هذا التيه الآسر وتلك الصرخة المدوية العالقة، صرخة الشاعر وهو يحاول لملمة الصورة بكاملها، عن العائلة وصورة الوطن الصغير حين يلتقي الجميع أمام البداهة، هكذا يكتب الشاعر المغربي، فتح الله بوعزة نصه الشعري الجديد في حفاظ على خاصية التكثيف للحظة شعرية أرادها أن تشكل ملح اللحظة الراهنة بامتياز.

البئْر

فتح الله بوعزة

 

ملأتُ بئرَ المدينةِ بالأغاني، والغمامِ

ولم تهدأ المرأةُ القادمةُ من آخرِ الدّخانِ

المرأةُ التي شقّتْ بُطونَ الحرائقِ الْبعيدةِ

وأخرجتْ منها لهاثَ البحّارةِ الضّائعينَ

وغرْقى يغْسلونَ حافَةَ النّهرِ

من هرجِ الرّمادِ

ومن خدرٍ لذيذٍ

زيّن للموتى أن يزْرعوا

غيمةً، أو دمْعتينِ

بين عمى الرّكبانِ، وبابِ الخروجِ

هذا أبي، بعباءتهِ البيضاءِ

يصْغي إلى الحياةِ بانتباهٍ شديدٍ

وتلك أمّي

بِمغزَلِها الفضّي

تديرُ الأرضَ نصفَ دورةٍ

وعيْناها على سرّةِ البرْكانِ

هذا عمرُ ابنُ الجيرانِ

ومحمود راعي الغزلانِ

 بين العَرباتِ الحرْبيةِ

والمهدي حارسُ المدائحِ القديمةِ

والنّسوةُ اللائي ورَّثَن آخرَ الصابرينَ

 كتابَ الْمراثي

واخْتلينَ بساقيةٍ، وصبحٍ بعيدٍ

 كلّهم، جاؤوا إليّ يحْملونَ أشجارَهمْ

والضّبابَ الذي حفظ العواصمَ القديمةَ

من غرقٍ مبهمٍ، ولذيذٍ

 

تلك البئرُ كانت ثقْبا صغيرا

في لِساني

وانْزلقتْ إلى حاشيةِ الطّريقِ

ونامتْ بين موّالٍ، وغرْبتينِ

تلك البئرُ لا ماء فيها الآنَ

ولا صَبايا حوْلها

يسْتبقْنَ الأيامَ مثل دقّاتِ القلْبِ

 ضاحكاتٍ، غامزاتٍ

لا أنبياء يرْشدونَ الْعابرينَ

إلى حشْرجةِ التّرابِ

ولا مشّائينَ يدلّونَ حناجرَ الصّحْبِ

على فُلولِ المٌغرَقينَ

تلك البئر كانت فَمِي

فمي الذي سهوتُ عن بخارهِ

حينَ صرخْتُ!