في عصر يوم 7 نوﭬـمبر 2014، كان هو لا يزال يتشاغل عن الإقرار في سريرته بأنه يحيا الأصيلَ الأخيرَ من حياته، وقد تقرَّر نقلُه إلى غرفة برزخية بمستشفى المعادي العسكري، لا يقيم معه فيها مُرافقٌ، فيمكث وحدُه بها طيلة ذلك الوقتَ القصير، الفاصل، المتبقي له بين إقامتيْن.
وبينما كانت زوجتُه السيدة رضا كامل وممرضتُه تدفعان سريرَه المتحرك صوب تلك الغرفة بدا أنه قد أدركَ حلولَ الختامِ عليه. تمتمَ بشفتيه ليستعيدَ صوتَه، وسأل الطبيبَ الذي كان يسير معه، على يمينه، بمحاذاة السرير الضيّق:
- إنني أحتضرُ يا سيادة الدكتور!
مالَ الطبيبُ عليه وقد راقت له طُمأنينةُ الصوت الذاهب إلى الموت، وجاوبه هذا الجوابَ الذي فيه من الحقيقة ما فيه من الـمُخاتَلة:
- أستاذ مبروك؛ إننا جميعاً نحتضر.
لستُ أدري ما الذي تداعت إليه أفكارُ مبروك بعدما استمع إلى قوْل الطبيب، ولا أتصوَّرُ غيرَ أنها راقته للغاية وألهمته حماسةً ويقظةً، وأنه لو قُدِّر له الشفاءُ فكان سيُحب أن يحكي هذه الواقعة لزوَّاره ورفاق المقهى وهو يجلجل بالضحك مُستملِحاً الشمولية المقبولة والوقْع الأدبي الراقي في عبارة الطبيب، ولا شك عندي في أنه كان سيهتم، من باب الود والصداقة والإعجاب، بملاقاة هذا الطبيب لاحقاً، وتأسيس صداقة معه وإيصال الامتنان إليه لأن كلماته تلك، التي ربما ما قصدت عزاءً، قد أفاضت في تقديم التعازي حقاً إلى كيانه وساهمت في شفائه.
في ظهيرة اليوم التالي أتمَّ ابنُ ريفِ طملاي؛ محمد إبراهيم مبروكُ، احتضارَه، واستوفى دورتَه بسكونٍ، وأغمض عن عالَمِنا عينيه.
في نهاره الأول بالملكوت السرمدي يتأهّب مبروكُ طبعاً إلى لقاء أمِّه أولاً، والتمرُّغ في حضنها وتقبيل يديْها والثرثرة معها لألفِ نهارٍ ونهار، لكنه يودُّ أن يسعى، قبل أن يغطَّ في رِحاب الأمِّ لأزمانٍ فردوسية بلا عَد، إلى لقاء الأب الجليل الباسِم يحيى حقي، فيستعيد معه أسمى وأبهج لحظات حياته؛ وليحادِثه من جديد بالتليفون فيجلب نبراتِ صوتيْن محفوظيْن في أثير صيف سنة 1966: – "أستاذ يحيى حقي، أنا مبروك" – "أهلاً مبروك باشا" – "أهلاً يحيى بكْ" – "أنا نِفسي أشوفك ضروري" – "دا يسعدني جداً" – "عندك مانع نتقابل عندي في البيت" – "لا، أبداً". ومن ثَم تتحقّق مقابلتُهما الراقية الرفيعة في بيت يحيى حقي، رئيس تحرير مجلة «المجلة» وقتذاك، فيتقابلان إذاً برفقة قصة «نزْفُ صوتِ صمتِ نصفِ طائرٍ»، طليعة مبروك الأدبية، ويطمئن الـمُضيفُ إلى راحة ضيفه، ويعد له الشاي بنفسه، ثم يجلس هو أيضاً ويتعرّف على الكاتب الشاب ويطلب الاستماعَ إلى قراءة مبروك لقصته، وهو ماكثٌ في جلسته لا يتحرك أهْون حركة، لمدة ثلاثة أرباع الساعة، يعي ويستحفظ المقروءَ في ذاكرته، ثم يشكر الكاتبَ ويناقشه بتدقيقٍ ويقظةٍ تُرضي وتُسعِد الشابَ الذي كتبَ قصةً، ووجد شيخاً قادراً على الوصول إليها والإيمان بها وبصاحبها. إن مبروك المنتقل للتو إلى الملكوت السرمدي يتلهّف إلى استرجاع صوت يحيى حقي، في ختام تلك الجلسة، وهو يُعمِّده بصدق واعتزاز: "عظيم ... هذه جديدة وجيدة، وأنت مكسب حقيقي للقصة، ولَسوف أنشرُ لك هذه القصة في العدد القادم من المجلة". وقد أوفى بالطبع يحيى حقي فنشرها في الميعاد المقصود، مُرفقةً بتقديمٍ سابِغٍ من أول قلمٍ يكتب عنه ككاتب أصيل ويبشِّر بوعودِ إبداعِه الجديد؛ قلم صبري حافظ.
كان مبروك، المولود في أول يناير 1943، كاتباً من جيل الستينات، غير أنه لم يتمتع بعضوية فئة بارزة من جيل كُتّاب الستينات كانت قد تشكّلت مع الوقت في ما بينها، وبما توفّر لديها من وسائطٍ أو منافذٍ أو نفوذٍ في شكلٍ يشبه العُصبة. وقد أبانَ الواقعُ أن ذلك التشكيل الذي يشبه العُصبة المتحدة تمكَّن من تغليب المصالح المشتركة لأفراده دون سواهم من الجيل نفسه أو غيره. ومهما تنافَرَ أو تباغَضَ أعضاءُ تلك العُصبة فما كانوا ليتشرذموا، بل حافظوا عموماً على ائتلافهم في اصطفافٍ منضبط، لأجل أن يحصلوا جميعاً، بالتتابع، على الجوائز المتاحة وعلى الترشيحات والتكريمات والمنَح والدعوات الأسخى والسفريات الأفضل، وعلى فرص النشر الأوسع، وعلى إنعاش وجودهم بالأخبار والحوارات، وترويج كتبهم بالمراجعات والتنويهات والدراسات وكل ما يلزم، إلخ ... إلخ.
لم يحصل مبروك على أية جائزة ولم يَرِد اسمُه في أية ترشيحات، ولم يُحرَّر عنه خبرٌ، ولم يُنشر كتابُه الأول؛ قصص «عطْشَى لماء البحر»، إلا وهو في سِن الأربعين، وقد نُشِر خارجَ نطاق دور النشر جميعاً، إذْ بادرَ أحدُ أصدقائه بطباعته طبعةً محدودة متواضعة ومشوَّهة بالأخطاء المطبعية، في مطبعة مُلحَقةٍ بمؤسسة «يوم المستشفيات»، سنة 1983، وتولّى مبروكُ تسليمَ نُسخ كتابه بيدِهِ إلى أيدي أصدقائه والمستحقين والطالبين، إلى أنْ نُشِرت تلك القصص، بنكهتها المميَّزة الفريدة المبروكية مرتين أُخرييْن، بعد سنواتٍ طوال، في "مهرجان القراءة للجميع" ثم بعد ذلك، بمطبوعات "المجلس الأعلى للثقافة".
هذه هي عناوين نصوص مبروك القصصية: (1) «نزفُ صوتِ صمتِ نصفِ طائرٍ» (مُؤرَّخة في مارس 1966، ومنشورة في مجلة "المجلة"- يحيى حقي، أكتوبر 1966)، (2) «مسيحُ المراسيمِ المحالة» (مُؤرَّخة في يوليو 1966، ومنشورة في مجلة "المجلة"- يحيى حقي، سبتمبر 1968)، (3) «جحيمُ أبدِ الرحم» (مُؤرَّخة في نوﭬـمبر 1966، ومنشورة في مجلة "مواقف"- أدونيس، 1970)، (4) «شلالاتُ الكهفِ الداعر» (مُؤرَّخة في مارس 1967/1968، ومنشورة في "المجلة" - شكري عيّاد، سبتمبر 1969)، (5) «عطْشَى لماء البحر» (مُؤرَّخة في مارس/ يوليو 1979، الإسكندرية، ومنشورة في مجلة "الفكر المعاصر"، القاهرية، 1980). الذين طالعوا هذه القصص يعرفون أن مبروك لم يكن يقبل من نفسه إلا الكتابة الأدبية الحقيقية بموسيقاها الضرورية، وبتأويلاتها الكامنة الحيَّة، وبمخزونها من المعاني والطاقات الـمُرجأة، وبأعرافها واحتوائها دوماً على البصمة الإبداعية لكاتبها، وبتطلُّباتها، وبمردودها الروحيّ الكريم. وكان هو يسعى وراء مثل تلك الكتابة الحقيقية للكُتَّاب الآخرين، مهما ندُرت، ويثملُ منها، ويتعزَّى بها ويحتفي، ولعله أيضا كان يدعِّم بوجودها مبادئَه الأدبية في أمور ودقائق الكتابة.
إذا كانت الكتابةُ بالأصل صعبةً، فالكتابة الحقيقية تكاد تكون مستحيلة، وإذا كان الكُتّابُ يكتبون بالكلمات فإن مبروك كان قد بدأ هو أيضاً كاتباً بالكلمات، إلى أن بدأت المعاني لديه، في نصوصه، تطالبه بكلماتٍ لم تُبدَع بعد ولم تعرفها اللغةُ ولم يتداولها الناسُ بعد، غير أن إحساسَه الفائق باللغة أوقفَه عند افتقارها إلى هذه أو تلك من المفردات والكلمات غير المسكوكة، الكامنة في غيبِها، التي يحدس بها الكاتب الفنَّان ويعوِّل عليها كيما تسدَّ له، بجدارةٍ ودِقةٍ، الفراغَات الناشئة في عباراته ومعانيه. واختنق الكاتبُ مبروك بفرطِ احتياجه إلى ألفاظٍ وكلماتٍ، لا وجود مُعلَن لها، يستوفي بها معانيه المستجدة ويتمِّم بها موسيقى نصوصه، فكل الكلمات القديمة الحاضرة ليس فيها كل ما يسعفه لأجل طاقات بنائه الأدبي الطالع، فكان أنْ حلَّ بياضٌ مُؤطَّرٌ بالأقواس محلَ الكلمات الغائبة الناقصة المطلوبة في نصوصه. وما كانت المفردات والألفاظ والكلمات الغائبة وحدها فقط هي المفقودات التي كان يعوزها مبروك، بل واجهته أيضاً - أثناء انهماكه في كتابة نصوصه القصصية – حالاتُ الوجود ذات البكارة، أو انبثقت له بالأحرى حالاتٌ وجوديةٌ لم يسبق لأحدٍ، قبله، أنْ استشعرها أو خَبَرَها. إنّ آفاقاً جديدة مرهفة قد أطلَّت على مبروك الإنسان والكاتب وأطلَّ هو عليها، بينما كان يحرِّك قلمَه على سطور الصفحات، وكانت تلك الآفاقُ الموازية مسموعةً ومرئيةً لدى حواسه، لكن أدوات الكتابة المتاحة قصُرت عن الإحاطة بما لا تطاله من حالات واحتدامات تلك الآفاق والأغوار البعيدة فلزمت السكونَ المفعمَ والطافرَ بأقصى أقاصي البوْح.
وكان مبروكُ، العارفُ بالأدب، الصارمُ في قضايا النقاء، والمؤمنُ بالبصمات، لا يني يسجِّل ويقول «الكاتبُ الذي لا تتقدمه لغتُه؛ لا حضور حقيقي له»، بينما كان هنالك بعضٌ من تلك العُصبة المذكورة سابقاً يتساءل: يا للريبة! ماذا وراء هذا الفتى الغامض، الذي هو من رُتبةٍ لا درايةَ لنا بها؟ ما سِرُّه؟ ما سِرُّ لغته؟ ما وراءها؟ ومن أين أتى بها؟ أتُراهُ سارقها؟! لقد اضُطهِد ونُبِذ وعُوقِب مبروك بسبب لُغته ونصوصه المفارقة، بل طالَ يحيى حقي مَكْرُ مَنْ ساءتهم نزاهتُه التي كان من ضمنها حماستُه النبيلة لتقديم مبروك، الكاتب الشاب المجهول الذي لم يكتب سوى قصة واحدة فقط، إلى الحياة الأدبية بحفاوة لائقة، مع متابعة نشره لبعض الجديد من نصوصه. على أية حالٍ نُصِحَ مبروك من الأبعدين ومن أغلبية الأقربين بتغيير لُغته ونمطِ كتابتِه لأجل أن تُتاح لنصوصه فرصٌ أوسع للتلقي والانتشار، لَكأن أمرَ تغيير لغة وأسلوب المبدع هما تحت طوْعه إذا أراد! وأصرَّ مبروك بالطبع على كينونته الإبداعية، لكن عرامةَ آياته التي كانت قيْد الإفصاح عن نفسها وكانت تتأهب لتتسطّر بقلمه آنذاك خذلتها طبيعةُ الأدوات، حسبما شعر بها هو، وخذلتها كذلك طبيعةُ الوسط الأدبي والثقافي المحلي الذي لم يكن ليتسامح مع تجارب الإبداع الـمُفارِق.
لقيَ صمتُ مبروك الإبداعي ارتياحاً لدى فئة الكُتّاب الذين أشعرهم توقُّفُه بصوابية طرائقهم الأدبية، مثلما طمأنهم على فساد رهانات الفتى وعلى طيْش طريقه الذي كان محكوماً عليه بالانسداد لا محالة؛ بحسب اعتقادهم أو رجائهم. وبات مبروكُ يواجه المستحيلَ، ولم يقدر على التنازل عن مبادئه الأدبية بخصوص ممارسته هو للكتابة، لكنه ظل محتشماً فلا يُطالب الآخرين بما قيَّد نفسَه به، من دون أن يتساهل، بالطبع، في كل ما هو أساسي بالأدب حسبما ارتآه وارتضاه. هكذا لم يقبل مبروك من نفسه سوى التشدُّد ونُشدان الكتابة الحقيقية المتطلِّبة، ومن تلك النقطة ظهرت له إمكانية استئنافه للكتابة – التي كانت قد نأت عنه واستعصت عليه – عن طريق ممارسته لترجمة النصوص الأدبية التي يراها رفيعةَ المستوى ويختارها للترجمة فيتشاركُ في إبداعها من جديد مع مؤلفيها، فكانت الترجمة هي المواءمة الممكنة التي أعاد بها الكاتبُ مبروكُ نفسَه إلى الصفحات البيضاء ليتسنَّى له النقش عليها من جديد.
كان مبروك قارئاً مُريداً ذا وَلَهٍ لدى شيوخه الأعز؛ فيودور دستويـﭭـسكي وأنطون تشيخوف ووليم فوكنر وصامويل بيكيت، مأنوساً بحضورهم الدائم، إلى أنْ ظهر له بجوارهم الشيخ الكولومبي جابرييل جارثيا ماركيز حاضراً في اللغة العربية بروايته القصيرة «ليس لدى الكولونيل مَنْ يكاتبه»، التي أوقعت بُروقَها في فؤاده، ولقيَ فيها ما يرضيه من القوت الأدبي، ولقيَ في كاتبها ما يرضيه من سمات الكاتب القدير المبدع والشريف تجاه نفسه وتجاه أدبه وتجاه قُرّائه وتجاه قضايا شعبه وقضايا الإنسانية. وكانت روايات وقصص ماركيز الأخرى التي تُرجِمت إلى العربية هي هدية القدر إلى مبروك فاستعاد قلمَه، هوْناً ما، وعاد إلى الكتابة من مدخلٍ آخر ومن طريقٍ أخرى، إذْ قرر، وهو في منتصف أربعيناته أو يكاد، أن يتعلّم اللغة الإسبانية من أجل أن يُطالِع بنفسه آدابَها، في أمريكا الجنوبية وفي إسبانيا معاً، وانطلقَ مبروك بالفعل إلى تحقيق حلمه، وظهرت تباعاً الكتبُ والنصوصُ المترجمة عن الإسبانية مُمضاةً باسمه، محمد إبراهيم مبروك، لكن العمرَ لم يتسع للمزيد منها.
في ربيع سنة 1981، عرَّفني صديقي الشاعر محمد هشام على صديقه مبروك، وقد حدث أننا كنا جمْعاً كبيراً من الشبان والشابات جئنا من جامعاتنا بالقاهرة، في صبيحة يوم شم النسيم من ذلك الربيع، نلبي دعوة محمد هشام إلى التريُّض في منتزَه الأندلس بشارع البحر في طنطا، ثم إلى الراحة وتناول الغداء وأطعمة شم النسيم في بيت أسرته الكريمة، وكان من بين الحاضرين السيدات والسادة أماني وسُميّة وآيات ومحب وعفيف وأنا. كان مبروك هو أسلس وأيسر الناس في لقاءات التعارف؛ يبادر بالقوْل الجميل مشفوعاً بإشاعة ابتسامته الطبيعية السعيدة الصافية، وحتى إذا خلت ابتسامته من السعادة، بأثر هموم الحياة، فما كانت تخلو من طبيعيتها وصفائها، وكانت تحيتُه الشهيرة دائماً بين أصدقائه ومعارفه هي "يا ولاكِمْ" (جمع welcome). لَطالما كان البحرُ هو مُستندَنا، وكانت رائحةُ يُودِ البحرِ السكندري تُشِيِع البهجةَ وتقترن بذكرياتٍ عزيزة. آنذاك، بمطلع الثمانينات، كان مبروك يقيم ويعمل بالإسكندرية، وعلى وشك الانفصال عن زوجته الأولى. فور التقائنا بطنطا صرنا صديقيْن وصارت له فسحة في روحي وتكاثرت بيننا النقاشات والموضوعات والمشاريع، وتعددت زياراتي إليه في الإسكندرية، برفقة محمد هشام، وفي ذلك الزمن تعهَّدتنا دوماً الرحلاتُ ذات الطقوس، فكانت رحلاتنا تلك تبدأ بفرحة ركوب القطار القشّاش في تباشير الصباح من محطة رمسيس بالقاهرة، وتستمر بفرحة الوصول إلى محطة مصر بالإسكندرية، ثم بفرحة الانحدار مع شارع النبي دانييال حتى الانعطاف يميناً إلى شارع سعد زغلول حيث علامات البن البرازيلي والمتروبوليتان وتريانون على يسارنا، وحيث فرع "الهيئة المصرية العامة للكتاب"، التي يعمل بها مبروك، على يميننا. كان مبروك يلتقينا، مثل ما يلتقي جميعَ أصدقائه، بكامل بشاشته وترحابه، ويُهدي إلينا الكتب التي يستشعر أنها أعجبتنا ويدفع ثمنها من قروشه، ويلحُّ في إعطائنا مفتاح مسكنه (بعد انفصاله عن زوجته) في كليوباترا، لكننا نعتذر دائماً بأننا سنمضي إلى طلاقة التمشية بمحاذاة بحر إسكندرية والتسكع على مقاهي الكورنيش العريقة الوسيعة، على أنْ نلتقي به لاحقاً قُبيل المساء، وفي ختام اللقاء واليوم نعود إلى القاهرة في قطار الليل. بعد شهورٍ من لقائنا الأول أصدر مبروك مطبوعته غير الدورية «النديم»، ونشر لي قصةً على صفحاتها، وسرعان ما انتقل بإقامته ووظيفته الحكومية إلى القاهرة، ودَرَسَ اللغةَ الإسبانية، ثم انطلقَ يترجم ويُثري الواقع الأدبي والثقافي والإنساني.
بموجب مرور السنين فاتت أعمارُنا وجاءت السنةُ 2014، وكنا قد ظللنا، مبروك وأنا، على مدى سنتيْن تقريباً، نخطط لزيارة عزيزِنا إدوار الخرَّاط، الذي حَجَبَه الألزهايمر هوْناً هوْنا، وكنا قد عزمنا مرات عديدة على القيام بالزيارة، لكن كلما اقترح أحدُنا موعداً بدا أنه لا يناسب الآخر. وفي نهايات ديسمبر 2013 كسرتُ حلقةَ الإرجاءات هذه، فاتصلتُ بالسيدة الفاضلة جورجيت، زوجة الأستاذ إدوار، وأخبرتُها أن مبروك وأنا نرغبُ في زيارتهما، على أن يكون ذلك في ظهيرة يوم رأس السنة؛ أول يناير 2014. وأول يناير هو يوم ذكرى ميلاد كلينا مبروك وأنا. وكنتُ قد فكرتُ بأن زيارة إدوار الخراط في بيته هي هدية السنة الجديدة إلينا. أبدت السيدة جورجيت ترحيبَها، فأخبرتُ مبروك، وفي الموعد التقينا أمام مدخل دار الأوبرا، وانطلقنا إلى البيت المراد بالزمالك، وأمضينا وقتاً طيباً مع إدوار وجورجيت في صالون البيت، وليس في حيز المكتب والمكتبة كالمعتاد، ويومها تساءل إدوارُ، المعتزِل، عن الروايات الجيدة التي عساها تكون قد ظهرت بعدما انقطع هو عن المتابعة، وأجاب مبروك، ثم أجبتُ أنا أيضاً، وكان مُضيفُنا يُصغي في نَهمٍ بل ينظرُ إلى كلماتنا، التي تَرِدُ فيها عناوينُ كُتبٍ، بعينين لامعتين متشوِّقتين إلى استئناف القراءة والإبداع. كَتَبَ مبروكُ اسمَه وكتبتُ اسمي في الفراغ الضئيل المتبقي من لوحة معلّقة على الجدار مليئة بأسماء زوّارٍ وضيوف حلّوا بالمكان، ثم انتهت زيارتنا، فودّعنا أهلَ البيت، ونزلنا سوياً، ومشينا حتى كوبري قصر النيل، وتلك كانت هي المرة الأخيرة التي التقيت فيها مبروك خارج جدران المستشفيات إذْ لم نلتقِ ثانيةً إلا بعد أربعة أسابيع، في ختام يناير، بمستشفى التأمين الصحي بمدينة نصر، حيث كان قد أُدخِل، وتقرَّر له فيها قَدَرُه، ومرضُه، وتنقلاتُه بين المستشفيات لِما يقْرُب من سنةٍ كاملة، وقد احتملَ مبروك، بمعاونة زوجته الـمُحِبة الطيبة، نصيبَه الوافر من الآلام بصبرٍ وجسارة، متوافقاً مع مِثال الإنسان القادر على التحمُّل؛ ذلك المثال الذي قدَّره هو دائماً واحتفى به.
وبعدُ، فإنه هو مبروك الذي انتبذَ إلى عِلْيين، وهو الذي لم يَنسَ أن يأخذ معه أقلامَه وأوراقَه، ولعله الآن جالسٌ يتحيَّن ويترقَّب نصوصَه الجديدة، يبشُّ لها، ويتصيَّدها، ويعكفُ عليها، ويكتبها، فيعمُرُ قلبُه بالنشوة العزيزة المرصودة للكاتب إذْ يكتب فيُبدع ما يأسر أفئدة القارئين المنشودين وما تطيب به أرواحُ العارفين بالأدب. لعله الآن معمورٌ بتلك النشوة التي عرفها على الأرض ونالها مراتٍ وعاش عمرَه قاصِدها ومُرتجيها.
*
نُشِرت في مجلة «إبداع» (المصرية)، عدد أبريل 2021