسه الدافئة كلما دخلت لتنظيفها، وما أهجس من دفء أحضانه في الفراش البارد... ظلت الدموع تسح من عينيها وهي تساعدني في نقل ملابسي وحاجياتي إلى الغرفة التي تفح منها رائحة العشق، عشق أبي لأمي، أم عشقها لــ...؟.
أف... كم من سؤالٍ يستله الشك من غمد ليالِ الصمت الطويل، أنتظر الصباح حتى أشرعها جميعاً في وجه أمي دفعة واحدة، بلا ترتيب ولا تأتأة، بصوتٍ جسور وبنبرة محقق لن يترك المتهم أو المشتبه به إلا بعد انتزاع الحقيقة كاملة منه، ولتكن بعدها القطيعة النهائية بيننا، فإن صرخت سأصرخ مثلها وأكثر، تسب، تشتم وتلعن، مثلما تفعل مع جدتي لدى كل مشاجرة، لن يهمني من كل ذلك أي شيء، وإن سألتني عن سبب تفجر مثل هذه الأفكار العبثية في عقلي فجأة، مرددةً وساوس العجوز الخرقاء، سأسحبها إلى غرفة نومها وزوجها لنقف أمام المرآة، فأكشف بقوةٍ وعصبية مباغتتين لها عن نهديّ الآخذين في الامتلاء ونهديها العامرين، علّها تفهم وتجد إجابة على نشيج سؤالها المستبق ثورتي ثورة، لكني لم أجرؤ على طرح أي من أسئلتي الغضبى، ولو من خلال مراوغة سرعان ما ستكتشف مكر مخادعتها لتسدد إليّ نظرة لن أستطيع مواجهة حملقتها أبدًا، وكيف لي بمقاطعتها بعد ذلك، وأي حياةٍ جنائزية يمكنني العيش دونها، موصدة الأبواب على اكفهرار شيخوخة جدتي ونحيب دعائها المتجدد بعد كل صلاة بعودة الغائب نكايةً بكل مكذِب أو ساخر من سقم انتظار لم أشأ أن تسربلني فيه بقية عمري.
متى وكيف وأين بدأت علاقتهما، أي فراشٍ كان أول شاهد على... وأنا أغط في نومي بين جنائن الأحلام، فوق سريري الصغير بمحاذاة الشباك، لا يصدني جدار عن تلاطم أناتها في عباب أشواقه، بلا أن يوقظني أي صوت!.
لا أدري لمَ رسخت تفاصيل عريهما في ذهني على سرير سهدي المضَّنى؟ يتسلل كاللصوص متلفتًا وراءه بعد نومي وجدتي المبكر، تنتظره عند عتبة الباب الداخلي، تغلقه سريعًا وفي هدوءٍ شديد وراءه، مع جلبابها تنزع عنها كل هاجس وتوجس أو ذكرى تحرمها استنشاق لذة قبلة من قبلاته ثائرة الشوق منذ... منذ هذه أكثر ما دوَّت في رأسي بمجونٍ شيطاني، رغم كل تعوذ تعلمته من الجدة مدمنة التسبيح والاستغفار، والحقد على كل حياةٍ تبدأ بعد رحيل ابنها، كما تردد أمي في حنقٍ على اضطراب عقلها.
"وكأني المسؤولة عن فقدانه وقضائها العمر منتحبةً عليه، ماذا أرادت، أن تأخذ رقبتي معها إلى مشنقة الشقاء غير المنتهي؟...".
كانت تننظر عودته هو، لا عودة أبي؟! بعد سفر سنوات عاد منه بحالٍ غير حال الفقر الذي أذبل حياته الماضية ودفعه لهجر كل شيء، ربما أمي أهم من هجر، جدتي ظلت تحكي عن اقتناص الثعلب ـ كما تمتعها تسميته ـ للفرصة فيما أبي وغيره ينضحون سنوات شبابهم في سعير نيران لم تمس شعرةً من رأسه.
فكرتُ أن أشتري دفترًا صغيرًا، ليس دفتر خواطر وإهداءات، ملصقات وصور، ورسوم رومانسية بلهاء، تقليدية وغير صريحة، تثقل أغلب صفحاته حمرة قلب أو قلبين متقابلين يخترقهما سهم الحب، بل لأدون فيه أفكاري، أمزق خيوط شِباكها قدر الإمكان، لعلي ألمح سبيلًا ينقذني بصيص نوره ويقود خطواتي إلى الحقيقة المؤكدة قبل أن يمضغني الضياع، وأرتب أسئلتي المتوالدة من رحم الريبة، كل سؤالٍ شجرة مثقلة بأغصانٍ غليظة تتمدد مع رمش اللحظات لا الدقائق، لكني وجدت تسطير تحيُري المشتت في ترامِ جذوات أخيلتي الهوجاء سيزيدني ارتباكًا وتيها، فاستعضت عنه بورقة رسم مقواة بيضاء، كتبت فيها الحرف الأول من اسم كلٍ منهم وأحطته بدائرة فاقعة الحمرة، وكأني أرسم مثلثًا، اسم أمي يتمركز في قمته واسم كلٌ من زوجيها يمثل إحدى قاعدتيه، لم أخط الأضلاع طبعًا، استعضتُ عنها بالأسهم الصاعدة والنازلة، بالقلم الرصاص, كم تعددت وتغيرت اتجاهاتها، ما بين الأنثى الحسناء وصديقيّ العمر، حتى اهترأت الممحاة واهترأتُ معها، فمزقت الورقة في غلٍ شديد من ثلاثتهم على حدٍ سواء، تمنيتُ نبذهم من ذاكرتي تمامًا، أو التعامل معهم كشخصياتٍ سردية في رواية من روايات أمي، أتعجل الانتهاء من قراءتها لفرط ما سرَّبت إلى حياتي من جزع يحتجزها ضمن مثلث الأسهم المترددة سريعة المحو، لكن آثارها تبقى، تمتزج مع خط سهمٍ جديد، سرعان ما ينمحي هو الآخر ليخلِّف أثرًا مضافًا في نقوش بصمات متهافتة، إحداها تود البروز في ذهني بمنأى عن بُهوت الأخريات، ينتهي بي تداخلها إلى متاهة تسخر من شقاء تعثري دون جدوى بين حكاية أو سلسلة من الحكايات، لعل تشابك خيوطها الواهية كان سبب وجودي.
* * *
بيت جدي لوالدتي في أول الزقاق الموازي لزقاقنا، يحاذيه من الخلف بيت العم صاحب، لا يفصلهما سوى سياجٍ واطئ، تحفه من الجهتين الأشجار العالية كثيفة الأوراق، مع هذا هناك ثغرة صغيرة تكاد لا تُرى تسمح بلقاءات، ليلية على الأكثر، لا يفطن إليها أحد.
إلى أي حد تمادت تلك السهرات ـ المفترضة لديّ ـ بين الطالب الجامعي وطالبة الثانوية؟ لمسات دافئة، قبلات سريعة مرتبكة، قد تعلق في عناقٍ، كم تلمظت لعنفه شفتايّ، يخفي نهديها النافرين في صدره العريض، منتفخ العضلات لكثرة المهن الشاقة التي اضطر إلى مزاولتها في سنٍ مبكرة، بينما اشترى جدي، التاجر ميسور الحال، سيارة حديثة الطراز لابنه المدلل فور دخوله كلية الهندسة.
المال كان سبيله إليها، أو لأهلها؟ آه... عدنا للأفلام المحكوكة والروايات مهترئة الأوراق من جديد، ومن الممكن أيضًا ـ تتمة لأحداث تلك القصة المكرورة ـ أن يكون زواج أبي بها الحل الأمثل للتستر على خطيئتها وصديقه الهارب، قبل أي سببٍ آخر و... لا، لا، لا... أنا ولدتُ بعد أكثر من عام على اقترانهما، وإلا لجرجرني خيارها العنيد والمتحدي كل الأقاويل إلى مهاوِ الشك بنَسبي للرجل الذي لا أتذكر عنه شيئًا وبنوتي لرجلٍ مشاعري نحوه متناقضة، أو ضبابية لا يرسو التباسها على حال، رغم تهلل وجهه بكل حفاوةٍ وحنو أبوي كلما وجدني عند أمي، يلح عليَّ بالبقاء لكني أظفر دومًا بحجة، يتواطأ وأمي على تصديقها، تخرجني من الدار بسرعة تؤكد لهما الظن أني أفعل ذلك امتثالًا لوصايا جدتي الملزمة في انفعالٍ وحزم يزيدان من جحوظ عينيها ألا أبقى ما دام موجودًا، خاصةً بعد توديعي مرحلة الصبا، لا أدري أي شيطان عربيد تترصد وسوسته عقل المرأة العجوز التي تشغل جلَّ يومها في العبادة؟.
كنتُ أهرب، أهرب منهما، من اغترابي عن دنيا لا مكان لي فيها، من هواجسي، هوَس أخيلتي المندسة في جنبات نومي والمنهكة يقظتي، من هيجاني في وجهيهما، يلعن حماقة عشقهما الممزِقة حياتي على مدى الثلاثمائة متر، تستنزف أعصابي رغم كل محاولاتي، أو ما أبديه من رباطة جأش، للتكيف مع كل هذه الفوضى التي وعيتُ عليها منذ مغادرة أمي إلى بيت زوجها، مذعنة على مضض لصرامة جدتي الممانعة أخذي إلى عالمها الجديد، فلم تستطع أن تراني إلا مرتين أو ثلاث في الأسبوع، ترافقها إحدى عماتي المتوسطات لها لدى والدتهنّ، بالإضافة إلى تدخل عدد من الأقارب، كانت تدخل غرفتها وتغلق بابها عليها، بعد أن ترمق أمي بنظراتٍ مشمئزة دون نطق كلمة، ثم تباغتنا بخروجها في هيئة سجانة تعلن انتهاء وقت الزيارة، لا تأبه لأي توسل أو نشيج، ولا تسمع صرخاتي وبكائي المطوِح بي على الأرض حتى أضيع في هاوية النوم.
ظللتُ أعاندها في كل شيءٍ تقريبًا، لا أرد عليها إلا بعد صرخةٍ تجفلني، أرهقتها كثيرًا وأرهقت نفسي، اتناول القليل من الطعام ثم أهرع هاربةً من صياحها وقسوة نظراتها، أهملت فروضي المدرسية وصرت كثيرة التحجج لعدم الذهاب إلى المدرسة، حتى وصلها إنذار بفصلي فظلت تلطم خديها متحيرةً في ما يمكن أن تقوله لأبي لدى عودته عن زوجته التي خذلته وابنته الفاشلة في كل شيء، لا المدرسة فقط، لم أعد أساعدها في عملٍ من أعمال المنزل رغم كل ما ينالها من إجهاد، وقد طردت عصبيتها وتعكر مزاجها لأبسط الأمور كل إمرأة أتت للعمل لدينا، أغتسل فقط عندما تجرني إلى الحمام جرًا وأنا لا أنقطع عن الصياح والبكاء، أكوِم ملابسي المتسخة في أي مكان وأجعلها تلملمها ورائي، وأغافلها للخروج من أجل اللعب في أي وقت أشاء، يتملكني مكر التلاعب بأعصابها لدى بحثها الفزع عني بينما كنت أرمي بنظراتي صوب بيت العم صاحب، تتمادى المسافة أمامي أميالًا من سخط الحرمان، وإن لم يمر سوى يوم أو يومين على زيارة أمي المقتضبة، كضيف في عجلةٍ دائمة من أمره، تتألم لما أعانيه من هزال وعدم اهتمام بهيئتي، على غير ما عوّدتني عليه، يمسخ ملامح وجهها ذهول مرتاب من تصرفات طفلتها العصبية حتى إزاء اللعب التي تأتي بها إليها، أحطمها في لحظات ثائرة على ابتعادها عني، تخليها عن أمومتها لجدتي التي صارت ترمقني بنظرات الحماة نحو كنتها العنود.
مشاجرة من هوَج مشاجراتنا أطلقت قدميّ مهرولتين باتجاه دارها وزوجها، طرقت الباب الخشبي طرقات قوية متتالية وأنا أجهش بالبكاء، فيما جسدي برتجف ذعرًا، وكأن وحشًا من وحوش أحلامي لا ينفك عن مطاردتي، فتحت أمي الباب فارتميتُ نحوها بسرعةٍ أرجعتها خطوتين للوراء، ذراعايّ التفتا بقوة حول خصرها، ظلت تربت على شعري، تكرر سؤالها المتوجس مما يكون قد حصل، تجيبها شهقات مختنقة تصدني عن أي إجابة، فجأة ظهر من الداخل، بدا لي عملاقًا مخيفًا مع أنه ليس كذلك أبدًا، هيئته هيئة رجل عادي، نحيف قليلًأ ومتوسط الطول، انحشرتُ في جسد أمي أكثر مواصلةً النشيج الحاد، ربما بإشارةٍ منها ترك الصالة لاضطراب انفعالاتنا.
كسرت تلك الهرولة الباكية حاجز الغربة الذي فرضته علينا جدتي وقد اضطرت أخيرًا إلى الاستسلام لمخاوف فقدان حفيدتها أيضًا ما لن تسمح لأمي بزيارتي في أي وقتٍ تشاء، دون النظر إلى الساعة كل حين، إحداهما تدير وجهها للأخرى، أو تتصرف كأنها غير موجودة أصلًا، أما بيت العم صاحب فقد ظل ممنوعًا عليّ ولوجه لأي سببٍ كان، لكني استطعت شيئًا فشيئًا التملص من حزم ذلك المنع أيضًا، بالخفاء مرة وبالتحدي الشرس أخرى، حتى أرغمتها على الخضوع، مجددًا لعنفوان إرادتي المتمردة على وهن كهولة لم أظن إنها ستنهار فجأة وبتلك السرعة، كنتُ أستبعد أن ينال أي مرض من قوتها وصلابتها المستمدتين من شريان الصبر دفق البقاء إلى حين مجهول أدمنت انتظاره.
نقلناها إلى المستشفى بسيارة العم صاحب، وقفتُ مذهولة أمام جسدها المنكمش بين ذراعيه وهو يركض بها من فراشها ثم إلى قسم الطوارئ الذي وقفنا عند بابه حتى شروق الشمس، وكأنها أشرقت في ذلك اليوم فقط لتشاركنا نحيب وفاتها، لم أود التصديق في البداية، مضت علي فترة لا أستطيع تحديدها من الشرود عن كل شيء، تجاوزت أيام العزاء، وأنا أقبع في تفاصيل كل مشادةٍ حصلت بيننا، جعلتني أتمنى الخلاص من سطوة ظلالها القاتمة على حياتي مراتٍ ومرات، وكل موقف عناد أو لا مبالاة واجهتها به، أو سخرية كامنة من جمود حياتها، حتى سيطر عليّ هاجس قوي أني من أسباب موتها، لستُ أنا فقط، من قبلي أمي التي استلبتني منها بالتدريج بعد أن تخلت عن كل شيء ولم تبالِ إلا برغباتها في بدء حياة جديدة خارج بيت الأحزان الكئيب للحاق بزهو شبابها، بكتها كثيرًا، لكني لم أصدِق دمعةً واحدة انحدرت من عينيها، نفرتُ من أحضانها فجأة، جابهتها بنظراتٍ حادة تزدري حنوها، ثم سارعت للاحتجاب في غرفة جدتي، على سريرها الواسع أخذتُ أتشمم رائحتها وأنتحب، تكورتُ على نفسي وتدثرت بلحافها رغم اعتدال الجو، العرق ظل ينز عن جبيني وكأني محمومة، وبمرور الأيام صرت أتلبس شخصيتها، بل أحاول محاكاة هيئتها العجوز بالكامل، مقوسة ظهري وحول رأسي أربط عصبة الحزن السوداء.
تقرر أخيرًا أمر زواجي من ابن إحدى عماتي كحل أمثل ارتضاه الجميع لانتشالي من البئر العميقة التي وجدوني أهوي إلى ظلمائها، قبل أن أكمل دراستي في إعدادية التجارة التي غيبتها عني مواجع الحداد تمامًا، لم أفاجأ برغبته في الزواج مني، كنت أبتهج بتلصص نظراته المبعثرة في ثنايا جسدي كلما زارنا برفقة والدته، رغم ذلك لم تداخل وسامته شبق أخيلتي.
تهلل وجه جدتي، على غير العادة، وهي تخبرني بطلبه واستعجاله الزواج، وأننا سنقيم معها، دون تغير شيء، بناءّ على رغبتها في الاحتفاظ بكل قديم كما تركه والدي، فقط سمحت بشراء أثاث جديد لغرفة نومي التي انتقلت إليها هاربة من خبل ذلك المثلث الماجن الذي يقبع في انتظاري على فراش والديّ ما أن أوصد باب الغرفة أكثر من أي مكان آخر، عارضت أمنيتها تلك بقوة، منتفضة على قراراتها السامية التي تريد أن تخضعني جارية تحت إمرتها لا أفكر إلا بما ترضى عنه ويحظى بمباركتها، وأيضًا تستعين بزوج المستقبل ليمنعني عن رؤية والدتي، لكن بعد وفاتها صارت تلك الرغبة السلطوية بمثابة وصية لا بد لي من تنفيذها، وأيضًا لا سبيل للفرار منها سوى بالذهاب والسكن في بيت العم صاحب، وهذا ما رفضت حصوله بالتأكيد كي لا أقهر روح جدتي في قبرها قبل أي سبب آخر.
تم الزواج دون عرس ولا حتى زغرودة، هذه المرة بناءً على إصراري المعاند تملص عماتي من أجواء الحداد الذي وجدنّ في غلوه طيفًا من حزن والدتهنّ، مما حط على كاهل زوجي محمد مهمة صعبة، محتملًا إرث أحداث مركبة واحتدام أفكار ظلت سارحة في مربع مراهقتي طويلًا، ألزمت عمره الثلاثيني مد حبل التروي على تقلب أهواء ونزق طفلة لم تعتد عيش حياة طبيعية، لكنه استطاع في النهاية، بحنو تشوبه الصرامة، فض ذلك الاشتباك الجنوني داخلي بإقحامي في حياة حقيقية، حياتي معه، بعيدًا عن استعباد عالم الأخيلة وطعن الظنون، كما أخذ يردم هوة الجفاء مع أمي بعد قطيعة أقسمت عليها بروح جدتي ووالدي، ومن ثم تقبل فكرة حملها أخيرًا، استعنت بكل ما لدي من شجاعة وحضرت مخاض الولادة المتعسرة وقلبي ينتفض من هاجس فقدانها هي الأخرى، فكنت أول من يحمل وليدها، أخي الصغير، أكبر من ولدي بنحو عام لا أكثر، صارا في ذات المدرسة، من ينظر إليهما يخالهما شقيقين وهما يلعبان الكرة ضمن ذات المسافة التي كنت أخطوها، أو أركضها، يوميًا عدة مرات.
رنين جرس المنزل ظل يتواصل بشكل مستفز، استعجلت أحد الصبيين أن يفتح الباب، وقبل أن يصلهما صوتي من غرفة والدي التي اعتدت تنظيفها كل أسبوع يسأل من القادم أقبلا عليّ بوجهين يتناقلان الحيرة، يتسابقان الكلام عن رجل غريب الهيئة على نحو مخيف، كأنه آت من سفر صحراء طويل، تركاه يقف عند عتبة باب المنزل الخارجي بعد أن أوصداه في وجه إصراره على الدخول إلى بيته، يسأل بما يشبه الهذيان عن والدته وزوجته وطفلة يجمعني وإياها ذات الإسم.
23 ـ 6 ـ 2020 عَمان
*كاتب عراقي