يمكن النظر إلى هذا النص كقصة من قصص التعلم، فحديث مريم، ليس إلا محاولة للفهم المتأخر، بعد انتهائها من تحقيقها الصحفى، التالى لوقوع المآساة، مأساة "ابراهيم عيد عرفات" -ابن بائع الأقمشة الفقير المتجول-واختياره طريق الجهاد الإسلامي، وتفجير نفسه في إحدى العمليات الانتحارية بفلسطين.

حديث مريم

عادل عصمت

 

«ولست أطمع في أكثر من أن أموت موتا له معنى»

نجيب محفوظ. اللص والكلاب

 

في الصباح اختارت مريم ملابسها بعناية. البنطلون الرصاصي الواسع، والحذاء الرياضي، والبلوز الأبيض. جهزت الحقيبة: المسجل، والكاميرا، وكراسة الملاحظات، ولفت شعرها على شكل كعكة، ونزلت من شقتها، تفكر في النقاط التي يجب أن تتوصل إليها: ملامح الشاب، طباعه، عاداته، وأحوال الأسرة. القصة تكمن في الفجوة بين اختفائه وبين خبر موته. "إبراهيم عيد عرفات"، في الثانية والعشرين من العمر، مصرى، استشهد في عملية فدائية حسب بيان منظمة الجهاد الإسلامي في فلسطين. 

المنزل في منطقة قريبة من محطة المترو. كوم زبالة على الناصية والأطفال يلعبون الكرة بالقرب من محل منجد. أثناء سيرها في الشارع الضيق، لاحقها أزيز ماكينة المنجد، التي أثارت في الشارع غبارا من نتف القطن. كانت تعرف العنوان جيدا، من محاسن أخت إبراهيم، التي قابلتها أمس في مديرية الأمن، لكنها سألت رجلا يقف على الناصية عن بيت "عم عيد عرفات". بانت المعرفة على ملامحه. كان يرتدي جلبابا بلديا ومن جيبه تظهر علبة سجائر كيلوباترا. قال بفطنة وبعجب بنفسه: "عشان الواد ابنه اللي مات في غزة؟" وسمح لنفسه أن يرافقها حتى باب البيت.

الشقة ضيقة. حاولت محاسن أن تدخل مريم غرفة بها كنب عليه كليم من قصاقيص القماش، لكنها جلست على مقعد بلاستيك بجانب الباب في الصالة، حيث تحلقت ثلاث نساء يرتدين الملابس السوداء حول أم إبراهيم. بعد قليل انصرفت النساء وبان التوتر على "عم عيد". ظل صامتا ينظر إلى باب الشقة المفتوح.

على الفور أدركت مريم أن الرجل لا يعبأ بها، وعللت اختفاء الحفاوة اللتي يبديها الناس عندما تُطلب منهم الأحاديث الصحفية، إلى المصاب الأليم للأسرة، فلم تجد في نفسها الجرأة أن تشرع في التقاط صور لأهل البيت.

أخذت "محاسن" المبادرة وأحضرت صورة لأخيها. كانت فتاة سمراء، تربط رأسها بمنديل أسود وتشده على الجبهة على عادة نساء الريف. أخبرت مريم بأنها تخرجت من معهد الخدمة الإجتماعية وتعمل في حضانة أطفال في شبرا. لأول مرة تشعر مريم في عملها بهذا التوتر، وبأنها تفعل شيئا لا يجب أن تفعله، رغم أنها هي التي طلبت أن تجري تحقيقا حول ذلك الشاب المصري الذي أعلنت منظمة الجهاد الإسلامي أنه فجر نفسه في كمين للجنود الإسرائيليين. 

تفحصت صورة إبراهيم مع أخيه الصغير أيمن. الوجه أسمر والشعر خشن، الحواجب كثيفة. يرتدي قميصا أبيض، تحته فانلة نصف رقبة سمراء. التقطت الصورة في أحد الأعياد، عندما كان صبيا. ضمت الإخوة الثلاثة محاسن وإبراهيم وأيمن. الحزام كان واسعا وقد شده إبراهيم حتى ظهرت طيات كمر البنطلون. بسمة خافتة طفولية تلوح، بعد التدقيق، في الملامح. طلبت الأم من محاسن أن تحضر صورة أكثر وضوحا، وأقرب إليه، من فوق المرآة.

الصورة الأخرى نصفية لنفس الملامح، وقد نضج الوجه، وظهر في نظرة العين ما يوحي بالقوة وإدراك الذات، لكن الوجه عموما لم يكن يتناسب مع العمليات الفدائية. لم تكن صورة الشاب الذي حصل على دبلوم تجارة منذ عدة أعوام وعمل مع أبيه في تجارة الأقمشة في منطقة الموسكي تعطي إيحاء بصور الشهداء أو المقاتلين. صورة لشاب عادي يمكن أن يشاهدها المرء في الميكروباصات موضوعة تحت المشمع الشفاف لكرسي السائق، تكشف ذلك التجهيز المسبق الذي يجرييه الشباب للاتقاط الصور، من ارتداء أفضل الملابس وتصفيف الشعر ولصقه باللواصق.

كان الوجه منتبها للتصوير كأنه يعرف- ولو بشكل غامض- بأن تلك اللحظة سوف تبقى إلى الأبد، وأنه سوف يثبّت ذاته الآن في الصورة، أما هو فسوف يغادر تلك اللحظة، ويكبر، والطيف الذي سيتركه في الصورة سيظل في مكانه شاهدا على ما كانه في يوم من الأيام. إدراكه الخفي بأن تلك اللحظة سوف تبقى، جعلته يقف أمام الكاميرا بانتباه ويُظهر ما في شخصيته من قوة، وينظر مباشرة في عين الكاميرا. رغم تلك الملاحظات التي راحت مريم تستخرجها من الصورة فقد تأكدت أنه شاب عادي يمكن أن يشاهد المرء المئات من أمثاله في محطات الأتوبيسات وفي الأسواق وعند بوابات المدارس الفنية.

***

بددت محاسن جو الترقب في الصالة وبدأت تحكي حكاية الأسرة من البداية. ترجع أصول أبيها إلى محافظة سوهاج، الأب يعمل من صغره في تجارة الأقمشة متجولا بين القرى، ولكنه عانى من تعب في المفاصل، وكراهية للطرق، رغم أنه كان لايزال شابا، ولم يعد يطيق الصعيد، فهاجر إلى القاهرة واستقر في عدد من الأماكن حتى قابل زوجته هنا، فأجر تلك الشقة وعاش فيها وأنجبهم.

حصل إبراهيم على دبلوم التجارة منذ عدة سنوات وفي انتظار التجنيد عمل مع والده في تجارة الأقمشة. يتجول معه في الأسواق، سواء في الجيزة أو في بنها أو في الأمام الشافعي أو في سوق الثلاثاء. لم يتغيب عن البيت إلا مرة واحدة. كان ذلك عندما سافر ليشتري أقمشة من بورسعيد، وقام بعض التجار بالنصب عليه وأخذوا منه ألفي جنيه وخاف أن يعود. ذهب عم عيد وبعض الأقارب إلى بورسعيد وأحضروا الولد.

تؤكد محاسن أن إبراهيم كان شهما، لم يكن له في هلس الشباب. لم يكن يطلب الكثير، كانت تعرف أنه يريد أن يتزوج البنت نادية التي أحبها أيام مدرسة التجارة، لكنها تزوجت بعد أن أنهت الدبلوم، ومن يومها قل كلامه، يذهب إلى السوق مع أبيه وعندما لا يكون هناك عمل يعود إلى البيت وينام طول النهار.

قاطعتها الأم قائله إنه طول عمره "كلامه قليل"، كما لو أنها أرادت أن تنفي عن ابنها الحزن بسبب الحب.

بعد زواج نادية هجر شلة المدرسة، وعندما حصل على وعد من أبيه بأن يزوجه بمجرد ما ينتهي من التجنيد، تهلل لعدة أيام وعمل بحماس.

قالت محاسن:

"أخويا أنا سره وهو سري."

في صباح يوم من أيام نوفمبر قبل رمضان بعدة أيام، تناول إفطاره وخرج من البيت، كان المفروض أن يذهب إلى سوق الموسكي. لم يخبر أحدا أثناء الإفطار ما كان ينويه، كان يضحك ويمازح محاسن، ويقول إنه سوف يعيدها إلى سوهاج مرة أخرى ويعمل لها فرن وبيت بالطين.

في المغرب لم يرجع إبراهيم.

قال عم عيد إنه سوف ينهي العمل ويعود. انتهت الليلة ولم يعد. في صباح اليوم التالي خرج عم عيد إلى السوق، وعنده أمل أن يجد ابنه في مكان ما. سأل عنه معارفه من الباعة فأخبروه بأنهم لم يروه أمس في السوق. بدأت المخاوف. توجه إلى قسم الموسكي ربما يجد الولد محجوزا في القسم لسبب ما، ربما غير مكان فرشته وأمسكته البلدية لأنه يبيع في السوق بدون ترخيص، لكنه لم يجده في قوائم القسم وأبلغه أحد العساكر بأن خناقة كبيرة وقعت أمس أصيب فيها عدد من الشباب، ربما يكون ابنك من بين المصابين، توجه إلى المستشفى، يبحث وسط المصابين لكن إبراهيم لم يكن موجودا.

كل يوم يعود عم عيد إلى البيت. في المشوار الصغير من محطة المترو حتى الشقة يمتلئ القلب بالأمل ثم ينطفيء عندما يجد البيت خاليا من الولد. الأم تكتم مشاعرها حتى لا تزيد هموم زوجها، لكن قلبها "مولع نار" كما قالت.

تعب من السؤال في أقسام الشرطة والمستشفيات. كان ذلك مع بداية شهر رمضان، فقام بتحرير محضر تغيب في قسم ثان شبرا. بعد ذلك بفترة قصيرة جاء مخبر واستدعاه إلى أمن الدولة. دخل مكتب الضابط، خائفا وآملا في نفس الوقت. سأله الضابط عن ابنه وهل كان متدينا أو له علاقة بالجماعات الإسلامية وعن أصحابه ومعارفه. بعد طول "مناهدة" أخبره عم عيد بأن ابنه كان يعمل من طلعة الشمس حتى المغرب ولم يكن له أي دعوة بهذا الكلام، بل كان يكره "السنيين" لأنهم كانوا يضيقون عليه في السوق: "يرغبون في طردنا ليفرشوا مكاننا."

قبل أن يغادر أمن الدولة، ترجى الضابط أن يخبره عن مكان ابنه ويصارحه بالأمر، قال: "إريد أن أعرف مكانه حتى لو كان في المعتقل." لم يحصل على إجابة. خرج من المبنى معتقدا أن ابنه في المعتقل. بعد عدة أيام قابل صولا، كان زبونا عنده، وتوسل إليه أن يساعده في معرفة مصير ابنه، قاده الصول إلى ضابط آخر، أكثر رأفة، أخبره بأن ابنه على قيد الحياة وربما يكون قد دخل فلسطين.

قال عم عيد: "اعتقدت أن الضابط يهزأ بي ولم أصدقه."

بدأ يبحث عن الولد في السجون. يتوسل إلى كل من يقابله أن يساعده في معرفة مكانه. لم تثمر تلك الجهود. لم يكن أحد يعرف عن الولد شيئا. يتطلعون إلى الصورة -التي تمسكها مريم الآن-وينفون أنهم رأوه.

في عدد قليل من المرات نجحت توسلات عم عيد أن تجعل العسكري يفتح السجلات ويبحث فيها عن "إبراهيم عيد عرفات" عله يكون بين المساجين. في تلك اللحظات يلوح الأمل مرتجفا، ويقف عم عيد متعلقا بشفتي العسكري، لكن الوجه يرتفع من فوق السجلات، والرأس يهتز ويصدر عن الشفتين ذلك الصوت الغريب: "طأ".

مفاصل عم عيد لا تقوى على حمله، المرض القديم حل عليه، لكن الأمل الخافت يجعله يواصل البحث؛ ربما الولد في سجن آخر، سافر إلى بلاد كثيرة وبحث في سجونها. انتهى الأمر، وفوض أمره لله، لكنه لم يكف عن حمل صورة الولد في جيب الصديري، ويجد نفسه أحيانا يعرضها على شخص يتوسم فيه أنه قد يساعده. استمر الحال لمدة عامين حتى أعلنت منظمة الجهاد الإسلامي عن استشهاد "إبراهيم عيد عرفات" في عملية فدائية.

***

أغلقت مريم المسجل وأطفأت الكاميرا ولمت أشياءها وغادرت البيت تشعر بعدم الرضا عن عملها. تورطت في القصة أكثر من اللازم، كما قالت لي بعد ذلك.

رافقتها محاسن حتى محطة المترو. في الطريق طلبت من مريم أن تساعدها في الحصول على "شيء من ريحته": قميص، بنطلون، منديل، أي شيء من رائحته. قالت ذلك والدموع في عينيها.

تلك هي اللحظة التي خافت منها مريم. كانت تعرف أن الوجع هنا؛ في المتعلقات، البقايا، التقاليد القديمة التي لا تموت، الهوة التي يفتحها الموت عندما لايدفن الميت، هنا يكمن الهول، روح الشخص ستظل هائمة دون راحة حتى تدفن، فكرة قديمة مستقرة في الأذهان مخلوطة بالحياة، جزء من اللحم، ليست مجرد فكرة موروثة.

ربتت مريم على كتف الفتاة ووعدتها أن تبذل ما تقدر عليه، لكن محاسن أمسكتها من يدها، كأنها تخاف أن تمضي بلا رجعة وظلت تكرر طلبها دون وعي: "لو قميص أدفنه حتى يستريح، وأعرف له مكان أزوره وأتكلم معه." كان الأمر فوق تحمل مريم، ولم تتمكن من الراحة حتى حصلت على وعد من أحد معارفها: "صحفي كبير" يعمل في جريدة لبنانية، له علاقة بأشخاص يمكن أن يساعدوا في العثور على أي شيء من متعلقات "إبراهيم عيد".

***

الموضوع الذي سلمته مريم إلى الجرنال تمت معالجته، بطريقة أخرى، ونٌشر تحقيقا مختصرا عن أهل الشاب وحياتهم وملامح البيت ورحلة الأب من الصعيد. لم تغضب مريم ولم تعاتب رئيس التحرير؛ فقد ظلت مؤرقة بهذا اللقاء، رغما عنها. "هناك ما يقلق في تلك القصة." قالت لي. في كثير من مرات لقاءاتنا المتباعدة، راحت تعيد ترتيب الأحداث، وفي الفترة الأخيرة بدا لها أنها فهمت ما كان يقلقها في هذا اللقاء.

قالت وهي تعلق عينها بوجهي دون يبدو أنها تراني:

"إنه عم عيد."

كنت أدرك قلقها وحسها بأن الكتابة في الجرائد نوع من الخيانة للقصص الحقيقية، كان الأمر يخص جذرية العلاقة بينها وبين المهنة التي قالت إنها سوف تتركها عاجلا أم آجلا.

حدثتني حديثا طويلا في ذلك اليوم على أمل أن تتمكن من تفسير مشاعرها:

"كانت نظرة عم عيد لي غريبة. شعر بالتوتر منذ أن دخلت البيت. وسايرني في البداية، لكن بمرور الوقت لاحظت لمسة من الغضب، وحس بالعداء تجاهي. أدركت هذا من نظرته المنصرفة عني كأنني غير موجودة. كان رجلا نحيلا، يرتدي جلبابا بلديا وطاقية محبوكة على الرأس يلفها بشال أبيض. ملامحه حادة. العينان غائرتان تحت حاجبين مرتفعين، فيهما شعيرات بيضاء وشعر لحيته رمادي، وشاربه كثيف. كان ينظر بحدة وتطل من نظرته لمسة من السخرية، ويبدو متربصا بي، كأنه يقول: لم تبحثين عن مصير الولد، لم لا تذهبي لتتزوجي وتنجبي أطفالا؟

كان السؤال صامتا معلقا في النظرة، وشعرت بشيء من المهانة، الرجل يرى بحثي عن مصير ابنه وتسجيل قصته عملا مشبوها؛ تجارة بأوجاع الناس، بصراحة استفزني تحديقه لي. كان لا يفهم لم تهتم فتاة مثلي بهذه القصة، لم تبحث عنهم وتتعب نفسها لتتحدث معهم. في يقينه أنني جئت من أجل أن أعمل موضوعا شيقا للجرنال، وأنني أجري على رزقي مثلما يجري على رزقه. بل كان يظن الأسوأ، لقد علمته الخبرة أنه لا مكان لشيء طيب في هذا السوق الكبير، لا أحد يعمل أي شيء من أجل فكرة أو مبدأ، وقالها بصراحة: "عاوزة تبقي مشهورة؟" ولاحت بسمة ساخرة خلف الكلمة، وهو ينظر إلى الباب المفتوح.

بعد ذلك عندما فكرت في الأمر، وجدته منطقيا. واحد موجوع، وأنا ذاهبة لكي أزيد أوجاعه. لا قصتي ستعيد إليه ابنه، سنده في الحياة، ولا يحتاج أن يكون مشهورا، ويضع الجرنال في جيب الصديري ويريه لزملائه في السوق: شوفوا صورتي في الجرنال وقصة ابني.

هذه هي ورطتي التي دفعتني، كالعادة، وكما تعرف، إلى الهجوم على الرجل، وقلت كلاما كبيرا لكي أدافع عن نفسي لكن الوجع والنظرة الساخرة استدعت أمرا حقيقيا إلى حديثي لم أفكر فيه قبل تلك اللحظة.

وصل التوتر إلى غايته عندما سمعته يقول ساخرا:

"لا أحد في هذا الزمن يعمل شيئا لله."

شعرت بالكلمة مهينة، وفار دمي، قلت بحسم:

"اسمع يا عم عيد، فعلا جئت من أجل عمل موضوع للجرنال، لكني لا أصدق موضوع ابنك، ابنك غريب. كيف فعل هذا؟ مثلما يحيرك موقفي، موقف ابنك يحيرني، ما الذي دعاه أن يذهب ليموت في أرض غريبة؟ تعرف يا عم عيد لعله أحسن منا جميعا، لعله أدرك فجأة غلاوة الحياة وعرف أنه إن عاش هنا فسوف يعيش ويموت مثلنا بلا معنى، وأنه ذهب ليموت هناك، لعله يعطي لحياته الصغيرة معنى، يحصل بموته على شيء أغلى من حياته وحياتنا."

تكلمت بحماسة كأن كل مشاكلي الشخصية خرجت في الكلمات، كأنني أفرغت قلقي وشكوكي في دوافعي ومهنتي. في تلك اللحظة سمعت الأم تبكي. كانت محاسن تقف متحفزة مستندة على إطار باب الغرفة، تتابع ما يحدث بانتباه، وفي كل لحظة يبدو أنها على وشك أن تقول شيئا لكنها تصمت.

أغلقت الكراسة التي أسجل ملاحظاتي وقررت ألا أكتب الموضوع، يأتي صحفي آخر ليكتب. أما أنا فلن أفعل. كان كلامي عن ذلك الدافع الغامض الذي دفع الشاب ليموت قد استدعى لمحة من الانتباه إلى الفضاء المعلق فوقنا في الصالة، عندها نظر الرجل العجوز المجرب نظرة غريبة تجاهي كأنه صحي على شيء كان يظنه غير موجود.

لابد أن سخريته الجارحة قد استفزتني، وكشفت لنا معا أمرا مختلفا؛ رؤية أخرى لما قام به إبراهيم. نظرة الرجل لمع فيها الفهم، وفي لمحة حط صمت ثقيل، وبدا لي أن حياتنا جميعا لا تساوي شيئا بجانب الحياة التي فجرها الشاب. كأنه كشفنا جميعا. كشف ما نعيش فوقه من عفن وعدم احترام لأنفسنا كبشر، كأنه بتفجيره لجسده ومحو شخصه قد أوجد ومنح قيمة كبيرة لتلك الإنسانية التي نهدرها بهذه الحياة التي تشبه حياة الدود.

***

نظرت مريم إليّ بعينيها السوداوين العميقتين وعرفت أنها بدأت تستوعب وجودي، وتراني، وأكملت:

"أقدر اختلافك واختلاف البعض مع ما فعل وإن كان هو الطريق الصحيح لنيل الحرية. لكن إبراهيم لم يكن يفكر في الحرية قدر ما كان مدفوعا بغموض لأن يستعيد المعنى الغائب عن حياته، شاب زهق من الدنيا، وقال أعمل بجسدي شيئا له قيمة. انت رأيت في التليفزيون في السنوات الأخيرة صبية صغار، تركوا المدارس وقطعوا الطريق حتى العريش وأرجعتهم السلطات لأهلهم، ألم ترى ذلك؟"

نظرت إلي نظرة فاحصة كأنما تريد أن ترى أثر كلامها:

"اقتربت من فهم الأمر بعد ذلك، عندما بدأت أكتب الموضوع وأعد بحثا عن تاريخ العمليات الفدائية والاغتيالات السياسية وأعرف الأسباب التي دعت الكثير من الشباب لكي يضحوا بأنفسهم، منذ اغتيال بطرس غالي الكبير في عام 1911 كان لبعضهم هدف سياسي أو ديني، أما هذا الشاب فلم يكن عنده إلا سبب وجودي: استعادة المعني الغائب عن حياته. لم يكن يحب السنيّين الذين يطاردونه في السوق لكي يفرشوا مكانه، ويقطعون رزقه. أعرف أنه انتحار، ولكن الانتحار حدث بسيط، المنتحر يريد أن يفني نفسه فحسب، لكن الفكرة التي قادت هذا الشاب كانت أبعد من الانتحار، أراد أن يُحيي بفنائه كل ما افتقده في حياته. إنه دافع أكثر جذرية وعمقا من تلك الأمور التي حدت بشباب كثيرين للتضحية بأنفسهم من أجل أفكارهم، أو الذين انتحروا يأسا من أوضاعهم.

المهم أنني كنت عصبية وأنا أتحدث مع عم عيد، أريد أن أعيد لنفسي تلك الكرامة التي حذفها عندما أشار إلى أنه لا أحد يعمل شيئا لوجه الله واتهمني ضمنا بأنني أتاجر بألمه وبموت ابنه، ربما لم يكن يقصد غير أن يقول: "سيبونا في حالنا" لكن الكلمة استفزتني ودفعني إلى تلك الوصلة من الكلام العجيب الذي قلت إنهم لن يقدروه.

الغريب أن وجه الرجل أضاء، وفي تلك اللحظة لم يكن في الصالة غير بكاء الأم الصامت وعرفت أنني فقدت السيطرة على نفسي وغلبتني عصبيتي كالعادة. عرفت أن الحزن الكبير هنا، في تلك القلوب المتعبة، وبدا الرجل الناشف العصبي متضايقا من بكاء زوجته ويبدو أنه كان يريد أن يفض الموضوع ويقوم لأشغاله لكنه لم يستطع أن يقاوم تلك اللحظة الغريبة التي وهبتها لنا سخريته.

***

كانت مريم منفعلة، تصف ما حدث في تلك اللحظة، تجسمها وتحاول أن تصل إلى مزيد من الفهم، تنتقل من نقطة إلى أخرى كأنها تعيش مرة أخرى تلك الزيارة:

 "لم يكن هناك غير سجادة صغيرة في الصالة، وحجرة بابها موارب. رأيت بداخلها ثلاثة أسرة، والبتوجاز في الصالة لأنه لا يوجد مطبخ، والحمام عليه باب خشب مخلع، وتشم رائحة عطنة. البيت نظيف، فعلت محاسن كل ما يمكنها لكي تحافظ على نظافة البيت، لكن الرائحة هناك، ماذا يمكن أن يفعلوا إن كان الأمر ليس بيدهم؟ مهما حاولت تنظيف البيت سوف تظل رائحة البول تهل بسبب عدم وجود شبكة صرف صحي. كان الأب قد عافر حتى وجد رزقه هنا، لا تقل لي لم اختار هذا المكان بالذات؟ هؤلاء الناس لا يختارون المكان بل يختارهم، إنهم يسيحون في البلاد وراء رزقهم حتى تختارهم فتاة طيبة فيقيمون في المكان الذي اختارهم، ربما لو ظل هذا الرجل في قريته كنت تراه جالسا على القنطرة مع عمال اليومية. لقد رأيتهم عندما كنت أبحث موضوعهم. رجال وصلوا إلى نهاية الأربعينيات ومع ذلك يجلسون وسط الشباب ينتظرون مقاولا ليأخذهم يطلعوا رملا أو طوبا أو أسمنت أو يحتاجهم في مقاولة للهدم. من بنى تلك المدن التي لن تذكر شيئا عنهم؟ ومع ذلك لا يختارون المكان الذي يعيشون فيه.

***

قالت مريم:

"هل تعتقد في الغيبيات؟ هل تظن أن تلك اللحظة كانت مثل شيء سماوي حط علي وفتح لي بابا كان يمكنني أن أعيش حياتي ولا أجده. هذا اللحظة غالية لقد حكيتها لك بالتفصيل لأنك الوحيد الذي يمكنه أن يفهمني أو يساعدني، ومع ذلك أشك، فلم تعد تستطيع أن تساعد نفسك.

قالت الأم لكي تقطع جو الصمت الكالح الذي أعقب كلامي: "سوف أقوم لأعد الشاي." أما عم عيد، وكأن طاقة المعنى التي ضمتنا قد فتحت أمامه مجالا للفهم، فقد راح يحكي لي رحلة الخروج، البلاد التي سافر إليها ولم يتحملها، رفيقته بؤجة من القماش الذي يفرده في الأسواق. عندما يحكي لك أحد هؤلاء المنغلقين على سرهم، عن حياته فلابد أنه وجد معنى ما، وأنه يحملك أمانة غامضة. هؤلاء لا يلقون دررهم أمام الخنازير. صعب أن تأخذ منهم شيئا حقيقيا. يقولون لك ما تريد أن تسمعه. إن كنت تريد أن تسمع شيئا وطنيا، يقولون لك، ان كنت تريد أن تسمع وصلة مدح للبلد والحكومة يقولون لك، ولكن أن يحكي لك الرجل حياته من أيام ما كان شابا، وخروجه من قريته وطوافه في البلاد وسفره إلى الأردن والعراق ثم رحلته القصيرة إلى السعودية، فتأكد أنه يريد أن يبلغك رسالة.

في السعودية تعارك مع الكفيل ولولا توسط أقاربه لكان الآن في ظلمات السجون السعودية، ومن يومها حلف بكل الأيمانات أنه لن يفارق هذا الأرض ولو مات من الجوع.

كان يحكي الأمر بدقة وبصورة غريبة فيها اعتراف بقيمة ما حدث له، كأن موت ابنه أعاد المعنى لكفاحه، لعزته التي لم يرض أن تهدر في السعودية.

قال في النهاية:

"كل شيء قسمة ونصيب."

ونظر إلي نطرة صلح:

"والحمد لله على كل الأحوال."

وأصر أن أتناول معهم لقمة: "عيش وملح" كما قال.

***

أخبرتني مريم أنها لم تشف من تلك الزيارة. بدا لها أن الفقر الذي رأته لا يمكن أن ينتج أفكارا على تلك الدرجة من السمو، وشعرت بالكراهية تجاه نفسها لأنها تفكر على هذا النحو، كأن الأغنياء هم فقط من يمكنهم أن يفكروا تفكيرا ساميا، رأت التحيز، ورأت أنها خاضعة للصورة الذهنية أن تلك الأماكن الفقيرة (ما يطلق عليه صحفيا العشوائيات) تغص بكائنات في أدنى درجات البشرية. تلك الفكرة التي روجتها المخاوف وتلوح في تصريحات الساسة بأن الجوعى سوف يهجمون على القاهرة ويحرقون الأخضر واليابس، أو تظهر في برامج الصدقات أو الرعاية الاجتماعية التي تساعد في تكوين صورة ذهنية عن أن البشر في تلك المناطق أنصاف متوحشين. لا يقال هذا صراحة، لكنه متضمن داخل القول، ورأت خطورة تلك النظرة التي تتهم الناس بأنهم أقل في السلم البشري لذا هم يستحقون ما هم فيه، ولا يمكن أن يطلع منهم أي شيء سامي، وبالتالي يمكن إبادتهم في مراحل الاضطرابات بلا أي شعور بالذنب.

تلك الأفكار تسللت إليها وشكلت دهشتها من تلك الرحلة التي قام بها ابراهيم عيد عرفات، وأدركت أنه يحمل في روحه لمسة من النور، رغم عدم فهمه لها. فحصت أفكارها وشعرت بالهزيمة، رأت تحيزها، وتتبعت قصة الشاب مرة أخرى بطريقتها، لابطريقة الجرنال، راحت تبحث عن أصحابه، وتتفحص تفكيرهم وتسألهم عن عاداته وراحت تساعد الأسرة في الاتصال بأحد أفراد منظمة الجهاد الإسلامي حتى يرسلوا متعلقات الشاب.

***

بشكل غامض شعرْت بأنها أحبت الشاب، وتأكد لي ذلك بمرور الوقت، فعندما تعود من القاهرة، تزورني وتطلعني على آخر ما وصلت إليه من معلومات، تحكى لي عن الأسواق الغائرة في قلب القاهرة. قالت لي ذات يوم، ببراءة التعرف الأول: هل تصدق أنه هناك مكان مخصوص للحمام الزاجل، وهناك هواة لازالوا يقتنونه؟ هل تصدق أن هناك من يهتم بصراع الديكة، وهناك مكان للمصارعة ومراهنات؟ أنت لا تصدق؟ لكنه يحدث، وفي كل مرة تنتهي بالحديث عن إبراهيم. رأت كل ذلك بفضله، عرفت تفاصيل لم يكن لتعرفها لولا موته. أظهرت لي ذات يوم صورة له وقالت:

انظر إلى وجهه ودقق في العينين بالتحديد: العين مصباح الجسد، كما يقول السيد المسيح، انظر جيدا سوف ترى أن تلك الصورة كأنما صورت بعد موته أو كأنه يعرف أنه سوف يموت في أرض غريبة."

كانت أحيانا تشرد وهي تحدق في الصورة، كأنما لا يمكنها التوقف. لقد أوغلت في الموضوع حتى نبهتها ذات يوم:

"إنه موضوع وانتهي، انتقلي إلى موضوع آخر."

قالت:

"ابراهيم عرفات ليس "موضوعا"، إنه الشفرة التي علي فكها لفهم هذا الهلام الغريب الذي نعيش فيه."

في تلك الفترة لم أكن أعرف أنها تعد للسفر للعريش لكي تتابع الرحلة التى قام بها الشاب. عرفت الأمر بعد عدة أشهر وبدت محرجة وهي تحكيه لي وقالت كأنها تعتذر:

"كان لا بد أن يتم الأمر، شعرت بأنني لن أتمكن من الفهم إلا بعد أقطع الرحلة التي قطعها."

قالت:

"سجلت مع شيخ الجامع الذي بات فيه إبراهيم ليلته الأخيرة، أخبرني بأنه حاول أن يقنعه أن يعود إلى أسرته ولا يعرض نفسه للخطر، لكنه في الصباح لم يجده، ونساه ولم يتذكره إلا عندما شاهد الصورة التي عرضتها عليه."

كانت النقطة الصلبة التي توقفت عندها وقضت وقتا طويلا تحاول فهمها هي شهوة الموت التي اعترت الشباب، وإن كان الشباب الغرقى في البحر المتوسط تقودهم فكرة الانفلات من حياة ضيقة إلى حياة رحبة في أوربا، فكيف يمكن تفسير من يذهب إلى الموت برجليه خاصة إن كان شابا عاديا ليس مرتبطا بالتيارات الإسلامية أو تربى تربية فكرية من أي نوع. صحيح يمكن أن يكون قد حدث له هناك نوع من غسيل المخ كما تقول: الاستشهاد وتصوير الجنان التي سيدخلها والمنزله العالية باعتباره شهيدا، كل ذلك معقول، ولكن مهما صوروا لك ما ينتظرك لا يمكن أن تبدد نفسك في الفضاء مادام الأمر ليس نابعا من أعمق أعماق روحك.

صمتت كأنها تنتظر ردا على فكرتها.

صمتُ صمتا أكثر انغلاقا من صمتها، فقد أدركت أنني غير قادر على فهما ولا مساعدتها وعرفت أنها وقعت في أسر القصة ولن تنجو منها.

***