يفتح الكاتب المصري هنا صندوق الوهم، ليجد فيه جعبة من الأوهام لاتزال تسري بيننا، ويتحكم في كثير من مفاصل حياتنا في العالم العربي، وفيما وراءه من عوالم لاتزال سادرة في أوهامها، بينما العالم يتقدم، ويؤمن بأهمية تداول السلطة من أصغر موقع حتى أكبره كي تتجدد الدماء وتنمو الحياة.

جعبة الأوهام

عيد اسطفانوس

 

لم أستفد من أخطائي الا بعد فوات الأوان، تقلدت وظائف كثيرة وباحترافية شديدة وابداع وفكر خارج الصندوق سرعان ما أصير أشبه بالنجم، وينتابني احساس زائف بأنني محور المنظومة الرئيس، وأنني الأهم في كل فريق العمل، والاحساس الاخطر الذى كان يتملكني أحيانا هو أن دولاب العمل سيتأثر وربما يتوقف في حال غيابي، ورويدا رويدا يتسلل شعور الغرور والخيلاء. وتبدأ نبرة التهديد بترك الوظيفة عند كل مشكلة لاعتقادي الوهمي الراسخ بأن كل شيء سيتوقف بدوني. وفى لحظة غضب أغادر، وحتى لا يلتصق بي وصف عاطل وإرضاء لغروري سرعان ما أبحث عن وظيفة أخرى وأجدها. ويتكرر نفس السيناريو، وأظنه تكرر كثيرا حتى أنني كنت أبحث عن وظيفة وأنا لازلت أشغل وظيفة. وتقدم العمر وتراكمت خبرات نقد الذات، وفحصت الشريط الطويل واكتشفت محتوى جعبة الاوهام التي كنت أحملها على كتفيّ دون أن أدرى. وهم الرجل الأوحد الذى يستطيع مالا يستطيعه بقية البشر. وهم الرجل الملهم الذى لا يأتيه الباطل من أيّ اتجاه، وهم الرجل الساحر الذى يحل كل المشاكل ، أما أخطر هذه الاوهام فكان الاعتقاد بأن كل شيء سيتوقف بدوني. أما الحقيقة العارية التي كشفتها السنين أن كل الوظائف التي غادرتها تم شغلها واستمر العمل بها، ولم تغلق أبوابها ولم تنهار كما كنت أتوهم، بل أن بعضها نجح نجاحا مبهرا لأن دما جديدا ضُخّ في الشرايين.

ومن الواضح أن هذا الشعور يتوغل ويتغول كلما ازداد حجم المنصب وأهميته. فيظن المسئول أن لابديل عنه وأنه وحده ولا أحد غيره يستطيع، فإما هو أو الطوفان! وقد عايشنا أحداثا جسام في العقد المنصرم كان كل أبطالها من هؤلاء الذين اعتقدوا واهمين أن لابديل عنهم. هؤلاء الذين اعتلوا كراسي الحكم في بلادهم وتشبثوا بها بدعاوى الوهم الكاذب، وهم أنهم الاجدر والأقدر والأنسب وكل أفاعيل التفضيل المضللة. وبالطبع تلعب جوقات المنافقين والمدلسين الدور الأبرز في ترسيخ  هذا المفهوم في وجدان العامة والدهماء. ويصبح الجالس على الكرسي هو مبعوث العناية الالهية، وهو ربهم الأعلى وأن تغييره أو نقده خطيئة كبرى تستحق العقاب أرضا وسماء. والغريب أن هؤلاء الذين صنعوا هذه الآلهة وهتفوا بأسمائها هم أنفسهم الذين قتلوهم؛ قتلوا ربهم الأعلى ومثلوا بجثته. والآخر احتفلوا بيوم صعوده على المقصلة، وتعقبوا نسله ونسل نسله، والثالث قطعوا رأسه والرابع مثلوا به وهو حيّ في مسرحية محاكمة هزلية، والخامس قابع في نفس السجن مع قدامى معارضيه.

هذا هو مصير من أوقفوا سريان الزمن وسدوا  شرايين التغيير وعطلوا السنه الالهية في التبديل والتوالي. هؤلاء الذين سأم الناس اطلالات وجوههم التى شاخت، ثم حانت  اللحظة الحاسمة وان كانت قد تأخرت كثيرا. حانت لحظة الانفجار العظيم، لحظة ازاحة هؤلاء الذين جثموا على صدور شعوبهم. وكانت لحظات دراماتيكية عنيفة سالت دماء، ومثل بجثث، وفتحت سجون وهرب من هرب. ولازال البعض متشبثا ولم يعِ دروس التاريخ وأهمها درس التداول السلمى للسلطة. ودرس التغيير الحتمي للوجوه والافكار، ودرس التقدم في اتجاه عقارب الزمن. والغريب أن جميعهم كان لديهم فرص ذهبية ــ  والحقيقة تقتضى القول أن نفرا من هؤلاء كان مناسبا في حينه ولكن ليس الى الابد ــ نقول أنه كان لديهم فرص ذهبية ليكونوا أبطال لو تركوا كراسيهم بإرادتهم طوعا، ليفسحوا المجال لوجوه جديدة ودماء جديدة وفكر جديد، لكنه الوهم وقد احتل العقول، وهم الرجل الأوحد الذى يستطيع مالا يستطيعه بقية البشر، وهم الرجل الملهم الذى لا يأتيه الباطل من أي اتجاه، وهم الرجل الساحر الذى يحل كل المشاكل، وهم الرجل الذى لايكبر ولا يشيخ، بالإضافة بالطبع لنشوة السلطة وبريقها الأخاذ الذى يعمى البصر والبصيرة.

ودفع الجميع الثمن مضعفا حكاما وشعوب. الحكام الذين حكموا الناس بمبدأ أنا ربكم الأعلى، والشعوب التي صدقت الكذبة، بل ودعموها ودعوا لافتدائها بالروح والدم، ولازال الدم يسيل، والارواح تزهق وبشر مشردون. وكلها تداعيات حتمية فالله ليس بظلام للعبيد .