يقدم محرر (الكلمة) هنا تأملاته الفكرية فيما جرى قبل أكثر من عشرة أعوام، في محاولة لرسم خريطة بورخيزية تتغيا الدقة العلمية المتناهية القادرة على اقتناص كل التفاصيل، بعدما انصرف الجيل التالي عن فن رسم الخرائط كما في قصة بورخيز، وترك الخريط المثالية ليعمرها الخراب، وتتناهبها عوادي الزمن.

لم أكن نائمًا حين قامت الثورة

أحمد زغلول الشيطي

 

مدافن سياسية
بعد مرور عقد من الزمان، أرى أن الثورة قد تكون ملكًا للجميع، لكن السلطة ليست كذلك، لذا تبددت الصورة الأيقونية للميدان عند محاولة الإجابة على سؤال: ماذا نعمل بعد أن أزيح مبارك؟ هل أزيح مبارك؟ لقد حظي بمقبرة فخمة، مزدانة بصورة بهية تعكس الراحة والسيطرة، وفضاءً مريحًا للزائرين. يهتم حكام يوليو بمقابرهم، لسبب غير مصرَّح به، كذلك لم يعد أيٌّ منهم إلى البلدة التي جاء منها ليُدفن بها. ربما بدافع الزمالة يحظى حكام يوليو جميعًا بحسن الختام.

ماذا نعمل بعد خطبة التنحي القصيرة المتجهمة لعمر سليمان؟
تعددت الإجابات بتعدد القوى على الساحة، المجلس العسكري، الإخوان، السلفيين، الحركات الثورية، كان هناك أيضًا الناس العاديون، الجرحى، والشهداء، ومن تعرضن قسرًا للكشف على عذريتهن، ومن اقتلعت عيونهم بمعرفة القناصة. أتذكر جيدًا، صار الموقف مقتَسمًا بوضوح ما بين فاشيتين، هما اللاعبان الرئيسيان: حركة يوليو المباركة التي شاخت على مقاعد الحكم، واعتمدت على نظام بوليسي قمعي أنشأ سلاح الأمن المركزي لضمان الصمت، والإخوان المسلمون بسيطرتهم على الأيدولوجية الدينية وطرح الجماعة بدائل اقتصادية لقطاعات واسعة في المدن والريف. صار لزامًا على من حلموا بدولة مدنية ديموقراطية حديثة السير بأحذية حديدية داخل أنبوب زجاجي هش، ولكن ما أهمية ذلك بالنسبة لي؟ ولماذا كتبت؟

الثورة في البيت
ما توقفت عنده - ولا زلت - هو الثورة كحالة جماعية، حالة احتلالٍ للفضاء العام، سياق تكتشف فيه الجموع ذاتها معًا، قطع في سياق الحياة اليومية، كان ميدان التحرير مثاليًّا في ذلك، فقد أربك حالة النقل على مستوى القاهرة، وخلق اتجاهًا إلى إنشاء ميادين تحرير أخرى، لم يكن ذلك اختبارًا للذات فقط، بل كان أيضًا اختبارًا للسلطة وخصائصها التي لا هي هشة ولا هي قوية، هي حالة من التجاذب والتنافر والانقلاب وحتى الخيانة بين مصالح وقوى عديدة، هي أيضًا سطوة نفسية قائمة على توازن مرعب. بعد عقد من الزمان أشعر بأن قراري العفوي بالكتابة أثناء الثمانية عشر يومًا كان في مجمله صحيحًا،على الرغم من عيوب الكتابة عن لحظات آنية، غير أني لم أكن أؤرخ للثورة، ولا لأي شيء، ولا أحاول حتى كتابة نص أدبي، فقط كان انبهاري بما يحدث، وخوفي من النسيان وبالتالي الإنكار المتوقع، كذلك انفعالي باكتشاف اندلاع ثورة بالقرب مني، أنا ابن الهامش، اختارت الثورة أن تندلع تحت شرفة منزلي.

حين قامت الثورة لم أكن نائمًا
أحاول الآن تذكر لماذا لم أكن نائمًا حين اندلعت الثورة؟ كان النوم غير ممكن، مع إيماني ببلاغة عنوان ديوان عماد أبو صالح، شعرت أن العنوان يتضمن لومًا خفيًّا لمن كانوا مستيقظين حين اندلعت الثورة، وأنهم خانوا لونًا نبيلًا من اليأس، لذلك أحاول تذكر كيف اقترفت الاهتمام بالثورة، ليس هذا فقط بل أيضًا كيف كتبت عنها بينما تجري في الشوارع والميادين. كنت مساء الثلاثاء 25 يناير 2011 أتأهب للنوم - في بيتي بشارع قصر النيل - حين سمعت لأول مرة صوت انفجار قنابل، اندفعت إلى باب البلكونة وفتحته لأعرف ماذا حدث، انتشرت رائحة صناعية هجين، كانت قنابل الغاز، تصيب العينين، تسيل الدموع وتؤدي للشعور بالاختناق، لقد دخلت الثورة إلى بيتي باعتباري من سكان المكان، وليس بأي صفة أخرى، كنت فقط الساكن الجديد في الشقة حين اندلعت الثورة، ولم يكن بإمكاني أن أغلق باب البلكونة وأدخل لأنام، فقد امتلأت الشقة بالغاز الخانق، وكنت على ما يبدو سوف أتطابق مع العنوان العبقري لديوان عماد أبو صالح. على الرغم من ذلك، كانت ثمة إثارة في الجو، بعد سنوات طويلة من الترهل والفساد والقمع، كانت بالشارع جثة ثقيلة غير قابلة للدفن، أخيرًا هناك أصوات جديدة غير مألوفة، تناوش بالقرب مما كان الكعكة الحجرية، هكذا حين اندلعت الثورة طار النوم من عيني.

ثورة غير قابلة للتأسيس
المناضل القديم محمد عبد الرسول نظر مندهشًا ظهر يوم 25 يناير للشباب الذين دخلوا ميدان التحرير، حين علم برغبتهم في المبيت، كان لا يتصور هذا اللون من النضال المراهق، الذي ما إن يبدأ حتى يطلق النار على القمر مباشرة، كيف لم يمروا بمراحل سابقة، ولم يضمنوا انتقالًا مدروسًا للاحتجاج، ولم يؤمنوا الإعاشة والتناوب، في ظل جهاز قمعي بوليسي هو محل فخر وزير الداخلية حبيب العادلي؟ بعد مرور السنوات العشر الفائتة أرى أن العم محمد عبد الرسول كان على حق، وكذلك الشباب، وقد أخطأ الجميع بمحاولة الاستعانة بأطراف من النظام ضد أطراف أخرى، لذا أرى أن صورة مبارك التذكارية في المقبرة تؤكد أنه لم يُترك نهبًا للأعداء القدامى والمستجدين للحركة المباركة.

أذكر أني كتبت في الأيام الأولى أنها ثورة غير قابلة للتأسيس، باعتبار أنها لا تملك حزبًا ثوريًّا ولا برنامجًا واضحًا، اتجهت كنقيض لحكم قمعي فاسد، تصورت الحركة استلهامًا لنوعية جديدة من الاحتجاج، يستند إلى حركة 68 في فرنسا كتعبير عن مثقفين وطلبة، عن جيل جديد وحساسية جديدة ابنة التقنيات الجديدة، شبكة الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، كأن التنظيمات القديمة وميراث النضال القديم كله كان على خطأ، وأن الثورة الجديدة هي أولًا في القطيعة مع أساليب النضال التقليدية، بما في ذلك النضال النقابي، وميراث نضال التنظيمات الشيوعية، وكذلك كل ما بدا أنه أولى الأبجديات البسيطة لفكرة الثورة، ومن ثم ينبغي الإنصات لهذا الصوت الجديد، الذي بدا أنه تعبير عن أبناء الطبقة الوسطى المتعلمة والمنفتحة على الإنترنت وتتقن لغات مختلفة، كان هناك أيضًا فارق سرعات، ما بين ديناصورات السلطة، والوافدين الجدد إلى ساحات السياسة والثورة، على كثرة ما سمعت داخل الميدان وخارجه لم أستمع إلى أي تحليل عن الانتماء الطبقي لرواد الميدان، فقط استمعت فيما يشبه التهديد المبطن من أطراف عدة إلى أن الثورة القادمة سوف تكون ثورة جياع، وأن طاقتها على التدمير لن ينجو منها أحد، وكأن النجاة من هذا المصير هي في الاستجابة لمطالب الميدان. كان جليًّا طوال الثمانية عشر يومًا الوجود الهش للنقابات العمالية بسبب سيطرة النظام المحكمة عليها. ولأنني كنت قبل مرور هذا العقد - ولا زلت - معنيًّا بالذاكرة وارتباطها بالنسيان، فينبغي ذكر الوجود الملحوظ لنوع غير منظم من العمالة، عمال اليومية والباعة الجائلين وأطفال المدارس؛ فتية وفتيات من الأحياء الفقيرة.

لماذا نكتب عن الثورة؟
مبكرًا جدًّا كتبت مقالًا تصورت فيه أن سردية الثورة أقرب إلى رواية الأصوات المتعددة، هل هذا صحيح الآن؟ يقودنا ذلك ربما إلى خريطة «بورخيس»، فقد تصور أحد نصوصه أن خريطة دقيقة عن العالم هي خريطة بحجم العالم. في حالتنا، قد يتطلب ذلك أن ينطق كل من شارك في الثورة، كل من خرجوا للتظاهر، وكل من قتلوا واقتنصوا عيون المعتصمين، سلفيو كوستا، ورواد مليونية جمعة قندهار، وسائقو المدرعات، والضباط الذين انضموا إلى الاعتصام .. من استشهدوا ومن حملوا الجرحى إلى المستشفيات الميدانية إلخ، أتصور أن التنظيم السري للطرف الثالث - المنوط به تأمين طبعة جديدة من دولة يوليو المباركة - لن ينطق أبدًا، فهو مثل كاتم الصوت، الخرس أحد أهم وظائفه، للنطق لا بد من التموضع في حال توجيه الخطاب، لا بد من علاقة تعاقدية صادقة عبر اللغة، خلافًا للطرف الثالث، فإن معظم الأطراف تستخدم لغة هي محو للغة الطرف الآخر، بل هي تحريم لاستخدام اللغة بطريقة معينة. تستلزم رواية الأصوات المتعددة مقدارًا من السماحة، مقدارًا من قبول الاستخدام المتعدد للغة كوسيط قابل للتمايز داخل نطاق واسع. أتصور بعد مرور عقد من الزمان، ضرورة بناء سردية للثورة بحجم أحداثها، ومن شاركوا فيها واستنطاق من لم ينطق، بما كان ممكنًا قوله، لا أتصور لذلك شكل الرواية فقط، بل أيضًا النصوص السردية المنفتحة على التوثيق والشهادات النادرة من زوايا خاصة، نص قادر على التحقيق والتخييل في وقت واحد، وعلى دمج نصوص عديدة داخله. لقد كانت الثورة قادرة على إلهام الناس في عدد هائل من مدن العالم «حركة احتلوا ول ستريت» على سبيل المثال، وأعتقد أن أدبًا يُكتب على مستوى ما حدث في ميدان التحرير هو ضرورة وتحدٍّ هائل.

من أين أتى المنجنيق؟
رأيت المنجنيق أقدم آلة حربية في التاريخ أسفل منزلي، وقمت بوصفها في اليوميات، من أي ذاكرة جاءت هذه الآلة ذات الأصل الإغريقي؟ ما كنت سوف أصدق أنني رأيتها ما لم أسجلها كتابة، ألم يكن مصدر الآلة العجيبة هو ذاكرة حروب الشوارع في الثورات العظمى، ثورتي القاهرة الأولى والثانية؟ ألم يأتِ المنجنيق من ذاكرة كذاكرة كومونة باريس؟ كالثورة البلشفية؟ الثورة ضد الديكتاتور تشاوشيسكو؟ وهل كانت فكرة السلمية نوعًا من «المُحْن» السياسي، مثل النوم في فجوات الدبابات باعتبارها الحامي ضد بلطجة الداخلية، والطرف الثالث الخفي؟ المنجنيق إذن هو ابتكار مثل ابتكارات تنظيم الدخول والخروج في المظاهرات المليونية، ومواكبة الأحداث بشعارات جديدة تطمئن المعتصمين وتفتح مجالاتٍ مدروسةً لاستمرار الاعتصام.

التضحية باليأس
لم أكتب بانتظام إلا بعد جمعة الغضب، أخذني الاندفاع المتهور باتجاه الأمل، والأمل على الأغلب حركة مجانية باتجاه «الكيتش»، هو نقيض للأسئلة، نقيض للشك العظيم، اليأس ببطانة عدمية قرمزية اللون، هو أبٌ محتمل لكل كتابة عظيمة، لقد ضحيت بيأسي، حين رأيت الآلة الإجرامية تقتل الناس في جمعة الغضب على كوبري قصر النيل، لا يمكن أن يكون شعوري هو الندم على التضحية باليأس، الندم على أني كنت يقظان عنوة حين قامت الثورة، ما تبقى ربما هو الندم على الحسابات الخاطئة، على الرغبة في قنص القمر في الحال، على الحل الوسط التاريخي الضائع ما بين العم محمد عبد الرسول والشباب، ثم شعور أقرب إلى الوصول عبر الندم إلى الفلسفة، إلى «التاو»، فما بدا قريبًا للغاية كان بعيدًا للغاية.