يذكرنا هذا النص الموجع بالحقائق البسيطة المذهلة، وهي أن نهر النيل الذي يجرى من الجنوب إلى "المتوسط" لا ينبع من السماء، إنما ينبع من قلب أفريقيا المفعم بالفقر المدقع والقهر السياسي وأحلام الشعوب في التحرر، وأن آثام حكامنا السياسة هددت جريان النيل مثلما تهدده السدود الآن.

مياهٌ نيلية

رجب سعد السيّد

 

ظللتُ، طوال أيام انعقاد الحلقة التدارسية، أغالبُ إحساساً بأن وجودي لا ينزل في نفوس المحيطين بي منزلاً حسناً، وربما تهيأ لي أن بعضهم يتعمدُ تجاهلي؛ لكن أحداً لم يتجاوز حدود المجاملات المتبادلة. ظننتُ أحاسيسي محصورة في دائرة عدم الارتياح، بغير تيقن، إلى أن ساقتني الظروفُ للاقتراب منها، في جولة نُظِّمــتْ لنا في (مدينة صفيح) مترامية، بإحدى ضواحي نيروبي العشوائية؛ ووجدتُها تضعُ ساعدَها الأيمن موازياً لساعدي الأيسر، وتقول:

  • " كيف تصادفَ أن يحملَ كلٌّ منَّــا صفة أفريقي؟".

فحاولتُ أن أردَّ، مُلاطفــاً، بأن البشرية قد تجاوزت الاحتكام للون البشرة في التمييز بين أفرادها، وأن الجغرافيا تؤكدُ جيرتنا؛ وأردفتُ، أنشُـــدُ مجاملتَها :

  • " وأنتِ من يرسلُ لي كوب الماء، من أوغندا، لأشربه في بيتي بالإسكندرية!".

ففاجأتني تسرعُ بقولها، وكأنه كان على طرف لسانها:

  • "قد يأتي يومٌ تبحث فيه عن هذا الكوب فلا تجده!. ألم تسمع عن عالم الجغرافيا الطبيعية السويسري، الذي يتوقع أن يكون لعامل النحر الاعتيادي، في الهضبة الاستوائية، مع تعاقب الزمن، أثره الفعَّال في أن تغير مياه بحيرة فيكتوريا اتجاه سريانها، فتنحدر إلى بحيرة تنجانيقــا وسهول الكونغو، بدلاً من أن تغذي النيل الأزرق، فيتوقف النيل عن الجريان باتجاه البحر المتوسط ؟!".

وعادت فاقتربت مني، ونحن نخوض أوحال مياه الصرف السطحي في الممرات الخانقة، بين صفوف الأكواخ الصفيحية في ذلك التجمع السكاني العشوائي شديد البؤس، وقالت مستطردة، كأن إشارتها المقلقة السابقة لم يمض عليها ساعات :

  • "إنكم، أيضاً، لا تكتفون بأن تشربوا وتزرعوا لأنفسكم، بل تقدمون مياهنا هدية لأصدقائكم، الذين كانوا، حتى وقت قريب، ألدَّ أعدائكم. ألم يعتزم السادات، عام 1979، توصيل مياه النيل، التي ستروي سيناء، إلى صحراء النقب، في إطار التعاون مع إسرائيل، ودليلاً على رغبة إدارته في حسن الجوار ؟!".

     فوجدتُ نفسي في موقف المدافع. قلتُ :

  • "قد لا تعلمين أن علاقة مصر بإسرائيل لا تتعدى الدائرة الرسمية، فثمة إرادة شعبية ترفضها. وعلى أي حال، فإن شيئا مما تتحدثين عنه لم يحدث، فقد تراجع السادات عن عزمه، ولم يلبث أن اغتيل !".

وعند الغداء، فوجِئتُ بها تنتقل لتشاركني مائدتي في مطعم الفندق، وتقول:

  • "لا أعتقد أن شمالياً متحضراً يرفض أن تشاركه جنوبية سوداء الطعام!".

وكانت تبتسم، فلم أفلت الفرصة، فقلت:

  • " على فكرة، تبدين أكثر جمالاً وأنت مبتسمة ..".

فابتسمت أكثر، وقالت:

-" وأنت تعجبني، فقد لمستُ فيك بساطة وصدقا ..".

قلت: -" الحمد لله .."

فاتسعت ابتسامتها؛ وانشغلنا بتناول الطعام؛ وبعد أن انتهينا منه، خرجنا إلى شرفة مزدحمة بالنباتات كأنها دغل، لنحتسي بعض المشروبات، وعرضتْ عليَّ أن تدعوني في اليوم التالي للغداء خارج الفندق في مطعم اكتشفته في أعماق نيروبي، يقدم وجبات من مناسل التماسيح، فرحبتُ شاكراً؛ وحسبتُ ما بدأنا به من جدل قد انتهى، إلا أنهاعادت تناوشُ :

  • "لكن، عليك أن تعترف بأن السادات لم يتراجع طوعاً، وإنما بعد أن ردَّ عليه (منجستو هايلا ميريام)، الذي هدد بحرمان مصر من مياه المنابع الأثيوبية، وتمثل 83% من موارد مصر المائية، بتنفيذ عدد من المشروعات والخزانات، على بحيرة (تانا) والنيل الأزرق. فهددَ الساداتُ بأن مصر سوف تحارب من أجل حقوقها المكتسبة في مياه النيل. وكان رد منجستو عنيفاً، وكان يتحدث وقد وضع أمامه زجاجة دم، وقال : فليأت السادات، ولسوف يجدنا بانتظاره. وأمسك بالزجاجة، وقذف بها، فتحطمت، وتطايرت قطرات الدم في كل اتجاه" !

كانت منفعلة وهي تقلد منجستو ميريام، كأنها غير تلك الأنثى العذبة التي عرضت عليَّ منذ لحظات وجبة من مناسل تمساح!.

وصعدتُ إلى غرفتي ألتمسُ بعض الراحة، فلم أستطع التخلص من رائحة وجودها وأنا أستعيد ما شهدته علاقتنا القصيرة جداً من تقلبات؛ ولم أملك إلا أن أبتسم، وأنا أوافق صوتاً بداخلي يوصيني بالانتباه إلى بذاخة الأنثى فيها.

وفي تلك اللحظة، تحديداً، تصاعد رنين هاتف حجرتي. كان صوتها؛ وكانت تخبرني بأن مجموعة من المشاركين بالحلقة قد رتبوا لجلسة (تلاقح أفكار)، غير رسمية، ويدعونني للانضمام إليهم، في قاعة مؤتمرات بالفندق مقر إقامتنا. شكرتها، مرحبا بالدعوة، مؤكدا على أنني سأكون موجودا بالموعد المحدد.

بدأت الجلسة بحديث من منسقها، وكان صحفياً أثيوبياً لم يخل من خفة ظل، قال إنه، على غير المعهود، سيبدأ بالحديث، مستغلاً سلطاته، فقد طاله تأثير النظم الديكتاتورية في بعض البلاد الأفريقية، فلماذا لا يستغل سلطته ؟!.

واستمرت مفاجآت صديقتي المشاكسة، فعندما حان دورها لتتحدث، بدأت تقول بعذوبة فائقة إنها ستحاول أن تمس شغاف قلوبنا، وقد فعلت، وراحت تنبهنا إلى أن قارتنا الأفريقية تتخذ هيئة أقرب إلى صورة القلب، فلا غرابة أن تكون مركزا للشعور في العالم؛ فالقارات ليست مجرد أماكن ومواقع جغرافية وحسب، إذ يمكن تحميلها – أيضاً -  بالمعاني المجازية؛ ولكلٍّ روحٌ مميزة، على نحو ما تتميز به الزنابق والورود وأزهار النرجس. ويبدو أن البعض منا يغيب عنهم أحيانا ماذا تعني أفريقيا. إنها أرض أحلامنا، وهي عالم يسكننا، فكل منا يحمل أفريقيا بداخله. فإن حلت المتاعب بأفريقيا الخارجية، أمرضتنا أفريقيا الداخلية، وأشاعت الاضطراب في نفوسنا.

وتصادف أن كنت المتحدث التالي لها، وكان عليَّ، أولاً، أن أتخلص من دهشتي الشديدة من حجم العاطفة الذي كانت كلماتها مشبعة به؛ ووجدتُني أغير توجه ما عزمت على المشاركة به في الجلسة، وأندفع فألفت النظر إلى غياب التواصل الثقافي بين البلدان الأفريقية. وأشرت إلى زمن الستينيات، حيث كانت حركة الترجمة تهتم بنقل نماذج من الأدب وألوان الثقافة الأفريقية إلى قراء العربية. قلت إنني قرأت، في سنوات الشباب، رواية "الاشياء تتداعي" للكاتب النيجيري الشهير "تشينوا أتشابي"، في جلسة قراءة واحدة، امتدت لساعات متصلة، ولازلت منبهراً بها حتى الآن، وأتذكر قرية "أوموفيا"، وزعيمها التقليدي (أوكونكو)، وسقوطه الذي ارتبط بظهور الرجل الأبيض على الأرض الأفريقية. وتساءلت : فكم منكم يعرف أديبنا المصري الكبير نجيب محفوظ، الحائز على جائزة نوبل في الأدب، وغيره من الأدباء العرب الكبار؟.

وفوجئتُ بها، بعد أن عدت لمقعدي بين الحضور، تنتقل إلى مقعد مجاور، وتميل برأسها مقتربة من رأسي، وتقول همساً:

-"عرفتُ محفوظ عن طريق فيلم مكسيكي عنوانه حارة المدق"!

وفور انتهاء الجلسة دعتنا إدارة الفندق لحفل استقبال بمناسبة انتهاء أيام الحلقة التدارسية عن هموم أفريقيا التنموية. وكنت قد اعتزمت القيام بجولة مشتروات في محيط مبنى الفندق، لأعود للأهل والأصدقاء بتذكارات من قلب أفريقيا، فاتخذتُ طريقي متسللاً للخارج، فوجدتُ يداً تقبض على يدي من الخلف. كانت هي. كانت تقول:

-" كيف تفوت على نفسك حفلاً كهذا؟!".

أوضحتُ لها خطتي، فقالت إن الشراء بالنهار أفضل، ففي ليل نيروبي شرور كثيرة. وقادتني إلى قاعة الحفل، وقالت أعدك ألا أتحدث في السياسة، فهي مفسدة الأوقات الجميلة. وكانت مرشدتي إلى ألوان الأطعمة والأشربة الأفريقية التي كانت تمر بنا ونحن وقوف بالقاعة.  وكنت أسألها في بداية الحفل عما آكله وأشربه .. مذاقات لم أعرفها من قبل، لكني قبلتها وأقبلتُ عليها حتى شبعتُ تماماً. ولما شعرتُ برأسي تتثاقل، سألتُها ضاحكاً عما إذا كان بين ما شربته خمر، فردت ضاحكةً لاأعتقد أن نسبة 12% مُسكرة. تصاعدت ضحكاتي، لا أستطيع السيطرة عليها، وقلت أنا أسكرُ في الإسكندرية عندما أشربُ الجعة الحلال!. وكان صوتها آخر ما استطاعت أذناي التقاطه من أصوات غير القهقهات. أستطيع أن أتذكر كلماتها: أتركوه لي .. هو لي .. سأرعاه .. أنا مسيطرة عليه.

ولم تكن الغرفة التي استيقظتُ فيها قرب ظهيرة اليوم التالي هي نفس الغرفة التي أمضيتُ فيها ثلاث ليالٍ مضت. كانت مفعمة بالفوضى. وكان عليَّ أن أغادر الفراش وألملم ملابسي مع ما كنتُ أحاولُ أن أتذكره من ملامح الليلة السابقة. وانتبهتُ إلى ورقةٍ ملصقة بالباب، وبها كلمات قليلة:

(لن أنساك أيها الشمالي...

أخذتُ منك بالأمس خمسةَ سنتيمترات مُكعَّبَة من مياهك

نظير مياهي التي تصلك في الإسكندرية).