يرى الناقد المصري أن السارد في «أنبئوني بالرؤيا» يستدعي الإنتاجية الإبداعية المتضمنة في شخصيات الليالي، وفضاءاتها، وأساليبها الحكائية في سياقات نصية، وواقعية، وحضارية أخرى؛ ومن ثم يعيد تأويل الكينونة، والآخر، ومراجع العالم الواقعية، والخيالية عبر الوعي بالفاعلية الخفية لحكايات الليالي، أو تجليها في النظائر، والتشبيهات، والفضاءات الآنية في الوجود.

تجدد العلامات الخيالية فيما وراء النهايات

في رواية «أنبئوني بالرؤيا» لعبد الفتاح كيليطو .. مقاربة تداولية

محمد سمير عبدالسلام

 

تحيلنا رواية "أنبئوني بالرؤيا" للروائي والناقد المغربي المبدع عبد الفتاح كيليطو(1) إلى الأثر الذي يحدثه فعل القراءة في تشكيل الوعي بالذات، والآخر، والعالم؛ فالسارد/ البطل قد قرأ كتاب الليالي في سياق امتداد أثره الإبداعي، وصيرورة أطيافه، وعلاماته، ونظائرها، وتشبيهاتها المحتملة من جهة، وتشكيل تصور نقدي حول غياب نهاياته؛ وما يحتمله هذا الغياب من نهايات محتملة خيالية، أو بدايات جديدة تحمل طابع المحاكاة، والأصالة معا، أو الاستنزاف الإبداعي للنهايات عبر حالات وفيرة من التناص، وتداخلات الأزمنة، والفضاءات، والشخصيات في تلك المساحة الفارغة التي تؤجل كتابة الفصل الأخير، واكتمال الليالي من جهة أخرى.

يستدعي السارد – إذا – الإنتاجية الإبداعية المتضمنة في شخصيات الليالي، وفضاءاتها، وأساليبها الحكائية في سياقات نصية، وواقعية، وحضارية أخرى؛ ومن ثم يعيد تأويل الكينونة، والآخر، ومراجع العالم الواقعية، والخيالية عبر الوعي بالفاعلية الخفية لحكايات الليالي، أو تجليها في النظائر، والتشبيهات، والفضاءات الآنية الأخرى في الوجود بمدلوله الواسع؛ فالسارد يفتتح النص بإشكالية النوم، أو الغياب القهري، وارتباط الليالي بكل من النوم، واليقظة في خبرته اليومية، أو الخيالية، ثم يحيلنا إلى التساؤل الفلسفي حول نوم الملك شهريار، أو يقظته الدائمة، أو جنونه المحتمل، أو سؤاله اللامعقول عن الليالي بصورتها المكتملة المكتوبة؛ ثم نعاين حالتين ذاتيتين للسارد؛ تتجلى فيهما إشكالية فعل قراءة كتاب الليالي، وفاعليته؛ وهما حالة اليقظة النهارية التي تختزن فيها علامات الليالي الخيالية في الوعي، واللاوعي، وحالة الوجود الاستعاري الفائق التي تحدث أثناء حالة النوم، أو الغياب القهري المفاجئ؛ وهي الحالة التي تستدعي أطياف الليالي، وأصوات الشخصيات داخل الكينونة بمدلولها الواسع الآخر المتجاوز لحدود الزمكانية؛ فنماذج شهرزاد، وشهريار، والجن، والمسوخ، والغرف، والبحار الغريبة، سوف تتداخل مع بعض الخبرات اليومية، ومع نظائر تاريخية، وأدبية أخرى؛ مثل نيتشه، ونبوخذ نصر، وهارون الرشيد، وبروست، وعايدة، وأوديب، والسفنكس، وكتبة شهريار؛ وكأن علامات الليالي – بما تحمل من المغامرة، والرعب، والمرح، والتحولات – تنطوي إمكانية التجدد عبر المحاكاة، والمحاكاة الساخرة، وتفاصيل الحدوث اليومي غير المعروفة سلفا؛ فحدث النوم – في الرواية – سوف يؤسس لغياب مجازي، أو حضور مضاعف لعلامات الليالي، وسوف يصير مفتتحا لقراءة إشكالية وجود فصل أخير في الليالي، أو دلالة ازدواجية الظهور المتكرر للعلامات الخيالية بالرعب المتولد عن تجليها الظاهراتي السري في عوالم الوعي واللاوعي، والرغبة في إخفاء تلك العلامات الخيالية المفزعة بصورة مضاعفة في سياق السؤال المستحيل عنها قبل أن تخرج من مستوى ما قبل الكلام إلى مستوى الكلام.

يقوم النص – إذا – على المساءلة المتجددة للنهايات، أو استنزافها في سياق آخر من الإحالات النصية اللانهائية التي قد تتجلى في شخصيات واقعية غريبة، وأساطير فولكلورية، وتشابهات دلالية في بعض الفضاءات، والأسماء، وفي تحول العالم الإدراكي للسارد عقب قراءة الليالي، وبحثه النقدي حول فكرة النهايات، والنهايات المؤجلة؛ ومن ثم يمكننا أيضا قراءة خطاب سارد عبد الفتاح كيليطو من داخل سلسلة الاستدلالات المنطقية، أو الحجاج التي تبحث عن أصل ذلك المخطوط الآخر الذي وجد في نسخة الليالي، ومدى اتصاله ببنيتها، وبحث موضوع النهايات الممكنة، ثم عبور تلك الاستدلالات السردية المطولة إلى المحاكاة، أو المحاكاة الساخرة الممتدة في محادثة البطل مع عايدة، ووضع نهاية ملتبسة بالغياب، والمحاكاة، لا التأصيل للنهايات؛ وكأن تواتر الوظائف السردية يدلل أيضا على حقيقة فرضية التأجيل المستمر للنهايات من جهة، وحقيقة فرضية التداخل العلاماتي الوفير بين الليالي، وموجودات العالم من جهة أخرى؛ فضلا عن إقرار الحالتين البينيتين الرئيسيتين في النص؛ وهما حالة الغياب الذي يستدعي الحياة المجازية لأطياف الليالي ضمن الكينونة، وحالة تجلى علامات الخيال، والرغبة في إخفائها في تلك الأسئلة المستحيلة التي تستدعي الاحتفاظ السري بعلامات الرعب، لا كشفها في فعل التواصل.

وتتضمن عتبة العنوان / أنبئوني بالرؤيا تلك الازدواجية بين دلالتي طلب الكشف، والرغبة اللاواعية في إخفاء العلامات؛ وقد جاءت العتبة ضمن استدعاء السرد لطلب شهريار من الكتبة كتابة الليالي التي لم يستمعوها بأنفسهم؛ ومن ثم استدعاء طيف نبوخذ نصر الذي أصدر أمر / أنبئوني بالرؤيا للمؤولين لذلك الحلم الذي لم يذكره لهم؛ وإذا قرأنا الأمر بصورة تداولية، سنجد أنه فعل كلامي من مجموعة التوجيهات المباشرة وفق تصنيف جون سيرل؛ ولكنه ينطوي على استلزام حواري يتضمن الإخفاء، أو الاحتجاب؛ وأرى أنه قد يدل أيضا على التأسيس للتأليف؛ لملء ذلك الفراغ المحتمل في موقع الأصل الغائب؛ فهل هو أمر بإعادة تأليف الحلم وفق مبدأ المحاكاة؟ .

 إننا لا يمكن أن نستبعد  الدلالة السابقة التي تتضمن الاستبدال اللانهائي للعلامات عبر فعل التأليف؛ ويؤكد ذلك التوجه حكاية الأمير نور الدين التي وجدها السارد في المخطوط، ومزجها بين أسلوب الليالي، ونتف حكائية معاصرة؛ وقد يشير الأمر أيضا إلى المخاوف العميقة المولدة عن الاكتمال، أو النهايات؛ فطلب الاكتمال هنا يستنزف الاكتمال نفسه من داخل البحث عن بدايات تتجاوز أخيلة الفزع الأولى التي تولدت في صور الحلم المقطعة التي تأبي الظهور، وتحتجب في نطاقها الظاهراتي الداخلي في عالم المتكلم.

ويمكننا الكشف عن إنتاجية الليالي الأخرى عبر المقاربة التداولية التي تقوم على تحليل المحادثة، والخطاب، وهويات المتكلمين، ومرجعياتهم الواقعية والتجريبية، وتشكل السياق، ومستوياته العديدة ضمن حدث التواصل.

وتشير إلفي بولان – في كتابها المقاربة التداولية للأدب – إلى أن المثلث التداولي الذي يتكون من (المتكلم – المرجع – المتلقي) يشكل أساس التصورات المنهجية في دراسة الأدب تداوليا؛ وتختلف هذه الدراسة التداولية للأدب عن دراسة مواقف التواصل في الحياة في أن كل قطب من أقطاب المثلث يحمل نوعا من الازدواجية، أو يضاعف من مستويات الحضور؛ فقطب المتكلم قد يشير إلى المؤلف، أو السارد، أو البطل، ثم تؤكد إلفي لوبون دينامية تشكيل المرجع – في قراءتها لرواية المحاكمة لكافكا؛ فهي تقوم بتوصيف المرجع / المحكمة في سياق حالة صمت جوزيف ك في الفضاء، واستماعه فقط إلى ضجيج فيه صوت حاد يشبه صفارة إنذار؛ ثم تكشف عن الدينامية الخيالية الممكنة في بنية المرجع الذي يشبه مقاومة أوليس ورجاله لصوت الحوريات في الأوديسا؛ وذلك حين أمر أوليس رجاله بغلق آذانهم، وربط نفسه بالصاري. (2)

هكذا تكشف مقاربة إلفي بولان التداولية عن الدينامية الإبداعية الكامنة في نظائر المرجع، ومرونة مدلول السياق، وتضاعف هويات المتكلمين، أو المستقبلين عبر منهجية المثلث التداولي، وكشفه عن دلالات موقف التواصل، وتفاصيله التي تكشف عن طاقات الوعي، واللاوعي، والتشابهات الممكنة التي تثري المشهد من داخله ابتداء من إدراك الدلالات المعجمية واتساعها حتى إنتاجية الارتباطات التفسيرية التي تمزج الخيال، والواقع في البنية التجريبية المحتملة للمرجع.

وأرى أن رواية أنبئوني بالرؤيا لعبد الفتاح كيليطو تتضمن ثلاثة مثلثات تداولية رئيسية وفق ذلك المنظور؛ وهي موقف التواصل بين السارد، والمروي عليه في خطاب الرواية ككل، وموقف التواصل بين البطل، وجون بيري صاحب نسخة الليالي التي احتوت مخطوط قصة نور الدين المضافة لليالي، وموقف التواصل بين البطل وعايدة في سياق بحثها عن فصل ناقص في واقعها اليومي، وفيما تحبه من القصص البوليسية؛ والسارد في النص يعبر عن العالم الداخلي للبطل؛ ومن ثم فالتبئير في النص هو تبئير داخلي وفق تعبير جينيت، ولكن السارد يقع أيضا في علاقة من التواصل مع المروي عليه، وليس مع شخصيات العمل فقط؛ ومن ثم سوف نبدأ بمثلث التواصل الذي يتضمن السارد، والمروي عليه، ويتضمن بنى التجانس، والاختلاف في الخطاب السردي ضمن الانتقال بين أكثر من مرجع في النص.

تتشكل هوية السارد من داخل أثر فعل القراءة، وفاعلية الليالي، والرغبة في تأويل الذات من خلال النماذج المستعادة في حالة الحضور الاستعاري الآخر الذي يشبه الغياب؛ ومن ثم تنفتح كينونة السارد على الآخر / الخيالي فيما وراء النهايات المؤجلة؛ فالسارد يعبر – من خلال القراءة أو الغياب المجازي – عالمه، وعصره باتجاه حالة تجاور، وتداخل بين العلامات، والأطياف، والخطابات التي تعكس روح الليالي، دون ضرورة العودة إلى الماضي نفسه؛ فقد يدرك أثرها في صورة فوتوغرافية، أو روايات عن الفلاسفة، والكتاب، والملوك، أو في السؤال الافتراضي عن البدايات البديلة عن علامات الحلم المقطعة، أو المقترنة بحالات التفكك، واللامعقول.

أما المروي عليه فهو يدرك حجاج السارد، واستدلالاته حول المخطوط المضاف لليالي، والنهايات المحتملة، كما يعاين ذلك الانتشار الوجودي لشخصيات الليالي حين تنفتح بنيتها على أزمنة أخرى، أو فضاءات أخرى، كما يستمع إلى تصارع النهايات، واختفائها أحيانا من المشهد؛ لتترك السؤال المستحيل في اقترانه بالمحاكاة المستمرة للنهايات، أو استنزافها في بدايات جديدة تحمل أثر الماضي في سياق تجدده في بنية الحضور؛ فشخصية الأمير المتخيلة تختلط بسيرة نيتشه، والفضاء المظلم القديم يتصل ببعض الممارسات الأسطورية، أو حالات الجنون، أو اللامعقول في زمن الحكي؛ ومن ثم يعيد المروي عليه بناء كينونته عبر التواطؤ مع السارد في معاينة فاعلية العلامات الخيالية في العالم الداخلي للذات، وفي بعض الفرضيات، والمشاهدات التاريخية، والواقعية.

وينتقل السارد من الموطن الأصلي لشخصيته إلى المحاضرة التي سيلقيها عن الليالي في الولايات المتحدة، ثم يعود إلى تذكر نتائج إسماعيل كملو البحثية حول نهايات الليالي، ويعود إلى ندوة ثقافية ومعرض تشكيلي في الولايات المتحدة أيضا؛ ولكن هذه المراجع الواقعية كانت تتصل بفضاءات الليالي، وشخصياتها، ونهاياتها، وما فيها من مغامرة، ومرح، ورعب، وشعور غير مبرر أحيانا بالذنب ضمن تفاصيل اليومي نفسه؛ فالسارد يعبر مركزية الفضاء اليومي من خلال نوم البطل، أو غيابه القهري، أو حين يتهم بأنه يعترف بحبه لعايدة في رسالة صوتية لا تخصه، أو حين يرى التكرار المتحول للفضاء السحري في المخطوط المضاف في سيرة جون بري مالك النسخة؛ وكأن المراجع الواقعية تنسخ نفسها في تشبيهات الليالي الكامنة في تفاصيل المرجع الواقعي نفسه؛ وهو ما يذكرنا بالغرف السحرية والكهوف في حكاية حسن صائغ البصري، أو تضاعف علامة الغول في السندباد البحري، واستدعاء ياسمين التي تحولت إلى طائر؛ فقد غامر السارد؛ ليكشف عن أصل المخطوط، أو يستدل على النهايات، ولكنه وجد آثار الليالي تتجدد في فسحة الفراغ، والبدء في إنتاجية أخرى تقوم على انفتاح الهويات، والفضاءات على بعض مصائر شخصيات الليالي ضمن اتصال السياق اليومي بالفضاء الخيالي؛ وما ينطوي عليه من آلام، وضحكات، وتحولات؛ وربما هذا ما استدعى رواية ضحك هارون الرشيد، وبكائه معا عقب قراءتها؛ أو إقرار البطل بذنب لم يفعله أمام عايدة؛ ليدخل مغامرة النهايات عبر بوابة المحاكاة من داخل بنية الواقع المؤجلة.

يؤسس السارد خطابه – إذا – على تلك الفاعلية الأدائية الأخرى التي تقع فيما وراء بنية الليالي التي تستعصي على الاكتمال، والتحديد؛ ومن ثم فالسياق الذي نشأ فيه الخطاب السردي متجاوز للنصية، ويستدعيها في حالات تمازج الأزمنة، والفضاءات، والهويات، والمخاوف الإنسانية الأولى المتكررة من حدوث النهايات؛ ومن ثم سنعاين الليالي في الأثر، والأداء، وفعل الحكي التمثيلي، والمرح المقترن باستدعاء أطياف الليالي في الهامش العميق للسياق الآني للحكي؛ ومن ثم يؤكد السارد نوعا آخر من الفاعلية الإبداعية لليالي؛ والتي وجدت حديثا لدى بورخيس، وجون بارث، ونجيب محفوظ، وغيرهم؛ ولكن الفاعلية الإبداعية - لدي سارد عبد الفتاح كيليطو - قد اتخذت موقع الإكمال، والإكمال الأدائي، ومرح المحاكاة التمثيلية لمواقع الليالي الكامنة في المستويات العميقة من الوجود الآني نفسه؛ وذلك ليدفع شبح النهايات، وما يحمله من ذكريات المسخ، والعقاب، والتفكك الكامنة في الليالي نفسها؛ ولكن السارد – بإشارته الرئيسية إلى الملك البابلي نبوخذ نصر – قد استدعى النهاية السردية للملك من الذاكرة الجمعية في فعل القراءة؛ فالإشارة الواردة في النص قد اقترنت بسؤال نبوخذ نصر للمؤولين عن علامات الحلم الخفية؛ وهو سؤال يوحي بمواجهة الملك للموقف الوجودي في بكارته الأولى، ورغبته اللاواعية في استبدال تلك العلامات الكامنة في ذاكرته؛ بينما يتجلى – في خطاب ول ديورانت في قصة الحضارة / الشرق الأدنى – في حالة أدائية موغلة في الغياب التمثيلي في أخيلة الرعب؛ حين أشار ديورانت أنه بعد كل الانتصارات، والأفعال الحضارية التي حققها الملك البابلي، قد تجلى – في سفر دانيال – وهو يظن نفسه حيوانا يسير على أربعة أقدام، ويقتات الكلأ (3).

هكذا تحتل هذه الرواية موقع الفراغ المولد عن السؤال الذي يتطلب إجابة مستحيلة؛ وكأن هذا السؤال مفتتح لإغواء التحول، أو التحول المجازي الذي يقع فيما وراء كل من بنية الحضور، وبنى الحكايات، والأحلام؛ فقد انفتح نطاق اللاوعي على الواقع، وتجلت علامات الفزع بصورة حكائية أدائية معا؛ وأرى أن السياق الذي يومئ إليه نص عبد الفتاح كيليطو يقترب من تلك المساحة الأدائية التمثيلية التي تقع فيما وراء الحكاية، وتستدعي نوعا من الحكي المضاعف في الفراغ، وفي أيه هوامش تتولد عن بنى الحكايات.

ويؤكد خطاب سارد عبد الفتاح كيليطو للتداخل بين خطاب شهرزاد، والأصالة الأقدم لفعل الحكي، وخطابات استدعاء الليالي، وفاعليتها الأخرى، والدوران المستمر في حلة أدائية مكملة لليالي ببدايات أدائية جديدة، ولكنها مصحوبة بالدهشة الأولى في مواجهة العالم بكل مرحه، ومصائره، وصرخاته، وغرابة فضاءاته المظلمة، ومدنه السحرية، والواقعية.

وقد ارتكزت لغة الخطاب على تقديم الحجاج السردية، ثم طرح الأسئلة، وتأكيد الموقف الوجودي التمثيلي في مجموعة من ألأفعال الكلامية التي تراوحت بين التمثيل التفسيري، والتعبير الذاتي عن الرؤى الحلمية – الحكائية، أو صور الشعر المقطعة، أو اتخاذ موقع المتهم في رواية عايدة البوليسية.

وقد اتخد السارد من العلامات الخيالية المتحررة وسيطا، يرتكز عليه الخطاب في إنتاجيته الإبداعية التفسيرية لسياق الحكي؛ فقد صارت هذه العلامات جزءا من الاستدلالات المنطقية في تشابهها مع المخطوط المضاف، ثم صارت أقرب إلى تجاوز كتاب الليالي نفسه؛ فشهريار يبدو يقظا دائما، أو يبحث عن نهايات علامات الليالي قبل أن تكتب، وعلامات مدينة النحاس تتجدد في سياقات أخرى تتعلق باتساع مدلول أرض الظلمات؛ وكأنها حلت فيها مجازيا؛ لتطرد مخلوقاتها السحرية من يحاول الدخول، والاستكشاف، بينما تتجلى مآسي الليالي في صرخات القصيدة التي كتبها البطل في أمريكا؛ وكأن العلامات المتحررة قد صارت جزءا من مجال لحظة الحكي، ومن التطور التمثيلي / الآني للسارد.

ويبدو أن السارد – في تكراره المتمثيلي لطلب نبوخذ نصر – قد حرص أن يكون غرضه الإنتاجية الأولى لعلامات بديلة عن الأصل الذي يجب أن يبقى ضمن عوالم اللاوعي السحيقة؛ فهو يريد أن يمارس نوعا من اللذة التمثيلية، والرعب التمثيلي، والمغامرة التي تقف عند بحر الظلمات، ولا تغيب فيه بصورة مركزية؛ لأن نهاية المخطوط أيضا مفقودة؛ وكأن كل الآثار الحكائية تستدعي نوعا من اليقظة، وطلب البدايات البديلة التي تخلف وراءها نهايات أخرى مفتوحة في نوع من التضاعف، والتناظر الخيالي.

وقد أدرك جون بارث نوعا آخر من التضاعف الإبداعي في بنية الليالي – في روايته ما بعد الحداثية الرحلة الأخيرة لأحد البحارة – إذ يسهب فيها في وصف السندباد الأرضي، وولوجه لعالم السندباد البحري الخيالي، ولكن مع وجود علامات للأشياء الصغيرة العصرية، وتمازج للسفن الحديثة والقديمة، وتضاعف لجزيرة سرنديب، وما يتصل بها من سياقات خيالية متجددة، ويشير أيضا إلى انبعاث ياسمين من ألف ليلة بصورة أخرى، كما يومئ إلى عاصفة أخرى، وحطام سفينة أخرى، ومغامرة أخرى تتصل بالتوافق مع ملك سرنديب.(4)

هكذا تخضع علامات الليالي للتكرار، والإضافة، والتناظر، والمحاكاة الساخرة، ولكن من داخل علاقات التجاور، والتداخل؛ وكأن الليالي تقبع في مكان يجمع بين الواقع، والمجاز، والتكرار؛ فثمة عاصفة أخرى، وسندباد أرضي عصري آخر، وياسمين أخرى، وسرنديب أخرى؛ ومن ثم يحاول سارد بارث أن يرصد هذا التكرار في حضوره المضاعف الذي يتضمن الهارموني، أو التناغم بين حكايات الليالي، والحكايات الأخرى التي يلتبس فيها المجازي باليومي، والماضي بالحاضر؛ أما سارد عبد الفتاح كيليطو فيتموضع  في فراغ ما بعد الحكايات؛ ذلك الفراغ الإنتاجي لبدايات أخرى محملة بطاقة الليالي الروحية في حالات الاستبدال، والتحول، والانتظار في منتصف المغامرة، دون خروج، ودون دخول كامل للغرف السحرية.

ويمكننا تلمس كل من التجانس، والاختلاف – في خطاب سارد عبد الفتاح كيليطو السردي – عبر سلسلة الاستدلالات / الحجاج، واتصالها بالبحث الدلالي، وبنية المضمر في الخطاب، وعلاقات الأنافورا أو الإشارات العائدية في الخطاب وفق شكلها الدلالي طبقا لغرايس؛ فالسارد يرغب في أن يدخل المروي عليه – في موقف التواصل – في حالة الأداء بكل ما فيها من تناقض ما بعد حداثي يلي قراءة الليالي، وحثه على المشاركة في المحاكاة التمثيلية، وفي فعل تأجيل النهايات أو استنزافها دائما؛ ولهذا جاءت حلقات السرد شبيهة ببنية الليالي في تعدديتها، ونهاياتها المحتملة التي تنتظر الإكمال.

*الاستدلالات باتجاه تجدد السؤال، وتأكيد تداخل الشخصيات، والأصوات، والأزمنة:

يشير عالم اللسانيات الفرنسي أزوالد ديكرو – في القاموس الموسوعي الجديد لعلوم اللسان – إلى أن كلمات المعجم قد تكون مميزة بوساطة الاستمرارية الاستدلالية التي تجعلها ممكنة، وتسوس الطريقة التي نستطيع بها أن نضع تسلسلا انطلاقا من عبارة تحوي هذه الكلمة، ويتضمن معنى الجملة تعيين طاقاته الحجاجية. (5)

هكذا يمزج ديكرو – في تصوره لبنى الحجاج في الخطاب – بين البحث الدلالي المعجمي، وسلسلة الاستدلالات التي تؤكد الفرضية، أو توجه لها نقدا؛ ومن ثم فهو لا يرتكز مباشرة على الحجاج، وإنما يبدأ من دلالات كلمة ما مؤثرة في الخطاب، ويتتبع دلالاتها، وتكرارها، وطرائق تشكلها في سلسلة الاستدلالات؛ وسنجد أن بعض الكلمات – في أنبئوني بالرؤيا – سوف تؤسس لسلسلة الحجاج التي تؤكد أن المخطوط المضاف لليالي جمع بين أكثر من عصر، وثقافة طبقا للاستدلالات التي يقدمها السارد؛ فهو يذكر نص الحكاية المضافة المختصر؛ والتي تدور حول تتبع الأمير نور الدين لغزالة، ثم نومه، وتبدل الأرض، ثم مواجهته لأرض الظلمات، ورغبته في المغامرة، ودخول هذه الأرض الغريبة، ثم معاندة الحصان له، وضرب الأمير له بالسوط، ثم بكاء الأمير، وذهابه إلى تلك الأرض؛ ويسوق السارد الحجاج على تشابه النص مع الليالي في أن أرض الظلمات تماثل بحر الظلمات في الليالي، أو المحيط الأطلسي، كما تذكره بغموض المناظر الضبابية في حكاية مدينة النحاس؛ أما الحصان فيذكره بالأختين الممسوختين كلبتين، أو القلندري الثاني الذي مسخ قردا في سلوكه البشري؛ ويؤكد أيضا اختلاف المخطوط في لغته التي تخلو من الإطناب، وإمكانية اطلاع الكاتب على رواية بكاء نيتشه ومعانقته للحصان في الحقبة الحديثة (6).

هكذا يفترض السارد تشابه المخطوط مع الليالي، ثم يفترض الاختلاف، وينتهي إلى أنه قد يكون نوعا من المحاكاة للأصل، ولا يمثل نهاية حاسمة لليالي؛ وأرى أن الكلمتين اللتين تؤكدان بنية التشابه دلاليا؛ هما أرض الظلمات، والحصان؛ أما الكلمة الدالة في حجاج الاختلاف فهي البكاء؛ فالدلالة المعجمية، والثقافية لأرض الظلمات تمنح السارد مفتاح تشكيل الاستدلالات المنطقية على تأكيد تشابه المخطوط مع الليالي؛ لأنها تشبه بحر الظلمات، أو فضاءات مدينة النحاس؛ أما الحصان فهو يشبه مخلوقات الليالي من زاوية سلوكه البشري الذي يوحي بأنه قد يكون مسخا؛ ولهذا عاند الأمير بصور توحي بمخاوف المغامرة، والرعب المتولد عنها من خلال ذاكرته؛ أما البكاء بصحبة الحصان فهو يحمل طبع العصر الحديث، وقصة نيتشه الشهيرة؛ ومن ثم يؤكد الخطاب فكرة المحاكاة، وتأجيل نهايات الليالي؛ وتؤكد الحجاج – في بنية الخطاب – أهمية البحث الدلالي الموسع للكلمات التي تعد مفاتيح لبناء سلسلة الاستدلالات في الخطاب السردي؛ وينتقل السارد بعد ذلك إلى طرح الأسئلة، والحجاج الأخرى حول يقظة شهريار المستمرة، أو جنونه، أو سؤاله الوجودي، ثم يعلي من الحالة الأدائية التمثيلية بوصفها نتاجا لكل هذه الحجاج السردية السابقة؛ فالسارد يدعو المروي عليه – بعد أن قدم له الحجاج على انفتاح نهايات الليالي – إلى المشاركة في تلك الحالة التمثيلية التي تستنزف اكتمال الحكاية.

*بنية المضمر في الخطاب السردي:
يؤكد أوزوالد ديكرو – في المصدر الذي أشرنا إليه – أن المضمر هو استدلال يصنعه المتلقي، ويتنبأ به المتكلم طبقا لقوانين الخطاب؛ فمرسل الخطاب كان من الممكن أن يعطي معلومات حول الموضوع أكثر قوة مما في حوزتنا؛ ومن ثم توجد دائما معلومات مضمرة؛ وهي تمثل ما كان المتكلم ينوي أن يقوله بصور غير مباشرة. (7)

هكذا تمنحنا إشارات الخطاب، واستدلالاته، وأفعاله الكلامية – طبقا لديكرو – البيانات التي تستلزم أن نستدل على المضمر طبقا لما تم حجبه من معلومات من جهة، ولإيحاءات المعلن عنه في خطاب المرسل للمتلقي؛ وسنجد أن سارد عبد الفتاح كيليطو يرتكز – في الإشارات المعلنة في بنية خطابه – على التوسع التدريجي لتجربته مع الليالي؛ وبخاصة قيما وراء فعل القراءة من حالات أدائية؛ ومن خلال هذه الإشارات، والبيانات نستطيع أن نستدل على مجموعة من البنى المضمرة التي يمكن أن تشترك في كونها تعبر عن الرغبة في أن تستمر تعددية الحلقات الحكائية لليالي بصورة مستمرة داخل الذات، وخارجها؛ ومن ثم تستنزف النهايات، وتعاين الذات اللذة التمثيلية، والرعب التمثيلي الذي لا يصل إلى حده الأقصى أبدا؛ لأنه يقف عند بدايات المغامرة، أو منتصفها؛ وسيصير الجنون أيضا استعاريا، وكذلك النوم، واليقظة، والتحول، والعقاب، وسوف يعاد تمثيل حلم نبوخذ نصر بصورة تمثيلية استعارية مع الإبقاء على ظاهراتية الأصل الغائب؛ أما الممارسات اليومية فتخلف وراءها فراغ للاستبدال، وحلول علامات الليالي رمزيا؛ وتلك التمثيلات المولدة عن الليالي سوف تترك بدورها فراغا آخر لحلقة جديدة يومية تحمل أثر الليالي، أو حلقة من الليالي تحمل أثر زمن آخر.

*إشارات النوم، والحضور الاستعاري، وتجانس الخطاب:
توحي إشارات النوم، والحضور الاستعاري الذي يستدعي أطياف الليالي بالتجانس في بنية الخطاب؛ لأن سارد عبد الفتاح كيليطو قد بدأ روايته بالنوم، وفعل القراءة، ثم الإحالة إلى الغياب المؤجل، واستدعاء الأطياف والنظائر من الليالي، ثم الإحالة إلى إشكالية النوم واليقظة عند شهريار، وإلى حلم نبوخذ نصر المؤجل؛ ولا يمكننا قراءة الإحالة إلى الحضور النظير في الحلم إلا بالعودة إلى إشارات الخطاب الأولى عن النوم، وما سبقه من سياقات، وأبنية مضمرة؛ ومن ثم يحدث التأشير العائدي، أو الأنافورا نوعا من التماسك في بنية الخطاب عبر العلاقة الوثيقة بين النوم، والغياب المؤجل، والحلم بالليالي في فاعليتها المتجددة.

ويؤكد يان هانغ في بحثه حول الأنافورا والتداوليات - ضمن موجز التداوليات، تحرير لورنس هورن وجرجوري وارد – أن الفكرة الرئيسية التي يقوم عليها تصوره ما بعد الغرايسي – نسبة لبول غرايس – للأنافورا، أو التأشير العائدي يمكن تفسيرها عبر الاستدلالات التداولية في المحادثة أو الخطاب؛ وهي لا ترتكز بالضرورة على عناصر معجمية محددة، وإنما على طرائق استخدام هذه العناصر كما يشير ليفنسون، ولكنها قد تتصل بالضمائر، أو المؤولات المرجعية أيضا. (8)

تتسع دلالة الأنافورا – إذا – لدى يان هانغ في تصوره الدلالي ما بعد الغرايسي؛ فتشمل علاقات الاستدلال، أو العلاقات اللغوية أيضا طبقا لمدلول التجانس في بنى الخطاب، أو المحادثة؛ وإذا عدنا مثلا لإشارة حول النوم - في عمق خطاب سارد عبد الفتاح كيليطو – سنجد أنه لا يمكن تفسيرها إلا عبر ورودها الأول في الخطاب؛ فهو مثلا يشير إلى أنه حين عاين حالة نومه / غيابه القهري في منزل صديقه الأمريكي الدكتور هاموست، استدعى أطياف حكاية عزيز الذي ارتمى بشراهة على الطعام، وعرق في نوم بهيمي، وافترض أن شهريار لم ينم أبدا؛ لأنه كان يضطر لتسيير المملكة صباحا، والاستماع إلى الحكايات ليلا؛ وأن النص لا يذكر شيئا عن ذلك. (9).

هكذا يصير النوم مفتتحا لعودة شخصيات الليالي، ومراجعها الخيالية الممكنة والتجريبية في بنية الحضور، كما يصير مؤولا للجانب غير المرئي من كل من شهريار، ونبوخذ نصر؛ فشهريار يستبدله بالحكايات التي تحمل كلا من الصرخات، والضحك؛ وهي استجابات أوردها السارد عن هارون الرشيد عقب قراءة الليالي؛ أما نبوخذ نصر فعاين علامات حلم مؤجل، يستدعي الاستبدال لا التفسير؛ هكذا يراكم السارد الإشارات حول النوم؛ ويجعله مفتتحا للمواقف الوجودية، والوجود الطيفي المناظر لبنية الحضور، واستدعاء أطياف الحكايات، والرغبة في تحوير علاماته المفزعة أحيانا، أو الاستسلام المضمر لإغواء هذه العلامات.

وإذا عدنا للإشارات الأولى للنوم في حياة البطل، سنجد أن السارد بعد عثوره المفاجئ – أثناء مرضه – على كتاب الليالي كان يقرأ في النهار، ويستغرق بالليل في النوم؛ وأنه خالف نظام شهرزاد؛ كما يحيلنا إلى أن تجربته مع الليالي قد تكون ولدت بصورة مجهولة البدايات، وأنه ربما لم يشف بفعل القراءة. (10)

لقد اتصل فعل النوم – في المقاطع الأولى من الخطاب إذا – بالانفصال عن القراءة النهارية؛ وسنلاحظ أن السارد – يذكر في خطابه – أنه قد عكس نظام شهرزاد التي تروي في المساء، وتسكت في الصباح؛ إذ يمكننا أن نستدل من الجملة السابقة على وجود بنية أخرى مضمرة تؤسس لتأويل الإشارات العائدية التالية عن النوم؛ وهي مقاومة الليالي ككتاب؛ ولهذا فقد وردت الإشارة إلى كتاب الليالي مع المؤشر السياقي إلى النهار، بينما ورد اسم شهرزاد فقط؛ المستدعى من اللاشعور الجمعي مقترنا بالمؤشر السياقي إلى الليل؛ وكأن الليل الذي يؤدي إلى النوم العميق، سوف يصير بوابة لعبور الليالي في اتساعها الأدائي الواقعي، أو اختفائها الظاهراتي مثل صور الحلم المقطعة.

أما المثلث التداولي الثاني في رواية كيليطو فيتضمن موقف التواصل بين البطل، وجون بيري مالك نسخة الليالي التي احتوت حكاية نور الدين المضافة؛ ونعاين فيه أدوار البطل كباحث عن أصالة المخطوط، أو كناقد لغرفة جون بري التي تحمل دلالة التنازع بين الماضي، والرغبة في تجديد مدلول الهوية، أو كباحث عن فضاء الليالي في الفضاء الحديث الآخر في زمن الخطاب في مستوى اللاوعي؛ أما جون بري فيمثل دور الرغبة في نزع آثار الماضي من ذاكرته، بينما نجده يوغل في العوالم الأسطورية التي تعلقت برحلة جده إلى أفريقيا؛ ومن ثم فهو يسعى لمقاومة الرعب الذي يتجلى في الأثر، بينما تتضاعف حوله الأطياف المجازية؛ فأسطورة العقاب العبثي الكامنة في الصورة، تستدعي طيف شهرزاد مرة أخرى في الفضاء المعاصر؛ أما المرجع / الغرفة المعاصرة؛ فيحمل بداخلة نوعا من التضاعف الاستعاري؛ فالعقاب العبثي يحمل بصمة شهرزاد؛ وكأن الإنسان / الفرد يحاول خوض مغامرة الوجود بينما يتعرض لأشكال العقاب التي ترده مباشرة خارج واقعه المألوف باتجاه الجبال، والغرف السحرية، والبحار المظلمة؛ كما تستدعي الغرفة رواية قلب الظلام لكونراد؛ والتي أشار إليها سارد عبد الفتاح كيليطو في النص؛ فالمغامرة قد استدعت تفكيك المسلمات الإدراكية الأولى للشخصية.

ولنتأمل هذه المقاطع من محادثة بيري مع البطل وفق المؤشرات السياقية التداولية، وأفعال الكلام طبقا لتصنيف سيرل، ومبدأ التعاون طبقا لبول غرايس، وما تتضمنه من استلزامات حوارية، أو حجاج دالة؛ يقول السارد بصوت جون بري في سياق حديثه عن الصورة التي ظهر فيها جده مع صديقه في أفريقيا:

"ذهب كلاهما إلى مملكة أبومي الأفريقية؛ حيث الأضحيات البشرية كانت لاتزال جارية؛ كان لهذه الممارسة تأثير عظيم جدا على جدي ... في كل مرة أراد الملك كلي – كلي أن يخبر أباه المتوفى بأمر من الأمور، يستدعي بأسير، ويعلمع بعناية الرسالة التي سيبلغها للعالم الآخر، ثم يضرب عنقه ... يمكنك أن تأخذها إذا شئت" (11).

تتأسس المحادثة – إذا – على تنازع القوى الثقافية في توصيفها لمدلول الذات، والآخر؛ وكأن ذلك العالم المجهول الآخر، يستنزف بنية الواقع المستقر في بنية الصورة، رغم أن الصورة لا تتضمن صراحة طقس التضحية العبثي، وإنما استدعاه جون بيري من يوميات جده من الذاكرة.

بدأت المحادثة كتعليق من جون بيري على الصورة؛ وسنجد أن المؤشرات السياقية الخاصة بالضمائر، والذوات قد انتقلت من التشديد على تكرار الهو / الذي يشير إلى الجد الغائب عن مشهد الخطاب، ونسبته إلى المتكلم في / جدي؛ وهو ما يوحي بالإعلاء من طيف جده بداخله؛ ثم تزاد مساحة الآخر / ضمير الهو الذي يشير إلى الملك الذي يقوم بإحداث العقاب العبثي انطلاقا من عالمه الإدراكي المتعلق بالعالم الآخر؛ أما المؤشرات السياقية الخاصة بالمكان فتنتقل من موقع الصورة / الغرفة الأمريكية المعاصرة، إلى الأبعد / أفريقيا، ثم إلى الأبعد / العالم الآخر الذي يستدعي أطياف شهرزاد، وغرفها السحرية؛ وتتعلق المؤشرات الزمنية ببنية الحضور التي يبدو أنها حفزت الماضي بدرجة كبيرة؛ وبخاصة الإشارة إلى دفتر يوميات الجد، والصورة، وتنتقل أخيرا إلى انكسار التطور الزمنى باتجاه لازمنية اللاوعي في الإشارة إلى العالم الآخر.

أما الأفعال الكلامية الخاصة بجون بيري فقد تراوحت بين التمثيلات التي أكدت التوصيف الفكري للطقس الأفريقي بأنه تضحية ممتدة من الماضي، والتوجيهات غير المباشرة حين طلب من البطل أن يحتفظ بالصورة إن شاء؛ ونلاحظ أن التمثيل السلبي للحدث قد استدعى عقبه الطلب غير المباشر؛ وهو ما أدي إلى وجود لحظة صمت عند المستقبل / البطل؛ وكأن التداعيات اللسانية قد أسقطت الدلالة السلبية على الموضوع / الصورة في وعي، ولاوعي كل من المرسل، والمستقبل للخطاب؛ أما الصورة الفوتوغرافية نفسها فتبدو ضمن سلسلة الحجاج، والأدلة التي يسوقها بري؛ ليؤكد رحلة جده من جهة؛ كما تبدو دليلا على حضور المكان بكل ما فيه من غرابة وسحر / أفريقيا داخل الغرفة الأمريكية العصرية من جهة أخرى؛ فهذه الحجة كانت محفزا لحضور التراث السحري الغرائبي الكامن في روح الليالي أيضا.

وإذا نظرنا إلى خطاب بري وفق المبدأ التعاوني طبقا لتصور بول غرايس التداولي، سوف نجد أنه قام بتوصيف كمي موجز في البداية للصورة، ثم تجاوز مبدأ الكم بالاستطراد حول طقس التضحية الذي لم يكن ملزما بذكره؛ ولكنه استطراد موح في النص؛ لأنه يعكس مخاوف بيري اللاواعية التي أراد أن يتخلص منها أمام البطل، وقد تميز خطابه باستخدام الحجاج في توصيف الصورة من جهة الكيف أو الجودة، أما التنظيم المنطقي، فقد انتقل – في خطاب بيري – من التوصيف لوجهة النظر إلى سرد موجز لطقس التضحية؛ وهو ما يوحي بالرغبة في استدعاء شخصيات الحكايات القديمة بداخله؛ وقد جاء الحديث ملائما لغرض المحادثة، ولكن بصورة غير مباشرة؛ فالحديث عن الأساطير قد أعاد المستقبل / البطل إلى موضوع المخطوط، وأطياف الليالي.

أما خطاب البطل – في رده على جون بيري – فقد غلب عليه الصمت، والمناجاة الداخلية، والتساؤل؛ يقول:

"إذا شئت؟

هل يدعوني إلى ضم الصورة بمثابة وثيقة إلى دراستي؟ أم يخجل من الاحتفاظ بها، ويفوض إلي مهمة إخفائها؟ هذا الافتراض الأخير لا يروقني بتاتا، لماذا بدل أن يتحمل مسئولياته يكلفني أنا بتدبير حطام ماضيه؟" (12).

ونلاحظ – في خطاب البطل – الارتكاز على المجال الدلالي والثقافي الواسع المرتبط بكلمة إخفاء؛ فهي التي تنشئ استلزاما حواريا يعيدنا إلى كمون الفزع القديم في لاوعي المتكلم، والمستقبل معا؛ وهي التي ارتبطت بالأسئلة المستحيلة التي سيمنحها السرد لأصوات نبوخذ نصر، وشهريار، والسفنكس في العالم الافتراضي لو كان قد سأل أوديب عن السؤال نفسه قبل أن يخرج من الوعي لمنطقة الكلام؛ ولهذا أحاط البطل كلمة إخفاء بالأسئلة، وعناصر السلب / النفي.

ونلاحظ وجود تناغم جزئي في بنية المحادثة يتعلق ببحث كل من بيري، والبطل عن بدايات تتجاوز رعب النهايات، والرغبة في التخلص من دلائل الماضي؛ مثل الصورة؛ ولكن إيقاع المحادثة الإيجابي قد انكسر عقب طلب بيري؛ وهو ما يؤكد رغبة المغامرة التمثيلية على وعي ولاوعي البطل؛ إنه لا يريد دخول معامرة تشبه مغامرة نور الدين، أو الملك عجيب، أو حسن البصري مثلا؛ فهو يريد أن يقف بين الحصان الخيالي العنيد، وأرض الظلمات في منطقة إبداعية احتمالية تعزز من فعل المحاكاة الأدائية لليالي.

وقد ازدوجت المؤشرات السياقية الذاتية بصورة متكافئة بين الأنا والهو في خطاب البطل؛ لأنه يعاين بعض مخاوف بري بصورة متساوية نسبيا؛ أما المؤشرات السياقية الزمنية فقد غلبت عليها نغمة بنية الحضور؛ لأنه يريد مقاومة رعب الماضي السحيق المتكرر؛ أما الإشارات السياقية المكانية فقد غلب عليها وضع المحادثة المكاني / الغرفة العصرية، وإن تضمنت أفريقيا بصورة غير مباشرة في كلمةة ماضيه؛ وكأن البطل يريد أن يمارس إغواء الإخفاء المضاعف لعلامات طقس التضحية في وعيه، ولاوعيه؛ مثلما أراد نبوخذ نصر أن يمارس الإخفاء المضاعف نفسه لعلامات كابوسه الغائبة.

ويغلب على خطاب البطل الأفعال الكلامية من فئة التوجيهات / الطلب / الاستفهام؛ وهي تتضمن – بصورة غير مباشرة – الاستدلال على سلبية عوالم ما وراء الصورة.

ويوحي كل من الصمت، وحديث النفس بأن البطل لم يتوافق كليا مع روح استطراد بيري، والإيماءات السلبية المتولدة عن طقس التضحية، واستدعائه للفضاءات المظلمة في الليالي.

أما المثلث التداولي الثالث في رواية عبد الفتاح كيليطو فيتجسد في موقف التواصل بين البطل، وعايدة ضمن مرجع واقعي ينفتح إلى العوالم الخيالية؛ ومن ثم فهو مرجع تجريبي أيضا؛ إذ يمكننا أن ننتقل من فضاء الندوة، أو فضاء المعرض الذي قابل البطل فيه عايدة إلى عوالم الليالي، والرغبة في مقاومة الفصل الأخير من الحكايات، واستبدالها – في وعي البطل – بالمحاكاة التمثيلية، والسخرية من مركزية النهاية.

تقول عايدة:

"أقرأ روايات بوليسية، ولا شيء غير ذلك؛ أجمعها أيضا ... ما إن ترتكب جريمة القتل عموما في نهاية الفصل الأول، حتى أقصد مباشرة الفصل الأخير؛ لأعرف من يكون القاتل، ولما لم تعد هويته تشغلني، أقرأ آنذاك ما سبق مهتمة بالحيل التي يبسطها؛ لإخفاء الحقيقة" (13).

ونلاحظ أن خطاب عايدة قد ارتكز – بدرجة أساسية – على ثلاث كلمات لها دلالات معجمية وثقافية واسعة في سياق الرواية؛ وهي أقرأ – بوليسية – إخفاء؛ فهي تعيدنا إلى فعل القراءة الذي أدخلنا إلى عوالم الليالي، وفاعليتها الأخرى، والرواية البوليسية توحي بوجود منظومة دلالية من الجريمة، والاتهام، والعقاب المحتمل؛ وهو ما يذكرنا بعقدة الذنب الخفية التي تولدت من ولوج غرف الليالي السحرية؛ أما دال الإخفاء؛ فهو الدال الأساسي في خطاب الرواية ككل؛ ويبدو أنها تستعمله كغاية تتجاوز فكرة معرفة القاتل؛ وكأن الإخفاء هو غايتها من القراءة؛ لأنه ورد متأخرا في الخطاب؛ وكأنه محطة للوصول.

والفعل الكلامي الرئيسي هنا هو من مجموعة التمثيلات / التأكيدات؛ فهي تؤكد – في المقطع السابق – طريقتها الفريدة في قراءة الروايات؛ كما تومئ – في الاستلزامات الحوارية – إلى تأكيد اتهام البطل بأنه هو من أرسل لها رسالة صوتية يعترف فيها بحبه لها في وقت متأخر من الليل؛ وهو ما يوحي بالتأكيد الضمني للتداخل بين النص، والواقع.

أما المؤشرات السياقية الذاتية فقد تنوعت بين الإحالة إلى الأنا، ثم شخصيات الرواية، وساردها؛ والمتهم، ثم الإحالة الضمنية إلى ال أنت / البطل بوصفه متهما مضافا لشخصيات الروايات البوليسية، كما تنتقل إشارات الفضاء من فعل القراءة في فضاء الولايات المتحدة إلى الفضاء الخيالي الأدبي المحتمل الذي سيدخلنا – على مستوى النظائر والتشابهات الإدراكية – إلى عوالم الليالي مرة أخرى، كما تحيلنا المؤشرات الزمنية السياقية إلى زمن الخطاب بدرجة أقل من زمن استكشاف النص المقروء، ومعايشته؛ وهو زمن ينتمي إلى ماض متجدد في الحضور، والمستقبل تبعا لفاعلية الخيال في الذات / القارئة.

وخطاب عايدة – طبقا لمبادئ التعاون في بنية المحادثة عند غرايس – يتضمن نوعا من الاستطراد الزائد كميا؛ فأصل المحادثة كان حول قابلية كتابات البطل الشعرية في الندوة؛ ولكن هذا الاستطراد عن القراءة كان مفيدا جدا في تلك الحوارية التي ستتطور إلى استنزاف بنية الفصل الأخير عند كل من عايدة، والبطل؛ فهو الذي يؤسس لحالة التناغم التي ستغلب على الحوار رغم الانفصال المحتمل في بنية الاتهام الزائف؛ الوظائف السردية تبدو – في خطاب عايدة – كحجاج، أو استدلالات تؤكد أن الإخفاء هو الفعل الأهم في القراءة، لا تحديد الجاني؛ وهو الآلية التي تفكك نهايات الليالي، وعلامات الكابوس، والمواجهة المباشرة مع بحر الظلمات، أو سؤال أبو الهول في وعي ولاوعي البطل / المخاطب في المحادثة، كما يحقق حديث عايدة فكرتي المواءمة، والتنظيم المنطقي؛ لأنها بدأت بتمثيل خصوصية طريقتها في القراءة ثم دللت على ذلك بالإشارة إلى أهمية الحيل الفنية المتعلقة بالإخفاء، وتوافق إيقاع حديثها عن الفن برغبة البطل في أداء دور تمثيلي يسخر من النهاية عبر توليد هامش جديد لبدايات أدائية مغايرة للنهاية المؤجلة.

وسنعاين توافقية مع نوازع عايدة الواعية، واللاواعية في خطابه الذي يؤكد قابلته للدور التمثيلي الذي يشبه شخصيات روايات عايدة؛ يقول:

"هكذا تنتهي الروايات البوليسية، لا بأس؛ لن أخيب أملها ... كنت أمام اختيار؛ أقول أو لا أقول الحقيقة؛ لكن أية حقيقة؟ . في عينيها رغبة مجنونة. حسمت: نعم، بالفعل أنا" (14).

لقد ارتكز خطاب البطل على المدلول الواسع لدال الحقيقة، أو حقيقته الذاتية في وعي عايدة؛ فهو يتجاوز الحقيقة بوصفها حدوثا واقيا في زمن خطابه معها، وينتقل إلى مدلولها الروائي التمثيلي الأدائي الذي يفكك النهايات؛ وتجسدت الأفعال الكلامية لديه في الاعتراف الذي ينتمي للتمثيلات؛ وهو اعتراف يستلزم – في بنية المحادثة – السخرية من مركزيته؛ لأنه يضيف إليه المدلول التمثيلي، والتوجيهات الكامنة في طلب الإجابة؛ ويبدو أن طلب الإجابة عن التساؤل في خطاب البطل يشير إلى مضاعفة رغبته اللاواعية في تأجيل الكشف عن الفصل الأخير في المحادثة؛ ولهذا اختار الدور الأدائي الذي يتناغم مع حب عايدة لحيل الإخفاء عند سارد رواياتها البوليسية؛ وقد تعالت المؤشرات الذاتية التي تمزج ضمير الأنا في شخصيات الروايات في خطاب البطل؛ ومن ثم سيعلو إيقاع أزمنة الحكايات، وفضاءاتها المجهولة، دون اكتمال مغامرة الدخول.

ونلاحظ أن المرجع يتضمن هنا تناظرات خيالية قد تتوافق مع كل من أطياف شهرزاد، وأطياف أوبرا عايدة القديمة؛ وكأن دلالة اسم عايدة المعجمية الواسعة تتضمن رغبتها العميقة في أن تنقذ شخصية عايدة من الدفن حية، أو تفكك بنية القبر؛ مثلما أراد البطل أن يكون متهما بصورة تمثيلية ساخرة تؤجل وحشية العقاب في غرف الليالي السحرية.

وأرى أن رواية عبد الفتاح كيليطو تحقق أيضا الإنتاجية التجريبية في مدلول السياق طبقا لتصور كل من دان سبيربر، وديدري ولسون في دراساتهما بمجال التداوليات الإدراكية؛ وبخاصة أبحاثهما حول نظرية الصلة Relevance Theory ؛ إذ يريان في كتابهما – نظرية الصلة أو المناسبة في التواصل والإدراك – أن السياق قد يتضمن محاولة البشر أن يعالجوا المعلومات بطريقة تحقق الإنتاجية قدر الإمكان؛ ومن ثم يأملون أن يكون الافتراض الذي يعالجونه ذا صلة، ثم يقومون بانتقاء سياق يحقق لهم هذه الرغبة. (15)

هكذا يعيد كل من سبيربر وويلسون النظر في السياق طبقا للرؤى الإدراكية الدينامية، ومبدأ الإنتاجية المشروطة بوجود رابط يجمع بين كل مستوى من مستويات السياق؛ ومن ثم فهو تصور يحقق الإنتاجية الإبداعية المبنية على وجود صلات موضوعية بين كل مستوى من المستويات المتحققة بالفعل، والمقترحة بفعل وعي الذات المدركة.

ويمكننا – وفق هذا التصور الدينامي – أن نعيد قراءة السياق الفعلي للتواصل بين عايدة، والبطل انطلاقا من صلته الموضوعية بعالم الرواية البوليسية الذي يوحي بأجواء تخيلية بين الإخفاء وظهور الأدلة؛ ثم ننتقل من عامل الإخفاء إلى سياق حجرة شهريار، ورغبته في اكتمال الليالي بصورة مكتوبة، ولكنها مؤجلة، ثم قد ننتقل من حجرة شهريار إلى أخيلة شهريار نفسه، وعودة أبطال الليالي بصورة طيفية في سياق المدن المعاصرة.

 

*هوامش الدراسة:

(1) راجع، عبد الفتاح كيليطو، أنبئوني بالرؤيا، ترجمة: عبد الكبير الشرقاوي، دار الآداب ببيروت، ط1، 2011.

(2) راجع، إلفي بولان، المقاربة التداولية للأدب، ترجمة: محمد تنفو، وليلي أحمياني، مراجعة وتقديم: سعيد جبار، رؤية للنشر والتوزيع، ط1، 2018، ص 108، 139.

(3) راجع، ول وإيريل ديورانت، قصة الحضارة، الشرق الأدنى، م1، ج2، ترجمة: محمد بدران، دار الجيل ببيروت مع جامعة الدول العربية، ص 261.

(4) Read, John Barth, The Last Voyage of Somebody The Sailor, Anchor Books, New York, London, 1991, p 13: 26.

(5) راجع، أوزوالد ديكرو، وجان ماري سشايفر، القاموس الموسوعي الجديد لعلوم اللسان، ترجمة د. منذر عياشي، المركز الثقافي العربي ببيروت والدار البيضاء، 2007، ص-ص 506، 507.

(6) راجع، عبد الفتاح كيليطو، السابق، من ص 30: 34.

(7) راجع، أوزوالد ديكرو، وجان ماري سشايفر، السابق، ص 512.

(8) Read, Yan Haung, Anaphora and The Pragmatics – Syntax Interface in The Handbook of Pragmatics, Edited by Laurence Horn and Gregory Ward, Wiley Blackwell Publishing, USA, Hoboken, New Jersey, 2006, P. 328.

(9) راجع، عبد الفتاح كيليطو، السابق، ص-ص 14، 15.

            (10) راجع، السابق، ص-ص 8، 9.

(11) السابق، ص 43.

(12) السابق، ص 44.

(13) السابق ص-ص 119، 120.

(14) السابق، ص 125.

(15) راجع، دان سبيربر، وديدري ولسون، نظرية الصلة أو المناسبة في التواصل والإدراك، ترجمة: هشام إبراهيم عبد الله الخليفة، مراجعة: فراس عواد معروف، دار الكتاب الجديد المتحدة ببيروت، 2016، ص 248.

 

msameerster@gmail.com