1
من اللاذقية إلى مطار دمشق إلى مطار صبيحة في إسطنبول، دفعة واحدة، وصلت مرهقاً. لم أكن قد نمت جيداً في الليلة الفائتة، بعد أن اتصلت بلوزية لأودعها، فردّ رحيم، وقدّمت نفسي فلعن أبي وأمي وأجدادي وهددني بقطع عضوي إذا اتصلت ثانية. عليّ أن أنتظر تولاي في الترانزيت أربع ساعات، وكان يمكنني أن أوفر نصف هذا الرهق لو سافرت من مطار دمشق أو مطار بيروت إلى الرباط. لكنني أردت أن أكون مع تولاي أكبر ما يمكن من الوقت، وأن ندخل معاً إلى بني عمار والمهرجان، دخول صديقين، أي عاشقين، وليسا زوجين كما لو كنت مع لوزية.
حين أقبلت تولاي كنت أتمطَّى بعد غفوة طويلة على مقعد للمسافرين. تولاي تزداد طولاً وامتلاءً، وشعرها يزداد سواداً، من لقاء إلى لقاء. طوقني ذراعاها وهصراني، و.... وما هذا يارب؟
بدت القبلة الأولى بلا نهاية. وبعدما انتهت تلفّتُّ حولي متيقناً من أن ساعات كل من في المطار قد حاولت أن تقيس زمن القبلة الذي لا ينتهي.
ساعة ونصف من الانتظار، تليها ساعات لا تنتهي من الطيران. أغفت تولاي على كتفي وأغفيت على كتفها. أغفت يميني في حضنها ويساري حول ظهرها، وأغفت يسارها في حضني ويمينها حول ظهري.
هذه هي آكياكا، نهر أزماك، قادين أزماك، غابة الصنوبر، امرأة قصيرة ونحيفة، عيناها سوداوان وشعرها أكرد اسمها إيسون، شرفة الجناح 2001 ومَلَس البشرة وأنا مهووس بالصنادل: هذا واحد لك وواحد لصديقك غالي. أنت الآن تتمرغ بنعماء الصندل في الطائرة. مصطفى جيجلي يغني وأرماك أريجي تغني، مانيسا اللؤلؤ الأحمر، مانيسا توركان، أوتيل فيللا فالي وآوتيل آياكا وتولاي القمر المنير، تولاي الهالة التي تزنر القمر، مرمريس مدينة الحب، وتولاي تسأل: ما الحب؟ والحمار عاجز عن تعريف الحب، وإيسون يا تولاي: ألا زلتما عاشقتين؟
2
تضاعفت فرحتي بأن يجمعني المهرجان – لماذا لا أقول: تجمعني الحمرنة والحميرية – بنجمة مراهقتي: نادية لطفي. حدّثت تولاي عن أفلامها التي وسمت مراهقتي (لا تطفئ الشمس – النظارة السوداء...)، وما أسرني منها كبيراً: (السمان والخريف – قصر الشوق..). حدّثتها عن نادية في فيلم (بديعة مصابني)، وعن بديعة نفسها، عن نادية وعبد الحليم حافظ في فيلم (أبي فوق الشجرة)، وكل ذلك قبل أن أراها عن قرب.
لم تخفَ خيبتي على تولاي التي أنكرت مثلي على نادية لطفي أن تعتزل الفن. وسخرت تولاي من سذاجتي في الخلط بين الشاشة وساحة سباق الحمير في هذا المهرجان، كما سخرت من ذكوريتي التي تسجن المرأة في عمر معين، وتنكر عليها حقها في الكِبَر، واقترحتْ أن أقارن بين كارم في العشرين وكارم اليوم.
لم تكن السينما وحدها موضع إعجابي بنادية لطفي، بل كان انتسابها إلى جمعية الحمير المصرية. كنت أعلم أن هذه الجمعية قد أسسها عام 1930 وترأسها مدى حياته الفنان الكبير زكي طليمات. كما تابعت اللغط الذي دار حول الاشتباه بعلاقتها بالماسونية. وكثيراً ما شبهت زكي طليمات أمام أبو عمر أو غالي ومنصورة أو غيرهما بالرؤساء العرب الثوريين المعاصرين المتأبدين. لكنني لم أكن أصدق أنه رحمه اللـه هو من أوصى بأن ترأس الجمعية نادية لطفي من بعده. وبينما صفق الجمهور لها عندما ذكرت ذلك في الجلسة التي خصصتها إدارة المهرجان لها، تماثلتْ لي على المنصة بديلاً من صور أبناء الرؤساء العرب الثوريين الذين هيأهم آباؤهم للوراثة، ولم يفلح منهم إلا السوري.
قالت نادية إنها تدرجت من الرتبة الحميرية الأدني (حرحور) – وشرحتْ: أي الجحش الصغير – إلى حمار ببردعة أو حامل البردعة. وفي رأس السلم الحميري تأتي رتبة الحمار الأكبر.
في محاضرتها أو ندوتها خطر لي أنها كانت تتسلّى وهي تتحدث – مثلاً – عن الإله ست، إله الشر والليل والعواصف في الديانة المصرية القديمة، والذي ظهر على أحجار مقابر الأسرة الأولى بأرجل طويلة، وآذان طويلة، وذيل قصير، شبيهاً بالحمار. وقد ضحكتُ عالياً وضحك الجمهور أعلى عندما ذكرتْ أن أحد أعضاء جمعية الحمير كتب إلى رئيس الجمعية مهنئاً بالعيد: أرفع خالص نهيقي أيها الحمار العزيز، كل عام وأنت بخير. وتكرر الضحك عندما ذكرتْ نادية لطفي أن رئيساً للجمعية كتب إلى زوجته مرة: السيدة الحمارة حرمنا: برجاء تسليم الأكفان الموجودة لحامله، مع خالص نهيقي.
نحن مضحكة يا سيدتي: قلت لها في سري طبعاً. وصرت كمن ينتزع الكلمات انتزاعاً وأنا أترجم لتولاي حديث، بل تسلية نادية عن فضل الحمار منذ سنة 1900 في اكتشاف المقابر الفرعونية في كرم الشقافة، حين سقط الحمار في الفتحة الرئيسية للمقبرة على عمق يزيد على عشرة أمتار، وأثناء البحث عما أسقطه اكتُشفت المقبرة. أما مقبرة توت عنخ آمون في الأقصر، فالفضل في اكتشافها للحمار الذي كان ينقل جرار الماء للعمال، إذ دخل في الوادي وخلفه الصبي، وتوقف في مكان ظليل بعيداً عن العمل، فأخذ الصبي يمهد الأرض ليضع عليها الجرار، وإذا بالدرجة الأولى إلى المقبرة تفتح ذراعيها مرحبة. وفي أمس قريب – أضافت نادية – اكتُشف وادي المومياوات الذهبية بفضل الحمار. وختمت بأغنيةٍ طازجة سوف تسمعونها قريباً، منها: يا عين ابكي حمار كان له أكيد فايدة/ طيب صبور يحتمل حتى لو نار قايدة/ كان كل شغله بضمير ويشيل حمول زايده/ ويارب تاخد حمير راكبين على دماغنا/ ونهبوا خير البلد وباعونا في مزايده([1]).
قلت لتولاي: لهذه الممثلة أسماء عديدة، فالتفتت متسائلة، فعددت: هي سمت نفسها: الوحش الكاسر، ومطربنا النجم عبد الحليم حافظ الذي نودي بالعندليب الأسمر، سمّى نادية لطفي: العندليبة الشقراء. ومن أسمائها أيضاً: ليدي السينما المصرية، نجمة الأفلام الكلاسيكية.
وعلى عشاء اليوم الأول جمعتنا مائدة واحدة. بالطبع كان علينا أن نفتح آذاننا جيداً لتسمع، وأن نفتح عيوننا جيداً لتنبهر. ورغم ذلك فاتنا كثير من كلام النجمة، نحن الجالسين في الطرف الأبعد من الطاولة. ومما ترجمتُ لتولاي: ضبطُ مئات الحمير المذبوحة في القاهرة عشية عيد الأضحى، العثور على هياكل عظمية لعشرات الحمير في تخوم الصحراء، ألف حمار أعمى أو أعور أو أعرج أو ما أحلاه بصحة وعافية، تذبح سنوياً لإطعام أسود حديقة الحيوانات، والقانون المصري رقم 57 عام 1966 يعاقب على القسوة على الحمير. وروت نادية أن الشيوخ أفتوا بالسماح بأكل لحم الحمار، ولكن الحمار الوحشي وليس العادي. كما ذكرتْ أن شركة كوماهو اليابانية لصناعة الأدوية طلبت مليون حمار بنصف مليار دولار، بعدما أكدت أبحاثها أن جلد الحمار المصري السميك غني بالمواد التي تريدها الشركة – أين أنت يا منصورة تعالي اسمعي – وعرضت الشركة إنشاء مزارع لتسمين الحمير، وإقامة مزارع للتماسيح فيها، يجري إطعامها من لحوم الحمير، ويتم تصديرها إلى فرنسا حيث الطلب بأعلى الأسعار.
تناولتْ كأس الماء، وشربتْ نصفه بأناة، وابتسمت وهي تمسح شفتيها ثم تابعت: لابد أن بينكم من سمع بالإيجياو. النساء خصوصاً. أكسير الشباب الصيني الذي كان مخصصاً للأسرة الملكية قديماً. من أين يأتي الإيجياو؟ من أين يأتي هذا الإكسير؟ من جلود الحمير. الإيجياو عزيزاتي، أعزائي، هو مادة جيلاتينية خارقة، ومن أجلها انخفض عدد الحمير في الصين من 11 مليون قبل ربع قرن إلى (7– 8) ملايين الآن. من أجله تكاد الحمير أن تفنى، لذلك أوقفت النيجر تصدير جلود الحمير، بوركينا فاسو أيضاً. وفي مالي والسنغال وغانا وأوغندا وتنزانيا منعوا استخدام جلود الحمير في المنتجات الصناعية. في كينيا فتحوا مذبحاً للحمير كي يلبوا الطلب على جلودها. في جنوب إفريقيا تضاعفت سرقة الحمير أضعافاً بسبب ازدياد الطلب على جلودها. والأمر ليس وقفاً على إفريقيا وحدها. الصين تسعى لشراء حمير العالم كله. الإيجياو منشط جنسي، معالج للأرق، منشط للدورة الدموية، أما الأهم فهو أنه يمنع ظهور أعراض الشيخوخة، ويجعل البشرة تبهرك كأنها الشمس، كأنها بدر التمام في ليالي الصيف.
3
ذكرتني بني عمار بنيبالين حين كنت حماراً صغيراً – يحمور: كروم العنب والتين والزيتون، الحارات المتربة، الأزقة الضيقة الصاعدة، الحمير. لكن شمس بني عمار حارقة في عز الصيف وعز النهار.
هنا يحدثونك عن حزب الحمير المغربي الفيسبوكي، عن المطالب الحزبية للحمير: إيقاف المجازر التي تؤمّن طلبات صناع النقانق الحميرية، أي النقانق الشعبية، التعويض عن مشاق العمل في المناطق النائية والجبلية([2])، تأسيس إذاعة حمارية إسوةً بإذاعة النهيق الكردستانية العراقية التي تفتح البث وتختمه بالنهيق.
قبل الظهر ضعنا وسط من احتشدوا لمشاهدة مسابقة أجمل حمار وحمارة. فاز الحمار ذو الرموش القتّالة والحوافر اللامعة والجلد الحليق المعطر والمشية المختالة. وعلى الرغم من أن تولاي صفقت بحرارة للحمار الفائز، إلا أنها أجبرتني على أن أترجم احتجاجها على التحيّز الذكوري للجنة التحكيم ضد الحمارة. لكن أحداً لم يأبه للاحتجاج، بل إن الاحتجاج أضحك بعضهم وبعضهنّ.
أصرّت تولاي على أن تقرأ شهادة التقدير المكتوبة بالعربية والفرنسية. كررتْ الاحتجاج كما كررته بعد إعلان نتيجة مسابقة الحمار الأكول، ومسابقة الحمار الأكثر هزالاً وضعفاً، لكنها لم تحتج بعدما تابعت بحماسة سباق السرعة، وإن تكن قد حاولت أن تتأكد من تطبيق الشروط: يركب الحمار المتسابق فتى لا يزيد عمره عن ستة عشر عاماً، الضرب بالعصا أو النخز بأية أداة ممنوع، تحفيز الحمار بالضرب بالرجلين على خاصرته: ممنوع، وممنوع الشتم. لكن الجوائز قليلة، فماذا يساوي كيس من الشعير أو ألف درهم، لذلك تبرعت تولاي بثلاثماية دولار، وأحرجتني، بل أجبرتني على أن أتبرع.
4
في مطار سلا في الرباط أمرت تولاي: نستأجر سيارة لمدة عشرة أيام. يا تولاي: هنا المسافات بعيدة، القطارات أفضل ومتوفرة. يا كارم: السيارة تسمح لك بالفرجة أكثر من القطار، معنا أسبوع بعد المهرجان، لن نهدأ، أريد أن أرى المغرب الذي سحرتني قراءاتي عنه وأنا صغيرة. سنتناوب على السياقة. وفي مكناس اختارت السيارة أن تقف أمام أوتيل واكي، وأمرت تولاي: نحجز جناحاً لتكون لكل منا غرفته. حماري العزيز: لا يمكن أن أغفو إلا إذا كنت وحدي في الغرفة، وأنت؟
أنا متعود على الوحدة طوال عمري. لوزية هي أول امرأة تشاركني الغرفة طوال الليل.
للوهلة الأولى أجفلني أمر الجناح. هل هذا كل شيء: قبلة في مطار إسطنبول والالتحام في الطائرة؟ لكن أملي تجدد عندما خاطبتني لأول مرة: حماري العزيزي. ليكن ما تشاء. ليس من الضروري أن ننام في غرفة واحدة. وتحول أملي إلى يقين عندما رأيتها شبه عارية وحافية من باب غرفتها إلى الحمام، وعندما خرجت عارية مبللة وضاحكة.
أطلت المقام في الحمام وأنا أغالب شهوتي. ولما خرجت رأيتها قد ملأت كأسين من نبيذ سيدي إبراهيم، وكانت في المطار قد أمرت بشراء زجاجة منه، وزجاجة من شاتوروسلين مكناس وزجاجة من دومين دولا زوينا مكناس، وختمت الأمر السامي بقولها: لا أذهب إلى بلد قبل أن أستطلعه جيداً. سيدي إبراهيم تعرفت عليه في باريس، وصداقتنا مكينة. يقال مكناس بلد النبيذ. سنرى.
وسط الكنبة العريضة في الصالون شعّت بقميص شفاف أبيض يعري كتفيها وذراعيها، ويكاد يعري ثدييها وفخذيها. قالت إنها طلبت العشاء، وشربنا، وأكثرنا من الشرب. انتهت زجاجة سيدي إبراهيم، وبدأنا بزجاجة الشاتو، وأكلنا، وأكثرنا من الأكل، وسرتْ بي حمّى من النشاط والشهوة كأني لم أقض ثلاثين ساعة من السفر. وبدت تولاي أوفر مني نشاطاً وأكثر شهوة، لكنها عندما حان الحين أمرت: حماري العزيزي لا ينبغي أن نكون في ليلتنا الأول مرهقين، بون نوي.
5
في جلسة (حمار من فلسطين) تطوع أحمد إبراهيم الفقيه بأن يترجم لتولاي ولماريو إلى الإنكليزية، لذلك انتحوا جانباً من الصف الخلفي، كيلا يزعجوا أحداً، وجلستُ في الصف الأول بجانب عبد الستار ناصر.
بدأت للّا فاطمة الزهراء بقراءة رسالة فلسطين. وسرعان ما وجدت نفسي مستهاماً في دنيا أخرى: فضاء لا نهائي وحبيس في آن معاً، خضرة زاهية ويباس، صحراء وبحر ليس لبحر مثل زرقته ولعبه، حمير وعساكر مدججون، وكل ذلك في آنٍ معاً.
كان الشيوخ الذين ذكّروني بأبي وصديقه المختار، رحمهما اللـه، قد أسسوا جمعية التيوس الفلسطينية في القدس. كانت دولة إسرائيل قد قامت للتو. كانوا أطباء وصيادلة ووزراء، وقد ترأس الجمعية رئيس الوزراء، وطاولته تتوسط كيسين من الشعير والكرسنّة. على العضو الجديد أن يلهف حفنة من الكيسين، ثم يبدأ بالمأمأة، فالنحنحة، فالحبو على القدمين واليدين، إلى أن يتم قبوله.
ترددتْ في القاعة الصغيرة الحاشدة ضحكات مكتومة، ورأيت عيوناً فاض دمعها. وتبدل صوت للّا فاطمة الزهراء وهي تقرأ ما في رسالة فلسطين عن تفجير عربة يجرها حمار في موقع عسكري إسرائيلي في جنوبي قطاع غزة. ثم أوجزت الرسالة عن التفجير عن بعد لقنبلة ملصقة بحمار، على الطريق بين جنوبي القدس والكتلة الاستيطانية غوش عتصبون.
دوت القاعة بالتصفيق، ثم عادت الرسالة الحمارية الفلسطينية إلى الماضي، فتحدثت عن سوق جبع جنوب جنين، حيث كان الحمّرجي، أي مهندس الحمير، يهيئ للحمار البردعة والحوافر والرسن قبل أن يبدأ المزاد. وبينما كان الحمار الصغير يباع بمئة دينار أردني، قبل أربعين سنة، كان الحمار المسن الأسود يباع بعشرين، بينما يتراوح سعر الحمار الأبيض القوي بين مئتين وثلاثماية دينار.
من جبع وجنين انتقلت الرسالة إلى نابلس التي يتراوح سعر الحمار فيها بين 300–400 دينار، أي 450–600 دولار، أي 1800–2400 شيكل. وشرحت الرسالة أن نابلس تقع على السفح بين جبلي عيبال وجرزيم، وأن الحمار وحده من ينقل مواد البناء في الأزقة الجبلية الوعرة، وصاح صوت: مثلنا هنا في بني عمار. وتابعت للّا فاطمة أن كيس الإسمنت أو كيس الرمل ينام على ظهر الحمار الذي يحمل مئة كيلو ويصعد ثلاثماية درجة، لذلك يجب أن يكون ظهره صلباً وعريضاً، وأن يكون صدره كبيراً، يعني حمار قبرصلي، وأجرته أقل من أجرة الرافعة الصغيرة التي لا تستطيع أن تتجاوز منطقة البلد والسوق. أما إذا التقى حمار صاعد بحمار نازل أدى المهمة – ويندر أن يحدث ذلك – فالأقرب إلى بسطة الدرج يعطي الأولوية لزميله.
أثناء الحصار الإسرائيلي لنابلس، وحده جحفل الحمير الذي أربى على ألفي حمار، كسر الحصار، ونقل المسافرين العجائز والبضائع، وضاعف الحمّرجي الأسعار عشر مرات، وأحياناً عشرين مرة، وهو من لا يتوقف موبايله عن الرنين: حجز مسبق.
تستيقظ نابلس مبكراً على أصوات الباعة القادمين من سوار المدينة، يسوقون حميرهم المحملة، ومن الحمير من لقبه: الذكي، ومنها: الشنتويل، ومنها: أبو سمرة. وعندما ذكرتْ للّا فاطمة اللقب الأخير، ترجّع في سمعي صوت محمـد قنديل يغني: أبو سمرة السكرّة/ أبو ضحكة منورة/ النهار ده فات وعدّا/ ولّا لسه يا ترى/ أبو سمرةَ ما بيستنّاش/ هيّ دايماً سكتّه/ نظرة واحدة من عيونه/ قلبي يرضى بقسمته/ دم وخفّة/ زوق وصدفة/ النهار ده فات وعدّا/ ولّا لسه يا ترى.
يبدو أن الأغنية قد فوّتتْ عليّ من الرسالة قدْراً، فلما انتبهت كانت للّا فاطمة تتحدث عن مستشفى للحمير أسسته البريطانية لوسي فيتسوم بعدما صادفتْ في رحلة داخل الخط الأخضر حماراً لا يقوى على السير، فنقلته إلى لندن بجواز سفر، وعالجته، ثم شرعت بتأسيس الجمعية البريطانية لحماية الحمير الفلسطينية والعناية بها. واستقبل الحمير مشفاهم مع فجر القرن الحادي والعشرين. وهنا غّصت للّا، فرشفت من كأس الماء ببطء، بينما علا صوت من القاعة قائلاً إن عيادة حميرية في البتراء الأردنية، وما أدراك ما البتراء. وهمت للّا بالكلام فَبُحَّ صوتها أو شرقت بريقها فعادت إلى الكأس بينما تابع الصوت: بسبب الحمولة الثقيلة يصاب الحمار بجراح في الحافر. أحياناً يصاب بالعرج لسببٍ ما في الحافر. أحياناً يصيبه المغص بسبب ما يتناول من البلاستيك في الزبالة. أحياناً تكون البلوى بالذباب على جرح مفتوح، أو تكون بفقر الدم بسبب التغذية الفاخرة. وسرت همهمة في القاعة، وأشارت للّا بكفها مراراً كأنها تأمر بالسكوت وتشكر صاحب الصوت. ثم تابعت: في المستشفى الفلسطيني البريطاني لكل مريض خانة من الخانات السبع، غرفة العناية المشددة، العمليات الجراحية، والآن سيداتي سادتي نقدم لكم الحمارة المسنّة التي كُسِر مفصلها فتخلى عنها صاحبها، فآواها المشفى وعالجها وسماها ميليسا. ولما اكتُشف أنها حامل في الشهر التاسع اكتملت الفرحة، وتبناها المشفى مدى الحياة شأن الحمير التي تخلى عنها أصحابها.
التفتّ خلفاً إلى تولاي، وإذا بكرسيها فارغ. وتوهني غيابها عن ختام الرسالة بذكر أرييل شارون ومحاكمة مجازية له([3])، وبمقالة عنوانها (حمارنا والفساد) يحضر فيها الحمار جلسة للمجلس التشريعي الفلسطيني، فيرفس المفسد، والرفسة تتناسب طرداً مع حجم الفساد، بينما يقف الحمار باحترام أمام الشرفاء([4]). ووقفنا جميعاً باحترام للرسالة الحميرية الفلسطينية، وصفقنا طويلاً وعالياً.
6
ما كنت أخشاه عندما دعينا إلى عشاء (رسمي) قد وقع، فالعشاء طال، ولهفتي على الانفراد بتولاي تضطرم. ولأن العشاء طال، والمدعويّن كثر، توزعنا إلى مجموعات تتقارب رؤوسها وتشتبك أصواتها، وكنت مع تولاي في المجموعة التي يقودها أحمد إبراهيم الفقيه. غداً هو من سيدير في الجلسة المخصصة للتراث الحميري، أي للحمار في التراث.
كنت أحسب أنّي مستودع الأخبار الحميرية العربية. لكن أحمد إبراهيم الفقيه ضيّعني وضيّع مستودعي. عن اليمن – مثلاً – ما كنت أعلم إلا أن جمعية الحمير اليمنية الأدبية قد قامت فيه للتو. قال أحمد إن الأدباء المنتسبين لهذه الجمعية أعلنوا استحمارهم على المجتمع، وجعلوا مقر الجمعية في حظيرة للحمير. وعن الحمير في السعودية قال إن مركز العناية بالحمير في القطيف يعيد للحمار الأبيض لونه الذي سوّده الوسخ، والغسيل يكون بالليفة والشامبو، وما أحلى النهيق أثناء الحمام. ولمن يرغب خدمة تقليم أظافرك، أي حوافرك، بالمبرد. وبأسلوبه الساحر في الحديث سألنا: من منكم رأى الحمار إبليس؟ من ركبه؟ من أصلح عطلاً فيه؟ من استأجره في طفولته أول أيام العيد؟
بعد أن أجبنا بالجواب الذي ينتظره، أقسم باللـه العظيم ورسوله الكريم على أنه قد فعل كل ذلك، فضاعف عجبنا وتشويقنا واستنكارنا. ثم روى أن حمار إبليس هو البسكليت في مدينة بريدة السعودية، حيث يسمونه السيكل. وكانت هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في المدينة، قبل ستين سنة، تمنح من لديه السيكل رخصة تحدد مساره. وبدأ ينغّم صوته ويلاعب أصابعه وعينيه قائلاً: صدر السماح للمدعو أحمد إبراهيم الفقيه باستخدام حمار إبليس، أي باستعمال السيكل أي الدراجة الهوائية، للضرورة، من بيته إلى الدكان. عدا ذلك فلا يكون له رخصة إلا بشغل لوالده. وتم السماح بشرط أن لا يخرج عليه بالليل، ولا خلف البلاد، ولا يردف عليه، ولا يؤجره، ولا يدخل عليه وسط الأسواق. وقال الراوي إنه تعهد بالّا يحمل على حمار إبليس الطيبات كالخبز والحنطة والشعير. وقال إن النساء كن يغطين وجوههن من هذا الحمار اللعين، كما كان الرجال يتعوذون من الشيطان الرحيم إذا صادفوه. وكان صاحب هذا الحمار يُعامَل معامله الداشر، والداشر هو المدخّن. وما كان يخالط صاحب الحمار إلا دشير القوم، أي شرّابة التتن.
مع إنتهاء العشاء كان الرهق قد تمكّن مني، ربما لأنني كنت أستعين على العشاء بكرع النبيذ كرعاً. ولم أكن قادراً على قيادة السيارة على الرغم من إلحاح تولاي التي يبدو أنها هي أيضاً قد غبّت من النبيذ غبّاً. وفي الأوتيل تسابقنا في التثاؤب. ولما سبقتني في النوم بدأت أتحرر من النبيذ والرهق والنعاس، وبدأت أصحو على أن ليلة أخرى ستنقضي دون أن يكون لي من تولاي حتى قبلة.
7
لم أغف إلا بعد أن وعدت نفسي بتولاي في الصباح. لكن ما كانت عليه من برود أنساني الوعد. وسرعان ما استغرقَنا المهرجان، ابتداءً بالحملة العلاجية لجمهرة من الحمير، وتولاي تسأل عن كل تفصيل: كدمات على هذا الحمار، انتفاخ على هذا الحمار الحامل وعلى هذه الحمارة غير الحامل، سكّر مع الأيودين على شاش طبي وقطن أبيض ليُحشى هذا الحافر، ثم: لفافة من هذه القماشة البنية السميكة، لفّي برفق. بعد ثلاثة أيام ترفعين اللفافة، وهذه علية فيتامين هوف ميكر خاص بالحافر، لكن أيّ حافر؟ البني آدم أو البني حمار؟ بالشفاء إن شاء اللـه. وهذا الطبيب يبخّ هذا الحافر بخل التفاح. لماذا؟ هذا المنكاش لماذا؟ هذه الفرشاة لماذا؟ هذه التقرحات على ظهرك يا حبيبي ويا أخي موجعة، أعرف أنها موجعة، ولكن اصبر يا أبو صابر إلى أن يأتي دورك. لا تقلق. المعالجة المهرجانية الحميرية متواصلة حتى تبدأ الجلسة الأولى.
تولاي تتخلى عني وتلازم الطبيب، وما كنت لأتبعهما ذليلاً، لولا أن حديث الطبيب البلبل بالفرنسية قيدني: إذا وقع الحمار ورافسَ فسوف يموت خلال ساعة، وهذا هو مرض أبو ملعون. إذا تهتّك جلد الحمار فوق العمود الفقري بسبب الأحمال بدون بردعة، فسوف يلتهب، يتقيّح، يفور بالدود والذباب. والعلاج يا دكتور؟ تسأل تولاي فيجيب متعالماً: الدهن بالقطران إلا إذا دوّد، ساعتها نرش الفينك أولاً وبعده القطران. أما عين الحمار يا مدام فقد يجرحها عود فيسيل الدمع، وتنغلق، ويعجز الحمار عن فتحها، والعلاج يا دكتور؟ تسأل تولاي فيجيب متعالياً: ماء وملح يا مدام في العين المصابة حتى تشفى.
كنا نكاد نتجاوز مقهى الحمير عندما لمحت للّا فاطمة الزهراء جالسة وحيدة في عمق المقهى. لوحتُ فردتْ التحية بأحسن منها، فتركت تولاي والطبيب ومضيت إليها، وجلست بلا استئذان، لكنها رحبت بحرارة، وكانت صور مبعثرة أمامها إلى جانب فنجان الشاي.
حضر النادل وطلبت الشاي بينما أخذت تجمع الصور قائلة:
- هل حضرت مهرجان عيد الحمار في فرنسا؟
- لا.
- أنا كنت فيه هذه السنة.
قالت وهي تناولني الصور، وتابعتْ بينما كنت أتفرج:
- يُقام المهرجان في (مارية)، بلدة صغيرة كما ترى، مثل هذه البلدة وبعيدة، شمال باريس حوالي مئة كيلو متر. شارك في المهرجان مائتان وخمسون حماراً وحمارة، والزوار بالآلاف، أكثر بكثير من زوارنا هنا. لاحظ الحمار بالأسود، لاحظ الحمار الأبيض، هذا مصري.
واقتربت وهي تشير إلى الصور:
- هذا الحمار قبرصي، وهذا إيرلندي، هذا البوربوني، وهذا الأندلسي. كلها شاركت في مسابقة أجمل حمار. بعد المهرجان ذهبت مع أسرتي إلى جزيرة ريا. شاطئ ساحر، والحمار فيها يرتدي البيجامة. لا تقل إنك لم تسمع بهذا من قبل.
- سمعت. وما سامع كمن رأى. تقصدين حمار بواتو؟
- حمار بواتو، ما أحلاه بالبيجامة الحمراء والزرقاء. حمار ضخم وشعره طويل، كانوا يحمونه بالثياب من الحشرات عندما كانت الجزيرة تضيق بالمستنقعات الملحية. الآن كله في خدمة السياحة.
أعدت الصور وقد أبهرني سطوع أظافرها فاسترقت النظر من وجهها، وتعثرت برموشها الفاحمة الكثيفة الطويلة، وقدرت أنها اصطناعية، لذلك فررت منها فتعثرت بغرتها البيضاء، ولم أكن قد لاحظتها من قبل، وكاد لساني أن يفلت مني ليسألها أين كانت تخبئ الغرة، وما سرّها، لكن هاتفي رنّ، وجاء صوت تولاي يسأل أين اختفيت، ويذكرني بأن الجلسة قد بدأت، فذكّرت للّا فاطمة، وانطلقنا في سباق إلى القاعة.
جلسنا حول تولاي في الصف الأخير مقابل باب الخروج. كان مدير الجلسة – الشاعر والكاتب العراقي عبد الستار ناصر يقول: حمار عويّد الأعمى رمادي، هزيل، موشّم بسخام الأرصفة. كانت لهذا الحمار وقفاته القصيرة عند منعطفات أزقّة الناصرية، وذيله لا يهدأ ليهش الذباب المكوّم دوماً على جراحه. حمار عويّد يجر خزان أخضر طويل مليء بالكاز، يدور من شارع إلى شارع ومن حي إلى حيّ، يحفظ بيوت الزبائن على ظهر قلب، يميز التنكات الفارغة، وقد يرفسها إذا أزعجه الأولاد الذين يتحلقون حوله. تملأ حضرتك بنفسك وعاءك وتسلّم الثمن لعويد المتربع على عرشه: حافة الخزان على وسادة وسخة. ينهض عويّد الأعمى في الفجر، يقطع الجسر على الفرات إلى الكازية، يملأ الخزان ويبدأ العمل حتى قبيل الغروب. يسبق الحمار أذان المغرب، بالنهيق. لكنه في ذلك اليوم لم ينهق، وعبود مقرفص يبكي أمام باب داره ويندب: مات حمارك يا عويّد([5]).
بدا التأثر قوياً على محيّا وصوت عبد الستار. وبعد صمت تابع: أعتذر عن الإطالة، خصوصاً أن حكاية حمار عويّد الأعمى لا علاقة لها بموضوع هذه الجلسة وهو (الحمار في التراث). والتفت إلى جاره مبتسماً: والدكتور أحمد إبراهيم الفقيه ابن ليبيا البارّ، خير من يتحدث في هذا الموضوع.
تركت الفقيه يتدفق فوراً، وهمتُ مع صوت أبي رحمه اللـه أقرب إلى الهمس والنشيج وهو يدندن: للناصرية بو چناغ خذني وياك للناصرية/ وتعطش واشربك ماي باثنين إيديّه. وسمعته يكرر للمختار ولأمي مراراً أنه يفضل أن يسمع الأغنية من انطوانيت إسكندر على غيرها، لا مائدة نزهت ولا لميعة توفيق. ولما انتبهت من سهومي كان الفقيه يقول: في الحمار خصلتان جديرتان بأن تكونا ممدوحتين، وهما: الصبر على المكاره، وبقاؤه في مكانه حيث تتركه. ويرجّح الدميري([6]) أن الحمار لم يكن محتقراً عند آبائنا العرب الأقدمين، كما هو محتقر عندنا اليوم، أي على عهد الدميري، ومن بعده إلى اليوم على عهدنا. والدميري يبدع، شهادة لله، حين يتحدث عن الحمار في الأحلام. فإذا حلم أحدكم أو إحداكن بحمار فهذا فأل سعد، إذ يبشر بسفر أو بولادة صبيّ أو بخبر مفرح، وإذا ما ظهر لكم حمار عُزير في المنام، فربما بشّر ذلك بالخلاص من الشدائد، أو بالعودة إلى مفقود. والركوب على الحمار في المنام يبشر بالنجاة من الهم، أما موته أو ضعفه فينذر بفقر صاحبه أو بموته. والحمار الأبيض في المنام زينة لصاحبه. وإذا حلمت بذنب الحمار طويلاً: أبشر بزيادة جاهك، أما إذا كنت في المنام لا تحسن ركوب الحمار، فأنت تتحلى بما لست أهلاً له.
هنا هامستني تولاي محتجة: قبل قليل كان الضعف يبشر بالفقر والموت، ما هذا التخريف؟ ولما عدنا إلى الفقيه كان يحدق في تولاي ويقول: إذا حلمتَ بحمارة، فأبشرْ بامرأة كثيرة الخير وذات نسل. ومن ركب في المنام على حمارة وخلفها الجحش الكركور الصغير، فسوف يتزوج الحالم بامرأة لها ولد. إذا شربت حليب الحمارة في المنام فهذا نذير بمرض، ثم النجاة من المرض. أما إذا حلمت المرأة بحمار فهذا إما بشير أو نذير بأن زوجها سوف يطلقها أو يموت.
تردد في القاعة ضحك وهمهمة، وأتى الفقيه على كأس الماء أمامه، ثم تهامس مع عبد الستار قبل أن يتابع: أنْ تحلم بأنك تأكل لحم الحمار، فهذا مال قادم إليك. من رأى حماره صار فرساً فسوف ينال من حاكم البلاد أُعطية. وإذا سمعتَ صوت حوافر من غير أن ترى صاحبها فالمطر قادم، والحمار متنبئ جوي خبير، ليس مثل من يدجّلون في الإذاعات والتيليفزيونات: إذا تواصل نهيقه وشدّ أذنيه إلى الخلف فالمطر قادم ولو كانت السماء صحواً.
كان ماريو يجلس خلف تولاي. ومن قبل أن تعبر تولاي عن ضيقها بما وصفته بالتخريف، كانت وماريو يتهامسان، مما جعلني أختصر فيما أترجم لها. وفجأة انسحب ماريو وانسحبت تولاي بعده بدقائق، وكان الفقيه يقول إن الحمار إن كان فارهاً أتعب يدك، وإن كان بليداً أتعب رجلك([7]).
شوّشني خروج تولاي وماريو، فصار حديث الفقيه أشتاتاً يفوتني بعضها وأسمع بعضها، ومنه أن اللئام أصبر أجساداً، والكرام أصبر نفوساً، والصبر المحمود الممدوح هو بأن يكون الرجل جَلْداً وَقَاحاً على الضرب، أو رجله قوية على المشي، أو يده قوية على العمل، فإن هذا من صفات الحمير[8].
من جديد حسدت الفقيه على ذاكرته الوقّادة، وأفلتتْ عيناي مني لتتلصصا على باب القاعة، وكانت إحداهن تغادر القاعة، وعدت إلى الفقيه الذي كان يصف مروان الحمار آخر ملوك بني أميه، الأبيض ذي العينين الزرقاوين الذي استكمل بنو أميه على عهده مئة سنة من الحكم، فصارت (سنة الحمار) اسم السنة لكل مائة. يا سلام! سنة 2000 إذن كانت سنة الحمار!
ماذا تفعل تولاي الآن؟ لماذا خرجت وكأني غير موجود؟
قلقزت الأسئلة جلستي، وخجلت من جاري الذي عبّرت نظراته عن انزعاجه، فهدأت وعدت إلى الفقيه الذي كان ينهى القاعة: إياكم أن يقول أحدكم للآخر مهما غضب منه: أنت أكفر من حمار. ثم أطال الصمت قبل أن يتابع: ابن مويلع كان مسلماً، وله وادٍ ليس أخصب منه. قتلتْ صاعقة أبناءه فصاح: لا أعبد رباً فعل بي هذا. ودعا الناس إلى الكفر، وقتل من لم يستجب، فأقبلت نار من جوف الوادي، وأحرقت الوادي ومن فيه، فقيل: أكفر من حمار. وبالكاد سمعت أحدهم، رغم جهارة صوته وقربه مني، يذكّر الفقيه بالصلاة على ظهر الحمار.
حاولت أن أركز انتباهي لأنسى ما فعلت تولاي. ورأيت الفقيه يخاطب الرجل كمن يصل حديثاً انقطع: كان يصلي على حمار على غير القبلة، يركع ويسجد إيماءً.
تقدم الرجل إلى مقعد فارغ أقرب إلى المنصة قائلاً: الحمار ينهق كلما رأى القمر، ولا علاقة لهذا بحمار الحاكم بأمر اللـه الذي كان اسمه قمر. مال عبد الستار على الفقيه قائلاً: هل تروي لنا حكاية الحمار قمر؟
قال الفقيه: من فمك أحلى. وضحك، وقال عبد الستار: الحاكم بأمر اللـه كان يحب العزلة. وقد طاف على ظهر الحمار الأشهب قمر ليلته الأخيرة حتى وصل إلى شرق حلوان، وتأخر، والناس ينتظرون عودته. ولما لعب الفأر في العب خرجت مجموعة من الموالي والأتراك يبحثون عن البضائع. ولما وصلوا إلى مدخل الجبل رأوا الحمار قمر وقد قُطعت يداه ورجلاه. إذا كان الحاكم بأمر اللـه قد اختفى فهناك من يؤمن أنه سيعود.
قال الفقيه ضاحكاً: أما قلت لك يا عبد الستار من فمك أحلى؟ وصفقت القاعة، وتابع عبد الستار: اسمحوا لي قبل أن أختم هذه الجلسة الحمارية الغنية أن ألخص لكم قصة قصيرة كتبتها قبل قدومي إلى هذا المهرجان. وبالمناسبة صدرت لي رواية منذ سنوات عنوانها: (حمار على جبل). أما القصة القصيرة فعنوانها: (لماذا ينهق الحمار). يروي القصة طالب في الجامعة المستنصرية في بغداد اسمه طارق، وهو وأسرته من سلالة الحمير، إذا غضب أحدهم أو فزع: ينهق. كانت الكلاب والقطط لا تنفر من طارق ولميعة، لأنها اكتشفت سرهما الحماري. وبما أن طارق من الصابئة، ولميعة مسلمة، فقد مُنعا من الزواج، فينهقان احتجاجاً ويحتجان نهيقاً، بينما تنهمر عليهما أحجار الآخرين.
ووقف قائلاً: هذه القصة هي هديتي إلى هذا المهرجان، والسلام عليكم ورحمة اللـه وبركاته.
8
في العودة قدت السيارة، ولم تنقطع ثرثرة تولاي بجانبي وماريو خلفها، بينما خرستُ كاتماً ضيقي.
قال ماريو كأنه يصل ما انقطع من حديثٍ مع تولاي: النهيق من القياس الأوبرالي حسب بعض علماء الصوتيات. ليس للنهيق نظير في علوم الصوتيات. صوت الحمار عريض ومستقر. ولام ذاكرته على نسيان اسم العالم البريطاني الذي يستخدم التكنولوجيا المتطورة في تحليل النهيق ومعرفة تردداته، ليكون بالإمكان ترجمته إلى كلام. وسألتْ تولاي وهي تلتفت خلفاً – رأيتها على الرغم من أن نظري ظل مصلوباً إلى الأمام – ألن يفتح نجاح هذا العالم الباب لترجمة أصوات كائنات أخرى: النباح، المواء، الفحيح، الزقزقة..؟
ما قاله ماريو وسؤال تولاي هامان جداً بالنسبة لي، لذلك تغلبت على مزاجي السيء وقلت: في اللغة الحميرية قسمٌ صوتي، منه الهمهمة، يليها النهيق الحر، وهو المرحلة الأطول التي يصعب تنويطها. ولكي لا يزداد مزاجي سوءاً ما كان لي إلا أن أغلق أذنيّ، لكنهما – لطولهما الحماري – كانتا تتمردان أحياناً وتلتقطان أشتاتاً، وبخاصة من ماريو الذي يبدو أن لسانه لم يهدأ: حمير المدارس الهندية، حيث يعتبر الحمار أكثر إخلاصاُ من الزوجات مما أثار حفيظة النساء .. الحمار الأحمر صعب المراس والترويض، على العكس من الحمار الإفريقي .. وفي الصين من فظائع العقوبات أن يوضع المحكوم في بطن حمار ميت، ثم يخيط ويحرق. أما في رأس السنة الصينية فيربط الجزارُ الحمار، ثم يطرحه على الأرض، ويظل يضربه بالمطرقة على رأسه حتى يفقد الوعي، ثم يذبحه، ويكون هذا عادة على الطرقات العامة بين المدن، فيشتري السائقون والمسافرون من اللحم الطازج للاحتفال مع أسرهم .. قبل أن أحضر إلى هذا المهرجان تصفحت مسرحية حمار ليلة صيف .. كيف تحول رأس بوتوم إلى رأس حمار؟ هل تذكرين كيف أعاد له الملك رأسه البشري عندما حكم على الملكة أن تحب أول من تراه عند يقظتها من نومها، فكان بوتوم الحمار أول من رأت؟ هذا حمار شكسبير.
أصغيت جيداً حين سمعت برأس الحمار، فلم أسمع إلا الضحك، وكنا قد دخلنا في فاس. وبعد قليل خاطبني ماريو: ظبية تكلمني كل ليلة، وكلما كلمتني تسألني عنك، ثم خاطب تولاي: نحن زوجان سعيدان جداً، لو تعرفين السبب؟ لأن كلاً منا يقيم في قارة. هي في الكويت وأنا في ألمانيا إذا لم أكن في سياحة، وسياحتي دائماً فيما لا يخطر على البال من الكرة الأرضية. فكرتُ في غالي ومنصورة اللذين انفرد كل منهما بغرفة، طلباً للسعادة الزوجية.
اعتذرتُ من ماريو عن عدم إيصاله إلى فندقه، ولمحت اللوم في نظرات تولاي. وتسابقنا في الصعود إلى جناحنا، وفي الدوش، وفي طلب العشاء، ورشفات النبيذ، لكأن كلاً منا كان يهرب من شاغلٍ جوّاني. ولأول مرة شاركنا التيلفزيون السهر على قناة مغربية، ولكن بلا صوت، فأطال فترات صمتنا. وفي واحدة منها لاحظتُ أن تولاي تتابع باهتمام تقريراً عن السيارة الكهربائية. وقبل أن ينتهي قالت:
- أنهت السيارة العادية زمن الحمار والحصان والجمل، ماذا ستفعل السيارة الكهربائية؟ قلت:
- سوف تعيد زمن الحمار.
هزت رأسها مؤمّنة، وزعق هاتفي فأجفلنا، وأسرعت لأخرسه، وفاجأني أن غالي هو من يتصل، لكني لم أتمكن من سماع صوته. حاولت إعادة الاتصال به مراراً بلا جدوى. شكوت لتولاي، وكان التيلفزيون يفور بإعلانات، فاستدارت وقالت:
- قل لمنصورة إنني وإيسون درنا على مزارع الحمير، زرنا (تيري) حيث بدأت المزرعة بحمارة وحمار والآن فيها سبعون، في مرمريس مزرعة قيد الإنشاء، نسيت مرمريس؟
- هل أستطيع؟
- وصلنا إلى بورصة، إلى إنطاليا. المزارع تتكاثر، وشركة إيسون ومنصورة أمامها مستقبل واعد.
كانت الشاشة تسطع باسم فرقة (ناس الغيوان) وبصور لها بالأبيض والأسود، فحررت الصوت، وبدأ الإيقاع الذي سكنني منذ أكثر من ثلاثين سنة، ولازال يعصف بي كلما سمعته. حاولت أن أشرح لتولاي، لكن الوجْد أعجزني: اللـه يا مولانا حالي ما يخفاك يا الواحد ربي/ سبحان الحي الباقي سبحانك إلهي جودْ عليّا... ويبدو أن البرنامج التلفزيوني كان يقدم مقاطع، إذ انتقل فجأة: فين اللي يجمعوا عليك أهل النيّة/ آه يالصينية... وما كدت ألتقط أنفاسي حتى شخبتْ صبرا وشاتيلا: أطفال تذبْحاتْ وشيوخ وعيالات/ السوايعْ وقفاتْ لرواحْ تحصراتْ/ السوايعْ وقفاتْ لكتوبْ تنهباتْ/ صبرا وشاتيلا كثرات القتيلة/ فـ جبال ووديان طيور وغابات/ دنه دنه..
وكأن البرنامج كان على موعد مع هاتفي، واحد صمت والآخر زعق. قلت: غالي، وكان غالي، وجاء صوته غريباً ومفزوعاً:
- كارم: خبّرني جارك أبو شريف: بيتك أبوابه مشلّعة. ذهبت أنا ومنصورة، طبعاً ما تجرأنا ندخل حتى على البستان. احكي مع منصورة.
يبدو أن لون وجهي أو تهدّج أنفاسي وزوغان نظراتي دفع تولاي إلى أن تقفز وتجثو أمامي وعيناها تسألان، وكفٌّ تمسح على رأسي وكفٌ تمسح على وجهي، وجاء صوت منصورة:
- كارم حبيبي الحمد لله أنك ما كنت في البيت. اللـه وحده يعلم ما الذي كان جرى. هذه ليست سرقة. هذا اقتحام واعتداء يا كارم. يوم سفرك كلمتني لوزية. كان صوتها صوت أموات. الحيوان رحيم، أخوها يعرف أنك سافرت، ضربها حتى الموت، دافعت عنها أمها العاجزة، ضرب أمه وراحت فيها. ماتت اللـه يرحمها. وكان سيُلحق لوزية بها لولا أنها هربت واشتكت للشرطة، ولجأت لي. أخذتها إلى المستشفى، يا حرام، كل يوم حالتها أسوأ من البارحة. لوزية تحلف ألف يمين: رحيم هو من اعتدى على بيتك أو دبّر من اعتدى. خذ غالي.
قال غالي:
- هل تستطيع أن ترسل برقية تفوضني بإغلاق البيت؟ الأفضل أن تعود أنت. هذا شغل مجرمين يا كارم والزمن زمنهم. المهم أن ترجع ولكل حادث حديث.
عندما انتهى قفزت كالملسوع إلى غرفتي. وأنا أردد: يجب أن أعود غداً يا تولاي.
[1] - الأغنية لعلي الحجار من فيلم (السائرون نياماً).
[2] - في الطريق إلى الغداء تنصّت على ما كانت تصرّح به للّا فاطمة الزهراء لمندوب قناة الجزيرة عن الحمير في مدينة فاس: شركة أورول للنظافة التي تعاقدت البلدية معها لتنظيف المدينة القديمة، وعلى النقيض من الشركة السابقة التي لم تحترم تعهداتها، خصصت شركة أورول للحمير يوماً للراحة بعد كل يومين للعمل. كما خصصت ساعة للتنظيف من ساعات يوم العمل. وقد سأل المذيع:
- ما حكاية السايس بلبيضْ؟
قالت للّا فاطمة:
- بلبيضْ كان يسمى حميره التي تجمع الزبالة بأسماء مشاهير، وكل حمار كان يحفظ اسمه، هذا موسوليني، هذه مكنمارا، هذا شي غيفارا..
وضحكت للّا فاطمة وضحك المذيع الذي قطع ضحكته وسأل:
- صحيح أن حمير الزبالة كانت تحفظ البيوت بيتاً بيتاً؟
قالت للّا فاطمة:
- كانت الحمير تبدأ من الشروق تدور على أبواب المنازل، ينتظر الحمار إلى أن يفرغ عامل البلدية الزبالة في الشواري على ظهر الحمار. وهكذا من بيت إلى بيت حتى تمتلئ الشواري، عندها يعود الحمار إلى مكان المكلف بتفريغ الحمولة. بعد التفريغ يعود الحمار إلى آخر بيت وقف عنده. أنا لم أر هذا، لكن أبي حكى لي ما عاشه وأمي حكت لي ما عاشته.
-[3] في رواية (قلب حمار) لعبد الرحيم الشيخ.
[4] - في كتاب حسين المناصرة (فلسطين ذاكرة ووطن).
[5] - من نص لسعد محمـد موسى على موقع منبر العراق الحر.
[6] - كمال الدين الدميري (1344–1404)، صاحب الكتاب الأهم (حياة الحيوان الكبرى).
[7] - عبد الحميد الكاتب، توفي عام 750م. ولم يكن يركب حماراً.
[8] - محمـد كرد علي في (رسائل البلغاء).