*من الجدير الإشارة إلى أن هذه الدراسة كتبت كمقدمة لترجمة كتاب ’’وكشفت وجهها‘‘ لسنية شعراوي، حفيدة هدى شعراوي. وقد صدر عن المركز القومي للترجمة، بترجمة نشوى الأزهري، ومراجعة الكاتب.
مدخل:
إن النص paratext، كما يشرحه جينيت، يشير إلى تلك العناصر التي تقع على عتبة النص والتي تساعد في توجيه كيفية استقبال القراء للنص والسيطرة عليه. وتتألف هذه العتبة من نصوص داخلية a peritext، تتألف بدورها من عناصر مثل العناوين، وعناوين الفصول، والتمهيدات والملاحظات والتعليقات والحواشي، كما تشمل أيضًا نصوصًا خارجية an epitext تتألف من عناصر مثل المقابلات، إعلانات الدعاية، مراجعات وخطابات النقاد للنقاد، الخطابات الخاصة والمناقشات الأخرى للمؤلفين والمحررين ــــ أي ما يمثل نصوصًا ’خارجية‘ بالنسبة للنص المتناول، وإن كانت مرتبطة به. وعمومًا فإن النصوص الحافة تشمل النصوص الداخلية والخارجية معًا. كما أن النص الحاف لا يشير فقط إلى عتبة النص بل إنه يشغلها كذلك ـــ إنه الفضاء الداخلي والخارجي معًا (أو ’الحاف 'para') على نحو ما تشير هذه الصفة التي يمكن القول إن لها وضعية بينية أو عتبية تمكنها من الإطلال على الداخل والخارج في آن واحد. وهكذا فإن النص الحاف بشكل مفارق يؤطر وفي الوقت ذاته يشكل النص بالنسبة لقرائه (see Graham, 2000: 103).
ووفق هذا الطرح، وبهذا المعنى، فإن نص سنية شعراوي الماثل بين يدي القارئ الآن يمثل نصًا حافًا بالنسبة لمذكرات جدتها هدى شعراوي، مثلما تمثل مذكرات الجدة أيضًا نصًا حافًا لنص الحفيدة. بل إننا نستطيع القول إننا مع هذا النص لسنية شعراوي، إزاء حالة من حالات التناص المبدع والخلاق، حالة خاصة وشبه نادرة، حالة تستكمل فيها حفيدة سردية جدتها التي أملتها منذ ما يقارب ثلاثة أرباع قرن، وتتناص معها بأكثر من كيفية وبأكثر من معنى وبأكثر من طريقة، أو بالأحرى تعيد قراءة سردية الجدة عبر إعادة كتابتها. وإن كان هدفي هنا، بالطبع، لا ينصرف إلى رصد مواضع التناص بالاتفاق والاختلاف ما بين النصين، إذ لا يتسع الحيز المكاني هنا لمثل هذا الرصد، ولعل موضعه مكان آخر أكثر اتساعًا من هذا، نوفيه فيه حقه. وإنما سأكتفي فقط هنا بالتوقف عند بعض النصوص الأخرى الحافة بكلا النصين، مقتصرًا في هذا السياق على تحفيز القارئ إلى أن يتوجه إلى مذكرات هدى شعراوي مباشرة بعد أن يفرغ من هذا النص، وأن يمد قنواته وجسوره الخاصة ما بين النصين، ليسأل نفسه أو تسأل نفسها، لماذا كتبت الحفيدة هذه الترجمة الذاتية للجدة وقد كتبت أو أملت الجدة بنفسها مذكراتها، وقد نُشِرت وظهرت للعلن منذ فترة طويلة سابقة على كتاب الحفيدة لترجمتها تلك؟ وهنا أتصور أنه سيكون لدى القارئ الكثير الذي يمكن أن يكتشفه ويحاوره. وربما اتسع المقام بنا لاحقًا، كما أشرت من قبل، لعقد مثل هذه المقارنة بين النصين. وهي مقارنة شيقة وواعدة وتنطوي بالتأكيد على الكثير سواء على مستوى النوع الأدبي الخاص بكل نص منهما، أو على مستوى اختلاف المواقع ما بين كلتا الكاتبتين، وعلاقة كل واحدة منهما بالزمن، وعلاقات الحضور والغياب ما بين النصين.
ترجمة العنوان وما تنطوي عليه من تأطير:
وفق ما تخبرنا به مارجو بدران نقلاً عن حواء إدريس ابنة خال هدى، فإن هدى شعراوي قد أملت مذكراتها على سكرتيرها الخاص السيد عبد الحميد فهمي قرب نهاية حياتها .(Sharawi 1998:1) وحيث إنها قد توفيت بتاريخ 12 ديسمبر عام 1947، فقد ظلت هذه المذكرات حبيسة الأدراج، لا ترى النور ولا يراها النور، لما يقارب أربعة عقود، إلى أن نشرتها دار الهلال بتقديم حوارية من حواريات هدى شعراوي العديدات، وهي الكاتبة الصحفية الشهيرة المرحومة أمينة السعيد، في سبتمبر عام 1981. وإن كان من الغريب أن أمينة السعيد وتتبعها في ذلك مارجو بدران تحدد تاريخ وفاة هدى بأنه في 12 أغسطس 1947 وليس 12 ديسمبر 1947، في حين أن تسلسل الأحداث في سردية الحفيدة التي بين أيدينا هنا توحي بأن الوفاة كانت يوم 8 ديسمبر 1947 ( انظر مقدمة أمينة السعيد لمذكرات هدى شعراوي، صص 8-9، وانظر المرجع الانجليزي السابق، وانظر نهاية كتاب سنية شعراوي وكشفت وجهها). ثم بعد كل هذه السنين وبعد أن ترجمت مارجو بدران أجزاء من هذه المذكرات ونشرتها بعنوان ’’سنوات الحريم‘‘ عام 1986 في نيويورك، ثم نشرتها الجامعة الأمريكية في القاهرة نشرة أخرى عام 1998، إذ بنا نجد حفيدتها سنية شعراوي تقرِّر أن تستأنف وتستكمل سردية الجدة وتنشر علينا هذا النص السردي الرفيع عام 2012، باللغة الإنجليزية بعنوان ’’إسقاط النقاب: حياة هدى شعراوي، نسوية مصر الأولى‘‘. وهو العنوان الذي أصرَّت المترجمة، الأستاذة نشوة الأزهري، على تحويره قليلاً وتحويله إلى ’’وكشفت وجهها‘‘. وهو ما كان مثار حوار بيني وبينها كمراجع للترجمة. ولا شك أن لكل منا مبرراته في الاختيار، وقد ذكرت المترجمة أن المؤلفة (سنية شعراوي) قد أخبرتها أن الكتاب قد تُرجِم إلى الإيطالية بهذا العنوان، وأن المترجمة ذاتها قد قامت بهذاالتحوير من تلقاء نفسها، ودون أن تكون على علم أو دراية بأن هذا العنوان هو ما تُرجِم إليه الكتاب في الإيطالية.
وبعيدًا عن هذا المبرر، فإن اختيار المترجمة ترجمة العنوان بـ ’’وكشفت وجهها‘‘ يبدو، دون شك، أكثر جاذبية وشعرية وانسيابية، من العنوان الأصلي للكتاب ’’إسقاط النقاب‘‘، وبالطبع فإن لكل عنوان من العنوانين تداعياته ودلالاته الحافة المغايرة؛ إذ يبدو اختيار المترجمة لعنوان ’’وكشفت وجهها‘‘ كعتبة نصية، أكثر نعومة بما ينطوي عليه من تحول من الخفاء إلى التجلي خصوصًا في اقترانه بما أدعوه واو المفاجأة السابقة على الفعل ’’كشفت‘‘ وبتاء التأنيث التي تجعل القارئ يتطلع لرؤية هذا الوجه الأنثوي المنكشف على غير ما توقع، وبالطبع فإن المسافة ما بين هذه النعومة المُضمَّنة في هذا العنوان ’’وكشفت وجهها‘‘، والعنف الضمني الملازم للعنوان الإنجليزي ’’إسقاط النقاب‘‘ ــــ بما يحيل عليه الإسقاط من قوة وعنف وإزالة لشيء ظل قائمًا لزمن طويل وظل يخفي حقيقة ما خلفه، على نحو ما تحيلنا عبارات مثل إسقاط حائط برلين، أو إسقاط الأقنعة، الخ ما تنطوي عليه هذه العبارات الفاضحة لأوضاع مفتعلة وزائفة وغير حقيقية ـــ هي جد كبيرة. وبالطبع فإن عنوان ’’وكشفت وجهها‘‘ لا ينطوي على مثل هذه التداعيات والاقترانات التي يحيل عليها الإسقاط، من أن وضعية النقاب هي وضعية زائفة ومفتعلة؛ ومن ثم تستأهل الإسقاط والإزالة، ذلك أن الكشف الذي هو مضاد التغطية لا يحيل ضرورة وحتمًا على ما يحيل عليه الإسقاط من أن هذه التغطية تنطوي على مثل هذا التزييف أو الافتعال؛ أو أنها كانت قسرية، بل إنه قد يوحي أن التغطية ربما كانت إرادية بقدر ما أن الكشف، في هذه الحالة ولا شك، كان إراديًا. ولذا، فإن ’’وكشفت وجهها‘‘ كعنوان، وكعتبة نصية، رغم كل ما ينطوي عليه من جاذبية وانسيابية وشعرية ونعومة، لا يجسد في تقديري مدى قوة ما ينطوي عليه الفعل الذي اجترحته هدى شعراوي من مباغتة ومفاجأة وصدمة؛ ومن ثم فإن كل خيار من الخيارين يتضمن تأطيرًا مغايرًا للحدث على مستوى التداعيات والإيحاءات.
وفضلاً عن هذا، فإن ’’إسقاط النقاب‘‘ هو العنوان الانجليزي الفعلي للنص الإنجليزي. إلا أنني، مع ذلك، لم أرد أن أصر على وجهة نظري لئلا يُفهم ذلك على أنه نوع من أنواع الهيمنة الذكورية المقيتة أو التصلب الذكوري المتشنج، أو الرغبة في فرض الرأي، واستجبتُ لرأي المترجمة، خصوصًا وأنني التمست تبريرًا وتخريجًا بلاغيًا ومجازيًا آخر لهذا الاختيار، وهو أنه من قبيل الإحالة على السبب بالنتيجة، أو إحالة النتيجة على السبب، أي أن كشف الوجه كان النتيجة الطبيعية لسببه الذي هو إسقاط النقاب، وإن كان كشف هدى شعراوي لوجهها قد أدى في حقيقة الأمر أيضًا إلى إسقاط المرأة المصرية للنقاب داخل الفضاء العام. وإن كنتُ مازلت مقتنعًا أن العنوان الثاني أكثر تمثيلا لقوة الفعل الذي ابتدرته هذه الرائدة العفية الجسورة.
لقد كان لا بد من هذا التنويه للقارئ في الحقيقة ليدرك أن تحوير العنوان على هذا النحو لم يكن وليد نوع من الغفلة أو الاستخفاف من قبل المترجمة أو المراجع، وإنما هو نتاج رؤية للمترجمة رأى المراجع أنه لا بأس من موافقة المترجمة عليها ما دام بوسعه أن يشير إلى ما بين الخيارين من اختلاف في التأطير للنص والفعل الذي اجترحته هدى على حد سواء.
هدى ومذكراتها كمادة للتنميط وللتأطير:
مارجو بدران وسنوات الحريم:
في إعادة نشر أخرى لمذكرات هدى شعراوي بتقديم الناقدة النسوية البارزة هدى الصدة عام 2013، وهو عام لا يخلو بالتأكيد من دلالة على مستوى خيار إعادة النشر في ذلك التوقيت بالذات، وما كانت تمر به مصر آنذاك من تهديد بمحو ومحق كل مكتسبات المرأة عبر تاريخها الحديث، نجدها تعقد مقارنة لافتة بين كل من ترجمة مارجو بدران ونص سنية شعراوي، على نحو يشير صراحة إلى أن مارجو بدران كانت تحاول أن تُصدِّر الصورة النمطية عن المرأة الشرقية، بداية من استخدام دال الحريم في عنوان ترجمتها في حين أن هذا الدال لم يرد سوى مرة واحدة في النص العربي للمذكرات، وهو الأمر الذي تذهب إليه مهجة قحف وتتبعها فيه كل من منى بيكر، (انظر بيكر، الترجمة والصراع، ص 161 وما بعدها) وهدى الصدة، (انظر مقدمة الصدة لمذكرات هدى شعراوي، ص 12). إلا أن المراجعة الدقيقة لنص مذكرات هدى شعراوي تكشف في الواقع أن دال الحريم لم يرد مرة واحدة كما تذهب قحف وتجاريها في هذا كل من منى بيكر وهدى الصدة؛ وأن دال الحريم يرد في النص أربع مرات، مرتين منها يشير فيها إلى المكان المُخصَّص للحريم في المنزل أي الحرملك، مرة في بيت أهل هدى، هكذا: ’’ولميلي الشديد للغة العربية طلبت من زوج خالتي أن يبحث لي عن شيخ أزهري طاعن في السن حتى يُسمَح له بدخول الحريم في منزلنا المحافظ‘‘ (شعراوي، مذكرات هدى شعراوي، 2013 ، ص 59). ومرة في بيت الأمة بيت سعد زغلول ’’وفي حوالي الحادية عشرة كلفتُ سكرتيري أن يطلب سكرتير سعد باشا الخاص، وذهب ليطلب المقابلة، ثم عاد ليقول: لتتفضل السيدة، فذهبتُ على الفور … وعندما وصلتُ استقبلني الخادم على باب الحريم، وفتح لي‘‘ (المصدر السابق، ص 214). ومرة كجزء من عنوان كتاب لحرم حسين رشدي باشا يوجيني لوبرون بعنوان ’’حريم ومسلمات مصر‘‘ (انظر المصدر نفسه، ص 67). ومرة أخرى يشير إلى مكان خاص بالنساء في محل لبيع الملابس ’’ كنت قد حصلت على إذن من والدتي بذلك بعد جهد وإقناع، وكان عليَّ أن أصحب وصيفاتي و’’سعيد آغا‘‘؛ لأنه لا يليق بي أن أتوجه بمفردي، وكان عليَّ أن أسدل إزاري على حاجبي وأن ألتف بحيث لا يظهر من شعري أو ملابسي أي شيء. وعندما دخلنا المحل، دهش الموظفون والمشترون من هذه المظاهر غير المألوفة، وبخاصة عندما رأوا الآغا يحملق بنظراته الحادة في وجوه الناس وكأنه يحذرهم من النظر إلينا، ثم اندفع نحو أحد مديري الأقسام يسأله في لهفة وحدة: ألا يوجد عندكم محل للحريم؟‘‘ (نفسه، 62، والتشديد في كل المواضع، هنا ولاحقًا، من عندي).
إن بيكر والصدة توافقان قحف تمامًا في قراءتها لآفاق التلقي التي حكمت اختيارات بدران من نص مذكرات هدى شعراوي، وعمليات الحذف، والإقصاء، ومواضع التأكيد والتشديد والنبر والإبراز من أجل إنتاج نص يتوافق وآفاق التلقي الغربية. إذ تنطلق قحف من عمل هانز روبرت ياوس حول أفق التوقعات، وترى في هذا الصدد أن جماهير الولايات المتحدة من القراء، على الرغم من المقاومات الواعدة التي تتناثر هنا وهناك، يستقون معارفهم عن النساء في العالم العربي بصورة أساسية عن طريق استخدام الأعراف المنبثقة من تاريخ طويل للصور النمطية الغربية عن الشعوب العربية والدين الإسلامي. وأن هذه الأعراف تتخذ شكلها اليوم في ثلاث صور نمطية عن المرأة العربية: الصورة الأولى هي صورة أنها ضحية لظلم النوع؛ بينما تصوِّرها الثانية بوصفها فارة أو هاربة من ثقافتها الظالمة بالفطرة؛ وأما الصورة الثالثة فتمثلها بوصفها رهينة أو مجرد بيدق في يد القوة الذكورية العربية the pawn of Arab male power (see Kahaf 1999: 30)
وفي ظل هذا تبرِّر قحف حذف بدران لحكايات شعراوي عن جدها وحذف عبارات تعبيرها عن عشقها لأبيها بأنه من أجل خدمة صورة الضحية التي تحولت إلى فارة. وذلك لأن صورة رب أسرة عربي لطيف لا لا تناسب ولا تتوافق وتوقعات القراءة في الولايات المتحدة. إذ إن قصة عن فرار امرأة من ظلم النوع للحريم تتطلب بدلاً من ذلك صورة أقل إشراقًا للرجال العرب الذين كانوا يحيون في سنوات الحريم. ولو كانت بدران قد ترجمت حرارة نبرة شعراوي نحو أبيها وجدها، فإن جهاز الاستقبال كان سينحرف نحو وسم شعراوي بأنها رهينة الرجال العرب. ولذا؛ فإن الصورة النمطية للرهينة شيء تنحو بدران، بوصفها مدافعة عن شعراوي إزاء توقعات القراءة في الولايات المتحدة، إلى أن تتجنبه. (see ibid: 34-5) كما ترصد قحف فعل بدران لشيء قريب من هذا فيما يتعلق بعلاقة هدى بأخيها عمر، إذ تركز على بعد غيرة هدى بوصفه البعد الحاكم لعلاقة هدى بأخيها أكثر مما تركز على شدة تعلقها به وحبها له ووثاقة علاقتيهما (see ibid: 35). هذا فضلاً عن النصوص الحافة الخارجية مثل كلمات كل من حنا بابنيك على الغلاف التي تصف هدى شعراوي بأنها ’’تغير غيرة مريرة من الأخ المفضل عليها‘‘ وكيف أن بدران تلاعبت بتشديد هدى على عمق علاقتها بأخيها واختزلت العلاقة في بعد الغيرة. وهو ما ترتب عليه تأطير بابنيك على غلاف النسخة الورقية.
كما تنتقد قحف أيضًا هذا التشديد على الدور الأوربي في تكوين هدى، وهو ما تختار بدران أن تبرزه أكثر من إبرازها لتأثيرات أخرى في تكوين هدى مثل تأثير ملك حفني ناصف مثلا، وهو ما يحدو أيضًا ألبرت حوراني لتأكيد الدلالة ذاتها في كلمته كذلك؛ حيث يقول في دعايته على ظهر غلاف الكتاب الإنجليزي ’’إن سنوات الحريم يكشف كيف أن امرأة موهوبة وحسَّاسة، تربَّت في عزلة لكن لديها معرفة بالفرنسية فتحت لها نافذة على الثقافة الأوربية، أصبحت بالتدريج واعية بمأزقها ومأزق جنسها ومجتمعها.‘‘ وهذا التشديد على الدور الأوربي الذي يصل إلى حد المبالغة تتيحه عملية الاختيار ذاتها وعمليات الحذف المصاحب للاختيار؛ إذ كما ترى قحف؛ فإن ’’الكثير من الشخصيات العربية، والتركية والأفريقية التي تقطن السرد (ibid : 36) محذوفة أو مقلصة ومختزلة في النسخة الإنجليزية. على سبيل المثال، إن شعراوي تصف ما كانت تفعله أمها في ليلة النصف من شعبان: ’’وكذلك كانت تفعل والدتي في ليلة النصف من شعبان وبعد انتهائنا من إطعام الفقراء كنا نجتمع في غرفة واسعة، وتأتي ’’الشيخة جُلسن‘‘ لتجلس في وسط الغرفة وتقرأ علينا دعاء نصف شعبان، ونحن نردِّد بصوت عال، وكان لهذا الدعاء في نفوسنا رهبة وروعة.‘‘ (شعراوي، 2013: 41) كما تترك النسخة الإنجليزية أيضًا قصة فطنات تلك المرأة النكدة المنتمية إلى طبقة أدنى والهاجرة لزوجها والتي تجد لها ملاذًا لدى أم هدى هانم. أما مكائد الدلالات من النساء المنتميات إلى الطبقة الدنيا فإنها لا تمنحها إلا بضعة أسطر في الوقت الذي قدَّمتها فيه شعراوي في عدة صفحات. وفي حين تخصِّص شعراوي في المذكرات صفحة كاملة لابنة عم أمها الشركسية حورية تصفها فيها (انظر شعراوي، 2013: 32)؛ فإن هذه المرأة لا تذكر في سنوات الحريم إلا عرضًا كجزء من جملة (Sharawi 1998: 25).
إن هذه المحذوفات تقلص عدد النساء الأهليات اللائي لا يناسبن قالب الضحية واللائي لا توفرن للقارئ نماذج غير أوربية يمكنها أن تستثير خيال القارئ لهدى هانم الشابة. هذا في الوقت الذي يُحتفظ فيه في النسخة الإنجليزية بكل ذِكر مفرد تقريبًا لمدام ريشار أو مدام رشدي، وهما صديقتان أوربيتان للأسرة،. كما يحدث الشيء ذاته تقريبًا مع بعض الشخصيات الأوربية المستشهد بها. إذ يستخدم نص سنوات الحريم باستمرار اسم زوجة رشدي باشا يوجيني لو برون، وهو ما يعكس أوربيتها أكثر مما يعكس كونها كانت زوجة رئيس وزارء مصر، لأربع مرات، حسين رشدي باشا، في حين أن هدى لا تدعوها في المذكرات إلا ’’حرم رشدي باشا‘‘ (see Kahf 1999: 36-7).
وفي حين أن هدى في مذكراتها، مثلما تورد نماذج على قهر وظلم المرأة العربية تورد أيضًا نماذج على ظلم وقهر المرأة الغربية، بما لا يعطي على الإطلاق مجالاً للانطباع الساذج بأن النساء الأوربيات كلهن متحررات في مقابل أن جميع النساء العربيات مظلومات؛ إذ مثلما تحكي في النسخة العربية من المذكرات قصص نساء شرقيات تعانين من ظروف ظالمة، مثل عطية هانم، فإنها تحكي أيضًا حالة امرأة فرنسية يدينها الرأي العام الفرنسي ولا يتعاطف معها أحد على الإطلاق لأنها قتلت رجلاً شهَّر بشرفها الجنسي في الجرائد، (انظر شعراوي، 2013، ص 92)، ومع أن هدى تبدو مصدومة في النسخة العربية من المذكرات لأنه ما من أحد في باريس قد بدا متعاطفًا مع هذه المرأة التي كانت، وفق رؤيتها، ضحية استغلال ذكوري؛ نظرًا لحساسية النساء حين يتعلق الأمر بالعفاف الجنسي؛ إلا أن بدران تغفل تمامًا هذه القصة الخاصة بالمرأة الفرنسية من النص الإنجليزي، في الوقت الذي تورد فيه قصة عطية هانم عن ظلم النساء الشرقيات وتترجمها ترجمة كاملة بوصفها ’صورة من الحياة الصعبة للمرأة‘ (see Kahf: 37) هو ما يترتب عليه بالتأكيد الإضرار بتمثيل المشهد النسوي على نحو ما تمثله وتجسده النسخة العربية من مذكرات هدى شعراوي.
ولعل أول ما يمكن ملاحظته على قراءة كل من بيكر والصدة، هو اعتمادهما على زعم قحف بأن كلمة الحريم لم ترد في نص المذكرات العربية سوى مرة واحدة، دون التحقق من النص العربي ذاته. وهو زعم غير صحيح، وهو ما دعانا إلى إيراد النصوص الواردة فيها الكلمة والإحالة على مواضعها وسياقاتها من النص. وإذا كنا لا نختلف مع قحف، وبيكر والصدة، في أن نص بدران وما حكمها في اختياراتها وتشديداتها هو تلبية آفاق التوقع والتلقي الخاصة بالقارئ الغربي المنطلق من الصور النمطية الاستشراقية القارة عبر عصور الهيمنة الاستعمارية والإمبريالية، فإن ما لا بد من طرحه ومراجعته هو أن هذه الصور النمطية لم تنشأ قط من فراغ أو من العدم.
يمكن القول، بالطبع، إن الدوافع التي حدت بمارجو بدران إلى تضخيم دال الحريم في نصها، إلى هذا الحد الذي يجعلها تورده في المقدمة وحدها خمسًا وعشرين مرة لا ينفصل بحال عما ينطوي عليه دال الحريم نفسه من إيحاءات وتداعيات، وأنه دال حافلٌ ومشحونٌ ومشبعٌ بالكثيرمن الاستيهامات والتخييلات المُستمَدة والمُستوحاة من ألف ليلة وليلة ومن عوالمها الحافلة بالكثير من الصور والتمثيلات التي تجمع الكثير من النقائض، والمُشبعة في الوقت ذاته بالإثارة، وكذلك مما صوَّره المستشرقون من لوحات وصور للنساء الشرقيات، وما يُحكى من حكايات عن القصور العثمانية وأجساد النساء، وعوالم الحريم فيها (see Lewis 2004: 142-8).
لكنه يمكن القول، أيضًا، إنه على الرغم من أن بدران كانت تحاول إعادة إنتاج الصور النمطية السائدة عن المرأة العربية والشرقية في المخيلة الغربية، بداية من العنوان الذي أقل ما يقال عنه إنه يوافق تخييلات الصورة النمطية المقترنة بالمرأة الشرقية؛ ومن ثم فإنه عنوان يمتلك قوته التسويقية الذاتية والخاصة به في السوق الغربية، وأنها كانت انتقائية واجتزائية إلى حد بعيد في اختياراتها ومواضع حذفها وتهميشها وتأكيدها وتشديدها لما قامت بترجمته ونشره من مذكرات شعراوي تحت عنوان ’’سنوات الحريم: مذكرات نسوية مصرية‘‘؛ فإن المشكل في تقديري ليس هو ما تحاول مارجو بدران فعله، بغض النظر عن نواياها ودوافعها، وإنما هو أن مجتمعاتنا ما زالت تحيا فيها فصائل وقطاعات من النساء والرجال في عصور الحريم، وأن هذه الصورة النمطية ذاتها لم تنشأ من فراغ وأن أية محاولة لإعادة إنتاجها تجد في واقعنا ما يتيح لها هذه الإمكانية بكل يسر وبساطة.
ومرة أخرى، وبعيدًا عما استهدفته بدران بتشديدها على دال الحريم، أو من خلال ما حذفته أو قلصته أو أبرزته؛ فإن هذا لا ينفي بحال واقع الحريم كظاهرة معمارية واجتماعية في تلك الحقبة، ولا أدل على هذا من هذا النص الجلي في دلالته لعفاف لطفي السيد الذي تؤكد فيه دلالة عزل النساء الفضائي والمعماري لدى الطبقات العليا في المجتمع المصري:
’’بدأت حركة تحرير المرأة بالطبقات الراقية لأنهن كن الوحيدات المُحجَّبات والمعزولات في الحريم، بينما لم تلبس الفلاحة الحجاب قط ولم تكن في عزلة أبدًا، بل قضت حياتها تعمل جنبًا إلى جنب مع زوجها، أما المرأة الحضرية من الطبقة غير العاملة والتي كانت تقلد شقيقاتها الأكثر ثراء، فقد كن محجبات ويعشن في عزلة وعندما خرجت الرائدات الاجتماعيات من عزلتهن حذت حذوهن بقية نساء المجتمع بعد زمن من التقاعس ميز الطبقة المتوسطة التي تمسكت بالاحترام والوقار حتى أصبح التغيير أمرًا جديرًا بالاحترام. وجدير بالذكر أنه كان على المرأة أن تواجه اضطهاد بنات جنسها فضلاً عن مواجهتها اضطهاد الرجل، ولذلك ربما استلزم تحريرها فترة من التمهيد أطول لو لم تكشف ثورة 1919 عن الحاجة إلى قدراتها‘‘ (السيد، تجربة مصر الليبرالية 1922-1936، ص 295(.
وإذا كانت مهجة قحف تنتقد آفاق التلقي التي دفعت بمارجو بدران إلى تضخيم مصطلح الحريم في ترجمتها الانجليزية لبعض أجزاء من المذكرات، إلى الحد الذي ترى فيه قحف أن هدى لم تكن تعاني في منزلها، وفق ما يرد في النسخة العربية من المذكرات، من العزل الذي عادة ما يقترن بالحريم، فإنه يجدر القول إن هذا غير صحيح على الإطلاق؛ بدليل هذا النص الذي سبق الاستشهاد به والذي يرد فيه دال الحريم ليؤكد هذه الدلالة الخاصة بالعزل على أجلى وأوضح ما يكون: ’’ولميلي الشديد للغة العربية طلبت من زوج خالتي أن يبحث لي عن شيخ أزهري طاعن في السن حتى يُسمَح له بدخول الحريم في منزلنا المحافظ‘‘ (شعراوي، مذكرات هدى شعراوي، 2013، ص 59)، فما الذي يمكن أن نجده أوضح من هذا لتأكيد أن هذا العزل كان حاضرًا داخل بيت هدى، إذ كان لن يسمح لرجل بدخول الحريم إلا إذا كان طاعنًا في السن، مع ما لكل كلمة طاعن من دلالة تكاد تجعله على شفا الموت. بل لعله يمكننا القول إنه لولا هذا العزل وما ترتب عليه من حرمان هدى من مواصلة تعليمها على النحو الذي كانت تطمح إليه، لما كان وعيها النقدي تجاه الممارسات والسياسات الذكورية الجائرة ضد النوع واستراتيجياته قد تشكل على النحو الذي تشكل به، ولما أصبحت تلك الرائدة النسوية التي عرفها العالم.
هذا فضلاً عن أن الحريم ليس مجرد حيز مكاني داخل الفضاء المعماري للمنازل والبيوت والقصور، لكنه يتجاوز فضاء المنازل والبيوت والقصور إلى الفضاء العام، وإلى فضاءات أخرى عديدة؛ منها الفضاء الذهني والثقافي والنفسي، بل إنه فضلاً عن كل هذا يمكن القول إن الحريم قد اِسْتُدخِل واستقر وأدْمِج واسْتُدمِج في الفضاء الجسدي والسيكولوجي والعقلي للنساء أنفسهن، وقبل ذلك ومعه في الفضاء النفسي والعقلي والثقافي للرجال كذلك؛ ومن ثم فإن الأمر يتجاوز نطاق امرأة بعينها هي هدى إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير.
ولهذا؛ فإنه يمكن القول إن خلع الحجاب بهذا المعنى كان بمثابة تدشين لبداية ثورة حقيقية، هي ثورة النوع على السياسات والاستراتيجيات السائدة تجاه النوع في كل المجالات والفضاءات الاجتماعية، وهي بهذا المعنى ثورة لا تقل في قيمتها عن ثورة 1919 ذاتها، إن لم تفقها، ضد الاحتلال الذكوري للفضاءات الأنثوية على الأصعدة المكانية والثقافية والجسدية والنفسية والروحية، ولعل هذا الإدراك الضمني للاحتلال الذكوري للفضاءات الأنثوية هو ما حدا بقاسم أمين قبل هذه الثورة بأكثر من عقدين إلى أن يُعنْوِن كتابه بـ ’’تحرير المرأة‘‘.
ولعلني لا أغالي إذا ما قلت إن خلع الحجاب قد انعكس تدريجيًا على الفضاء المعماري ذاته، وأنه قد حذف منه هذه المفردة المعمارية المعروفة بالحريم.
وإذا ما راجعنا دال (الحريم) في المعاجم سنجد أنه هو ما حُرِّم فلا ينُتَهك، و الحَرِيمُ: ثوب المُحْرِم، والحَرِيمُ من كلِّ شيءِ: ما تبعه فحرُم بحرْمَته من مرافقَ وحقوق وحريمُ البِئْر: الموضع المحِيطُ بهما والجمع: أَحْرام، وحريم الدار: ما أَضيف إِليْها من حقُوقِها ومرافِقها، وما دَخَل فى الدار مما يُغلَق عليه بابُها، وحريم الرَّجُل: ما يقاتل دونه ويحميه، وحريم المسجد: الموضع المحيط به، ومَكَانٌ حَرِيمٌ: مُقَدَّسٌ يَحْرُمُ انْتِهَاكُه، ودَخَلَتِ النِّسَاءُ لِلْحَرِيمِ: مَوْضِع إقَامَةِ النِّسَاءِ فِي قَصْرِ الْمُلُوكِ وَالأُمَرَاءِ. وحرُمَ على يَحرُم، حُرْمًا وحَرامًا وحُرمَةً، فهو حريم، والمفعول محروم عليه وحريم. وحرُمَ الشيءُ: امْتنع وحَرُمَ عَلَيْهِ: لَمْ يَحِلَّ لَهُ وَمُنِعَ مِنْهُ، وحرُمت المرأةُ على زوجها: مُنع من مسِّها، ومكان حرام: لا يُنتهك، وهو صفة مشبَّهة بمعنى اسم المفعول تدلّ على الثبوت من حرُمَ على (انظر لسان العرب، والقاموس المحيط، والصحاح، على سبيل المثال فقط).
ووفق هذا، ووفق ما تحيلنا عليه المعاجم على اختلافها من دلالات أخرى، يمكن القول إن المجال الدلالي للحريم في اقترانه بجذر مادته (حرم) يقترن بالموضوعات المحظورة والممنوعة والمُحرَّمة أي ما يدخل في نطاق التابوهات، ومن ثم اقترانه بالقداسة، سواء كانت هذه الموضوعات أزمنة، كالأشهر الحرم أو الحرام، أو ممتلكات؛ سواء كانت أشياء أو أماكن أو بشرًا، ومن ضمن هؤلاء البشر أو هذه الممتلكات الحريم: الجنس والمكان.
وبهذا المعنى، فإن دال الحريم مثقل بالتشابكات والتقاطعات الدلالية والاجتماعية، إذ يجمع في آن واحد بين كونه دالاً على جنس أو نوع وفي الوقت ذاته على الفضاء أو المكان الذي يشغله هذا الجنس أو هذا النوع، والذي لا بد من أن يكون له حدود لا يتم تجاوزها. كما نجد الجذر المُشتق منه الدال يقترن بدلالة دينية واضحة وجلية هي دلالة الحظر والمنع الديني الذي يقترن بالتحريم ومن ثم بالحرمان بقدر ما يجعله هذا التحريم موضوعًا للقداسة، وهكذا ترادفت المرأة والحُرمة، لتصبح المرأة هي الحُرمة بألف ولام التعريف.
وبهذا المعنى، فإن الحريم في ازدواج دلالته ما بين الدلالة على جنس بعينه والفضاء المُخصَّص لهذا الجنس أصبح يعمل بوصفه مجازًا مرسلاً يدل فيه المحل أي المكان على الحال فيه أي الإناث والنساء، مثلما يدل الحال أيضًا أي الحريم بالمعنى الأخير، أي معنى الجنس أو النوع، على ضرورة لزوم هذا الجنس أو النوع للمحل، أي للمكان المُخصَّص له، أي لهذا الفضاء المُخصَّص للنساء والإناث بعامة. إلا أنه يمكن القول إن فضاء الحظر والمنع هذا قد تجاوز الفضاء المكاني المُخصَّص للجنس ليصبح هو ذاته قاطنًا داخل النوع أو الجنس ومتحركًا معه وحاكمًا لكل فضاء يحل فيه هذا النوع أو هذا الجنس. ومن ثم فإن طرح قحف في الحقيقة، وبعيدًا عن ألعاب التصوير النمطي الغربية التي تسعى إلى تأبيد النمط والتنميط، يختزل المصطلح في بعده المكاني فحسب، دون أن يربط البعد المكاني بما يتولد ويتوالد عنه من أبعاد أخرى، أي أنه لا يتعامل سوى مع الدلالة المكانية للمصطلح داخل فضاء البيت أو المنزل أو القصر دون النظر إلى تداخل وتراكب وتعقيد دلالاته وأبعاده الثقافية المعقدة. ذلك أن الحريم، بهذا المعنى الذي أشير إليه، هو مؤسَّسة من مؤسسات الهيمنة والسيطرة والتحكم والضبط والإخضاع الاجتماعي الذكوري لجسد وحركة المرأة، ولا شك أن الحجاب ليس سوى مفردة من مفردات هذه المؤسَّسة، أعني مؤسَّسة الضبط هذه بالمعنى الفوكوي، حيث يتحول تخصيص فضاء ولباس بعينه لنوع بعينه إلى وسيلة من وسائل السيطرة على أجساد هذا النوع، وتطويعها للمتطلبات الذكورية المهيمنة (حول الأجساد الطيعة وتطويع الأجساد، بغض النظر عن اختلاف السياق، انظر فوكو المراقبة والمعاقبة، ص ص 157-181). وبهذا المعنى، يمكن القول إنه على الرغم من الإقرار بمحاولات مارجو بدران تأطير وتنميط هدى شعراوي في صورة الفارة والهاربة من الثقافة الظالمة، فإن هذا لا ينفي أن هذه الثقافة كانت، وبالتأكيد لا زالت، تمارس أشكالاً عدة من الظلم للمرأة، من خلال تحويلها في بعض المجتمعات العربية إلى تابوه وإلى أن تصبح موضوعًا محرَّمًا، وكأنه مُقدَّس ومُدنَّس في آن واحد. إلا أن مخاوفنا من أن يبرِّر إقرارنا ببعض محاولات تنميطنا وقولبتنا في تنميطات وقوالب أبدية سياسات الغرب تجاهنا لا ينبغي له أن يحجب قدرتنا على رؤية عيوبنا ومثالبنا، وإلا كنا مساهمين مساهمة فعالة في تحقيق ما تسعى إليه تلك المحاولات الساعية إلى تأبيد صورنا النمطية، بما يخدم السياسات الغربية تجاه العرب وتجاه الشرق بعامة.
لكن بعيدًا عن هذا، دعونا نُكرِّر السؤال مرة أخرى، تُرى ما الذي يدفع حفيدة بعد كل هذه السنين أن تحكي من جديد حكاية جدتها، خصوصًا وقد حكت الجدة حكايتها بنفسها؟ هل فقط لتواجه سردية سنوات الحريم بسرديتها كما تذهب الصدة التي تكشف أن ما كانت تعيشه هدى لا يمكن اختزاله فيما يوحي به هذا العنوان ’’سنوات الحريم‘‘، ربما يكون هذا جزءًا من الدوافع؛ إلا أن المؤكد أنه لا يمكن قصر الأمر على هذا، وإلا لما كان يعنيها سوى القارئ الغربي ولما كانت هناك حاجة للترجمة العربية، ما دام القارئ الغربي هو وحده القارئ المستهدف.
أعتقد أن الأمر لا يقتصر فقط على مجرد الرد على اختزال مارجو بدران لمذكرات هدى ولشخص هدى؛ خصوصًا أن آخر تاريخ تورده هدى في مذكراتها هو عام 1935، أي أن هناك ما يقارب خمسة عشر عامًا من عمر هدى وحياتها لم تتضمنها المذكرات.
وعلى هذا النحو لا يكون الدافع الوحيد المُحرِّك لكتابة الحفيدة لهذه الترجمة الذاتية، على الرغم من أهميته بالتأكيد، هو فقط مجرد مخاطبة القارئ الغربي الذي أطرت وعلَّبت أو قولبت له بدران هدى شعراوي، لتطابق آفاق انتظاره وتوقعه من خلال هذا العنوان المشحون والملغوم وتكرارها لاستخدام كلمة الحريم في مقدمة النص الانجليزي وحدها، خمسًا وعشرين مرة بينما لم ترد في النص العربي الذي يقع في نشرة دار الهلال في 457 صفحة سوى أربع مرات فحسب، إضافة إلى كل ألعاب التأطير والتنميط التي مارستها من حذف وتأكيد وتهميش وإبراز وتشديد. وهكذا يمكن القول إن الأمر يتجاوز هذا إلى شيء آخر، شيء يرتبط في عمقه وحقيقته بقصور مذكرات هدى بالعربية عن الوفاء بكل تفاصيل صورتها، ورغبة الحفيدة في تقديم صورة وافية عن هذه الرائدة، أول ناشطة نسائية مصرية، وفق ترجمة المترجمة، أو بالأحرى ’’نسوية مصر الأولى‘‘. وفي تقديري هنا أن هذه الترجمة لهذا الجزء الفرعي من العنوان هي الترجمة الأدق والأوفى بأكثر من معنى؛ حيث لا يدل وصف الأولى هنا على الأسبقية الزمنية، خصوصًا في ظل أسبقية ملك حفني ناصف، بقدر ما يدل على أولية من نوع مختلف، أولية ترتبط بحجم وقيمة الدور وتنظيم ونوعية الحركة، أولية تتجاوز مرحلة النداءات والصرخات الفردية، إلى مفهوم العمل المؤسَّسي الجماعي المنتظم.
هدى شعراوي من منظور ليلى أحمد
وتنميط وتأطير الخطاب ما بعد الكولونيالي
إذا كانت تلك الصورة التي يتم بها تنميط وتأطير هدى شعراوي ومذكراتها في نص مارجو بدران، وهي صورة لا تخلو من تمثيل إيجابي لشخص هدى وتمثيل سلبي للثقافة التي تنتمي إليها هدى، فإنه يمكن القول إن لدينا تنميطًا وتأطيرًا نقيضًا لهذا التنميط والتأطير، ومعاكس له تمامًا، وهو التنميط والتأطير الذي تقدمه ليلى أحمد لكل من قاسم أمين وهدى شعراوي.
إذ تقرِّر ليلى أحمد بداية، وعلى نحو ما هو معروف تاريخيًا، أن كتاب قاسم أمين ’’تحرير المرأة‘‘ المنشور عام 1899، وهي فترة تغيير اجتماعي ملحوظ، وفوران فكري شديد الحيوية، قد أثار جدلاً مكثفًا ومستعرًا. (Ahmed 1992: 144). ووفق تقديرها، فإن الغضب والانفعال الذي أثاره عمل أمين لا يصبح ملموسًا حين نعاين الإصلاحات المادية التي كان ينادي بها للنساء، وإنما حين نأتي إلى مطالبته بالإصلاح الرمزي الماثل في خلع الحجاب (see ibid: 144-5).
ويعود هذا، وفق ما ترى أحمد، إلى أن الخطاب الاستعماري كان يحاول استخدام ورقة المرأة للحط من شأن البلدان المستعمرة بوصفها بلدانًا دون مستوى التحضر، بدليل احتقارهم للمرأة ومعاملتها هذه المعاملة المُشِينة، في الوقت ذاته الذي كانت تحد فيه السياسات الاستعمارية من إمكانية انتشار التعليم من خلال رفع قيمة مصروفات المدارس بعامة سواء بالنسبة للبنين أو للبنات، وأن هذه الازدواجية قد تجلت أيضًا في مواقف اللورد كرومر، بوصفه ممثلاً نموذجيًا للخطاب الاستعماري، حيث كان يناهض مطالبة المرأة الإنجليزية بحق التصويت، بل كان عضوًا مؤسِّسًا وأحيانًا أخرى رئيسًا لرابطة الرجال المناهضين لحق تصويت النساء في الوقت ذاته الذي يدين فيه موقف الإسلام من المرأة (see ibid: 153). وفي هذا السياق، وعلى نحو غريب وغير مفهوم، ترى أحمد أن خطاب قاسم يأتي كامتداد للخطاب الاستعماري وخطاب كرومر على وجه الخصوص.
وفي حقيقة الأمر، وفي ظل هذا الاعتساف غير المفهوم؛ فإن خطاب ليلى أحمد عن قاسم أمين (see ibid: 155)، ثم عن هدى شعراوي بحكم تبنيها لأطروحاته، يبدو من قبيل المزايدة على الاثنين وعلى القارئ. ذلك أن المطابقة بين خطاب قاسم، وضمنيًا هدى، وخطاب اللورد كرومر والخطاب الاستعماري بعامة لهي من قبيل المغالطة والتشويه، والاجتزاء الخبيث، والاجتراء المجاني، وإساءة التأويل دون أدنى دليل موضوعي يُبرِّر مثل هذه الاتهامات المجانية الجائرة. إذ إن خطاب كرومر والخطاب الاستعماري عمومًا يهاجمان الإسلام، بشكل كلي وعام، على نحو ما نجد في الفصل الرابع والثلاثين من كتاب كرومر مصر الحديثة والذي ينص فيه صراحة على فشل الإسلام كنظام اجتماعي و’’أن أول وأهم أسباب فشل الإسلام كنظام اجتماعي هو أنه ’’يضع المرأة في وضع متدن‘‘ (اللورد كرومر، مصر الحديثة، المجلد الثاني ص 172، وانظر ما بعد، خصوصًا ص ص 196-197)، فضلاعن وصفه الإسلام بعدم التسامح. بينما نجد أن كلاً من قاسم وهدى كانا يُبرزان ويُشدِّدان على احترام الدين الإسلامي للمرأة، وأن هناك الكثير من العادات الاجتماعية والثقافية المحسوبة على الإسلام دون أن تكون لها علاقة أصلاً بالدين، وإنما تُلصق به زورًا وبهتانًا، والدين منها براء. بل إن قاسم ينص صراحة على أسبقية الإسلام لكل شريعة في المساواة بين الرجل والمرأة؛ إذ يقول ’’سبق الشرع الإسلامي كل شريعة سواه في تقرير مساواة المرأة للرجل؛ فأعلن حريتها واستقلالها يوم كانت في حضيض الانحطاط عند جميع الأمم، وخوَّلها كل حقوق الإنسان، واعتبر لها كفاءة شرعية لا تنقص عن كفاءة الرجل في جميع الأحوال المدنيَّة من بيع وشراء وهبة ووصيَّة من غير أن يتوقَّف تصرُّفها على إذن أبيها أو زوجها.‘‘ (أمين، تحرير المرأة، ص 12). ولا يفتأ قاسم يُعدِّد ما منحه الإسلام من حقوق ومزايا للمرأة عطلتها العادات والتقاليد ولا شأن لها بالدين من قريب أو بعيد.
كما أن رد هدى على سلامة موسى فيما يتعلق بمسألة ميراث المرأة ينفي تمامًا القول باغترابها عن ثقافتها وأنها لم تكن سوى مجرد صدى للأصوات الغربية؛ حيث تقول صراحة، ’’وإن كان لا بد من إبداء رأيي في هذا الموضوع، فأقول بصفتي الشخصية إني لست من الموافقين على رأي الأستاذ الخطيب فيما يتعلق بتعديل نصيب المرأة في الميراث. ولا أظن أن النهضة النسوية في هذه البلاد لتأثرها بالحركة النسوية بأوروبا يجب أن تتبعها في كل مظهر من مظاهرها، وذلك لأن لكل بلد تشريعه وتقاليده وليس كل ما يصلح في بعضها يصلح في البعض الآخر‘‘ (مذكرات هدى شعراوي، 2013، ص 268).إذ المؤكد أن شعراوي كانت حريصة ألا يُستخدَم الدين كسلاح ضد المرأة، بل إنها كانت حريصة أن يتحول إلى سلاح لها لا عليها.
ولا شك أن خطاب كل من قاسم وهدى خطاب مغاير كلية وتمامًا لخطاب اللورد كرومر وللخطابات التبشيرية والاستعمارية التي تساوي ليلى أحمد بينها وبين خطابي قاسم وهدى. وكأن أي نقد يُوجِّهه الآخر لنا لا يحق لنا أن نوجِّهه إلى أنفسنا أو نواجه به أنفسنا إن كان فيه ما هو حقيقي وصحيح، بغض النظر عن دوافع هذا الآخر؛ إذ قد تكون دوافعه خبيثة وتهدف إلى تنميطنا في صورة بعينها أو تأطيرنا وفق سردية معينة لا يريد لنا أن نبرحها أو نجاوزها. إلا أن هذا لا يعني أن نمارس الإنكار والرفض لما ينعتنا به، وإلا كنا نحن من نكرِّس الصورة النمطية عن أنفسنا بأنفسنا. بل يفترض أن نواجه أنفسنا بنواقصنا ومثالبنا وأن نسعى لتخطيها وتجاوزها، دون أن يعني هذا أننا تابعون أو أننا نُردِّد خطاب المُستعمِر دون وعي، أو أننا نتماهى معه.
إذ للأسف هناك الكثيرون والكثيرات ممن يُحسبون على أنهم من دعاة التنوير والاستنارة والتقدم، وأنهن وأنهم نسويات ونسويون، وينطلقون من خطاب ما بعد الكولونيالية، ومع ذلك يرتبكن ويرتبكون أمام مثل هذه المزايدات، وفي ظل هذا يدخلوننا في مقابلات بائسة من قبيل أن باحثة البادية مثلاً أكثر أصالة من قاسم أمين وهدى شعراوي، وما شابه هذا من خطابات أحادية الطابع تكشف عن سطحية عميقة، وعن بعض مما يعاني منه خطاب الحركة النسوية المعاصرة، وهو ما يدفع أيضًا إلى أن نجد من يتعصب لقاسم وهدى على حساب باحثة البادية وينعتها بالرجعية. (انظر إجمالاً لهذا الموقف في مرفت حاتم ملك حفني ناصف بين رؤى قديمة وجديدة، ضمن من رائدات القرن العشرين: شخصيات ومواقف، تحرير هدى الصدة، ص 23 وما بعد).
وهنا ينبغي لنا أن نصفي وعينا مع الصور النمطية وألا نخشى من تصفية وعينا معها، وإيجاد وسائل ناجزة وفعالة في مواجهتها. ذلك أنه في تقديري كثيرًا ما يكون للصور النمطية أساس واقعي، أو أنها بالأحرى لا تنشأ دومًا من فراغ أو من عدم. وليس معنى أن الآخر ينمطنا أننا لسنا قابلين للتنميط أو أن الصورة النمطية زائفة مائة بالمائة، وإنما ينبغي أن تتم مواجهة التنميط بطرح نقائضه ودواحضه، وأنه جزء وليس كلاً على نحو ما يحاول التنميط تصويره، وكشف وتوضيح أسبابه؛ لأن خطورة التصوير النمطي تتمثل في أنه يمارس آلية مجازية شائعة في التفكير الإنساني وهي آلية استخدم الجزء للكل، أي مجاز الجزئية للإحالة على الكل، وتصوير وتضخيم الجزء على أنه الكل. بعبارة أخرى، إن التنميط، أو التصوير النمطي، يقترف خطيئة التعميم، وإذا كان التعميم خطيئة لأنه يسحب الجزء على الكل، فإن الإنكار خطيئة أبشع من خطيئة التعميم؛ لأنه لا يتيح إمكانية الرؤية أصلاً، ويصيبنا بالعمى الكامل. ذلك أن زيف التعميم لا يعني، في مثل هذه الحالات، أن الجزء سليم، وليس معيبًا أو سلبيًا، وإلا فإننا نواجه خطيئة التنميط السلبي للكل انطلاقًا من جزء سلبي بخطيئة أخرى أخطر علينا وهي إنكار أن لدينا ما هو سلبي، والعمى عن الجزء إلى أن يتضخم ويستفحل ليوشك أن يصبح هو الكل. وبدلاً من تحديد حجم السلب ننفي وننكر وندين القائم بالتنميط، وهو ما يُفضي بنا إلى سياسات النعام الماثلة في دفن الرؤوس في الرمال، أو سياسة الإنكار التي للأسف نمارسها من منطلقات مختلفة.
ولذا يبدو أن أحكامًا من قبيل أحكام ليلى أحمد من أن النسويات الأوربيات من أمثال يوجين لو برون التي طوت هدى شعراوي تحت جناحها هن من كن يُعرِّفن الشابات المسلمات بمعنى الحجاب وفق الفهم الأوربي له، وبضرورة الحاجة إلى خلعه كخطوة أولى في النضال من أجل تحرير المرأة، لا تختلف على الإطلاق عن محاولات مارجو بدران في إظهار الأثر الأوربي على هدى شعراوي والمبالغة في تأثيره عليها، مغفلة من خلال استخدام الاسم الأوربي، مثلها في ذلك مثل مارجو بدران تمامًا، واقعة أن هذه المرأة يوجين لو برون كانت زوجة رئيس وزراء مصر لأربع مرات، ومكتفية بالإشارة إلى أنها كانت زوجة رشدي باشا على هذا النحو الغُفل.(see Ahmed 1992: 176) كما يفترض مثل هذا الطرح المتهافت، في حقيقة الأمر، أن هدى شعراوي هذه المرأة الاستثنائية بكل معنى الكلمة لم تكن سوى ألعوبة في يد يوجين ومن هم على شاكلتها، بقدر ما تسيء أيضًا لكل من رفضن ويرفضن، حتى يومنا هذا، الحجاب عن اقتناع شخصي، وهن متمسكات في الوقت ذاته بانتمائهن الإسلامي على كافة المستويات. ولذا فإن مثل هذا الطرح الذي تقدمه ليلى أحمد يبدو طرحًا آليًا وفجًا ومتهافتًا ومُسيئًا للشخصية القومية التي تطرح أحمد نفسها وكأنها هي المدافعة عنها في مواجهة الخطاب الاستعماري الذي يجسده أمثال قاسم وهدى.
إن ليلى أحمد لا تستطيع هنا أن تفض الاشتباك بين الأدوات المُستخدَمة على أجندة الخطاب الاستعماري من أجل الهيمنة على البلدان المُستعمَرة، وما يمثل فعليًا معوِّقات حقيقية لتطور وتحديث هذه البلدان، بغض النظر عما إذا كانت بعض هذه المُعوِّقات من ضمن الأدوات التي يحاول الخطاب الاستعماري توظيفها في فرض هيمنته وتبعية تلك البلدان له. إذ لا مشكل على الإطلاق في إقرار أبناء تلك البلدان ببعض ما ينقده فيها الآخر ما دام لدى أبناء وبنات هذه البلدان استجاباتهم النوعية التي تتيح لهم فض الاشتباك وصنع التخارج ما بين تلك المعوقات ومحاولات توظيف المُستعمِر لها، أي أن كلمات الحق التي يراد بها باطل لا ينبغي أن يعمينا باطلها المستهدف عما تنطوي عليه من حق، إذا ما كانت فعلا تنطوي على ما هو حق. ويكون علينا في مثل هذه الحالات أن نحول دون تحقق الباطل المستهدف دون أن نبطل أو ننفي ما فيها من حق، لأن الاستجابة العكسية لا تصنع سوى أنها تجعلنا دون وعي منا أداة طيعة لتحقيق ما يستهدفه هذا الآخر من باطل باسم الحق. وهو تحديدًا ما حدث في حالة المنادين والمناديات بخلع الحجاب، وكيف أن هؤلاء الداعين والداعيات إلى خلعه كانوا في الطليعة الأولى المناهضة للاستعمار وخطابه، ليس فقط بمجرد القول وإنما قولاً وفعلاً وتنظيمًا.
ولا تكتفي ليلى أحمد بهذا بل إنها تتمادى إلى حد وصف قاسم بالبارنوايا (جنون العظمة) (Ahmed 1992: 158) وتتهمه بأن أفكاره صادرة عن تبنيه للسردية الغربية عن الحجاب (حول تباين المواقف من الحجاب والسفور، انظر السبكي، الحركة النسائية في مصر، ص ص 139ـــ 144، وانظر أيضًا عصفور دفاعًا عن المرأة صص 87- 98)، بل إنها تصل إلى حد أنها لا تستبعد إحدى الشائعات التي كانت ترى أن قاسم أمين قد كتب كتابه بناء على توجيهات مباشرة من كرومر (ibid: 159). كما نجدها تتفق أيضًا مع محمد عمارة حول أن محمد عبده قد كتب جزءًا من الكتاب (ibid: 161)، وهو ما يجعل اتهاماتها لقاسم تنسحب بالضرورة أيضًا على محمد عبده بكل تاريخه النضالي والمناهض للاستعمار. وهكذا يتحول اثنان من أبرز القامات التنويرية لدينا، ومن البناة الحقيقيين لمصر الحديثة، إن لم يكن إلى خائنين فعلى أقل تقدير إلى مُداهنين، وعميلين حضاريين.
ولا يقتصر الأمر على اتهام هذين الرمزين الجليلين بالخيانة؛ بل إنها ترى أن كتاب تحرير المرأة ليس إلا إعادة صياغة للسردية الاستعمارية عن المسلمين، كما يتعدى الاتهام بالخيانة قاسم ليصبح اتهامًا أيضًا بالخيانة للطبقة الوسطى المنتمي قاسم إلى شريحتها العليا والمتحالفة اقتصاديًا مع المستعمرين والمتبنية لأساليب حياتهم (ibid: 161).ولا تتوقف ليلى أحمد عند هذا، بل إنها تصل إلى حد وصف قاسم بأنه ابن لكرومر، هذا فضلاً عن اتهامه بالبطريركية وكراهية المرأة (ibid: 162-3).
كما ترى أحمد أن استخدام وتوظيف الاستعمار للنسوية قد وصم النسوية ذاتها بتهمة خدمة أهداف الهيمنة الاستعمارية، وأن هذا قد جعلها موضع ريبة واتهام بأنها حليفة للمصالح الاستعمارية (see ibid: 167)، وهو ما ينسحب في هذا السياق بشكل واضح على هدى شعراوي، دون أدنى مراعاة لتاريخها السياسي الوطني الحافل بالنضال بداية من تنظيم المظاهرات ضد الاستعمار والخروج على رأسها، وهو ما تشير هي ذاتها إليه (see Ahmed 1992 : 174)، ومرورًا بعشرات البيانات والبرقيات والمقالات والخطب والكلمات المُندِّدة بالاستعمار داخل وخارج مصر، ورئاستها للجنة الوفد المركزية للنساء، ودورها في تأسيس بنك مصر (حول دور هدى شعراوي السياسي والوطني، انظر خليفة صص 175ـــ 208، وانظر الصدة وأبو غازي مسيرة المرأة المصرية: علامات ومواقف، ص 85 وما بعدها). بل إن وطنيتها كانت تدفعها في العديد من المواقف إلى مجابهة أكبر القامات السياسية في البلاد من وزراء ورؤساء وزارات، إلى الحد الذي بلغ بها إلى أن تقف في مواجهة سعد زغلول زعيم الأمة في أكثر من موقف وفي أكثر من سياق دفاعًا عن حقوق مصر وتحررها، كموقفها من تصريح 28 فبراير عام 1922، وموقفها من صراع سعد مع خصومه السياسيين، وموقفها من فصل السودان عن مصر، وهو ما دفع كاتبًا مثل فكري أباظة إلى كتابة مقال مطول في جريدة السياسة في نوفمبر 1924 يُحيِّها فيه على موقفها من قضية فصل السودان عن مصر ’’سيدتي هدى شعراوي أحييك ثم أهنئك: أما ’’التحية‘‘ فلجمالك الوطني، وجلالك القومي، وأما ’’التهنئة‘‘ فلأن ’’دولة الرجال‘‘في عالم الجهاد قد دالت وقامت على أنقاضها ’’دولة النساء‘‘.
كنت خصمًا ’’للجنس اللطيف‘‘ لما كان الجنس اللطيف لا يفكر إلا في الأزياء الجديدة والألوان العديدة، وأما اليوم وقد تظاهر للسودان قبل أن يتظاهر الرجال، وأما اليوم وقد احتج على بلاغ السودان قبل أن يحتج الرجال، وأما اليوم وقد استأنف الجهاد بعد الفشل، والرجال غرقى في بحار الفشل … فقد حق عليَّ أن أعتذر، وقد حق عليَّ أن أستغفر وأن أتوب....‘‘ (مذكرات هدى شعراوي، 2013، ص 198).
إن وطنية هدى تتجلى في عشرات المواقف، ولا أدل على ذلك من هذا الموقف الذي تجابه فيه زوجها بكل حسم وثبات وترفض الإذعان أو الاستجابة لإرادته حين حاول أن يحول بينها وبين نداء الوطن وأن تشارك في المظاهرة التي نظمتها هي وزميلاتها من النساء والفتيات في لجنة الوفد المركزية للنساء، ضد الإنجليز إبان ثورة 1919، إذ تروي لنا الواقعة على هذا النحو: ’’وبينما كنتُ أتأهب لمغادرة منزلي في ذلك اليوم للاشتراك في المظاهرة بادرني زوجي بالسؤال: ’’إلى أين تذهبين والرصاص يدوي ويتساقط في أنحاء المدينة؟ فأجبتُه: ’’للقيام بالمظاهرة التي قرَّرتها اللجنة‘‘ فأراد أن يمنعني فقلتُ له: ’’هل الوطنية مقصورة عليكم معشر الرجال فقط وليس للنساء نصيب فيها؟‘‘ فأجابني: ’’هل يرضيك إذا تحرش بكن الانجليز أن يفزع بعض النساء ويولولن يا أمي يا لهوتي!‘‘ فقلت له: ’’إن النساء لسن أقل منكم شجاعة أيها الرجال ولا غيرة قومية. وتركتُه وانصرفتُ، ولحقتُ بالسيدات اللاتي كن في انتظاري وغادرنا عرباتنا وشكلنا أول مظاهرة نسائية منظمة.‘‘ (ذكرى فقيدة العروبة، ص 7)
وعلى الرغم من كل هذا، والعديد من المواقف والأحداث التي لا يتسع لها المقام هنا، نجد ليلى أحمد بكل هذه البساطة واليسر تشوِّه هدى بكل تاريخها وتشوِّه الحركة النسوية التي لم تولد إلا من رحم الحركة الوطنية على نحو ما يشهد التاريخ الذي تتجاهله أحمد، مكتفية بأن تصم الحركة النسوية بأنها كانت أداة في يد الاستعمار يستخدمها ويوظفها لمصالحه وسياساته دون أن تنتبه إلى أن خطاب أمثالها من المُخوِّنين والمُخوِّنات هو الذي يصم النسوية بهذه الوصمة، ويشيع عنها هذا الارتباط ويؤطرها هذا التأطير المقيت والمُريب، وبدلاً من أن يضعها في إطارها التاريخي الحقيقي كحركة في اتجاه تقدم المرأة والمجتمع والوطن يجعلها لا تعدو أن تكون فصلاً من فصول السردية الاستعمارية.
إن مثل هذا الخطاب التخويني المجاني المتاجر بالشعارات ــــ سواء كان صادرًا عن قوى رجعية وبطريركية لا تريد للمرأة أن تتحرر من السطوة الذكورية، أو عن قوميين يرون في أي شيء يتصل بالغرب بالضرورة علامة تغريب وتبعية وعمالة، أو عن أكاديميين يرون في تدريبات ما بعد الكولونيالية كتلك التي تمارسها ليلى أحمد علامة من علامات التحرر والتحرير ــــ لا يخدم في حقيقة الأمر، سواء بوعي أو بغير وعي، سوى سياسات الهيمنة الإمبريالية من خلال هذا الهدم المجاني والرخيص لرموز من أنبل وأرقى الرموز الوطنية في تاريخنا المعاصر كمحمد عبده وقاسم أمين وهدى شعراوي.
وهكذا لا تفعل بعض ممارسات النظرية ما بعد الكولونيالية للأسف سوى أنها تعيد إنتاج التخلف والتبعية، وإن كان بشكل غير مباشر وباسم سلطة العلم والنظرية وادعاء الانطلاق من منطلقات مناهضة للكولونيالية. وفضلاً عن هدمها لرموز وطنية حقيقية كقاسم أمين وهدى شعراوي ومحمد عبده، فإن أحمد تتبنى، دون أدنى تردد وبلا أي غضاضة، خطابات أمثال محمد عمارة، ومن على شاكلته، باسم مقاومة الاستعمار ومقاومة الهيمنة الإمبريالية. وفي ظل طرح كهذا، بالطبع، لا يعدو صوت مناضلة مثل شعراوي سوى أن يكون مجرد صوت تغريبي للنسوية في مقابل صوت ملك حفني ناصف الصوت الوطني الأصيل الذي اختطفه الموت مبكرًا ليصبح الصوت التغريبي هو الصوت السائد (see Ahmed 1992: 174-5)، ولنصبح، وفق هذا الطرح، أمام صورة من صور الاستقطاب الحدي الذي لا مبرر له؛ ذلك إنه وإن كانت هناك بالتأكيد اختلافات في طروح كل من هدى شعراوي وملك حفني ناصف، فإن هذه الاختلافات لا تستوجب على الإطلاق أن يصبحا طرفي نقيض على هذا النحو، وأن يتم تطويب إحداهما وشيطنة الأخرى، على نحو ما يوحي خطاب ليلى أحمد من وصم إحداهما، أي هدى، بالتبعية للغرب، ونعت الثانية، ملك، بالانتماء إلى الثقافة الوطنية وإلى ’’خطاب وطني محلي إسلامي‘‘(ibid: 174)، خصوصًا أننا نجد هدى شديدة الوفاء للباحثة، وتشيد بدور أخيها مجد حفني ناصف في استكمال مسيرتها، وتقر وتحتفي بريادتها، فهل لو كانت على هذه الصورة التي تصورها بها ليلى أحمد كانت تستشعر كل هذا التجاوب الذي بينها وبين الباحثة والذي يجعلها تشعر أنها امتداد لها؟ إذ تختتم كلمتها في إحياء ذكراها بهذه الفقرة البالغة الدلالة على وفائها للباحثة وإقرارها بفضلها رغم ما يمكن أن يكون بينهما من اختلافات حول بعض القضايا، كقضية الحجاب مثلاً: ’’هذه المطالب التي نرفع بها اليوم صوتنا عاليًا، ونلح في طلب تحقيقها كانت الشعار الأول لباحثة البادية، وظلت تنادي بها منذ نعومة أظفارها، وقد عاجلتها المنية قبل أن تنعم بتحقيق شيء منها، فماتت في أول الطريق، وها نحن أولاء اليوم نجاهد على أثرها، ولنا بعض التعزية إذا متنا لأننا قد كوفئنا بتحقيق بعض الأماني التي حرمت باحثة البادية مشاهدتها، وهذا مصير كثير من المجاهدين الأولين في هذه الحياة يضعون الغرس الطيب ليجني ثماره خلفاؤهم.
فنسأل الله للفقيدة الرحمة، ولنا حسن العزاء وتام التوفيق بفضل تآزرنا
ومعاونتكم لنا.‘‘ (ناصف، النسائيات، ص 325) . .
هكذا ترى هدى الباحثة بوصفها أول من زرع وأنها ومن معها الامتداد الطبيعي لها الذي يرعى غرسها؛ وأن ما يجمعهما أكثر بكثير مما يفرقهما.
وإذا كانت مارجو بدران قد اجتزأت شعراوي في اختياراتها لما تترجمه من مذكراتها، فإن ليلى أحمد تبدو حريصة كل الحرص على تشويه صورة هدى تمامًا، سواء من خلال الاتهامات المُرسَلة بكونها تابعة وممثلة للنسوية الغربية، دون أدنى تقييم حقيقي لكل جهودها في الحركة الوطنية، وجهودها القومية في قضية فلسطين مثلا، والذي يتضح لكل ذي عينين أن المؤتمر الذي عقدته عام 1938 كان هو البذرة الأساسية التي تولدت عنها فكرة جامعة الدول العربية، أو إساءة التأويل المتعمدة لأفعالها مثل أن خلعها للحجاب ليس إلا تعبيرًا عن رغبة أو طموح من رغبات أو طموحات الطفولة المحفوزة بتأثرها بصديقتها يوجين لوبرون. (see ibid: 176) ، مع ملاحظة أن مرجعها في هذا هو سنوات الحريم.
وتبلغ ادعاءات ليلى أحمد ذروتها حين نجدها في ختام حديثها عن هدى تُشدِّد على أن منظور هدى لم يكن فقط متأثرًا بالنساء الغربيات والنسوية الغربية بل إنه منظور تغريبي westernizing وأن هذا الميل التغريبي تكشف عنه التفاصيل الخاصة بسيرتها الذاتية. وهذه التفاصيل التي تشير إليها ليلى أحمد، تتمثل في أنه على العكس من ملك حفني ناصف التي كانت تكتب بالعربية بفصاحة، لم تكن هدى شعراوي تتقن العربية؛ ولذا فقد أملت مذكراتها على سكرتيرها الخاص (see ibid: 178). وفي الحقيقة إن مثل هذا الادعاء إن كشف عن شيء فإنه يكشف عن الوزن الحقيقي لمعرفة ليلى أحمد بتاريخ هدى شعراوي وبتراثها، هدى شعراوي التي ختمت حفظ القرآن وهي في التاسعة من عمرها، ’’كنت في التاسعة من عمري عندما ختمت القرآن الشريف، فأرادت والدتي أن تحتفي بهذه المناسبة بإحياء ليلة تتلى فيها آيات الذكر الحكيم تحت إشراف معلمي. ودعت بعض صاحباتها لتناول العشاء وسماع القرآن‘‘ (مذكرات هدى شعراوي، 2013، ص 36). وهي التي، كما سبق ورأينا، كانت تدرس العربية على يد شيخ أزهري، والتي تكشف البيانات التي كتبتها، والمحاضرات والأحاديث الإذاعية التي ألقتها وشهادات العديد من معاصريها من شعراء وبلغاء وفصحاء وأعلام هذه الأمة على مدى بلاغتها، تتهمها ليلى أحمد بعدم اتقان العربية لكيما تكمل صورة هدى المتفرنجة، المتغربة عن ثقافتها ولغة هذه الثقافة، أي لكي تنمطها تنميطًا مبتذلاً، في مقابل ملك حفني ناصف ابنة الثقافة الوطنية؛ والمنتمية للغتها؛ ومن ثم الممتلكة لناصية بيانها، وهي في حقيقة الأمر مقابلة بائسة وتعسة ورثة ومتهافنة ورخيصة، ومحاولة لافتعال ثنائية ضدية بين رائدتين جليلتين بلا داع، وعلى غير ما أساس.
ولا شك أن تصدير مثل هذه الثنائيات والنمذجات والتقابلات الضدية المفتعلة للخطاب النسوي يشغلنا عما هو أهم من ذلك بكثير. إذ نصبح إزاء إعادة إنتاج ممجوجة لتعارضات ثنائية بائسة من قبيل الأصالة والمعاصرة، والتراث والتجديد، والأنا والآخر، إلى آخر هذه الثنائيات الفاشلة التي فرضناها على أنفسنا وأوقعنا أنفسنا في حبائلها دون أن نجني منها نفعًا، وأسقطنا عليها الضدية دون أن تكون بالضرورة متضادة، والتي لا يمكن تجاوزها إلا من خلال العمل والفعل والإنجاز كما فعلت هدى وكما فعلت ملك حفني ناصف، وليس من خلال تكريسها عبر إعادة إنتاجها.
قد لا يكون غريبًا وهذا توجهها، أن تغفل ليلى أحمد عشرات الشواهد والنصوص التي تنقض طرحها هذا مادامت غايتها ليست البحث عن الحقيقة وإنما ممارسة تدريب من تدريبات ما بعد الكولونيالية على هذا النحو الاستقطابي المجاني المقيت. ومن ضمن هذه الشواهد والنصوص شهادات قامات وطنية وقومية رفيعة وجليلة، ممن شاركوا في تأبينها ورثائها. إلا أنه من الطبيعي ألا تلتفت أحمد في ظل إدعاءاتها تلك مثلا إلى ما كتبه وقاله المساهمون في رثاء وتأبين هدى عن بلاغتها وفصاحتها، ومنهم من هم في امتلاكهم لناصية البيان، على سبيل المثال فقط، لا الحصر، شعراء وكتاب، مثل شاعر القطرين مطران خليل مطران الذي من ضمن ما يذكره عنها في قصيدة رثائه لها، أن بلاغة الفعل لديها لا تقل عن بلاغة الأقوال والخطب، وأن ربوع الضاد كلها قد أصيبت بفقدها من خلال هذه الكناية الدالة عما تمثله هدى لربوع الضاد التي ليست شيئًا آخر سوى ربوع اللغة العربية. والقصيدة ليست إلا مجرد شاهد وعينة مممثلة فقط لعشرات الكلمات والقصائد التي قيلت في رثاء هدى، ونوردها هنا على طولها ليتبين القارئ كيف كان يرى معاصرو هدى هدى، ولأنها بمثابة ترجمة ذاتية شعرية لهدى من علم من أعلام الشعر العربي الحديث:
مصابُ مصرَ مصابُ العالمِ العربي هل مدمعٌ في ربوع الضَّادِ لم يُصبِ
أين الزعيمةُ كانتْ للفدى مثلًا بالجهدِ والمالِ أو بالنفسِ إنْ يًجبِ
فقد تفردتْ بالأفعالِ باهرةً كما تفردتْ بالأقوالِ والخطبِ
إن حُزتِ أعلى وسامٍ للكمالِ ففي كلِ القلوبِ لك العُلْيا من الرتبِ
وفي اتحادِ النساءِ العالمي أمَا خلا لك الصدرُ عن حبٍّ وعن رغبِ
نفحتِ عن مصرَ في إبان ثورتِها ولم يُروِّعْك بأسُ الجحفلِ اللجبِ
وفي جهادِكِ لم تألي مراعيةً ما للعروبةِ من إصرٍ ومن نسبِ
تُؤيِدين الذين استَـبْسلوا فحموا أوطانَها برماحِ الخطِ والقضبِ
في كلِّ مرحلةٍ تابعتِ وثبتَهُم والعونُ يتبعُ منكِ العونَ عن كثبِ
وهل فلسطينُ تنسى ما بذلتِ لها فيما تعانيه من حَرْبٍ ومن حَرَبِ
إلى نهايةِ ما في الجسمِ من رمقٍ كافحتِ في جلدٍ عنها وفي دأبِ
غاليتِ فيما تقاضيتِ الحياةَ وما شكوتِ من سأمٍ يومًا ولا نَصَبِ
وقد أبيتِ إذا داعي السلام دعا إلا الشهادةَ والأعداءُ لم تَغبِ
كائِنْ جَهِدتِ لإنصافِ الشعوبِ وكم شهدتِ مؤتمرًا في كلِّ مغتربِ
سلاحُك الحقُ إنْ ألقى أشعتَهُ هوتْ أباطيلُهُمْ رأسًا على عقبِ
وهلْ سلامٌ إذا لم تنتصفْ أممٌ أغلى مرافقِها نهبٌ لمنتهبِ
وهلْ يقالُ إخاءٌ والسبيلُ دمٌ والصدقُ تغشاه ألوانٌ من الكذبِ
أمَّا رسالتُك المثلى فما بَرِحتْ كما بدأتْ بها موصولةَ السببِ
ماذا صَنْعتِ لإنصافِ النساءِ وكمْ دفعْتِ عنهُنَّ من كيدٍ ومن ريبِ
هل يسلمُ الشعبُ والشطرُ الولودُ به من الإماءِ وهل ينجو من العطبِ؟
حرَّرتْهُنَّ برغم الكاشحينَ ومَنْ يسعى بعزمِكِ لم يُخفقْ ولم يخبِ
وكان خيرُ اتحادٍ ما جمعتِ به من نابهاتِ الغواني نُخْبةَ النجبِ
مؤسساتُك لو عُدَّتْ ولو وصِفتْ لما انتهى عجبٌ إلا إلى عجبِ
آياتُ عصرٍ جديدٍ للرُقي يرى مستقبلَ الشعبِ فيها كُلُّ مرتقبِ
بها تُعدُّ البناتُ الصالحاتُ له والأمهاتُ لجيلٍ عاملٍ دربِ
ماذا صنعتِ ولم تخطئْكِ مأثرةٌ للعلمِ والفنِ والأخلاقِ والأدبِ
ظلَّتْ رحابُكِ دهرًا لا يلمُّ بها راجٍ على دهرِهِ نصرًا ولم يُجَبِ
وكم أعنتِ صنَّاعًا في صناعتِه وكم نشرتِ من الأسفارِ والكتبِ
يؤمُّها بالأماني العفاةُ، وما ينأى عن الخيرِ منها كلُّ مقتربِ
زعيمةُ النهضةِ الكُبْرى بلغتِ بها ما عزَّ قبْلُك أن يُرجى مِن الأربِ
لم تذخري دونها شيئا يضن به من طيب عيش ومن جاه ومن نشبِ
فالقي ثوابَك في الجنَّاتِ ناعمةً من يقرضِ الله ما أقرضتِه يثبِ
محمد اسْلمْ لقومٍ من مفاخرِهم إنجابُ مثلِكِ في الصُّيابةِ النجبِ
جلَّ الذي أكملَ الأخلاقَ فيك بما زكا من النسبِ الوضَّاحِ والحسبِ
وأنِت يا ’’بثنُ‘‘ دومي وليدُمْ بكما مجدٌ إلى خيرِ أمٍّ يُعْتَزى وأبِ
صوني اتحادًا تولَّتْهُ هدى فغدا قطبًا له شأنُه في نهضةِ العربِ
وما ’’لمصرَ‘‘ وللجاراتِ مِنْ صلةٍ تُعِزُّها كنظامِ الشمسِ والشُّهبِ
(مطران، الأعمال الشعرية الكاملة، ص ص 278- 281).
وهي قصيدة تشخص على أجلى ما يكون الصورة السائدة عمن هي هدى شعراوي بأبعادها الوطنية والقومية والإنسانية العالمية على نحو ما يتجلى في العديد من أبياتها، وعلى الطبيعة الكاريزمية لشخصيتها، وعلى ما كانت تبذله بالمال والنفس، ونضالها الوطني إبان ثورة 1919 وفتحها صدرها في وجه بنادق ومدافع الانجليز غير عابئة بالموت من أجل وطنها، في إشارة ضمنية إلى مقولتها الشهيرة للجندي الإنجليزي من أنها تريد أن تكون مس كافل أخرى، وأن جهادها جاوز النطاق الوطني إلى النطاق القومي العربي، على نحو ما يتجلى في نضالها من أجل القضية الفلسطينية حتى آخر لحظة من عمرها أو على حد تعبيره ’’إلى نهاية ما في الجسم من رمق‘‘، ثم مواقفها المناهضة للحرب والداعية إلى السلام العالمي، ودورها في تأسيس الاتحاد النسائي المصري، ومؤسَّساتها الخيرية المختلفة التي تثير كلها العجب، ليجعلها من بناة المستقبل وبناة مصر الحديثة، فضلاً عن دورها في رعاية العلوم والفنون والآداب، وابتعاثها البعثات في هذه المجالات المختلفة، وحفاظها على الأخلاق والقيم من خلال مناهضتها لتراخيص البغاء، وتأهيل أمهات المستقبل في مؤسَّساتها المختلفة، ومساهمتها في الصناعة الوطنية من خلال مصنع الخزف. ومع ذلك فإن مطران لم يأتِ على كل مآثر هدى شعراوي. واللافت أننا نجد مطران في قصيدته عن سيزا نبراوي أقرب حواريات هدى إلى هدى لا ينفك يعود إلى هدى مرة أخرى وينسب التلميذة إلى الأستاذة أو الابنة إلى أمها الروحية:
بين الصواحبِ لاحتْ في نظامِ هدى فأشهدتْنا نظامَ الشمسِ عن كثبِ
وما هدى حين تجلو عن أشعتِها إلا مُحَــيَّـــا ذُكاءٍ غيرَ منتقبِ
لها رسالتُها العُلْيا تُنيرُ بـهــــا سُبُلَ الحياةِ وكيفَ النورُ في الحجبِ كما نجد فتحي رضوان، بكل ما له من قامة وطنية وقومية، يقارن بعض أقوالها بأقوال خالد الذكر مصطفى كامل، ويرى أن هدى تلميذته الوفية في الوطنية. وأن هدى استنشقت من أول أيام ولدت فيها ما يجري حولها من السياسة سواء في بيت أبيها أو بيت أخيها أو بيت قرينها (انظر فتحي رضوان، هدى شعراوي تلميذة مصطفى كامل، ضمن هدى شعراوي، الذكرى المئوية ص26). كما يرى أن هدى قد نجحت في تحويل طروح قاسم أمين النظرية إلى ممارسات مؤسَّسية؛ إذ يرى أن هدى تستلهم عنوان كتاب قاسم المرأة الجديدة و’’تشكل في أبريل عام 1919 والثورة في أبان تلهبها واضطرامها جمعية المرأة الجديدة‘‘ (المصدر نفسه، ص 27).
ويعلق فتحي رضوان على صرخة هدى في الجندي الانجليزي الذي أشهر بندقيته في وجهها بأن يقتلها وإنها تريد أن تكون مس كافل أخرى بأن هذه الصرخة كانت ’’ذات ثلاث دلالات: كانت صرخة الشجاعة في وجه الخطر الحقيقي، وكانت صرخة الزعامة في الميدان لا في الدار وخلف المكتب إذ كان من وراء هدى شعراوي بضع مئات من السيدات المصريات وكانت صرخة الميلاد .. إذ لم يسبقها عمل يبشر بمولد دور جديد من أدوار حياة المصريين في انسلاخها من القالب الذي صاغه لها الاستعمار‘‘ (نفسه، ص 27). بل إن فتحي رضوان يلتقط بعدًا ربما لم يدركه كثيرون مثلما أدركه هو، وهو أن الهم والشاغل السياسي كان يجاوز الشاغل النسوي وأن الشاغل النسوي لم يكن إلا مكونًا من مكونات الشاغل السياسي، حيث يرى أن من ’’يدقق في تاريخ وسجل أعمال هدى شعراوي يرى عجبًا ... يرى أن الحافز الأول لهدى شعراوي إلى مباشرة العمل العام في مصر والنهوض بتبعات خلق نهضة في البلاد هو الحرص على العمل السياسي . فتكوينها في الدرجة الأولى سياسي وشواغلها هي شواغل السياسي .... الذي يشمل مصر كلها بالاهتمام، لا التي تؤثر المرأة وحدها بالعناية والرعاية.‘‘ (نفسه، ص 24) إلى الحد الذي يرى معه أنها ’’كادت تكون زعيمة سياسية، بل حتى أصبحت زعيمة سياسية بحق لولا أن كونها سيدة، وكون زعامتها اقترنت بالجهاد من أجل المرأة، حجب على الناس، خصائص زعامتها السياسية.‘‘ (نفسه ص 25)
إن بعد الزعامة هذا، أو هذا البعد الكاريزمي المشع والآسر والساحر من شخصية هدى، تعكسه وتجسده كلمة سيزا نبراوي عنها وهي ابنتها الروحية وأقرب حوارياتها إليها، إذ نجدها تُجسِّد هذه الطاقة المُشِعة بداية مما تعقده من صلة بين اسمها وتجلي أفعالها؛ إذ تنبئنا أن اسم هدى ليس فقط هدى وإنما نور الهدى، وأن هذا الاسم كان يطابق مُسمَّاه قولاً وفعلا وسلوكًا؛ إذ تكتب سيزا بتدفق وحرارة وعشق، وشعور غامر بالفقد والخسارة تحت عنوان نور ينطفئ:
’’يا نجمة الحب لا تتواري عن سمائك.
نور الهدى. النور الذي أرشدنا إلى الطريق الصالح ...
كان هذا الاسم الرمزي هو المُسمَّى الحقيقي للشخصية السامية المُشِّعة التي اختفت من سماء مصر بعد أن خطت ألمع الخطوط.
اسم هدى شعراوي. هذا الاسم وحده كان جليلاً محترمًا محبوبًا في الشرق كله وسيظل هذا الاسم إلى الأبد علمًا مرفوعًا يلتف حوله كل من كان مثلها يخدم المثل العليا: العدالة والمحبة والإخاء. ... ’’الآلهة إيزيس‘‘ هكذا كان يسميها المثال مختار.
ولما كنا نسأله لمَ هذه التسمية؟ كان يجيب: إيزيس أم الدنيا، وهدى أمنا كلنا.
أم لأولادها أولاً، كانت تسهر عليهم ليناموا وتتعب ليستريحوا، تضحي في سبيل راحتهم وسعادتهم حتى بالحياة إذا لزم الأمر. أم لأولادها الروحيين الذين وجدوا فيها الغذاء العقلي والمواساة الروحية التي هي أهم بكثير من الخبز اليومي.
وثالثًا أم لكل البؤساء والمرضى والمحرومين إلى آخر يوم من حياتها. كانت لهم سماء الدعاء المجاب.
أما من جهتي، فمنذ طفولتي كنت أسيرة تلك الجاذبية التي تشع من شخصيتها .. كانت شابة، شابة جميلة مستحيل أن ينظرها إنسان دون أن يحبها ويعجب بها.
بالغريزة أحببتها. أحببتها إلى درجة العبادة.
وقتئذٍ لم يكن ما يجذبني إليها جمالها أو جاذبيتها، ولكن حنانها الذي كان يفيض على كل من حولها. حتى آخر يوم من حياتها.
ذلك القلب الكبير في المصرية العظيمة كان هو مطلع كل تلك الإشعاعات السخية العميقة التي سطعت في شتى نواحي حياتنا القومية.
معنويتها القوية فوق العادة هي التي جعلتها مركز الدائرة لمعظم الجمعيات النسوية الكبرى والملهمة الأولى للكثير من حركات قادة الرجال.
هل فكرة اتحاد الأمم العربية إلا وليدة المؤتمر النسوي الذي نظمته للدفاع عن فلسطين في أكتوبر سنة 1938؟
كانت شخصيتها العظيمة المثل الحي للضمير القومي‘‘(ذكرى فقيدة العروبة، ص ص 18-19).
إنها كما تقول سيزا، وكما كان الغربيون التقدميون ينعتونها، المصرية وكما كانوا يطلقون على بيتها بيت المصرية، ذلك البيت الذي حاولت أن تجعل منه، تصميمًا ومعمارًا وأثاثًا وفرشًا، رمزًا ثقافيًا لتلاقي الشرق والغرب، في نطاق رؤية إنسانية أرحب لا تعرف الانغلاق ولا الخوف من الآخر، وإنما تتسع للآخر كما تجعل الآخر يتسع لها، دون عقد أو أمراض أو عدم الثقة في الذات. ولعل هذا الاتساع ذاتها هو ما جعل مختار يرى فيها إيزيس، ويرى فيها أمًا للدنيا.
وعلى الرغم من كل هذا وعشرات الشواهد والنصوص والشخصيات الدالة على مدى وطنية وجهاد هدى بالمال والوقت والجهد والفكر والحب، لا تتورع ليلى أحمد عن إلقاء اتهاماتها الجزافية لتشوه رمزًا من أنبل وأرفع رموز هذا الوطن.
إلا أن المدهش حقًا هو موقف ليلى أحمد من لغة هدى، وأنها لم تكن تمتلك العربية، كشاهد على كونها مستغربة ودخيلة على الثقافة العربية. ووجه الدهشة هو أن أحمد لم تلتفت حتى إلى ما تذكره مارجو بدران في تمهيدها لسنوات الحريم عن علاقة هدى باللغة العربية؛ إذ تقول بدران هكذا صراحة: إنه ’’كان لدى هدى ولع خاص باللغة العربية، لسان أبيها، ولغتها القومية‘‘ كما تضيف أن استخدامها لها كان يتزايد في اللقاءات الجماهيرية وأنها كانت تلقي بها خطبها، هذا على الرغم من اتقانها للفرنسية التي كانت تعد اللغة الاجتماعية لنساء الطبقة العليا. (See Sharawi 1998: 1) كما تعود مرة أخرى في المقدمة لتفترض أن غرام هدى باللغة العربية ربما كان يعود إلى أبيها الذي كان مولعًا ولعًا شديدًا بالشعر العربي .(see ibid: 15)
ثم لو فرضنا جدلاً صحة طرح أحمد، وهو غير صحيح على الإطلاق، هل من الأخلاق الأكاديمية اللائقة مثل هذه المُعايرة بالقدرة اللغوية ليُتخذ منها مدخل للتشكيك في النوايا والميول والدوافع، ثم ماذا لو طُبِّق هذا المعيار ذاته على ليلى أحمد ذاتها، وقلنا إن هدى إن كانت قد أملت مذكراتها على سكرتيرها بالعربية، فإن ليلى أحمد قد كتبت مذكراتها ’’ممر جانبي‘‘ A Border Passage بالإنجليزية فهل يمكن أن يتخذ من هذه الواقعة مطعنًا عليها أو منفذًا للتشكيك فيها، أو يؤخذ على ليلى أحمد مثلاً أن كل كتبها بالانجليزية وأنها أستاذة في هارفارد أو على مثقف وطني وقومي مثل إدوارد سعيد مثلاً أنه لم يكن يكتب بالعربية، مع علمنا أن مسألة اتقان اللغات مسألة بالغة التعقيد وتخضع لظروف وملابسات عديدة، لا يكون الشخص أحيانًا مسئولاً عنها. فهل يعد معيار كهذا معيارًا مناسبًا معرفيًا أو لائقًا أخلاقيًا، ناهينا أصلاً عن عدم مطابقته للوقائع في حالة هدى. ثم هل الدافع الوحيد للإملاء هو عدم امتلاك اللغة كما تدعي أحمد، أم أنه قد تكون هناك دوافع أخرى لإملائها لمذكراتها لا علاقة لها بالمرة بعدم امتلاك اللغة، كضيق الوقت أو الرغبة في إلزام نفسها أمام طرف آخر بالمواصلة، أو الإفادة من معاونة سكرتيرها خصوصًا أن المذكرات حافلة بالوثائق التي تتطلب من يجمعها ويرتبها، أو ما سوى ذلك من أسباب أخرى، عدا أن يكون عجزها اللغوي. ألم يكن الأجدى والأجدر أن تقرأ ليلى أحمد منجز هدى وما كُتِب عنها في زمانها وأن تطلع على شهادات معاصريها عنها قبل أن تخلص إلى مثل هذه المغالطات والاتهامات؛ بدلاً من إشعال الحروب الأهلية داخل ذاكرة النوع، أم أن هذا ثمن لا بد منه من أجل تطبيق بعض مقولات النظرية ما بعد الكولونيالية في مجال النسوية على حساب الواقع والحقيقة؟
ثم هل من المنطقي أو المقبول أكاديميًا ألا تحيل أحمد سوى مرة واحدة فقط على النص العربي لمذكرات هدى (see Ahmed 1992: 273)، وهي تريد أن تتوصل إلى مثل ما توصلت إليه من استنتاجات، وتعتمد في مقابل هذا اعتمادًا كليًا على نص مارجو بدران الذي لا يكاد يبلغ في حجمه ربع النص العربي، وهو بالطبع ما يثير شك القارئ في أن تكون أحمد قد اطلعت أصلاً على النص العربي فضلا عن أن تكون قد قرأته قراءة مدققة؟
والمؤكد أن الراصد لمسيرة هدى ومنجزها يستطيع أن يكتشف دون أدنى عناء أنها كانت تتحرك بيسر وسلاسة وانسيابية بين الثقافات واللغات المختلفة؛ إذ فضلا عن العديد من المواقف التي تحفل بها المذكرات، تنبئنا أيضًا أمينة السعيد تلميذتها، ومعاصرتها، وأول من نشر مذكراتها أنها كانت تتقن ثلاث لغات، وأن بيتها كان ’’صالونًا أدبيًا وسياسيًا يُهرع إليه في يوم الثلاثاء من كل أسبوع أعلام السياسة والأدب والفلسفة والفنون‘‘ (مقدمة أمينة السعيد لمذكرات هدى شعراوي، ص ص7-8). إن هذه اللغات الثلاث، فضلاً عن العربية هي الفرنسية والتركية والإنجليزية؛ وقد كانت هدى تجايل وتثاقف أعلام السياسة والأدب والفكر والفن، بداية من مصطفى كامل صديق أخيها عمر، إلى سعد زغلول، وعبد الخالق ثروت، وعدلي يكن، ومحمد حسين هيكل، ومحمد علي علوبة، وحسين رشدي باشا، وأحمد لطفي السيد، وطه حسين، والعقاد ومي زيادة، ومحمود مختار، والعشرات سواهم ممن كانوا يترددون على صالونها الفكري والأدبي والسياسي ويعاونونها ويقدمون لها المشورة من كبار رجالات السياسة فيما يخص الاتحاد النسائي وحركة المرأة بعامة على نحو ما يتضح من سرد الحفيدة. ومن ثم فقد تنوعت مصادر وموارد هدى السياسية والفكرية والأدبية، وهو ما لا بد من أن يكون قد انعكس، بدوره أيضًا، على كفاءتها اللغوية وأدائها اللغوي، إذ إن كل أولئك لم يكونوا يتواصلون بالفرنسية، التي تحاول أحمد أن تجعل هدى أسيرتها وأسيرة ثقافتها.
هذا فضلاً عما نجده لهدى من محاضرات وكلمات ولقاءات إذاعية هي غاية في الطلاقة والانسياب والتماسك اللغوي والفكري، على نحو ما نجد مثلاً في محاضرتها عن ’’دور المرأة في حركة التطور العالمي‘‘ التي ألقتها في قاعة يورت بالجامعة الأمريكية بالقاهرة بتاريخ 12 نوفمبر 1929، وهي غاية في الرصانة والبلاغة والتماسك والاتساق الأسلوبي والفكري. ولذا يمكننا أن نقول إن هدى كانت تتجول بين اللغات والثقافات دون تعثر ودون أي عقد أو شعور بالنقص، وبوعي شديد باحتياجات أمتها وثقافة هذه الأمة، وبما يمثل إضافة إلى ثقافتها من ثقافة الغرب، دون أن يمثل هذا أي تهديد لثقافتها ولقيم هذه الثقافة، ولذلك فقد أنجزت ما أنجزته لصالح هذه الثقافة ولصالح هذه الأمة، بعيدًا عن مماحكات هواة إشعال الفتن والحروب الأهلية الثقافية في ذاكرة النوع.
وعلى الرغم من كل هذه الاتهامات بتبعية هدى للغرب واستغرابها، فإن ليلى أحمد تختتم الكتاب بأن ’’الغرب قد أصبح في كل مكان وأنه كما يقول عالم النفس الهندي أشيس ناندي بأن الغرب في البنى والعقول، وأن الأفكار السياسية والتقنيات والأنساق الفكرية الغربية تتغلغل بشكل شامل في كل المجتمعات. وما من سبيل للخلاص، أو للعودة إلى ماض من النقاء الثقافي غير المشوب. (Ahmed 1992: 236)
إن ما تمارسه أحمد ومن على شاكلتها هو في حقيقة الأمر ليس سوى مظهر من مظاهر تكريس التخلف وسد آفاق التقدم والتطور باسم الوطنية والقومية والخصوصية، والاستقلال وعدم التبعية، وكأن الإفادة من خبرات الآخرين تعني بالضرورة عدم الاستقلال، والتبعية, والخضوع لسلطة الآخر. وهو بالطبع منطق مغلوط ومـأزوم وعاجز، منطق يعكس عدم الثقة في الذات، والخوف من الآخر أكثر مما يعني الاستقلال والقدرة على المواجهة والاختيار. إنه منطق الضعاف غير الواثقين في أنفسهم وفي سواهم، وهناك مئات الأمثلة ومنها ليلى أحمد ممن يمثلون تجليًا صارخًا لهذا النزوع المُكرِّس للتخلف باسم الوطنية. وبالطبع، والمؤكد أن تكريس التخلف لا يصب في نطاق خدمة الوطن والنهوض به بأي حال من الأحوال. ولكنها قوة وبلاغة الشعارات وما تمتلكه من مخزونات نفسية وطاقات عاطفية لا شعورية تتحول بدورها إلى عوائق معرفية تعيد إنتاج التبعية ولكن في نسخها الأكثر انغلاقًا وتخلفًا وانحطاطًا، إلا أن الأخطر في كل هذا هو أن كل هذا يُمارس باسم العلم وتحت غطاء وعباءة سلطة العلم وسطوة النظرية.
من سردية الجدة إلى سردية الحفيدة
في ظل ألعاب التأطير والتنميط تلك يمكننا أن ندرك بعض دوافع الحفيدة لاستكمال سردية الجدة، كما يمكننا أن ندرك أيضًا لماذا لم تقم الحفيدة بترجمة مذكرات الجدة كاملة أو حتى باختيار بعض أجزاء هذه المذكرات التي تكشف عما لم تكشف عنه اختيارات بدران مثلا وترجمتها على غرار ما فعلت مارجو بدران. وإذا كان يمكن تفسير هذا بأن المذكرات تتضمن بعض الجوانب التاريخية الخاصة التي لا تعني القراء النسويين والنسويات في الغرب، مثل دفاع هدى عن أبيها مثلاً في أحداث الثورة العرابيةً؛ فإن هذا ليس وحده هو مبرر الحفيدة في إعادة تقديم سردية الجدة، في تقديري؛ بل يبدو أن ثمة ما يجاوز ذلك، وهو تلك المناطق المسكوت عنها في سرد الجدة؛ خصوصًا أن المذكرات تتوقف، كما سبقت الإشارة، عند عام 1935 أي قبل وفاة هدى باثنتي عشرة سنة.
هذا فضلاً عما يعنيه فعل الكتابة عن شخص يحبه المرء من قيمة تختلف كثيرًا عن فعل الترجمة لنص قائم سلفًا؛ إذ تتحول الكتابة في هذه الحالة إلى ما يشبه طقسًا من طقوس الحب والتواصل والعطاء، عبر رحلة من البحث والتنقيب والتدقيق والتقصي.
ولعل واحدًا من أبرز المواقف المسكوت عنها في مذكرات هدى هو موقف خلع الحجاب وملابساته، والغريب أن هدى تصمت تمامًا عن ذكره في مذكراتها، وكأنها قد اكتفت بالاستجابة التي كتبها ودوَّنها الواقع من خلال ردود فعل النساء عن أن تكتب هي مرة أخرى عنه.
إلا أن إسقاط الحجاب كان، ولا شك، فعلاً رمزيًا احتجاجيًا بامتياز؛ إذ كان يمثل دعوة لإسقاط كل ما يرمز إليه الحجاب من دلالات وقيم، أو بالأحرى دعوة لإسقاط ثقافة بأكملها؛ هي ثقافة الحجاب بكل ما تنطوي عليه من عمى، وجهل، وازدواجية، واستبداد، وخنوع، وخضوع وانصياع، وموات.
لقد كان إيذانًا ببداية حركة نوع بأكمله من الحجاب إلى السفور، ومن الخفاء إلى التجلي، ومن التواري إلى الظهور، ومن العدم إلى الوجود، ومن الغياب إلى الحضور.
إن هذه الحركة لم تكن على هذا القدر من البساطة، بل إنها كانت تعني تحديًا لموروث كامل لطبقات من التخلف المتراكم على مر القرون والعصور، تخلف تراكم وتكدَّس، وتجمَّد وتكلَّس، واتَّخذ أشكالًا مادية ملموسة كاليشمك والحبرة وغطاء أو حجاب الوجه الذي لم يكن مستهدفًا به حجب الوجه فقط، وإنما حجب وقمع العقل قبل الوجه.
ولذا فإن قوة ورمزية هذا الفعل كانت بمثابة ثورة بالمعنى الاجتماعي والسياسي، أي على مستوى الإيذان بتغيير سياسات واستراتيجيات النوع. ولاشك أن قدرًا كبيرًا من قوة الفعل قد اسْتُمِدت من قوة فاعلته؛ إذ إن صدور الفعل عن امرأة مثل هدى قد أضفى على الفعل من المشروعية والإقناع ما لم يكن سيكتسبه لو أن سيدة أخرى، ليس لديها ما لهدى من مقومات وموارد، هي من قامت بمثل هذه المبادرة، وهو ما يؤكد الأبعاد الكاريزمية للشخصية؛ إذ على حد ما يذهب ماكس فيبر؛ فإن ما يتمتع به الفرد من نعمة شخصية واستثنائية (كاريزما)، هو ما يؤمن الولاء الشخصي والثقة الشخصية بفرد ما، إما بسبب ما أوتي من وحي أو لما يتمتع به من بطولة أو من صفات قيادية أخرى، وهذه هي السطوة ’’الكاريزمية‘‘ كما يمارسها الأنبياء أو يمارسها ـــ في المجال السياسي ـــ القائد الذي يُتوَّج أميرًا في الحرب، أو العاهل المنتخب، أو كبير الساسة، أو زعيم الحزب السياسي (see Weber 2004: 34).
ذلك أن ثمة فارقًا في التلقي للأفعال ذاتها حين تصدر عن أشخاص عاديين، وحين تصدر الأفعال ذاتها عن شخوص يتسمون بالهالة الكاريزمية، والحضور الكاريزمي الآسر، هنا يصبح الفعل ذا حمولة معرفية وبلاغية مختلفة، أو لنقل إن حمولته المعرفية والبلاغية تختلف تمامًا؛ إذ يكتسب طاقة وقوة استثنائية، وكأن الكاريزما قد أضفت عليه جزءًا من سحرها وهالتها. وهنا يمكن أن يتحول الفعل من مجرد فعل فردي (لازم) خاص بفاعلته/أو فاعله ليصبح فعلاً (مُتعدِّيًا) ومُعدِيًا. وهذا جزء من بلاغة الشخصية الكاريزمية والأفعال الصادرة عنها؛ إذ إنها تستقر في وجدان المؤمنين بها، ومن هم على حافة الإعجاب بها. ذلك أنه إذا ما نقلنا بعض مفردات التداولية (see Austin 1955: 3-4 and Robinson 2003: 3-6)، ونظرية أفعال الكلام من مجال الكلام إلى مجال الفعل الرمزي، والأفعال الرمزية، فإنه يتم التحول من القوة المتضمنة في الفعل إلى ما يلزم عنها من عدوى. وهذا ما يمكن القول إنه قد حدث مع تلك الإيماءة الإشهارية الرشيقة التي اجترحتها هدى شعراوي في لحظة فاصلة أو، إذا ما استعرنا لغة الأنثروبولوجيا، لحظة، هي على المستوى المكاني والزماني، لحظة عتبية وبينية بامتياز؛ إذ تجلى هذا الحدث في مكانيين عتبيين: (see Gennep 1960: 10-11 & Thomassen 2014:21-45 )
العتبة الأولى هي ميناء الإسكندرية، والعتبة الثانية هي محطة مصر بالقاهرة، إذ كل منهما تمثل عتبة فاصلة بين الذاهبين والقادمين، والزمان هو لحظة عودتها من المؤتمر التاسع للتحالف النسائي الدولي لتساوي الحقوق في الاقتراع في 28 مايو ١٩٢٣، المنعقد في روما... إنها لحظة فرح وانتصار، لحظة خروج وولادة وعبور بالمعنى الشعائري، ومن ثم يمكن أن تحتمل تمرير مثل هذا الفعل، وهو ما يمكن أن نطلق عليه بلاغة التوقيت. وكأن رحلة حضور المؤتمر التي مثلت مصر فيها هدى وسيزا نبراوي ونبوية موسى، وهو أول تمثيل نسائي مصري في محفل دولي قد جعل اللحظة تبدو وكأنها أشبه ما تكون بشعيرة من شعائر العبور التي يمر بها البطل في الملاحم والحكايات والسير، وفق ما يذهب إليه أرنولد فان جينب في كتابه العمدة شعائر العبور. (see Gennep 1960)
وها هو المشهد كما تصوره سنية شعراوي:
«وصلت الباخرة إلى الإسكندرية في ٢٨ مايو ١٩٢٣. وكان محمود سامي، زوج ابنة هدى قد جاء للترحيب بعودتها. وحينما صعد على الباخرة، تحدثت معه عن خطتها لنزع النقاب حتي تطمئن أن فعلها لن يمثل له فضيحة. وكانت سعادتها غامرة لموافقته على خطتها. وقال لها إنه يعتقد أنه قد آن الأوان لاتخاذ تلك الحركة في مصر. وأن سمعة هدى التي لا غبار عليها سوف تضفي الشرعية على هذه الحركة. وكانت نبوية موسى قد نظمت تغطية إعلامية لعودة السيدتين لكى تكون حدثًا يحظى بأقصى قدر من الانتشار. وقابلهما مراسل من الأهرام في الإسكندرية ورافقهما بالقطار إلى القاهرة. وفي محطة القاهرة، نزلتا من القطار مكشوفتي الوجه وواجهتا لحظة من الصمت المذهول، أعقبها قيام كل النساء من دائرتهما، واللائي جئن للاستقبال بنزع نقابهن. كان المشهد رائعًا ووصفه كل من حضره بحماس في الأيام التالية.» (Sharawi 2012: 98)
هكذا تتضح لنا قيمة نص سنية شعراوي ذلك أن مثل هذا المشهد المحوري لا يرد له أي ذكر في مذكرات هدى شعراوي؛ وكأنها قد تجاوزته واكتفت بما كتبه الواقع عنه؛ إلا أنه بالتأكيد مشهد يستحق السرد والتذكر، وأن يبقى حيًا في ذاكرة الأجيال؛ إذ يصور التحول من عصر إلى عصر، ومن آفاق وعي إلى آفاق وعي مغاير تمامًا، إنه مشهد يجسد الانتقال من زمن ثقافي ينتمي إلى ما قبل العصور الوسطى إلى زمن ثقافي آخر حديث. إلا أن الباحث والمتتبع لتراث هدى وأعمالها وأفعالها يكتشف أن هذه الحركة التي كشفت فيها وجهها قد سبقتها حركة أخرى بالغة الدلالة وتكاد تكون تمهيدًا لها لم يلتفت أحد إليها على الإطلاق ولا حتى حفيدتها سنية شعراوي في سرديتها هذه.
إذ نجد عبد الرحمن الرافعي يورد لنا مشاركة السيدات والآنسات في الثورة يوم الأحد 16 مارس سنة 1919 على هذا النحو: ’’خرج المتظاهرات في حشمة ووقار، (دلالة هذه الجملة على الخوف من أن يتبادر إلى الذهن نقيض هذا)، وعددهن يربو على الثلاثمائة من كرام العائلات، وأعددن احتجاجًا مكتوبًا ليقدمنه إلى معتمدي الدول، هذا تعريبه: ’’جناب المعتمد:’’يرفع هذا لجنابكم السيدات المصريات أمهات وأخوات وزوجات من ذهبوا ضحية المطامع البريطانية يحتججن على الأعمال الوحشية التي قوبلت بها الأمة المصرية الهادئة لا لذنب ارتكبته سوى المطالبة بحرية البلاد واستقلالها تطبيقًا للمبادئ التي فاه بها الدكتور ويلسن وقبلتها جميع الدول محاربة كانت أو محايدة.
’’نقدم لجنابكم هذا ونرجو أن ترفعوه لدولتكم المبجلة لأنها أخذت على عاتقها تنفيذ المبادئ المذكورة والعمل عليها، ونرجوكم إبلاغها ما رأيتموه وما شاهده رعاياكم المحترمون من أعمال الوحشية وإطلاق الرصاص على الأبناء والأطفال والأولاد والرجال العزل من السلاح لمجرد احتجاجهم بطريق المظاهرات السلمية على منع المصريين من السفر للخارج لعرض قضيتهم على مؤتمر السلام أسوة بباقي الأمم وتنفيذًا للمبادئ التي اتخذت أساسًا للصالح العام، ولأنهم يحتجون أيضًا على اعتقال بعض رجالهم وتسفيرهم إلى جزيرة مالطة.
’’لنا الأمل يا جناب المعتمد أن يحل طلبنا هذا نحن السيدات المصريات محل القبول، ولازلتم عونًا لنصرة الحق مؤيدين لمبادئ الحرية والسلام‘‘ سارت السيدات في صفين منتظمين، وجميعهن يحملن أعلامًا صغيرة، وطفن الشوارع الرئيسية في موكب كبير، هاتفات بحياة الحرية والاستقلال وسقوط الحماية، فلفت موكبهن أنظار الجماهير، وأذكى في النفوس روح الحماسة والإعجاب، وقوبلن في كل مكان بتصفيق الناس وهتافهم، وأخذ النساء من نوافذ المنازل وشرفاتها بالهتاف والزغاريد. وخرج أكثر أهل القاهرة رجالاً ونساء لمشاهدة هذا الموكب البهيج، الذي لم يسبق له نظير، وأخذوا يرددون هتافاتهن.
ومر المتظاهرات بدور القنصليات ومعتمدي الدول الأجنبية لتقديم الاحتجاج المكتوب، ولكن الجنود الإنجليز لم يدعوا هذا الموكب البرئ يسير في طريقه، فحينما وصل المتظاهرات إلى شارع سعد زغلول يردن الوصول إلى ’’بيت الأمة‘‘ ضربوا نطاقًا حولهن، ومنعوهن من السير، وسددوا إليهن بنادقهم وحرابهم مهددين، وبقى السيدات هكذا مدة ساعتين تحت وهج الشمس المحرقة، فلم يرهبن هذا التهديد، بل تقدمت واحدة منهن وهي تحمل العلم إلى جندي كان قد وجه بندقيته إليها ومن معها، وقالت له بالإنجليزية ’’نحن لا نهاب الموت، أطلق بندقيتك إلى صدري لتجعلوا في مصر مس كافل ثانية‘‘ (هذه السيدة هي هدى شعراوي، المراجع)، ومس كافل هي الممرضة الإنجليزية المشهورة التي أسرها الألمان في الحرب العظمى الأولى واتهموها بالجاسوسية وأعدموها رميًا بالرصاص، وكان لمقتلها ضجة كبيرة في العالم، فخجل الجندي، وتنحى للسيدات عن الطريق فكتبن احتجاجًا ثانيًا على هذه المعاملة الغاشمة، ألحقنه باحتجاجهن الأول، وقدمنه إلى معتمدي الدول وهذا نصه:
’’قرَّر السيدات المصريات بالأمس القيام بمظاهرة سلمية والمرور على دور السفراء لتقديم الاحتجاج الكتابي المرفق بهذا والذي نتشرف برفعه لجنابكم الآن وعندما اجتمعن بشارع سعد زغلول باشا حاصرتهن قوة مسلحة من العساكر البريطانية ووجهت لهن السلاح حتى لا يتحركن لا إلى الأمام ولا إلى اخلف، وبقى السيدات هكذا مدة ساعتين تحت نار الشمس المحرقة.
’’هذا ما رآه المحتلون من معاملة السيدات، وهو بمفرده وبغير تعليق دال على استمرار الإنكليز في استعمال القوة الغاشمة حتى مع السيدات لإخماد أنفاس هذه الحركة العامة التي لم يكن أساسها أي عداء لضيوفنا الأجانب، لأنها موجَّهة فقط ضد أعمال الاستبداد والقوة التي يقابل الإنكليز بها مطالب الأمة الحقة الشرعية.
’’لهذا يا جناب المعتمد نضم هذا الاحتجاج الثاني لاحتجاجنا الأول ونرجو إبلاغه لدولتكم الموقرة التي أخذت عاتقها نصرة مبادئ العدالة والحرية، وتفضلوا بقبول احترامنا‘‘.
ووقع على هذا الاحتجاج السيدات والآنسات الآتية أسماؤهن:
حرم حسين رشدي باشا، حرم سعد زغلول باشا، هدى شعراوي حرم علي شعراوي باشا. حرم محمود رياض باشا حرم محمد سعيد باشا، حرم اسماعيل صدقي باشا. حرم عمر سلطان باشا. (الرافعي ثورة 1919: تاريخ مصر القومي من 1914 إلى 1921، صص 210ـــ 212)
لقد كان خطاب شعراوي النسوي مغزولا في نسيج الخطاب السياسي والاجتماعي للبلاد، بمعنى أن الدعوة لتحرير المرأة لم تكن منفصلة عن الدعوة لتحرير البلاد من الاحتلال، وتحول المرأة إلى قوة فاعلة في عملية التحرير، ومن ثم؛ فلعلها ليست صدفة أن كانت أول مبادرة لحركة المرأة مغزولة في نسيج الفعل السياسي والمشاركة السياسية في ثورة 1919.
وقد اقترنت بهذا الفعل وبهذه المشاركة في الأحداث السياسية للثورة أول إيماءة مجازية لرفع هدى شعراوي للحجاب، وذلك في التصريح باسمها مباشرة قبل عبارة حرم فلان على الاحتجاج المقدَّم لمعتمدي الدول الأجنبية، إذ من بين 103 سيدة وآنسة (81 سيدة، و22 آنسة) من الموقعات لا توجد من تصرِّح باسمها سوى هدى شعراوي وحدها، التي يأتي اسمها ثالث اسم بعد كل من حرم حسين رشدي باشا وحرم سعد زغلول باشا، هكذا (هدى شعراوي حرم علي شعراوي باشا). في حين أن باقي النساء والآنسات لا يصرحن بأسمائهن، ويكتفين فقط إما بعبارة حرم فلان باشا أو بك أو الآنسة كريمة فلان باشا أو بك (انظر الرافعي، المصدر السابق، ص ص 210-213). أي أن التوقيع كان باسم الزوج أو الأب، وهو ما يكشف تجلي النمط البطريركي في التواصل حتى مع ممثلي الدول الأجنبية وسفرائهم. بل حتى زوجة أخيها عمر سلطان لا تذكر هي الأخرى اسمها وتكتفي بالصيغة السائدة ’’حرم عمر سلطان باشا‘‘. وهو ما يعني أن البطريركية والقيم الذكورية كانت مستدمجة داخل الوعي النسائي ذاته، بعيدًا عن الرجال أنفسهم فعمر سلطان مثلاً كان رجلا منفتحًا كما أنه كان متوفى آنذاك حيث توفي في 18 فبراير 1917، ومع ذلك فإنها لا تكشف اسمها وتكتفي بأن تحجبه باسم الزوج المتوفى.
ولا شك أن كشف الاسم الأنثوي هنا كان يمثل إرهاصًا وتجليًا من تجليات خلع الحجاب وكشف الوجه الأنثوي، ذلك أن حجب الاسم من خلال عبارة حرم فلان الإلحاقية لا تقل في دلالتها الرمزية والمجازية عن كونها غطاءً وحجابًا، كاليشمك والحبرة والخمار والنقاب، يُخفي النظير اللغوي للتعرف على الهوية الذاتية للمتكلمة أو المُخاطَبة من خلال حجب الذات وإلحاقها وتغطيتها بالآخر الذكوري، بينما هنا ومع هدى نجد اسمها مُصرَّحًا به جنبًا إلى جنب مع اسم زوجها ضمن علاقة انتساب وليس علاقة تبعية وإلحاق تبدو فيها بوصفها ملكية مطلقة للزوج من خلال عبارة حرم فلان دون أدنى ذكر لهوية ذاتية خاصة بها، حيث ينسخ هذا الفلان حرمه ويلغيها تمامًا، وكأن اسم المرأة لاستخدام المالكين لها فقط.
وبالطبع، فقد كان كشف الاسم هنا يمثل فعلاً من أفعال التوقيع والإحالة الذاتية على الذات، وليس على آخر تُلحَق به وتتبعه هذه الذات، لقد كان يعني نوعًا من الاستقلالية على مستوى الهوية الذاتية، كما كان يعني بداية تحول في رؤية المرأة المصرية لذاتها وللعالم من حولها، وبداية بناء لهوية جديدة. هنا لم تتحول هدى إلى مجرد ترس من تروس آلة اللغة السائدة وإنما أوقفت آلة اللغة واستبدلت بترس من تروسها ترسًا آخر، أخذت تخرج مع حركته الذات الأنثوية من العماء إلى التجلي، ومن الغياب إلى الحضور، ومن العدم إلى الوجود، ومن الصمت والسكوت إلى النطق والكلام. ولذا فإن هذا الفعل اللغوي في الحقيقة كان يمثل بداية خلخلة للغة ولعلاقات القوة بين النوعين على مستوى اللغة، ذلك أن توقيع هدى باسمها أو بأنها حرم علي شعراوي وحسب يعني كيفيتين مختلفتين تمامًا في رؤيتها لذاتها؛ ومن ثم فقد كان التوقيع باسم الأنثى هكذا بداية قطيعة ثقافية مع ممارسة ظلت سائدة لزمن طويل، وهي ممارسة مازلت رواسبها حاضرة في بعض مجتمعاتنا حتى اليوم؛ حيث مازال التصريح باسم الأنثى وكشفه، في بعض الأوساط العربية، مثار حساسية وتوتر وغضب، وكأنه كشف وتعرية لجزء من جسد الأنثى، أي وكأنه عورة يجب إخفاؤها وحجبها باسم الذكر كبُر أم صغُر. وهو ما يتجلى في بعض عبارات الحديث عن الزوجة أو النداء عليها ومخاطبتها بعبارات مثل الجماعة، والأولاد، أو مناداة الزوجة باسم الابن، أو يا أم فلان (اسم الابن) الى آخر هذه الممارسات التي نشهدها في بعض الأوساط في مصر، وفي سواها من الأوساط العربية، وكأن اسم الأنثى (سوأة) ينبغي تغطيتها وحجبها وإخفاؤها، جزء من الفضاء الحريمي الذي لا ينبغي له أن يُكشف للعلن أو أن يتم الولوج إليه، ولعله من هنا أتت تلك العادة القديمة الخاصة بتكنية الإناث بأم فلان حتى قبل الزواج والإنجاب. ولذا، فإن تصريح شعراوي وحدها باسمها كان هو الآخر نوعًا من أنواع الخروج من الفضاء الثقافي للحريم.وهكذا يمكن القول إن كشفها لاسمها لم يكن إلا مقدمة وخطوة وإرهاصة أفضت بها لاحقًا إلى أن تكشف وجهها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصادر والمراجع
أولاً: المصادر العربية
ابن منظور (محمد بن مكرم): لسان العرب، دار المعارف، القاهرة، 2008.
الجوهري (اسماعيل بن حماد): الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية، تحقيق أحمد عبد الغفور عطار، دار العلم للملايين، بيروت، 1990.
إدريس (حواء): مذكرات حواء إدريس، تقديم هدى الصدة، مؤسسة المرأة والذاكرة، القاهرة، 2016.
ذكرى فقيدة العروبة حضرة صاحبة العصمة السيدة الجليلة هدى هانم شعراوي: مجموعة الخطب والقصائد التي ألقيت في حفلة تأبينها بدار الاتحاد النسائي المصري مساء يوم الجمعة 30 يناير 1948.
شعراوي (هدى): مذكرات رائدة المرأة العربية هدى شعراوي، در الهلال، كتاب الهلال، القاهرة، 1981.
ــــــــ (هدى): مذكرات هدى شعراوي، تقديم هدى الصدة، ط1 دار التنوير، بيروت ــ القاهرة ــ تونس، 2013.
ــــــــ (هدى): دور المرأة في حركة التطور العالمي، محاضرة ألقتها في قاعة يورت التذكارية بدار الجامعة الأمريكية بالقاهرة في يوم الثلاثاء 12 نوفمبر 1929، مفرغة ومودعة بمكتبة مؤسسة المرأة والذاكرة.
الفيروزآبادي (محمد بن يعقوب): القاموس المحيط، تحقيق محمد نعيم العرقسوسي، مؤسسة الرسالة، بيروت، 2005.
قاسم (أمين): تحرير المرأة، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، القاهرة، 2012.
ناصف (ملك حفني): النسائيات: مجموعة مقالات نشرت في الجريدة في موضوع المرأة المصرية، دراسة تقديمية منى أحمد أبو زيد، دار الكتاب المصري اللبناني، القاهرة ـــ بيروت، 2015).
هدى شعراوي الذكرى المئوية 1879/1979. كتيب بدون تاريخ، ضمن مقتنيات مكتبة مؤسسة المرأة والذاكرة.
مطران (خليل): الأعمال الشعرية الكاملة، جمع وترتيب ومراجعة وتقديم: أحمد درويش، مؤسسة جائزة عبد العزيز البابطين للإبداع الشعري، الكويت،2010.
ثانيًا المراجع العربية:
حاتم (مرفت): ملك حفني ناصف بين رؤى قديمة وجديدة، في رائدات القرن العشرين: شخصيات وقضايا، تحرير هدى الصدة، مؤسسة المرأة والذاكرة، ط2، القاهرة، 2016.
خليفة (إجلال): قصة المرأة العربية على أرض مصر، مكتبة الأسرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2008.
الرافعي (عبد الرحمن): ثورة 1919: تاريخ مصر القومي من سنة 1914 إلى سنة 1921، ط4، دار المعارف، القاهرة، 1987.
السبكي (آمال): الحركة النسائية في مصر ما بين الثورتين 1919 و1952، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1986.
السيد (عفاف) لطفي: تجربة مصر الليبرالية 1922-1936، دار الكتب والوثائق القومية، القاهرة، 2011.
الصدة (هدى)، أبوغازي (عماد): مسيرة المرأة المصرية: علامات ومواقف، الجزء الأول، مراجعة وتقديم: جابر عصفور، المجلس القومي للمرأة، القاهرة، 2001.
عصفور (جابر): دفاعًا عن المرأة، مكتبة الأسرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2007.
ثالثًا المراجع المترجمة:
بيكر (منى) الترجمة والصراع، ترجمة وتقديم طارق النعمان، المركز القومي للترجمة، القاهرة، 2018.
كرومر (اللورد): مصر الحديثة، ترجمة: صبري محمد حسن، مراجعة وتقديم: أحمد زكريا الشلق، المجلد الثاني، المركز القومي للترجمة، القاهرة، 2015.
فوكو (ميشيل) المراقبة والمعاقبة: ولادة السجن، ترجمة على مقلد، مراجعة وتقديم مطاع صفدي، مركز الإنماء القومي، بيروت، لبنان، 1990.
رابعًا: المراجع الأجنبية
Ahmed, Leila (1992) Women and Gender in Islam, New Haven and London: Yale University Press.
Austin, J.L. (1995) How to Do Things with Words. Edited by J.O. Urmson and Marina Sbisa, Cambridge: Harvard University Press.
Gennep, Arnold van (1960) The Rites of Passage. Translated by Monika B. Vizedom and Gabrielle L. Caffee. London and New York: Routledge and Kegan Paul.
Graham, Allen (2000) Intertextuality, London and New York: Routledge.
Lewis, Reina (2004) Rethinking Orientalism: Women, Travel and the Ottoman Harem, (London, I.B. Tauris).
Robinson, Douglas (2003) Performative linguistics: speaking and translating as doing things with words, London and New York: Routledge.
Shaarawi, Huda (1986) Harem Years: The Memoirs of an Egyptian Feminist. Ed. and translated by Margot Badran. London: Virago.
Shaarawi, Sania Lanfranchi (2012) Casting Off the Veil: The Life of Huda Shaarawi. Egypt's First Feminist. London: I.B. Tauris.
Thomassen, Bjørn, (2014) Liminality and the Modern Living Through the In-Between, Farnham and Burlington: Ashgate Publishing Limited.
Kahf, Mohja (2000) Packaging ‘Huda’: Sharawi’s Memoirs in the United States Reception Environment, in Amal Amireh and Lisa Suhair Maja, ed. Going Global: The Transnational Reception of Third World Women Writers, New York, Garland.
Turner, V. (1991) The Ritual Process: Structure and Anti-Structure, New York: Cornell University.
Weber, Max (2004) David S. Owen, and Tracy B. Strong. The vocation lectures. Hackett Publishing.