وجدت هذه الشهادة التي كتبتها ونشرتها في مجلة عربية مهمة منذ سنوات عن الناقد المصري المرموق، طافية على صفحات الانترنت وقد أزيل عنها اسم كاتبها. وها أنا أعيد نشرها هنا بمناسبة ذكرى رحيله، لأننا في أمس الحاجة إلى كثير من القيم الأدبية والضميرية التي أرساها في الواقع الثقافي

فاروق عبدالقادر .. شهادة من قريب/ بعيد

صبري حافظ

 

عرفت فاروق عبد القادر (24 يناير 1938 – 23 يونيو 2010) منذ بدأنا الكتابة في النقد الأدبي في مطالع ستينيات القرن الماضي. وأصبحنا هو، وسامي خشبة الذي انضم إلينا عقب خروجه من المعتقل عام 1964، وأنا، طوال هذا العقد أبرز نقاد الجيل الذي أصبح عقد الستينيات شارة عليه. ومع أنه كان يكبرني بثلاث سنوات، فإنني أظن، إن لم تخني الذاكرة، أننا قد بدأنا الكتابة في مصر معا، وربما بدأت أنا قبله الكتابة بقليل في المنابر الثقافية العربية، وفي بيروت خاصة، إبان الزمن الجميل الذي تناءى. وربما كانت بدايتي قبله هي التي أزالت فارق العمر بيننا، حينما كنا نعتبر وقتها، ونحن في شرخ الشباب وشطط عنفوانه، من يصغرنا بثلاثة أو أربعة أعوام حدثا لا يستحق منا التنازل للحديث معه، ناهيك عن التبسط معه أو مصاحبته.

وكانت القاهرة في تلك الأيام عامرة بالمنابر الثقافية المختلفة سواء أكانت ندوات أسبوعية أو مجلات أو جلسات دردشة أدبية في المقاهي (مقاهي إيزافيتش، وريش، وإنديانا)، وكنت أتردد عليها بشكل منتظم، وألتقي به في بعضها لماما. وكان للحركة الثقافية المصرية، والعربية من ورائها، حراكها الخصب الذي يفرز إلى جانب المبدعين في مختلف الأجناس الأدبية نقاده. وكانت بطبيعتها تركز على الراهن الأدبي والثقافي وتتابع أحدث ما يصدر عنهما من نصوص وأعمال وإنجازات. وكانت الصفحة الأدبية لجريدة (المساء) والتي كان يشرف عليها الراحل الكبير عبدالفتاح الجمل، وهو بالمناسبة كاتب موهوب كبير ذو حساسية مدهشة للغة، تتجلى في أعماله القليلة التي خلفها لنا، وخاصة (الخوف) و(محب)، لكنه كرس معظم عقد الستينيات لاكتشاف مواهب الآخرين الأدبية، والشباب منهم خاصة، والدفع بها إلى قلب الحياة الثقافية. وكانت حساسيته الأدبية وقدراته الاستشرافية هي التي مكنته من أن يفتح أبواب تلك الصفحة لمواهب نشر لها لأول مرة، وأصبح لها شأن كبير فيما بعد، من أمثال محمد البساطي وإبراهيم اصلان وأمل دنقل ومحمد عفيفي مطر ويحيى الطاهر عبداللـه ومحمد حافظ رجب وعبدالحكيم قاسم ومجيد طوبيا وجميل عطية إبراهيم وغيرهم. وأذكر، إن لم تخني الذاكرة وهي بطبعها خؤون، أن فاروق عبدالقادر بدأ في نشر بعض الترجمات القصيرة في صفحة «المساء» الثقافية تلك، مع ناقد آخر كان يجيد الترجمة من أبناء جيلنا رحل مبكرا هو محمد عبداللـه الشفقي.

ثم بدأ يكتب فيها عن المسرح المصري في وقت كان نجم النقد المسرحي وقتها هو بهاء طاهر، الذي كان يكبر فاروق بثلاثة أعوام، وقد رسخ قبله قدمه كمخرج مسرحي موهوب للمسرحيات العالمية في البرنامج الثاني الذي كان من أرقى المنابر الثقافية في هذا العقد، وكمقدم لبرنامجه الأسبوعي عن المسرح والسينما من ناحية، وكناقد متميز للمسرح المصري يكتب عنه في كبريات المجلات الشهرية المصرية من ناحية أخرى. ولم يكن بهاء طاهر قد بدأ يكتب وقتها قصصه القصيرة اللامعة التي جمعها مع مطلع عقد السبعينيات اللعين في مجموعته الأولى اللافتة (الخطوبة)، والتي أظن أن الاستقبال النقدي المتحمس لها، مع تصاريف حياتية أخرى حرمته في عقد السبعينيات الحزين من أن يبقى في برنامجه الثاني أو بالقرب من المسرح الذي حرص على متابعته، وشتتت الكثيرين في المنافي العربية والأوروبية، شجعه على الانصراف عن النقد المسرحي، وتكريس جهده للقصة القصيرة والرواية فأتحفنا فيهما بالكثير من الأعمال المرموقة والباقية.

لكن فاروق عبدالقادر، ومعه سامي خشبة إلى حد ما، استمرا في التركيز على المسرح نقدا وترجمة، بينما وجهت أنا اهتمامي للقصة والرواية والشعر، بالرغم من دراستي للمسرح وإصدار أول كتاب لي فيه (مسرح تشيخوف) عام 1973. فقد كان عقد الستينيات هو عقد ازدهار المسرح المصري قبل سقوطه الممنهج في العقد التالي، وهي المسألة التي ستصبح مع نهاية هذا العقد السبعيني التعيس عنوانا لأول كتاب نقدي له: (ازدهار وسقوط المسرح المصري) 1979. وحاول وقتها أن يجد له موطئ قدم دائم، لأنه كان قد تخلى مبكرا عن الوظيفة الحكومية المضمونة، في أي من المنابر الصحفية التي كانت تحتفي بالنقد المسرحي وقتها؛ حينما كان كل موسم مسرحي يشهد عددا من الأعمال الجديدة لمن أصبحوا بعد ذلك عمد المسرح المصري: من يوسف إدريس إلى نعمان عاشور وألفريد فرج وعبدالرحمن الشرقاوي ولطفي الخولي وسعدالدين وهبة، فضلا عن أعمال رائده الكبير توفيق الحكيم. ثم بزغت فيه أيضا أعمال الجيل التالي الذي كان أبرز كتابه وأكثرهم موهبة وأعمقهم إسهاما محمود دياب ونجيب سرور وميخائيل رومان وصلاح عبدالصبور. لكن فاروق عبدالقادر فيما يبدو لم يستطع أن يوفر لنفسه هذه الوظيفة الدائمة، وظل يتنقل من منبر لآخر. برغم حرصه على الكتابة الصحفية الجادة، وليس على كتابة الدراسات الطويلة التي تصلح للمجلات الشهرية أكثر منها للصحف والدوريات الأسبوعية، والتي ركزت منذ بداياتنا الباكرة نشري فيها.

وكان هناك فرق آخر، أدرك الآن وأنا أستدعي الذكريات، بيني وبينهما هو الاهتمام بقضايا المنهج النقدي منذ أن نشرت دراسة طويلة بعنوان «البحث عن منهج في نقد الشعر الحديث» في ملحق مجلة (الطليعة) الأدبي. وربما هذا الاهتمام بالمنهج هو الذي قادني للعمل بالجامعة، بينما بقيا معا حتى رحيلهما في وقت متقارب يعملان في الحياة الثقافية، وينأيان بنفسيهما عن أوساخها، ويحرصان على البقاء بعيدا إلى حد ما عن المؤسسة الثقافية الرسمية، التي كانت تسوخ أقدامها بوتائر متسارعة في وهاد الفساد والتبعية والتردي والهوان.

الحركة الأدبية .. وركود الجامعة وعقمها:
إذن فقد كنا ثلاثتنا، فاروق وسامي وأنا، من نقاد هذا الجيل الذين خرجوا من حراكه الثقافي ومن معمعة حركته الأدبية وهي تتخلق وتبلور رؤاها، ولم يهبطوا عليه من قاعات الدرس بالجامعة بقفازات منهجية معقمة وعقيمة. وقد كان في مصر على مد مسيرة حراكها الثقافي الحديث فرق شاسع بين الحركة الثقافية التي تتسم بحرية أكبر، وإيقاع أسرع في الاستجابة للنصوص والأعمال الجديدة، وبسقف مطامح أعلى، وبين الدرس الجامعي للأدب والثقافة في قاعات المحاضرات والذي كان متأخرا عنها بعقود. فطوال عقد الستينيات والسبعينيات مثلا كانت الجامعة المصرية لا تسمح بدراسة أعمال أي كاتب إلا بعد أن يواريه الثرى. وكان الجيل السابق علينا، والذي يمكن مجازا تسميته بجيل الخمسينيات قد أفرز نقاده هو الآخر، وكان أبرزهم رجاء النقاش، ومحي الدين محمد، وفؤاد دوارة. وهو الجيل الذي تسلم الراية من محمد مندور وأنور المعداوي بعد أن أجبرتهما الظروف على الصمت والرحيل المبكر، وعلي الراعي الذي سافر للعمل في الخليج، ومحمود أمين العالم وعبدالعظيم أنيس اللذين اعتقلا في نهاية عقد الخمسينيات، وأمضيا في المعتقل سنوات غير قليلة.

فقد كان للحركة النقدية عنفوانها الذي لا يقل عن عنفوان الحركة الأدبية نفسها، باعتبارها جزءا عضويا منها. فكما كانت الأجناس الأدبية المختلفة من مسرح وقصة وشعر ورواية تفرز كتابها جيلا بعد جيل، كان كل جيل من هذه الأجيال يفرز هو الآخر نقاده، الذين يواكبون أعمال مجايليهم من الكتاب بحساسية طالعة من نفس البوتقة الثقافية التي تبلورت فيها حساسيتهم، وصدرت عنها الأعمال التي ينقدونها.
وأستطيع القول وقد أمضيت زهرة العمر ناقدا فاعلا في هذا الحراك الثقافي في مصر وفي الساحة العربية الواسعة من ورائها، وتكونت ثقافيا في سياقهما، قبل أن تقضي تصاريف عقد السبعينيات اللعين بأن أمضي بقيته في قاعات الدرس بالجامعة (وهي لحسن الحظ الجامعة الغربية في أبهى صورها، وليست الجامعة المصرية في عصور انحطاطها) أن الحركة الأدبية والثقافية أكثر حيوية وأسرع تفاعلا مع النصوص الجديدة من الحركة الجامعية. وأنها أحرص منها على التجديد والتجريب، وأشد منها عزوفا عن التكرار والتلقين.

صحيح أن الفجوة بين الحركتين أقل منها في الغرب عما هي عندنا في عالمنا العربي، وأن استقرار التقاليد في الواقع الغربي، وتعزز قيم الحرية فيه، واستقلال المؤسستين الثقافية والجامعية معا عن السلطة، يجعل الحراك فيهما متقاربا ومتناظرا، على العكس مما هو عليه في عالمنا العربي، الذي تسيطر فيه المؤسسة السياسية كلية على الجامعة، وتسعى لفرض سيطرتها على الحركة الثقافية بالشراء والاحتواء وإدخال المثقفين الحظيرة. إلا أن غياب استقلال الجامعة في مصر، وفي العالم العربي من ورائها، هو ما يبرز الفارق الكبير بين الحركتين ويوسع الهوة بينهما؛ كما أنه يتيح الفرصة لمحدودي الموهبة للعمل في الجامعة، بينما لا يستطيع أغلبهم الصمود لآليات الفرز الحيوية في الحركة الثقافية. وليس أدل على ذلك من أنه بينما تحفل الجامعات المصرية بالعشرات من الذين يدرسون الآداب المختلفة فيها، فإن من يستطيع منهم دخول معترك الحياة الأدبية أو الثقافية، وإثبات نفسه فيها، أقل من القليل النادر. وهذا على عكس ما نشهده في الجامعات الغربية مثلا، بسبب تمتعها باستقلال نسبي من ناحية، وصرامة آليات الفرز العلمي والبحثي فيها من ناحية أخرى.

فإذا كان ممكنا أن يحافظ مثقف في الحركة الأدبية المصرية مثلا على استقلاله، بشق الأنفس كما فعل فاروق عبدالقادر، وأن ينأى بنفسه عن أدرانها، ويقاوم إغراءات الشراء والاحتواء، فإن هذا الأمر يوشك أن يكون مستحيلا في الجامعة. ولنا في مثال العالم الكبير جمال حمدان دليلا على استحالة الجمع بين الاثنين: استقلال الفكر والرأي والعمل في الجامعة، حيث اضطر العالم الكبير إلى ترك الجامعة، وهو في أوج العطاء، كي يبدع ويحافظ على استقلاله الفكري والمنهجي. هذا فضلا عن أن دوافع الحراك الثقافي والمهني تتسم في الحركة الأدبية بقدر أكبر من الصحية. فلا مجال فيها للبحث عن الترقي بالاستجابة لشروط المؤسسة العقيمة، وإنما المجال مفتوح فيها للموهوبين القادرين على الإبداع والتأثير، والذين تحركهم دوافع حب ما يقومون به وإخلاصهم له ولأفكارهم ورؤاهم حوله، وليس فقط دوافع العمل والترقي. ولا يعني هذا أن الحركة الثقافية تفتقر لآليات الفرز وتمحيص المكانات، لأن حيازة رأس المال الثقافي، أو رأس المال الرمزي كما يسميه عالم الاجتماع الفرنسي الكبير ببير بورديو، تخضع فيها لمعايير الحكم الثقافي المفتوح، ولأحكام القراء والكتاب المتحققين منهم والمحتملين، وهي قواعد أكثر تعقيدا وصرامة من قواعد الترقي في الجامعة، والتي تتسم في جل الجامعات المصرية خاصة بالكثير من التخلف والفساد.

إذن ففاروق عبدالقادر ابن هذه الحركة الثقافية التي قضى فيها عمره الأدبي، ولم يغادرها أو يزاوج بين العمل فيها والعمل في المؤسسة الصحفية كما فعل سامي خشبة أو الجامعية كما حدث لي. والواقع أن بقاء فاروق عبدالقادر ناقدا أدبيا فاعلا في مصر طوال حياته، لم يخرج منها كما خرج كثير من المثقفين منها إبان المناخ الطارد، جعله من أهم الذين يمكن أن نرصد من خلال أعمالهم حراكها. حيث يوشك إنتاجه النقدي، صعودا وهبوطا، أن يكون ترمومتر تلك الحركة، ودليلا دامغا على الكثير مما جرى فيها. إذ يوشك أن يكون الناقد الأدبي المصري الوحيد، من بين نقاد جيلي، الذي عاش طوال حياته من قلمه وحده، ولم يعمل معه عملا آخر، سواء أكان عملا حكوميا أو صحفيا منتظما كما كان الحال مع سامي خشبة. كما أنه كحفنة قليلة من أبناء هذا الجيل (مثل صنع اللـه إبراهيم ومحمد البساطي، وأمل دنقل ومحمد عفيفي مطر) حافظ على استقلاله عن المؤسسة التي كانت تزداد مع مر الأيام رداءة وترديا، وحرص على الابتعاد عنها. بصورة أصبح معها ممثلا لضمير الحركة الثقافية والأدبية. يراكم باستقلاله ومواقفه الحادة من تردي المؤسسة الثقافية الرسمية خاصة، رأسماله الرمزي، ويكرس مكانته في الواقع الأدبي المصري الذي كان يعاني فيه من التهميش والمحاصرة، أمام تصاعد معدلات الاحتواء. وخاصة في العقدين الأخيرين من حياته حينما أصبح جابر عصفور أداة احتواء المثقفين الفعالة، وإدخالهم كالسوائم إلى حظيرة وزيره فاروق حسني.

وقد مكنه حرصه على استقلاله الثقافي من أن يصبح أحد أبرز رموز مقاومة الفساد الثقافي في مصر في العقدين الأخيرين من حياته خاصة، وأن يحقق مكانته الفريدة في الواقع الثقافي المصري، وفي الساحة العربية الواسعة من ورائه، فقد كان كجل أبناء جيلي عربي الثقافة وليس مصريها فحسب. يعي وحدة الثقافة العربية ويعزز تلك الوحدة بكتاباته واهتماماته. وقد استمر هذا الوعي واكتسب أبعادا أعمق في عقدي السبعينيات والثمانينيات، وبعد أن باع السادات القضية العربية لقاء سلامه المغشوش مع العدو الصهيوني، والذي انتهك به سيادة مصر على أرضها. وقاطع العرب مصر الرسمية، فكانت كتابات فاروق عبدالقادر العربية عن سعداللـه ونوس وعبدالرحمن منيف وحيدر حيدر وفؤاد التكرلي وغيرهم، والتي تصدر من قلب مصر وقت مقاطعة العرب لها، ورفضهم لتوجهاتها الخرقاء نحو أعدائها، علامة بارزة على سلامة الثقافة المصرية، حينما ينتاب الخلل الساسة والسياسة.

فاروق عبدالقادر .. وبداية دور منتظم:
قلت ان فاروق عبدالقادر بدأ حياته النقدية في ستينيات القرن الماضي بالتركيز على النقد المسرحي، في واحدة من أزهى فتراته. وقد ساعده في التركيز على النقد المسرحي أمران: أولهما أن مجلة (المسرح) التي أسسها رشاد رشدي، وبنى مجدها الأول على أكتاف تلاميذه غير الموهوبين ممن كنا ندعوهم في الواقع الثقافي المصري وقتها بحملة حقيبة رشاد رشدي، كانت قد أُغلِقت، قبيل أو بعد صدمة هزيمة 1967 المصمية التي أصابت الواقع الثقافي المصري والعقل العربي من ورائه بالدوار. وحينما أعيد إصدارها بعد النكسة بعام أو عامين، وتولى رئاسة تحريرها كل من صلاح عبدالصبور وسعدالدين وهبة، اختارا فاروق عبدالقادر سكرتيرا لتحريرها. مما وفر له منبرا ودورا في متابعة الواقع المسرحي بشكل شهري استمر لعامين أو ثلاثة. لكن الأمر لم يطل، فسرعان ما عصفت بها أولى ضربات السادات المبكرة للمثقفين، بعد مظاهرات الطلبة الشهيرة عام 1972، والتي خلدها أمل دنقل في قصيدته الرائعة «الكعكة الحجرية».

وهي الضربات التي هندسها الإخواني البارز، محمد عثمان اسماعيل، وبدأت بها عملية تخليق مناخ طارد لكل ما هو عقلاني وعلماني ويساري. تجلى في فصل الكثير من المثقفين من أعمالهم، وفتح المجال أمام أساتذة الجامعة العقلانيين، واليساريين منهم خاصة، للخروج والعمل في الخارج، واستخدام الإخوان والإسلامجية في القضاء على أن نشاط طلابي عقلاني أو علماني في الجامعة، وطرد المثقفين وكل الناشطين ذوي الميول العقلانية أو القومية ناهيك عن اليسارية، وإحلال الإخوان والإسلامجية محلهم في الصحافة والثقافة والجامعة. وهي الإجراءات التي أدت إلى إغلاق تسع مجلات أدبية وثقافية بقرار غبيّ واحد، وإيقاف النشر في هيئة الكتاب، وتحويلها على يدي مديرها محمود الشنيطي إلى مطابع تجارية.
وأذكر أنني في مطلع السبعينيات، وبعد جريمة سهير القلماوي في إزاحة الراحل الكبير يحيى حقي بطريقة خسيسة من مجلة (المجلة) التي كنت أعمل فيها معه، وإغلاق كل المجلات الأدبية (الرسالة، والثقافة، والقصة، والشعر، والفنون الشعبية، وعالم الفكر، وعالم الكتب، والمسرح، والسينما)، أن طلبتني أستاذتي الراحلة الكبيرة لطيفة الزيات للعمل معها في تحرير الملحق الأدبي لمجلة (الطليعة) الشهرية الذي اقترحته هي على لطفي الخولي كي يسد الفراغ الذي أحدثته تلك الهجمة الظلامية، وكانت تصدر عن مؤسسة (الأهرام)، الأمر الذي حماها من مخططات الإسلاميين بزعامة محمد عثمان اسماعيل لاستئصال الثقافة والعصف بالمثقفين. وبعد أن عملت بهذا الملحق، الذي لعب دورا مهما في إبراز جيل الستينيات الجديد وقتها وتسليط الضوء على أعماله، لمدة عامين، أخذ المناخ الطارد وقتها يعصف تدريجيا بأعضاء لجنة تحريره، فيغادرون مصر واحدا بعد الآخر. حتى لم يبق منهم سواي.

وفجأة جاءتني فرصة غير متوقعة للسفر إلى بريطانيا، بفضل مبادرة كريمة من علم الدراسات العربية الحديثة فيها الدكتور محمد مصطفي بدوي. وطلب مني لطفي الخولي أن أرشح له من يحل مكاني في هذا الملحق، وفاتحت فاروق عبدالقادر في الأمر فرحب به، ورشحته للطفي الخولي. واستلم فاروق العمل في ملحق الطليعة الأدبي مني في مارس عام 1973، وهو الشهر الذي غادرت مصر في نهايته، ولم أعد لها إلا بعد ست سنوات (عام 1979) جرت خلالها مياه آسنة كثيرة تحت الجسر. وكان هذا العمل الذي استمر لنحو ثلاث سنوات أخرى، بعد عمله في تحرير مجلة (المسرح) قبل إغلاقها، هو آخر عمل منتظم يقوم به فيما أظن. خاصة وأن الأمر لم يدم لـ(الطليعة) إلا لسنوات قلائل حيث عصف بها راحل آخر كان له لمرارة المفارقة دور بارز في الثقافة المصرية إبان ازدهارها الكبير في ستينيات القرن الماضي، لكنه لعب دورا بارزا، دفع ثمنه حياته، في التحول الرديء لها في النصف الثاني من سبعينياته، هو يوسف السباعي.

ويعرف الجميع كم كان عقد السبعينيات في مصر رديئا وعصيبا على الثقافة، بمعناها الضيق الذي يشمل كل الأنشطة الأدبية والفنية والمسرحية (كان هذا هو عقد حرق المسارح في ليلة افتتاح عروضها الخلافية)، وبمعناها الواسع الذي يمتد إلى منظومة القيم الاجتماعية والأخلاقية والفكرية. فقد كان العقد الذي تنامى فيه زحف الظلام على مصر، وبدأت فيه عملية إسدال الحجاب المنظمة على وجوه النساء، وعلى عقول الرجال معا. وهي العملية التي كان رأس حربة عملية تحجيب مصر، فيها هو محمد متولي الشعراوي بعطاياه السخية لتحجيب الفنانات. وما صاحبها من عصف بدور مصر كمركز أساسي للثقافة العربية، ولقوة مصر الناعمة. في هذا العقد العصيب، وخاصة في نصفه الأخير، بدأت مشاكل فاروق عبدالقادر في التفاقم. فبعد أن كان يسيرا على مثقف مستقل في واقع يسود فيه مناخ يتسم بالحد الأدنى من العقلانية، فلم يكن المناخ الثقافي في عقد الستينيات مثاليا إذ شهد اعتقال الكثير من مثقفي مصر ومبدعيها، أن يعيش حياة كريمة يقبض فيها على استقلاله ونزاهته كالقابض على الجمر. أصبح هذا الأمر أشد صعوبة في النصف الثاني من السبعينيات والنصف الأول من الثمانينيات، وقبل وفود فاروق حسني إلى المشهد الثقافي وبداية عمله النشيط، هو وتابعه الهمام جابر عصفور، في إخصاء الثقافة وإدخال المثقفين للحظيرة، حسب تعبير شهير له؟

ومما زاد الأمر صعوبة أن هجرة المثقف بقلمه إلى الفضاء البيروتي الحر الذي شكل على مد سنوات الستينيات، وطوال النصف الأول من السبعينيات متنفسا للكثيرين، انتفت أو أصبحت شبه مستحيلة بعد العصف ببيروت، كمركز ثانٍ للثقافة العربية بعد القاهرة ومعها، باندلاع الحرب الأهلية اللبنانية (1975 – 1990). صحيح أن فاروق عبدالقادر هاجر بقلمه كثيرا طوال الثمانينيات، وكتب في الصحف والمجلات البيروتية والقبرصية بعد اجتياح بيروت، إلا أن ما ضاعف من حدة الحصار الرديء حوله هو عملية تضييق الخناق على المثقف المستقل في مصر، والتي بدأت منذ تولي فاروق حسني وزارة الثقافة في أواخر الثمانينيات. وصاحب ذلك عامل آخر هو ازدياد معدلات التضخم وارتفاع أسعار كل شيء، وانخفاض مردود العمل الثقافي وتضاؤله المستمر في الوقت نفسه. بصورة بدا معها وكأن هناك عملية جهنمية لتهميش المثقف المستقل والثقافة المستقلة، على الصعيدين الاجتماعي والاقتصادي معا. وهو الأمر الذي تزامن مع الهجمة الشرسة على الطبقة الوسطى وقيمها التحديثية، لصالح الهجمة الظلامية الوهابية عليها.

كما تزامن هذا التردي ثقافيا مع اضطلاع الهوامش النفطية بدور ثقافي تحل فيه مكان المركز بمجلات صقيلة خاوية، رفض فاروق عبدالقادر إغراءات الاستدراج للكتابة فيها، بنفس الصرامة التي رفض بها عمليات المؤسسة الثقافية المصرية لاحتوائه كالكثيرين. وإن درأ عن نفسه عوادي الزمن الرديء بالترجمة. وقد انفقت القسم الأكبر من عقد الثمانينيات بين مصر والمنافي الغربية، قبل أن يستقر بي المقام كلية في لندن ابتداء من عام 1987. وكان فاروق يطلب مني كلما سافرت أن أجلب له كتبا تصلح للترجمة، وتتفق مع توجهاته النقدية والفكرية.

وقد ترجم بالفعل من بين ما جلبت له من كتب كثيرة كتابي بيتر بروك (نقطة التحول: أربعون عاما من استكشاف المسرح) 1990، وريموند وليامز (سياسات الحداثة) 1996. ومع ذلك كان يعاني كثيرا من الحصار الاقتصادي الخانق، فهو لم يهتم بالحصار الثقافي، بل حارب معركته مع الفساد الثقافي ببسالة منقطعة النظير، لكنني كنت أدرك أن الحصار الاقتصادي صعب. ولذلك ما أن أتيحت لي فرصة للتحكيم في جائزة سلطان العويس، وكان قد تقدم لها، حتى حرصت على أن يمنح هذه الجائزة. فحصل على جائزة النقد مناصفة مع الناقدة اللبنانية الكبيرة يمنى العيد عام 1992، ليس فقط لأنه جدير بها وبما تنطوي عليه من رأسمال رمزي، ولكن أيضا لأنه كان في حاجة إلى تعزيز استقلاله الاقتصادي، حتى يواصل الذود عن استقلاله الثقافي بجسارة أكبر، ودون أي حساب للعائد المادي. لأنني من الذين يعتقدون أن الاستقلال الاقتصادي للمثقف هو الأساس المتين لأي استقلال فكري أو ثقافي. لكن فاروق عبدالقادر لم يكن من الذين يقيمون لاعتبارات الحياة المادية أي حساب. فبدد مال الجائزة في أعوام قليلة، بدلا من استثماره فيما يضمن له عائدا يسد احتياجاته المادية المتفاقمة مع ارتفاع الأسعار وتضاؤل مردود العمل الثقافي الجاد.

الناقد المسرحي بين المسرح المصري والغربي:
لكن همّ فاورق وغرامه النقدي كان بالمسرح الذي وجد فيه تحققه حينما بدأ ممارسة العمل النقدي. وكما كان العالم يتهاوى من حوله في ثمانينيات القرن الماضي ويضيّق الخناق عليه، كان المسرح المصري أيضا يتداعى. بعدما أصيب في عقدي الثمانينيات والتسعينيات بالسكتة الأكاديمية على يد كتاب غير موهوبين مثل سمير سرحان وفوزي فهمي ومحمد عناني وغيرهم. درسوا المسرح، وحصلوا على شهادات فيه، ولكنهم أخفقوا في تقديم دراما واحدة سيبقى لها أثر في المسرح المصري. وكانت خدماتهم الجليلة للمؤسسة الثقافية الرسمية والسياسية معا هي سبيل نصوصهم الركيكة لخشبة «المسرح القومي»، أعرق مسارح مصر. وكانت جوقة من نقاد المؤسسة الجدد ومنافقيها قد أخذت تروّج أعمالهم، ولكن فاروق كان لهم بالمرصاد. وكشف عن تدني مسرحهم وركاكته، كما كشف من قبل عن تردي مسرح كبيرهم الذي علمهم السحر، رشاد رشدي. ومن يقرأ كتابته، وكتابات فؤاد دوارة عن المسرح المصري التي زاملتها، يجد فيهما متابعة دقيقة لآليات سقوط المسرح وترديه. وللعلاقة الجدلية المضمرة بين تردي الواقع الثقافي والسياسي وتدهور المسرح الذي يصدر عنه، لأن المسرح من أكثر الفنون جمعية، وأحوجها لمناخ نقدي عقلي وحر.

والواقع أن أول كتب فاروق عبدالقادر النقدية، فقد مارس العمل النقدي طويلا قبل أن يصدر كتابه الأول، (ازدهار وسقوط المسرح المصري) 1979، وكتابه التالي (مساحة للضوء .. مساحة للظل: أعمال في النقد المسرحي 1967 – 1977) 1986، يرصدان هذا الازدهار ويؤرخان للسقوط، ويقدمان إسهامه البارز في نقد المسرح المصري، وتتبع مساره عبر عدة عقود، منذ إزدهارته الكبيرة في الستينيات، وحتى أفول نجمه كلية مع نهاية القرن العشرين. وإذا ما أضفنا إليهما كتابه الثالث (نافذة على مسرح الغرب: دراسات وتجارب) 1987، وكتابه الصغير عن مسرح سعداللـه ونوس (من أوراق التسعينيات: كراسة سعداللـه ونوس وأعمال أخرى) 2000، فضلا عن عدد من الفصول، أو بالأحرى المقالات عنه، في كتبه التالية، سنجد أننا بإزاء أعمال ناقد رصد تحولات المسرح المصري والعربي بحساسية نقدية فائقة. تعي أن المسرح نص درامي في الأساس، ولكنها لا تهتم مع ذلك بالنص وحده، بل توجه الكثير من عنايتها لجماليات العرض المسرحي ومكوناته المختلفة من تصميم للمشهد وتمثيل وإخراج.

فقد كان النقد المسرحي مشروعه الأساسي، إذا ما أردنا أن نتحدث عن مشروع نقدي له. اهتم بتحولاته في مصر أساسا، ورفدها ببعض الاستقصاءات عن المسرح العربي، وعن أكثر كتابه موهبة، وهو سعداللـه ونوس. بصورة لا يكاد يفلت منها شيء ذا بال، حيث يكتب عن بدايته عند أبو نظارة يعقوب صنوع (1839 – 1912)، وعند نجيب الريحاني، وتجلياته الجديدة عند محمد صبحي، وعن بعض شخصياته المنسية لدي مناضلة مسرحية سياسية مثل سناء المصري (1958 – 2000). كما يكتب عن مهرجان المسرح التجريبي في مصر، ومهرجان بغداد المسرحي، وغيرهما من المهرجانات.

ثم عزز هذا كله بعدد من الترجمات لبعض الدراسات النقدية في المسرح الغربي المعاصر، ككتاب جيمس روس إيفانز، (المسرح التجريبي من ستانسلافيسكي إلى اليوم) 1979. وبعدد من الترجمات لبعض النصوص المسرحية المهمة لتينيسي وليامز (ليلة السحلية، وفترة توافق) 1964، وأنطون تشيخوف (بلاتونوف أو فضيحة في الريف) 1968، وآرتور آداموف (لعبة البنج – بونج) 1969. صحيح أنك لا تجد خيطا يربط بين اختياراته لترجمة النصوص، اللهم إلا الرغبة في توسيع أفق معرفته بتقنيات الكتابة المسرحية لدى عدد من كتاب المسرح المجيدين، أو باستقصاءات التجريب الجديدة فيه لدى عدد آخر، أو ببعض الدراسات النقدية فيه كما هو الحال في كتاب إيفانز.

لكن إضافة فاروق عبدالقادر للنقد المسرحي في مجال الترجمة، والتي تميز بها وحده، ورفد عبرها أدواته النقدية المتعلقة بدراسة العرض المسرحي، وآليات التفاعل بين العرض والمشاهدين، وقدم بها خدمة كبيرة لنقاد المسرح ودارسيه، تتمثل في اهتمامه بأعمال المخرج والدراماتورج المسرحي الانجليزي الكبير بيتر بروك. وهو المخرج الذي أقام معملا لدراسة آليات العرض المسرحي وحركيته، والتعامل مع الفضاء الخالي المجرد وجسد الممثل، في باريس منذ عقود. فقد ترجم فاروق دراسته الرائدة والتي شكلت فتحا نظريا واستقصاءً معرفيا بارزا في مجال تصور العرض الحركي، وبلورة ماهية الظاهرة المسرحية، وقدمها في كتابه العلامة (المساحة الفارغة) عام 1986، ثم كتابه الكبير الذي جمع فيه الكثير من دراساته التالي (نقطة التحول: أربعون عاما من استكشاف المسرح) 1990. وكان قد ترجم قبلهما مسرحيته الوحيدة (us نحن أو أميركا) عام 1971. بصورة تشكل معها ترجماته أكمل تغطية في العربية لأعمال هذا المسرحي الذي يعد أحد أبرز أعلام المسرح الغربي المعاصر.

معايير التقييم وبنية الأوراق النقدية:
وإذا كان المسرح هو مركز الثقل في إنجاز فاروق عبدالقادر النقدي، فإن متابعة الأعمال الإبداعية الجيدة، المصرية منها والعربية، والوقوف ضد الفساد الثقافي وتعرية الاستهانة بالقيم الأدبية والأخلاقية منها على السواء كان شاغله الثاني، كناقد يطمح للعب دور في إرساء القيم النقدية والعقلية السليمة في واقعه، ويدافع عن نقائها وأخلاقياتها. ذلك لأن فاروق عبدالقادر كاتب مقال نقدي في المحل الأول، ومراقب ذكي مخلص للحركة الأدبية والفنية المصرية والعربية، يسعى لأن يلعب دورا فعالا فيها. هو دور الضمير النقدي الذي يهمه التوصيف والتقييم، وأحيانا يمتد التقييم كي يصبح تقويما وتقريعا لما يراه من فساد واعوجاج، أكثر مما يهمه التحليل النصي أو المنهجي والتنظير. ولذلك فإن جل كتبه هي في حقيقة الأمر تجميع لتلك المقالات. باستثناء كتاب وحيد، هو كتابه الصغير (البحث عن اليقين المراوغ: قراءة في قصص يوسف إدريس) 1998، وهو الكتاب الوحيد الذي يمكن القول أنه كتبه كدراسة مطولة عن أحد جوانب العالم الإبداعي الثري لعملاق الأقصوصة المصرية، يوسف إدريس (1927 – 1991)، وإن لم يستفض فيه بالصورة التي تكفي كي تشغل حيز كتاب صغير نسبيا ككتاب الهلال (150 صفحة من القطع الصغير)، أو كي تستوعب كل إنتاجه القصصي وتحولات بنية القصة ورؤاها فيه. فأضطر حتى يكمله أن يضم له عددا من قصص يوسف إدريس في نهايته كنماذج مختارة هي (في الليل، حادثة شرف، صاحب مصر، الجرح، والعملية الكبرى) والتي تحتل نصف عدد صفحات هذا الكتاب تقريبا.

وينقسم الكتاب إلى ثلاثة فصول: أولها: «نهايات وبدايات جدل الفرد والجماعة» والثاني «عن المرأة والجنس في القرية والمدينة» والثالث «عن الواقع وتحولاته: من واقع ما قبل 1952 إلى واقع ما بعد 1967». ومع أن الكتاب ينطلق من تقدير حقيقي لموهبة يوسف إدريس الإبداعية الكبيرة، وخاصة في فنه الأثير، فن الأقصوصة؛ ويسعى لرصد بعض القضايا الأساسية التي طرحها في أقاصيصه؛ إلا أن الرغبة في التقييم/ والتقويم لا تتخلى عنه. فلا ينسى في هذا الكتاب الصغير الذي يحتفي بقصص يوسف إدريس القصيرة، أن يندد في فصله الأول ببعض سلوكيات يوسف إدريس العامة، ومواقفه التي تتناقض مع رؤيته الحقيقية المضمرة في أعماله الإبداعية الباقية. وهي الرؤى التي يهتم الكتاب بالكشف عن تفاصيلها أكثر من اهتمامه بتحليل استراتيجيات الكتابة التي بلورتها، أو البنى النصية التي تنطوي عليها. فآخر ما يهتم به فاروق عبدالقادر هو تناول الشكل من فرط انشغاله بالمضمون. ناهيك عن الوعي بأن للشكل الفني الذي يتبدل ويتغير، في الأعمال الجيدة كي يبلور المضمون، محتواه الفكري والمضموني.

قلت أنه باستثناء هذا الكتاب الصغير عن يوسف إدريس، وهو الاستثناء الذي يؤكد القاعدة ولا ينفيها، فإن كتب فاروق عبدالقادر المنشورة هي تجميعات مختلفة لمقالاته ومتابعاته لما يدور في الحركة الأدبية والثقافية. ابتداء بـ(أوراق من الرماد والجمر) 1988، وانتهاء بـ(من أوراق نهاية القرن: غروب شمس الحلم) 2002، مرورا بـ(رؤى الواقع وهموم الثورة المحاصرة) 1989، و(أوراق أخرى من الرماد والجمر: متابعات مصرية وعربية 1986 – 1989) 1990، و(من أوراق الرفض والقبول: وجوه وأعمال) 1992، و(من أوراق التسعينيات: نفق مظلم ومصابيح قليلة) 1996.

ويلاحظ من يتأمل عناوين هذه الكتب جميعا أنها تؤكد على كونها «أوراقا»، وهي بالفعل أوراق تجمعت فصارت كتبا. وهي أيضا أوراق لأن فاروق وأغلب أبناء جيلي كانت الكتابة عندهم بالورقة والقلم، ولم يدخل الحاسوب في أسلوب أو تقاليد الكتابة عندهم، إلا مع عدد نادر منهم. آخر ما استخدمه من أدوات الثورة التقنية هو آلة تصوير الوثائق، حيث كان يحرص على تصوير مقالاته ويحتفظ بنسخة منها، قبل أن يبعث بها إلى منبر النشر، وبعد أن تخلى عن استخدام «ورق الكاربون» القديم، والذي كنا نستخدمه أثناء تبييض المقال للاحتفاظ بنسخة منه.

لكن الأوراق أيضا في العناوين علامة على بنية لها محتواها، وهي أننا بإزاء أوراق أو بالأحرى شهادات متفرقة يحرص كاتبها على أن تلعب دورا لاحقا للدور الأساسي الذي لعبته كل ورقة منها في حينها. وهو هنا دور الشهادة الأشمل والأوسع على مرحلة بعينها. ولذلك فإنها توشك أن تقدم توصيفاتها لطبيعة المراحل التي مرت بها الحركة الثقافية المصرية في العقود الأخيرة والتعيسة من القرن الماضي وفي السنوات الأولى من هذا القرن، والتي أسفرت عن انفجارة الثورة المصرية في 25 يناير 2011. مرحلة الرماد والجمر، حينما ترمدت الأحلام والمشاريع الكبيرة، وعصفت صدمة النكسة الدامية بالكثير، وأصبح القابض على مبادئه، الحريص على نزاهته في واقع يهرول صوب التردي والهوان، كالقابض على الجمر. ثم مرحلة «الثورة المحاصرة» والاختيار المر بـ«الرفض او القبول» حيث كان الفرز قاسيا يستأدي المثقف ثمن مواقفه، وقد بدأ الواقع يسفر عن أكثر تجلياته قبحا وفسادا، مع مرحلة الدخول في «نفق معتم»، تضيئه بالكاد «مصابيح قليلة»، وصولا إلى انسداد الأفق كلية بعد «غروب شمس الحلم» مع مطالع القرن الجديد.

التصور المنهجي التقييمي المغاير:
ولنتأمل معا كيف تبلور مقدمة كتاب (أوراق أخرى من الرماد والجمر: متابعات مصرية وعربية 1986 – 1989)، القاهرة، مؤسسة العروبة للطباعة، 1990، بعض ملامح أولى تلك المراحل. فبعد أن ينعي تجاهل الصحافة الأدبية في الزمن الرديء لكتابه السابق يقول «والحقيقة أنني لا أرى في الموقف كله عجبا أو غرابة. ذلك أن كلمة النقد قد أصبحت في واقعنا الثقافي هذا المتردي كلمة ملتبسة المعني أو سيئة السمعة. اختلط النقد بسواه، وماعت الحدود: الأخبار المصورة أصبحت نقدا، ومحررو الصفحات الفنية أصبحوا نقادا. وكل صاحب دكتوراه في أي فرع من فروع المعارف الأدبية قد أصبح أستاذا ناقدا. وأصبحنا نقرأ في نقد هذه السنوات الأخيرة عجبا. ثمة من يعد النقد كهنوتا له طقوس خاصة لا يتم بغيرها. ولكي يتجنب حدة الرفض والقبول يلوذ بالمصطلح الغربي، ويحاول قسرا تطبيقه على أعمال عربية أو مصرية في حيادية مشبوهة. وهذا يعني أن أصحاب هذا النقد لا يبصرون غير نموذج واحد هو النموذج الغربي، كما بلغهم، ومن ثم يعتمد نجاح العمل عندهم على قدر احتذائه لهذا النموذج. وما يفوت أصحابنا كهان المصطلح أنهم حين ينقلونه لا ينقلون معه السياق الذي نبت فيه، والذي يدل عليه. فيصبح نبتة غريبة بغير جذور. انقطع ما بيننا وبين مصطلح النقد العربي القديم أو كاد، ومصطلح النقد الغربي فقد دلالته الاصطلاحية ما دام غير متفق عليه بين الأطراف المختلفة التي تستخدمه»(أوراق أخرى ص6).
فقد كان عقد الثمانينيات هو عقد ازدهار مجلة (فصول) ووصول الثورة النقدية للقرن العشرين إلى العالم العربي، وسعي عدد من نقاده لتطبيق مناهجها المتباينة من أسلوبية وبنيوية ونسوية وسميولوجية وتفكيكية وغيرها. وهو التطبيق الذي شابه الكثير من العوار والتبسيط، وأحيانا التخبط والتخليط. ومع أن فاروق عبدالقادر لم يكن مغرما بأي من تلك المناهج، فإنه لم ينكر حق الآخرين في الاهتمام بها، شريطة وعيهم بشروط بداياتها من ناحية، وبآليات عمليات ارتحالها الثقافي التي قعد لها إدوار سعيد في مقالتين بارزتين من ناحية أخرى. لأنه يقول في مقدمة هذا الكتاب «إن من حق الناقد، ربما كان الأدق أن أقول من واجبه، أن يستعين بمختلف المناهج التي تقوم عليها علوم المجتمع والنفس والإنسان لتحقيق مزيد من الفهم للعمل الذي يتصدى لنقده، وللعلاقة بينه وبين الواقع الذي صدر عنه ليعود فيتوجه إليه. ما دام قادرا على صياغة نهج متسق العناصر، لا يتصادم آخره بأوله، لكن ما ليس من حقه أن ينقل منهجا من تلك المناهج، دون نقده، وأن يسعى إلى تطبيقه على أعمال تنتمي لواقع غير الواقع الذي صدر عنه هذا المنهج في أصله الأول، فمثل هذا التطبيق لن يبلغه إلا نتائج خاطئة أو قاصرة أو مضللة. ثم أين هو هذا المنهج الصافي المتكامل كالبلورة؟»(ص 6 أوراق أخرى من الرماد والجمر)

وإذا كان المنهج الصافي المتكامل كالبلورة لا وجود له، فلا بأس من طرح كل أسئلة المنهج ومشاغلها النظرية وراء ظهره. وهذا ما فعله فاروق عبدالقادر؛ لأن ما يهمه حقيقة هو أن يقدم أوراقه أو شهاداته على ما انتاب الواقع من تحولات. وأن يكون صادقا مع قارئه، في زمن استشرى فيه التدليس والتخليط، وأصبح القارئ نفسه ضحية هذا التدليس الذي تتخلق عبره مكانات أدبية مزيفة، ويسوّق فيه رأسمال رمزي مفبرك ومشبوه. لذلك يقول في مقدمة كتابه الأخير (غروب شمس الحلم) «إنني أفهم أن الناقد هو دليل القارئ والمتلقي، هو عينه المدربة المثقفة المتفحصة. إنه ليس ضيفا ثقيلا بينه وبين العمل الإبداعي، لكنه أقرب لأن يكون الجسم الذي تتخلله أشعة الضوء، وبقدر شفافيته أو عتامته تتحدد زوايا الانكسار. ومن حيث أنه دليل القارئ في أرض يقطعانها معا، ولأن الرائد لا يكذب أهله، فقد وجب عليه ألا يخدع قارئه، أو يدلس عليه، أو يلقي إليه بكلمات متشابهات، أو يغرقه في مستنقع مائع من التعبيرات والتشبيهات والإحالات دون جدوى، أو يتعالى عليه. كأن يد الناقد أصبحت هي العليا، ويد القارئ أو المبدع هي السفلى! والتزام الناقد بتلك القيم ليس ضرورة مهنية فقط، لكنه التزام أخلاقي وإنساني في المقام الأول.» (غروب شمس الحلم: ص6)

وسوف نعود في القسم الأخير من هذه الدراسة إلى التزام الناقد الأخلاقي والإنساني وتجلياته المختلفة في أعمال فاروق عبدالقادر وما جرته عليه من مشاكل. ولكن لابد قبل ذلك من الكشف عن مدى أهمية شهادته على مراحل ثقافتنا المعاصرة وتحولاتها في كل تلك الأوراق/ الكتب. وتكمن أهمية هذه الشهادة في أنها تصدر عن ضمير نقدي حر، لا يساوم على دوره التنويري إزاء القارئ، أو على مسؤوليته في فرز الغث من الثمين. لذلك كان يولي عناية كبيرة لاختيار النصوص أو الكتاب الذين يكتب عنهم أوراقه بالصورة التي تجد معها، وأنت تقرأ أعماله الآن بأثر رجعي، وأدعو أن تقوم هيئة ثقافية بطبعها كاملة، أنها لم تفلت عملا جيدا لم تكتب عنه. ولم تترك ظاهرة سلبية لم تتناولها بقسوة جراح يستأصل الأورام الخبيثة من جسد الواقع الثقافي. فقد كتب عن أبرز ما صدر في مصر لكل كتابها الموهوبين تقريبا: من توفيق الحكيم ويحيى حقي ونجيب محفوظ ولويس عوض وعبدالرحمن بدوي وفتحي رضوان وحسين فوزي وعلي الراعي وفتحي غانم ويوسف إدريس وألفريد فرج ومحمود العالم وعبدالعظيم أنيس، ومحمد أنيس، إلى بهاء طاهر ومحمود دياب ومحمد البساطي وإبراهيم أصلان وعلاء الديب وصنع اللـه إبراهيم وأبو المعاطي أبو النجا، وحتى محمد المخزنجي، ومحمد المنسي قنديل وحجاج أدول ومحمد ناجي ونجوى شعبان وسحر الموجي وعزت القمحاوي، وعبدالوهاب الأسواني وأسامة أنور عكاشة وهناء عطية، وغبرُيال زكي ورفعت السعيد وليلى عنان.

وإذا ما تأملنا قائمة الكتاب العرب الذين كتب عنهم سنجد أنها لا تقل طولا وأهمية عن القائمة المصرية، إذ تضم الطاهر وطار وفؤاد التكرلي وعبدالرحمن منيف وجبرا إبراهيم جبرا وزكريا تامر وخيري الذهبي وحيدر حيدر والطيب صالح والسوداني مروان حامد الرشيد وشوقي بغدادي ومحمد شكري ومليكة أوفقير ومحمد برادة وفاطمة المرنيسي ومحمد خضير وبثينة الناصري ووارد السالم وغازي العبادي ولطفية الدليمي وعلي خيون وعبدالخالق الركابي وعبدالوهاب البياتي، وفيصل الحوراني وسحر خليفة وحنان الشيخ. صحيح أنه يكتب عادة عن أعمال مفردة لهؤلاء، ونادرا ما يكتب تقييما شاملا للكاتب، إلا إذا ما تصادف رحيله؛ إلا أن الحصيلة الكلية التي تخرج بها من قراءة كتبه تقدم لك مسحا أدبيا شاملا لما تناوله كتاب كل مرحلة من قضايا، ولما يدور في ضمير الواقع الثقافي والاجتماعي، بل والسياسي، من هموم. تتكون فيه الصورة من خلال تلك الفسيفساء التي تتجاور فيها أعمال مختلفة في مشارب أصحابها وفي أساليب كتابتها، وفي مناهج السرد أو الدراما فيها، إلا أنها تتكامل في قدرتها على أن ترسم لنا جدارية كبيرة للمراحل المختلفة التي عاشتها الثقافة العربية في نصف القرن الأخير، ولبنية المشاعر التي سادت نصوصها الجيدة.

تقويم الاعوجاج الثقافي والصرامة الأخلاقية:
ولا يكتفي فاروق عبدالقادر في جداريته العريضة تلك بتقديم الأعمال الجيدة وحدها، ولكنه يهتم أيضا برصد الظواهر السلبية، وتعرية الشخصيات التي تطفو كالطفح على وجه الواقع الثقافي تستأثر لفسادها بمكان فيه لا تستحقه، وتخلق لنفسها عبر هذا المكان مكانة لا تبررها موهبتها المحدودة أو المعدومة. يقول فاروق عبدالقادر في مقدمته لـ(أوراق أخرى من الرماد والجمر) «إن الناقد الذي يعي دوره ومهمته إنما هو ناقد للفساد والقصور والعجز وسوء الفهم، وتخفي سوء النوايا وراء الواجهات المزوّقة، طامح إلى كشف أشكال هذا كله وتجلياته ومواجهتها، ذلك أنه يحمل بين جنبيه، من حيث هو مبدع، تلك الشهوة القديمة المتجددة لإصلاح الكون الفاسد» (ص 8 أوراق أخرى).

ثم يتساءل في تقديمه لكتابه الأخير (من أوراق نهاية القرن) بعد توصيف الواقع العربي الثقافي المظلم في نهاية القرن الماضي ومطلع القرن الحالي «في مثل هذا الواقع، هل ثمة دور للعمل النقدي؟ الجواب نعم! شرط أن يكون هذا العمل متصديا وجسورا. لا يتعثر بين التخفي والمكاشفة. لا يلوذ بمصطلح غامض يفتقد الوضوح واليقين. لا يستدعي سر الوجود من الصمت إلى الصمت. بل يكون العمل بينا مبينا، غير ملتبس، لا يتحرج من الكشف عن رسالة العمل الذي يتصدى له، ولا يتردد في الحكم على ما تحمله هذه الرسالة من فائدة وصحة. ليس ثمة عمل مجاني، وقد أسقطت الممارسة كل دعاوى «العمل الفني هو ما هو»، ودعاوى «الفن من حيث هو خلاص فردي» وما إليها من دعاوٍ. هنا والآن، لا جدوى في عمل لا يعري قبح وفساد ما هو قائم، ولا يتطلع إلى عالم أكثر عدلا وأمنا وجمالا. يفعل هذا بأدوات الفن، لا بأدوات أي نشاط إنساني آخر» (غروب شمس الحلم: ص6).

وقد فعل فاروق عبدالقادر هذا طوال حياته التي لم يهادن فيها الفساد القائم مهما تسلح بسطوة السلطة أو الشهرة الزائفة أو بهما معا، كما هو الحال في أغلب معاركه. ودفع لذلك الثمن، فما أن كتب مثلا عن حقيقة زيف كاتب ما كان يرأس تحرير جريدة أسبوعية للأدب حتى أصدر أوامره بمنع نشر أي من مقالاته أو حتى أي خبر عنه. وله عدة معارك مع رشاد رشدي مرة، ومع تلميذه النجيب سمير سرحان الذي كتب فاروق عن كتابه (على مقهى الحياة) في عنوان لافت «كل هذه الأكاذيب في كتاب واحد». ولما كان كل من رشاد رشدي وسمير سرحان قد رحلا بما لهما أو عليهما، فسوف أتوقف هنا عند ما كتبه عمن بقي حيا من تلك الفقاعات الثقافية، ألا وهو جمال الغيطاني. في كتابه (أوراق أخرى من الرماد والجمر) فصل بعنوان «رسالة في الصبابة والوجد: قطع الأرابيسك والتعبير الزائف عن التجربة» يكشف فيها حقيقة تلك الأكذوبة المسماة بجمال الغيطاني – بدأ حياته بنفاق رئيسه في الأخبار، مصطفى أمين بكتاب "مصطفى أمين يتذكر"، بعدما أفرج السادات بطلب من كيسنجر عنه من السجن لأنه كان محكوما عليه في قضية جاسوسية وأدين فيها في زمن عبدالناصر – والتي تحرص على نشر الدعاوى الفضفاضة عن مكانها ومكانتها، وتسوق بمهارة لهما.
حيث يبدأ مقاله باستهجان تلك الدعايات الذاتية الممجوجة التي يروجها الغيطاني عن نفسه، وتساهم في ترويج بضاعته الفاسدة. فقد نشرت روايته مسلسلة في صحيفة أسبوعية، ثم صدرت عن دار نشر حكومية بعد شهر. «وقبل أن تتم «روز اليوسف» نشر حلقاتها، صدرت (رسالة في الصبابة والوجد) لجمال الغيطاني قدمتها «روايات الهلال» بسطور جاء فيها «تولوستوي من مصر: هذا هو الإسم الذي أطلقته الصحافة الأدبية العالمية! (علامة تعجب من عندي) على جمال الغيطاني، تعبيرا عن مكانته في الرواية العربية الحديثة. وأرجو أن توقف سيل الأسئلة الذي يمكن أن يتدافع: ولماذا تولوستوي؟ .. وهل من اللازم أن يظهر في مصر تولوستوي؟ وإذا كان مقدرا له أن يظهر في مصر، أكان سيصبح هذا الذي نعرفه، أم شيئا آخر؟ أقول لك هذه أسئلة غير مجدية، والأمر كله آفة قديمة لم نبرأ منها بعد، لعلها بدأت حينما وصف الخديوي إسماعيل يعقوب صنوع بأنه موليير مصر» (ص115).

ثم يمحص فاروق عبدالقادر النص الذي وُصِف صاحبه بأنه تولستوي مصر، فيجد أنه يفتقر بداءة لسلامة اللغة، وأنه مترع بالأخطاء الإملائية منها والنحوية. فيقول: «إن الأخطاء اللغوية التي يحفل بها العمل من حيث البنية والنحو والصرف جميعا، تكتسب أهمية مضاعفة، من حيث أن العمل كله يقوم على اصطناع لغة مغايرة، بعبارة أخرى لو جاز التغاضي عن مثل هذه الأخطاء في سياق آخر، فهو لا يجوز هنا أبدا. فحين تصدم القارئ من الصفحات الأولى أخطاء فادحة في إعراب الكلمات أو استخدامها، فإنما تسقط ثقته في حصة التجربة كلها».(ص 115) ثم يقدم لنا نماذج كثيرة من هذا الأخطاء يثبت بها ما يقول. ويضيف «ومتابعة هذه الأخطاء أمر مضجر حقا – وما فات عليك منها في الصفحات الأربع الأولى فقط – نماذج لبقيتها. هذا يعني أمرين مرتبطين: أن الكاتب لم يستكمل بعد – ورغم آلاف الصفحات التي سودها – معرفة أدواته، الأمر الثاني، ولعله سيزيد وضوحا فيما يلي، أن تلك الركاكة سمة ملازمة للغة التي يستلهمها. ولا يقف الأمر، بطبيعة التجربة ذاتها، عند حدود الكلمات، بل يتجاوزها إلى استخدام صيغ وتراكيب تشي ببلاغة رثة، لا جمال فيها، ولا قدرة على الإفصاح والإبانة.» (ص 115 – 116)

ثم يختم دراسته الكاشفة تلك عن تهافت النص لغة وبنية وتجربة، بالقول: «لكن المسألة هي أن الغيطاني لا يعرف سوى اللغة العربية في عصور انحطاطها وعجمتها. ومن الذين كتبوا بها في تلك العصور يستوحي لغته. وهو دون أن يقوّم ما بها من التواء، فيثبتها كما هي، مستغلقا على عامة القارئين، موحيا لهم – في الوقت ذاته – بأن وراء الأكمة ما وراءها. وما وراءها غير الخواء. أقرب وصف عندي لهذا العمل وصياغته قطع الصدف الملصقة بلوحة الأرابيسك، انتظر حتى تتساقط تلك القطع، فيبدو لك عري الخشب وقبحه». (ص117) ويضيف: «وقد تسأل أخيرا عن سر الحفاوة التي يلقاها مثل هذا العمل، فينشر مرتين خلال شهرين اثنين هما اللذان انقضيا منذ فرغ منه صاحبه (دع عنك الآن تلك الفكاهة عن تولوستوي مصر) وأنصحك بالبحث عن الإجابة مستعينا بعلوم أخرى، غير الإبداع الأدبي، العلاقات العامة والتسويق وإدارة الأعمال».(ص117)

أما في كتابه (نفق معتم ومصابيح قليلة) المركز المصري العربي، 1996، فإن فيه مقالا آخر عن نفس الشخص بعنوان «جمال الغيطاني في (هاتف المغيب): عمل محدود القيمة، فقير الخيال» يستهله قائلا: «قبل خمس سنوات كتبت عن عمل لجمال الغيطاني (انظر: رسالة في الصبابة والوجد – قطع الأرابيسك والتعبير الزائف عن التجربة في (أوراق أخرى من الرماد والجمر 1990)، وفي مقالي ذاك تساءلت عن سر الحفاوة التي لقيها هذا العمل حتى نشر مرتين في شهريين متتاليين على ما فيه من زيف وركاكة، ونصحت القارئ أن يبحث عن إجابة السؤال في مجال أخر غير الإبداع الأدبي، مجال العلاقات العامة والتسويق وإدارة الأعمال. واليوم أجدني أكثر تمسكاً بما قلته آنذاك، لم تزدني السنوات الخمس إلا إصراراً على صحة هذا القول، وأنا أعرض لعمله الأخير (هاتف المغيب)» (نفق معتم، ص 259)

ذلك لأن (هاتف المغيب) عمل رديء يتسم بفقر التجربة وإملاق الخيال والركاكة اللغوية معا. ويبدأ فاروق عبدالقادر مقالته عنه بحكاية ما يدور فيه من سرد مرتبك للقارئ: «هذا جمال بن عبداللـه، كاتب الغرب، أقصى حدود اليابسة المطلة على المحيط يأمره السلطان بتدوين ما يمليه عليه (الغريب) أحمد بن عبداللـه المصري، الصعيدي، القاهري، الذي خرج من مدينته استجابة لأمر هاتف هتف به أن يرحل، ويتبع الشمس إلى مغيبها … والرواية – بعد – هي ما أملاه أحمد، وما قاطع به جمال، وليست تلك سوى حيلة شكلية خالصة، فما يقطع به جمال بن عبداللـه (يهفو الكاتب مرة فيثبت اسمه هو: جمال بن أحمد، ص21) لا يكاد يضيف شيئاً سوى مزيد من إرباك العمل وإجهاد قارئه: حكايات وأوصاف مماثلة في أسلوب مماثل، تنويعات صغيرة على ذات اللحن، لذا لا نفاجأ حين ينتهي العمل بالتماهي أو التوحد بين الاثنين: الراوي والكاتب. في السطور الأخيرة يقول الكاتب عن رحيل أحمد: «لم يكن رحيله إلا رحيلي، مدارجه مدارجي … بعينيه ألبى، أتطلع.» يصبح السؤال إذن، ماذا رأى أحمد بن عبداللـه في رحلته، منذ خروجه من القاهرة في القافلة المتجهة صوب الغرب، حتى اختفى من تلك المدينة الواقعة على المحيط؟

والجواب البسيط على هذا السؤال هو لا شيء يستحق الاهتمام به، اللـهم إلا تسويد المزيد من الصفحات بتلك اللغة الركيكة المنقولة عن تاريخ ابن إياس بلا فهم أو حساسية. والتي لا تستطيع أن تشيد عالما ينتمي إلى منطقة المغرب العربي بتواريخها المغايرة ولغاتها الوسيطة المختلفة. ويزداد العمل ركاكة وارتباكا لأن الكاتب كما يقول فاروق عبدالقادر: «لا يحدد زمناً لأحداث روايته، لكن الشواهد تشير لأنه رجع بها إلى ذلك الزمن الذي لا يكاد يعرف سواه: زمن سلاطين المماليك في مصر قبل الغزو العثماني، فهي قد حدثت بعد انتهاء دولة الإسلام في الأندلس (1492م) وقافلة الجمال يقودها حضرمي (لا يعرف الكاتب النسبة الصحيحة لحضرموت، فيسميه الحضرموتي) وطقوس توليته حاكماً (لإقليم الطير) هي ذات طقوس تولية سلاطين المماليك، وهم هناك يستخدمون المرايا والحمام المدرب لنقل الأخبار، والعملة التي يرد ذكرها هي (الدينار الذهب البندقي) والمدينة التي يصف جمال ابن عبداللـه أعيادها وأفراحها (ص 177 وما بعدها) هي القاهرة المملوكية .. إلخ» وليست بأي حال مدينة مغربية مقنعة.

ثم يضيف الناقد «وما دام الكاتب قد استعاد تلك الفترة، فقد استعاد معها أسلوب الكتابة فيها، لذا تسود في الرواية الركاكة والتكرار واستخدام المترادفات والصيغ الجاهزة والألفاظ الحوشية وكليشهات ذلك العصر. خذ أمثلة قليلة وراجع بقية العمل (في ليلة دعوت إلى اجتماع بغرض ضرب مشورة، هذا برج له تحاويط وترتيب … هزته المواجيد … إن الوجد الإنساني أكري الشكل دائري) ومثل هذا كثير في العمل كله.» ولا يريد الناقد أن يزيد قارئه إملالا فيختم مقالته: «هذا كل شيء في هاتف المغيب. عمل محدود القيمة، فقير الخيال، ركيك الصناعة، يفتقد الرسالة أو المعني، لا يخلو من أخطاء في اللغة والتعبير، يطغى عليه ويتخلل صفحاته (غرائب) ساذجة وشبق كظيم.» (ص 264) ثم يضيف: «قلت أنني أكره أن أرى رجلاً يتخطى رقاب الناس، والغيطاني يتخطى رقاب الكتاب والمبدعين من جيله وغير جيله، لا لامتياز في أعماله، ولكن لإتقانه عمل العلاقات العامة والتسويق وعقد الصفقات، ظاهرة وخفيّة. ثم أنني قبل هذا كله وبعده أكره أن أكون شيطاناً أخرس».(ص 265)
وأقول: لم تكن أبدا شيطانا أخرس يا صديقي العزيز، في عالم كممت فيه المصالح الأفواه، وهرول فيه الكثيرون إلى دخول الحظيرة كالسوائم، وارتفعت فيه أصوات الزيف والنفاق. بينما اعتصمت فيه أنت بصرامتك الأخلاقية، تكشف زيف المدّعين والمزيفين. ولم تستوحش، كما يقول الإمام علي بن أبي طالب كرم اللـه وجهه، السير في طريق الحق لقلة سالكيه. لذلك ستبقى شهادتك النقدية الساطعة نبراسا لكل من يريد أن يعرف حقيقة هذه الحقبة المظلمة ونجومها المزيفين، والتي ثار عليها الشعب المصري في ثورته النبيلة في 25 يناير2011.