أشرت من قبل إلى العلاقة بين (الأيام) وبين المعارك التي خاضها طه حسين، والترابط بينهما. فمع أن الجزء الأول من (الأيام) قد لقي استقبالا حفيّا به، في مصر وخارجها؛ لم يعد طه حسين إلى هذا الكتاب ليكتب جزءا ثانيا له إلا بعد ثلاثة عشر عاما. لأنه إن كان قد أملى الجزء الأول في صيف 1926 فإنه يملي الجزء الثاني، وفي مكان قريب جدا من المكان الذي أملى فيه جُزأه الأول في صيف 1939. ويبدو أن زوجته – كما تخبرنا فيما بعد في كتابها عنه – كانت تعرف كيف أنهى كتابه الأول، فقد كانت ترجمته الفرنسية قد ظهرت قبل كتابة الجزء الثاني بعدة سنوات. لأنها تروي لنا كيف حافظت على مخطوط هذا الكتاب الثاني، في رحلة عودتهم المضطربة، بعد هذا الصيف العاصف الذي اندلعت بعده معارك الحرب العالمية الثانية، وكتب إثناءه الجزء الثاني، كما يحافظ البخيل على أغلى كنوزه.
فبعد اجتياح هتلر لبولندا مطلع شهر سبتمبر 1939، وإعلان فرنسا التعبئة العامة التي حالت دونهم والذهاب إلى باريس كما خططوا لرؤية أمها، فقد كان مدعوا للحديث في إذاعتها. كان عليهم بدلا من ذلك المسارعة إلى مغادرة فرنسا والعودة لمصر قبل أن تُعلّق الرحلات. وحاولا العودة بقطار الشرق السريع، كي تتاح لهم فرصة التوقف في سوريا ولبنان، ولكن لم يكن لديهم ما يكفي من المال لتغطية تكاليف تلك السفرة. فلحقوا بسفينة "النيل" المصرية التي كانت على وشك الإبحار من مارسيليا مخفورة إلى السواحل المصرية. وكانت السفينة قد اكتظت بالركاب من كل الجنسيات الذين تقاطروا عليها دون أن تكون لهم حجوزات فيها، بسبب الهلع من الحرب. وقبلتهم السفينة دون أن تكون لهم غرف بها، فكانوا ينامون في قاعات الطعام أو في الدهاليز. لكن طاقم السفينة ما أن علم بوجود طه حسين بين هؤلاء الركاب الذين لا غرف لهم – وأنه ينام مع أفراد أسرته، زوجته وطفليه في قاعة الطعام أو الدهاليز – حتى قرر فتح الجناح الملكي له، وهو أمر ليس باليسير، لمن يعرف طبيعة البيروقراطية المصرية.
كان طه حسين، في ذلك الوقت، في سمت شهرته، كهلا في الخمسين من العمر، ملأ فضاء مصر الثقافي والسياسي طوال الأعوام الثلاثين الأخيرة – ومنذ بدايات تمرده على الأزهر، ومقالاته الأولى في (الجريدة) قبيل سفره إلى فرنسا – بالجدل والمواقف الوطنية الشجاعة والمستقلة. فقد خاض عددا لا بأس به من المعارك الثقافية والسياسية، ورسخ مكانته كمثقف مصري وعربي حرّ في العقل الجمعي المصري بمواقفه الشجاعة، ورأيه المستقل الذي جعله مرآة لضمير شعبه الطامح إلى الاستقلال والحرية، وكانت معركة فصله من الجامعة مع بدايات الثلاثينيات، وتوجيه طاقته النقدية الجبارة، وجسارته في الرأي إلى الصحافة الوطنية، قد جلبت له شهرة كبيرة. واستقطبت قطاعات واسعة من الشعب المصري إلى جانبه، لشعورهم بأنه المعبر الحقيقي عن مطامحهم وصبواتهم. في عالم كان الكثير من ساسته وأصحاب الرأي فيه يتوزعون بين الولاء للسراي الفاقدة للشرعية أو المصداقية، أو للمحتل الانجليزي الذي كان جلاؤه هو المطلب الذي يُجمع عليه الشعب. وهذا هو ما دفع طاقم السفينة لفتح الجناح الملكي له ولأسرته.
ولنستمع هنا لما كتبته زوجته حينما حدث ذلك: «أذهلني هذا الأمر بقدر ما سرّني، لا سيما وأننا استطعنا استضافة زوجين بلجيكيين "آل سيرفي Les Servais"، والدكتور "دوويه Dewée"[1] مع زوجته وابنتيهما الصغيرتين اللتين وضعناهما على مفارش السرير.»[2] وهي لفته من طاقم السفينة لها دلالاتها الكبيرة بأي معيار من المعايير – ليس أقلها أنها تعبر عن موقف الإنسان المصري العادي، فلسنا هنا بإزاء مثقفين، وأنما أناس يعملون على مركب، وتقديره لأهمية المثقف الحر المستقل، الذي استطاع أن يكون ضمير مجتمعه، واعتزاز شعبه به، ورفعه له إلى أعلى المكانات. فهو بالنسبة لهم جدير بالجناح الملكي الذي كان يحتفظ به عادة مغلقا على السفن المصرية كي يسافر عليه لو احتاجه هو أو أي من الأمراء. وهي مكانة أعلى من مكانة أي من الأجانب الذين عجّت بهم السفينة، حينما كان للأجانب الكثير من الامتيازات في مصر.
لكن دعنا نتوقف عند لمسة أخرى، لا تقل عن هذه اللمسة أهمية وثراء بالدلالات، تتضمنها رواية زوجته لتلك الرحلة، وهي كما تقول لنا: «وخلال تمرين على الإنقاذ، لَمَحَ قائد السفينة أنني أحمل كيسًا جلديٍّا تحت زناري؛ فقال لي مبتسمًا: إنها ولا شك مجوهراتك يا سيِّدتي؟ فقلت: لا، يا سيدي القائد، إنه مخطوط كتاب لزوجي. كانت هذه المخطوطة تؤلف الجزء الثاني من كتاب (الأيام)»[3]
والواقع أن هذه المخطوطة – والطريقة التي حافظت بها عليها وكأنها جزء لا يتجزأ من حياتها – هي بحق مجوهراتها التي لا تقدر بأي ثمن. فكتابات طه حسين ومواقفه هي التي فتحت لهم الجناح الملكي. لأننا نعرف مما توفر لنا من معلومات عن حياتهما مما كتباه، وما كتبه أقرب الناس إليهما، أن حياتهما كانت خالية من تلك الحليّ النفيسة التي تتزين بها النساء؛ وأن أغلى ما أهداه لها كان البيانو، وأغلى ما اشترت من أجله كانت تلك الساعة الـ"لونجين" القيمة التي ظلت في معصمه حتى وفاته.[4]
وإن امتلأت حياتهما بما هو أغلى من أي مجوهرات وأبلغ تأثيرا. فقد كان فتح الجناح الملكي لهما – كما أدركت – أغلى من أي مجوهرات، وكانت هذه المخطوطة إحداها؛ وكان هناك الكثير الذي عاشته معه، ودفعها إلى الحرص على أن يعرفه شعب طه حسين، وأن تكتب عنه كتابها (معك)، وأن يصدر بالعربية – لم يصدر الكتاب بالفرنسية في حياتها ،لأن هذا الأمر لم يكن يهمها.[5] وكان همها الأول أن يصدر الكتاب بالعربية في مصر وعن ناشر كتب طه حسين "دار المعارف"[6] – كي يقرأه قراء طه حسين. حيث تقول لابنها «أنت تفهم ياصغيري – كان لي من العمر عندئذ خمسة وخمسون عاما – أنت تفهم أنني كنت مدينة بهذا إلى أبيك. غشيت عيناها وأضافت: أنا مدينة له بأكثر من ذلك بكثير.»[7] والواقع يا سيدتي أنك لست وحدك في هذا الأمر، لأننا جميعا مدينون لهذا الرجل العظيم بالكثير والكثير.
سياقات كتابة الجزء الثاني:
قبل تحليل الجزء الثاني من (الأيام) علينا أن نتعرف على السياقات التي كُتب فيها، والتي تؤكد ما طرحته في قراءتي للجزء الأول من افتراضات. لأن السياقات التي أدت إلى كتابته لا تقل درامية عن تلك التي أدت لكتابة الجزء الأول. فقد جاء هذا الكتاب ردا منه على مجموعة من المحن التي عاشها في سبيل القيم التي أراد بلورتها وترسيخها في واقعه. فما أن حفظت النيابة ملف قضية (في الشعر الجاهلي) وانقشع غبار معركتها، حتى يواجه طه حسين المعارك من جديد. لأنه مع مطلع العام الدراسي 1927 / 1928 يصرّ الأساتذة على انتخاب طه حسين عميدا لكلية الآداب. وهو الأمر الذي يُحرِج الحكومة مع الانجليز ، ليس فقط لأن طه حسين هاجمهم – في مقالات منشورة – لمطالبتهم بتعويضات مُبالغ فيها لموظفيهم الأجانب الذين استغنت الحكومة عنهم، ولكن أيضا لأنهم كانوا – وبعد خمس سنوات على إعلانهم استقلال مصر بتحفظاته الأربعة – لا يزالون يصرون على احتفاظ الأجانب بالمناصب القيادية فيها.
فيستدعي وزير المعارف على الشمسي باشا – الذي كان مطلوبا منه أن يصدر القرار – طه حسين إلى مكتبه. ولنترك صهر طه حسين يروي لنا بقية وقائع تلك المقابلة: «ويقول له إنه لا شك لديه هو شخصيٍّا في استحقاق طه حسين لمنصب العميد، ولكنه يصارحه بما تواجهه الحكومة من حرج، وطه حسين يرد بأنه لا يريد أن يسبب مشاكل للحكومة التي لا تنقصها المشاكل، وهو لا يريد قطعًا أن يثير مشاكل لعلي الشمسي باشا الذي يذكر سابقة فضله، ويكنُّ له أصدق التقدير. ولكنه يقول للوزير إن القاعدة التي تجري عليها الحكومة، أو التي يجب أن تجري عليها الحكومة، هي ألا يشغل أجنبي في عهد الاستقلال منصبًا يمكن أن يشغله مصري، فإذا كان هو يصلح للعمادة – كما يؤكد له الوزير – فلا بد إذن من أن يُعيَّن احترامًا وتأكيدًا لهذا المبدأ، ورفضًا لتدخل السراي، ولتدخل الأجانب، واحترامًا لنتائج انتخابات الأساتذة. ويجب لذلك أن يُعيَّن وأن يمارس عمله باعتباره عميدًا مصريا للكلية المصرية. ويضيف طه حسين، وهو يبتسم ابتسامة خفيفة، تكشف عن رغبته في تأسيس المبدأ، على أنني سأجد لمعاليك المخرج من هذه المشكلة – إذا صدر قرار بتعييني فسوف أتسلم عمل العميد، وأمضي بعض الأوراق، ثم أقدم لمعاليكم استقالتي في نفس اليوم فتقبلونها، وتعينون عميدًا للكلية من يليني في نتيجة الانتخابات، وهو من الأساتذة الأجانب.»[8]
وفي 4 يناير 1928 يصدر قرار الوزير بتعيين طه حسين عميدا لكلية الآداب. ويمارس عمله ليوم واحد ثم يفي العميد بالوعد الذي قطعه على نفسه للوزير. فهو هنا يريد أن يؤكد أمرين: أن من حق الكلية أن يُحترم قرارها في اختيار من تراه كُفأ لعمادتها، تأكيدا لاستقلال قرار الجامعة. وأن استقلال مصر الحقيقي الذي أعلنه تصريح 28 فبراير، يتطلب أن يحتل المصريون جل المناصب القيادية في مجتمعهم. ولأنه يدرك طبيعة موازين القوى في واقع مختل، وقد انحاز لطريق البناء على تطوير الاستقلال، بدعم دستور 1923 رغم معارضة الوفد له ، ثم بترسيخ قاعدة استقلال قرار الجامعة في مجال عمله، فإنه هو الذي يجد المخرج للوزير من ورطته. هنا نتعرف على جانب جديد من مواهب طه حسين المتعددة، كإداري بارع يريد أن يكرس مبدأ وطنيا وإداريا مهما: هو استقلال الجامعة، دون أن يحرج الوزير الذي لا يستطيع أن يجحد فضله لوقوفه الصلب بجانبه في مجلسي النواب والشيوخ إبان معركة (في الشعر الجاهلي)،[9] وحينما كان أبرز زعماء الأمة – سعد زغلول – ورئيس علي الشمسي نفسه في الوزارة ضده.
والواقع أن وفاء طه حسين بوعده بالاستقالة من العمادة كان صعبا على نفسه، إلى الحد الذي انتظر فيه حتى عُين عميد جديد، ثم تقدم بطلب للوزير راجيا نقله «إلى أي عمل علمي آخر في غير كلية الآداب التي أصبحت أجد مشقة كبيرة في البقاء فيها.» لكن ما أن يصل الخطاب إلى علي الشمسي حتى يتوجه في المساء نفسه إلى بيت طه حسين، مؤكدا عدم المساس بكرامته، راجيا إياه العدول عن طلبه، ومكلفا له بالقيام بدور العميد في حقيقة الأمر،[10] حتى تنقشع تلك الغمة التي سرعان ما انقشعت. وفي العام الجامعي التالي يفتح طه حسين – في نوع من تأكيد ممارسته الفعلية للعمادة – أبواب الجامعة للبنات، بدعم واضح من صديقه العزيز أحمد لطفي السيد مدير الجامعة، ويُقبل عليها إلى جانب الفتيات، الكثير من الطلاب من مختلف البلدان العربية. فتعمُر محاضراته بالجدل الخلاق الذي يفتح العقول ويحثها على البحث.
ويواصل في نفس الوقت كتابة المقالات عن كل جديد يضيف للثقافة العربية، سواء أكان من إنتاجه أو حتى من أنتاج زملائه في الجامعة[11] أو خارجها،[12] والذين كان يشجعهم على النشر في المنابر الرصينة التي كان يكتب فيها مثل: (الهلال) و(السياسة الأسبوعية) و(الجديد) و(المقتطف) ومجلة (الحديث) التي كان يصدرها تلميذه النجيب سامي الكيالي في حلب. لكن دواعي السياسة سرعان ما تشد طه حسين بعيدا مرة أخرى عن الأدب والثقافة. فيعود من جديد إلى معمعة السياسة، حينما يلغي الملك الدستور، كي يصبح هو مصدر السلطة. ويكلف محمد محمود باشا بتأليف حكومة كان أول قراراتها اصدار أمر ملكي بحل البرلمان، ومنعه من الاجتماع لمدة ثلاثة أعوام. وأعلن أنه سيحكم مصر بيد من حديد، بغير دستور، ولا تمثيل للشعب ولا برلمان. وهو الأمر الذي استنكره طه حسين في مقالات مدوية، وأعلن سخطه على هذه النكسة في حياة البلاد الدستورية، برفض الحكم الاستبدادي وتعطيل الدستور الذي جاهدت الأمة لإصداره – رغم صداقته الشخصية لمحمد محمود باشا.
ولم تعمّر حكومة محمد محمود تلك طويلا. وبعد حكومتين قصيرتي العمر عين الملك، في يونيو 1930، إسماعيل صدقي رئيسا للوزراء. واحتفظ صدقي لنفسه – عند تشكيله لوزارته الجديدة، بوزارتي الداخلية والمالية – فيعلق طه حسين، في مقال منشور: هل يفكر صدقي باشا بأن يحكم البلاد بسيف المعز وذهبه؟ وتكشف الأيام طوال ذلك الصيف عن أنه كان على حق في تعليقه ذاك! لأن اسماعيل صدقي – وهو داهية سياسي[13] – يتجنب تعليق الحياة النيابية، وحكم البلاد بنفس القبضة الحديدية التي فشلت مع محمد محمود باشا. فيخفيها داخل قفازات حريرية. لأنه يدعو لإجراء انتخابات، كي يعمل مع برلمان منتخب. ويؤسس حزبا جديدا "حزب الشعب" ستكون له جريدة تنطق باسمه. ويلغي دستور 1923 – لأنه "ثوب فضفاض!" وسوف تسمع تنويعات على هذا المصطلح كثيرا بعد ذلك – ويفرض على الأمة بدلا منه دستورا فُصِّل على مقاس الملك ودون إزعاج الاحتلال، هو دستور 1930. ويقاطع الوفد والأحرار الدستوريون انتخاباته، فتمتلئ مقاعد مجلس النواب بمن اختارهم وزير الداخلية/ رئيس الوزراء، ودخلوا انتخابات لا ينافسهم فيها أحد، اللهم إلا حزب صغير آخر (حزب الاتحاد) ممالئ للملك.
ويدعو الوفد إلى مقاطعة الحكومة الجديدة. وما أن تبدأ الدراسة الجامعية، وكانت للوفد شعبيته الكبيرة بين الطلاب، حتى تندلع المظاهرات ضد حكومة صدقي الذي يواجهها بحزم. فيفصل الطلاب ومن يتعاطف معهم، ويصادر أملاك من يمتنعون عن آداء الضرائب من كبار ملاك الأرض، ذخيرة حزب الأحرار الدستوريين، ويبيعها في المزاد العلني. وينشئ بنك التسليف الزراعي ليغير عبره البنية الطبقية القديمة لملاك الأراضي. هكذا ينجح القصر والانجليز من خلال سياسات فرّق تسد، في إدخال البلاد في اصطراع داخلي، بدلا من تركيزها القديم على محاربة الانجليز، وهو الأمر الذي سُرّوا له. وسط هذا الانقسام والمناخ الشعبي المعارض له، يصرّ أساتذة الجامعة على عدم انتخاب العميد الانجليزي الذي رُشّح لهم، وانتخاب طه حسين بدلا منه، لأنه مصري، ولأنه قبل كل شيء طه حسين.
وتنتظر الجامعة كيف ستتصرف الوزارة إزاء هذا التحدي. فتفاجأ بأن وزير المعارف في حكومة صدقي – مراد سيد أحمد باشا – قد أعتمد تعيين طه حسين كأول عميد مصري لكلية الآداب. وحينما يصل الخبر للجامعة – أثناء انعقاد مجلس الجامعة الذي كان طه حسين ممثلا لكليته فيه – يقترح عليه مديرها – صديقه وأستاذه العزيز أحمد لطفي السيد – أن يذهب إلى الوزير صباح اليوم التالي ليشكره، وهو أمر من أمور اللياقة التي كان معمولا بها في ذلك الوقت. هكذا لا يتأخر ذهب المعز عن التعبير عن نفسه، ليس فقط فيما تصور صدقي أنه إسباغ المنصب على طه حسين، ولكن أيضا – وما زال مجلس الجامعة الذي ورد له قرار التعيين منعقدا، يصل إليها من يطلب لقاء طه حسين لرسالة عاجلة من وزير المواصلات توفيق دوس باشا سنعرف أنها تعرض عليه مع هذا التعيين منصبا مغريا – فيستأذن للخروج من الاجتماع، وبعد غياب قصير يعود إليه صامتا متجهما، ثم يغادر بعد نهاية الاجتماع دون أن يتحدث مع أي من زملائه، ومنهم صديقه العزيز أحمد لطفي السيد في أمر هذه الرسالة. لكنه يذهب صباح اليوم التالي كما اتفق معه وكما تقتضيه اللياقة، لشكر وزير المعارف على تعيينه.
وأترك المجال هنا لصهر طه حسين ليحكي لنا وقائع هذا اللقاء. «يستقبل وزير المعارف عميد كلية الآداب الجديد وقد جاء للشكر على التعيين، ولكن الوزير الذي يكرر تهانيه، ينتقل إلى موضوع كلفه رئيس الوزراء بالحديث فيه. إن جريدة جديدة باسم جريدة (الشعب) ستصدر قريبا بإمكانيات غير محدودة، لتكون لسان حال الحزب، الذي أسسه صدقي باشا، وهو حزب الشعب. ودولة الرئيس يعرض على طه حسين رئاسة تحرير هذه الجريدة. وطه حسين يجيب، بأن دولة الرئيس كان في اليوم السابق قد كلف شخصين آخرين بأن يتحدثا معه في هذا الموضوع – وهما وزير المواصلات توفيق دوس باشا وعبدالحميد بدوي باشا – وأن جوابه في الحالين كان الرفض بغير تردد. إنه لم يمضِ على انتخابه عميدا لكلية الآداب غير يوم واحد. وهو أول عميد مصري للكلية، وهو لا يريد أن يترك دراساته، ولا زملاءه الذين انتخبوه، ولا تلاميذه ولا كليته.»[14]
ويواصل الوزير الإلحاح على طه حسين بتحوير العرض أكثر من مرّة بحيث يحتفظ معه بوظيفته عميدا لكلية الآداب، أو يكتب في تلك الجريدة مقالا افتتاحيا بأي مقابل مادي يفرضه، وقد اقترح دولة الرئيس عليه عنوان المقال الأول: «إن وجود حزب الشعب ضروريّا لتحقيق المصالح المصرية الصحيحة»، الذي يعلق عليه طه حسين ساخرا: إن دولة الرئيس يحسن اختيار العناوين! ويصرّ على الرفض، فيقترح عليه أن يكتب بدون أن يوقع مقالاته فيها، فيرفض أيضا. ويلحّ الوزير وهو يؤكد له «لا داعي لأن أخبرك طبعا إنك لو قبلت، فإنك ستكون محل التقدير والامتنان من أعلى مقامات البلد. » [15] – ويعني الملك نفسه[16] – لكن طه حسين يصر بصرامة على الرفض.
هنا لابد أن أقتبس رد طه حسين البليغ على وزير المعارف كاملا، لما ينطوي عليه من دروس باقية: «ليست المسألة يا معالي الوزير أن أكتب مقالًا يُملى عليَّ موضوعه أو لا يُملى، وأن أمُضيه أو لا أمُضيه، وأن أتحكم في مقابله المادي أو لا أتحكم، إنني لا أستخفي إذا أردت أن أقوم بعمل من الأعمال. المسألة يا باشا أنني لا أعرف إن كان وجود حزب الشعب ضروريّا لتحقيق المصالح المصرية الصحيحة أم لا، ولكني أعرف أن المصالح الصحيحة هي في انصرافي إلى عملي في كلية الآداب، الذي لم يمضِ على تعييني عميدًا لها غير يوم واحد. إن كتابتي في جريدة الشعب تضرنا جميعًا، ولا تنفع أحدًا، وليس من مصلحة الحكومة أن يعرف الناس أن الموظفين يكتبون في صحيفتها، ولا ينبغي لعميد كلية الآداب أن يُسخِّر نفسه للكتابة في صحف الحكومة، فيتعرض بذلك لازدراء الزملاء والطلاب جميعا.»[17]
ها هو إذن – وفي موقف نادر ولكنه تأسيسي بالنسبة لاستقلال المثقف الحر في مصر – يرفض ذهب المعز، حسب تعليقه الاستشرافي المبكر. ويدرك أهمية حفاظ المثقف على رأسماله الرمزي من أي محاولة من السلطة لاستغلاله. فرأسمال المثقف الرمزي أهم من ذهب المعزّ، مهما كانت وفرته، وطه حسين النبيه يدرك – كما يقول لنا في آخر المقتطف – أن تبديده له سيعرضه لازدراء الزملاء والطلاب جميعا. فالمثقف – كما أكد أدوار سعيد بعد عقود من موقف طه حسين المضيء هذا – هو المسؤول عن طرح الحقيقة في مواجهة السلطة. وهذا ما فعله طه حسين الذي يدرك أن الأفعال أصدق إنباء من الأقوال، طوال وقائع تلك المواجهة المضيئة مع وزير معارف حكومة اسماعيل صدقي. وهي مواجهة حرصت على تقديم تفاصيلها، لأنها تكشف لنا وقبل عقود من بلورة بيير بورديو لمفاهيمه عن قيمة رأس المال الثقافي أو الرمزي، أو صياغة إدوار سعيد لموقف المثقف إزاء السلطة، عن وعي طه حسين المبكر بهذه المفاهيم، وتصرفه وفقا لأفضل ما في جعبتها من مواقف.
معركة استقلال الجامعة:
ولم يتأخر سيف المعز كثيرا – مع أن طه حسين بعد مغادرته مكتب الوزير، توجه إلى بيت مدير الجامعة أحمد لطفي السيد، وحكى له كل ما دار. وكان هم مدير الجامعة الأول أن يدرأ شر غضب صدقي وحكومته عن الجامعة، فاتصل بصديقه عبدالحميد بدوي، الأثير عند صدقي، يرجوه أن يعمل كل ما يستطيع ليصرف عن الجامعة شر هذه الكارثة. لكن سيف المعز هوى أولا على رقبة وزير المعارف الذي أصدر قرار العمادة، ولم يستطع أن يجني ثمنه. إذ سرعان ما فقد مراد سيد أحمد منصبه كوزير للمعارف في تعديل وزاري بسبب إخفاقه في احتواء طه حسين أو تطويعه. وكان أول ما فعله خَلَفه – محمد حلمي عيسى باشا – هو أن أبلغ مدير الجامعة – أحمد لطفي السيد – برفض طلب الجامعة ترقية عميدي كلية الآداب والعلوم. ولأن عميد كلية العلوم كان انجليزيا – مستر بنجهام – تضمن القرار زيادة مرتبه لتعويضه عن عدم الترقية. لكن طه حسين لا يأبه بهذا الأمر، حينما يبلغه لطفي السيد به. ثم يرفض حلمي عيسى أيضا طلب كلية الآداب فتح قسم جديد لدراسة الآثار الفرعونية والإسلامية، عرقلة لعمل عميد الآداب المغضوب عليه، فلا يأبه طه حسين بذلك أيضا.
ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد، فقد أراد اسماعيل صدقي – بدهائه السياسي كما ذكرت – أن يخلق انطباعا بأنه قد سيطر على كل شيء بقبضة حديدية وإن كانت في قفازات حريرية. وأن في البلاد دستورا جديدا، وبرلمانا منتخبا –مهما افتقد للشعبية في نظر غالبية الناس – يحظى فيه «حزب الشعب» بأغلبية كبيرة، وله صحيفة ناطقة باسمه، وملك سعيد بدستور يجعله، بدلا من الأمة، مصدر كل السلطات، وبحكومة موالية له. وأن يكرس هذا الانطباع بأن يضفي عليه هالة من الأبهة والقيمة، كي يعزز مكانته لدى السراي والانجليز على السواء. وتفتق دهاءه السياسي عن أن أفضل ما يحقق هذا كله هو الجامعة، التي كانت ميزانيتها قد أصبحت كلها تحت رحمته. «فيتصل وزير المعارف الجديد محمد حلمي عيسى باشا بمدير الجامعة لتنظيم احتفال كبير يشرّفه جلالة الملك، وتمنح الجامعة إثناءه عددًا من درجات الدكتوراه الفخرية، لعدد من الأجانب، إنجليزي وفرنسي وإيطالي وألماني وبلجيكي، ولعدد من المصريين.
ويريد الوزير أن تُمنح الدرجة الفخرية له هو شخصيٍّا أولًا، ثم لمدير الجامعة لطفي السيد ثانيًا، ثم لرئيس مجلس الشيوخ يحيي إبراهيم باشا، ولرئيس مجلس النواب توفيق رفعت باشا، وأخيرًا لأحد الوزراء الحاليين وهو علي ماهر باشا. ويرد مدير الجامعة إنه من غير المعقول أن يطلب درجة دكتوراه لنفسه، ويفطن الوزير إلى أنه من غير المعقول كذلك أن يُمنح هو هذه الدرجة، وهو رئيس الجامعة الأعلى، فيسحب الاسمين اسم لطفي السيد واسمه هو.»[18] ها هو أحمد لطفي السيد، ومنذ لحظة مفاتحة وزير معارف صدقي له بهذا الأمر، يقيم في وجهه بطريقته الدبلوماسية الهادئة العراقيل. حينما يخبره بأنه من غير المعقول أن يطلب درجة فخرية لنفسه، فيتنبه الوزير الغبي بأنه قد طلبها بالفعل لنفسه، بل ووضع اسمه على رأس القائمة، فيحذفه. ثم يذكّره بأن قانون الجامعة يقضي بعرض هذا الموضوع على مجالس الكليات وسوف يفعل ذلك. ثم يقول له إنه لاحظ أن كل الأسماء المذكورة في القائمة لرجال الوزارة، وإنها لا تشمل أيا من المعارضين. فيرد الوزير بأنه لا يقبل أن ينال هذا التكريم في عهده أي معارض. لكن لا بأس من إعطاء درجة لكل من عبدالحميد بدوي باشا وعبدالعزيز فهمي باشا. ثم يلاحظ المدير أن ليس لدى الوزير أسماء لمن يريد تكريمهم من الأجانب؛ فيرد الوزير «المهم هو الجنسيات»،[19] والأهم العجلة في إتمام الإجراءات، لأن المطلوب هو أن يزور الملك الجامعة، وأن تمنح هذه الدرجات أثناء الزيارة الملكية في آخر فبراير 1932. فيذكّره المدير مرة أخرى بأن المرسوم الصادر بإنشاء الجامعة يجعل مجالس الكليات هي المختصة بمنح الدرجات الفخرية، وأنه سينقل اقتراح معالي الوزير إلى عمداء الكليات.
وما أن ينتقل الأمر إلى مجالس الكليات وعمدائها، حتى يكون طه حسين في طليعة كتيبة الحفاظ على استقلال الجامعة، وصون كرامتها وهيبتها. فيستنكر أن تُستخدم الجامعة بتلك الصورة الفجة التي تمجد فيها الحكومة نفسها ورجالها دون حياء. وأنها تريد أن تمنح تلك الدرجات الفخرية لأشخاص من الأجانب لا تعرف حتى أسماءهم. ويذكّر أعضاء مجلس الكلية بأنه «عندما قررت جامعة باريس منح درجة الدكتوراه الفخرية للرئيس الأمريكي وودرو ويلسون، وهو رئيس لأكبر دولة منتصرة في الحرب العالمية، أصرت جامعة باريس على أن يحضر ويلسون بنفسه ليتسلم الدرجة الفخرية، وحضر رئيس الولايات المتحدة فعلًا من بلاده، وكان سعيدًا بحضوره، لماذا نقلل نحن من أمر جامعتنا وأمر بلادنا؟ وكيف نوزع شهادات الدكتوراه حسب الجنسيات. إنه متأكد من أن مجلس كلية الآداب سوف يرفض طلب الوزير».[20] وكيف لا يرفض الطلب؟ مع حجاج العميد طه حسين بقوة وقناعة عقلية ضد استخدام الجامعة في مهرجان سياسي لتبيض سمعة حكومة فاقدة للشرعية والمصداقية. ويسعى بمواقفه المدعمة بالأمثلة لحماية استقلالها ومكانتها والرقي بسمعتها.
كانت الجامعة وقتها مكونة من أربع كليات – هي الآداب والحقوق والعلوم والطب. وقد رفضت الآداب – شكرا للدكتور العميد – الطلب، ورفضته معها كلية العلوم التي كان عميدها بريطانيا، بينما قبلته الكليتان الباقيتان. هنا يناور طه حسين فيطالب بإحالة الموضوع إلى لجنة تنسيق بين الكليات الأربعة للنظر فيه – وأظن أنه طلب ذلك علّه يقنع من لم يعترض عليه بالاعتراض في تلك اللجنة التي سيشارك فيها بالطبع. لكن الوزير يرفض ذلك الاقتراح، ويرجح بسلطته الأمر، طالما تساوى عدد المعترضين والموافقين. ثم يوجه في الوقت نفسه صفعة أخرى للجامعة بعدم التصديق على لائحتها الجديدة – التي كان طه حسين قد شارك في إعدادها – وهي لائحة تنصّ على ضمانات تصون استقلال الأساتذة، شبيهة بضمانات القضاء.[21] ويواصل طه حسين رغم كل سطوة الحكومة وجبروتها مناهضة استخدام الجامعة في هذه المهزلة، فيرفض أن ترشح كلية الآداب – وهي التي آل إليها ترشيح البلجيكي من بين الأجانب الأربعة – أي أجنبي للحصول على درجة فخرية في الآداب غيابيا. فتضطر الحكومة – عندما حان يوم الاحتفال، للاعتذار بأنها لا تعرف اسمه بسبب خلل في أعمال البريد، مما جعلها محطّ سخرية الجميع.
لكن أهم ما فعله طه حسين في معارضته لهذه المهزلة، هو أنه لم يحصر رفضه لها ضمن أروقة المكاتب ومداولات مجالس الكليات، وإنما فتحها في مقالاته على الرأي المصري العام، وعلى طلابه وطلاب الجامعة من مختلف الكليات. والواقع أن مقاومة طه حسين كانت شديدة الوقع على إسماعيل صدقي وحكومته، ليس فقط لعدم تعاونه مع وزير معارفها الذي أصدر قرار عمادته؛ وإنما اقتراحه أكثر من مرة أن يتم تكريم عدد من الوفديين والأحرار الدستوريين الذين كان لهم دور مشهود في تأسيس الجامعة والوصول بها إلى ما هي عليه وقتها.[22] فقد كانت الجامعة والتي يعد هذا الاحتفال بافتتاح مقرها الكبير الجديد في الجيزة، ثمرة جهود طويلة من الكفاح والعمل المستمر الدؤوب. بدأت مع مشروع الجامعة الأهلية عام 1906-1908 – ساهم فيها أعلام من الحزب الوطني والأحرار الدستوريين والوفدين – وهو المشروع الذي رأسه الأمير فؤاد، حتى وصل إلى تأسيس الجامعة المصرية الرسمي عام 1925. وكان اسماعيل صدقي لا يريد جلب أي من أعدائه السياسيين – من حزب الوفد وحزب الأحرار الدستوريين – لحفل يعتبره تتويجا لنجاح حكومته في تغيير دفة النظام السياسي، وتكريس سلطة الملك. بعدما حققه من نجاح اقتصادي كبير في التعامل مع الأزمة الاقتصادية العالمية الخانقة/ أزمة الكساد الكبير.
كان اسماعيل صدقي – ممثل الرأسمالية المصرية الصاعدة من تجار ورأسماليين جدد من أصحاب الصناعات الوليدة – قد عزز ثقته بمشروعه، بعدما أسس بنك التسليف الزراعي الذي أنقذ الفلاحين من قبضة المرابين الأجانب، وحمى كبار ملاك الأراضي من آثار الأزمة الاقتصادية المدمرة وسيطر عليهم في آن، وفرض تعريفة جمركية مرتفعة على الواردات حماية للصناعة المصرية الناشئة. وبدأ الخروج بمصر من عنق زجاجة الأزمة الاقتصادية العالمية. لكن تلك الإنجازات – برغم ما تنطوي عليه من ذكاء سياسي – ما كان لها أن تصمد في وجه حركة وطنية متماسكة لها بوصلتها السياسية في الاستقلال والحرية. وعمادها أبناء مختلف شرائح الطبقات الوسطى والدنيا التي لم تستفد من إنجازاته شيئا. وركيزتها حزب الوفد بشعبيته وشعبويته معا، ومستنيري حزب الأحرار الدستوريين، الذين قاطعوا انتخاباته، وظلوا يطالبون بعودة دستور 1923 التليد.[23]
ولم تعبأ الحكومة بآراء طه حسين أو مدير الجامعة. وتقرر المضي في خطتها لافتتاح المقر الجديد للجامعة بزيارة ملكية سامية، في 27 فبراير 1932، تعزز قبضة الملك على زمام السلطة. وتؤكد له سيطرتها على الموقف. وقد اهتم صدقي بنفسه، فهو وزير الداخلية، بتأمين الحفل. وما أن حل اليوم الموعود، والذي أشرف على كل تفاصيله بدقة، بما في ذلك توزيع عدد من الطلاب في أماكن مدروسة من قاعة الاحتفال التي غصت صفوفها الأولى بموظفي حكومته، والتنبيه عليهم – أي الطلاب – بالهتاف لجلالة الملك وله. وما أن وصلت سيارة الملك إلى باحة الجامعة حتى أقبل مديرها أحمد لطفي السيد، ووزير المعارف محمد حلمي عيسى، وممثل الطلبة المنتقى بعناية لتحيته، وصحبوه في زيارة لكلية الحقوق، وأخرى لكلية الآداب، قبل التوجه به إلى قاعة الاحتفال التي غصت بالطلاب. ولم يخفَ على الطلاب أن يلاحظوا خلوها تقريبا من الوفديين والأحرار الدستوريين، وقلة أساتذة الجامعة فيها، وامتلاء صفوفها الأولى بأنصار الملك، وممثلي الوزارة الرسميين.
وما أن بدأ توافد كبار الزوار إلى المنصة حتى حيا الطلاب مدير الجامعة وعدلي يكن ونائب مدير الجامعة علي إبراهيم بالتصفيق الحار، بينما استقبلوا الملك واسماعيل صدقي نفسه وعلي ماهر بالصمت المطبق. وهو الأمر الذي ضايق الملك وأزعجه، ولم يعوضه عنه مبالغة محمد حلمي عيسى في كلمته الافتتاحية في دور الملك في إنشاء الجامعة، ودور شقيقته – فاطمة هانم – في التبرع لها بالأرض التي بني عليها مقرها الجديد، ودفعه هذا الضيق لمغادرة الحفل مبكرا. ويبدو أن الملك، وصدقي، وحتى الانجليز أنفسهم – وفق ما بعث به مندوبهم السامي لحكومته،[24] قد اقتنعوا – أو أقنعوا أنفسهم – بأن طه حسين وراء الأمر كله، وأنه هو المحرض الأساسي على هذا التمرد على الملك والحكومة. وإن لم يكن ثمة دليل مادي عليه، غير موقف طه حسين المبدأي المعلن من عدم استخدام الجامعة في مثل تلك الأمور. وما يمثله هذا الموقف – بسبب ما يحوزه صاحبه من رأسمال ثقافي كبير – من سلطة للفكر الحر والعقل النقدي، وتجاوب أغلبية الطلاب الوطنيين معها.
قيمة المثقف ومقاومة الاحتواء:
وفي اليوم التالي لليوم الذي بعث فيه المندوب السامي تقريره لحكومته، تنشر صحيفة (المقطم) الموالية للقصر خبرا صغيرا نصه: «إن حضرة صاحب المعالي وزير المعارف العمومية، قد قرر نقل الأستاذ الدكتور طه حسين من كلية الآداب إلى وزارة المعارف العمومية في وظيفة مساعد لمراقبة التعليم الأوّلي.»[25] ويرفض طه حسين أن ينفذ القرار، أو يعترف بحق الوزير في نقل أساتذة الجامعة كما يشاء. ويؤدي هذا الخبر إلى سخط شديد في الجامعة طلابا وأساتذة، وتضرب الكلية في اليوم التالي، ثم تتبعها بقية الكليات. ويتوجه الطلاب إلى مكتب مدير الجامعة مطالبين إياه بدعم طه حسين، ورفض قرار الوزير. ثم يتوجه الطلاب إلى بيت طه حسين – في مصر الجديدة – للتعبير عن مشاعرهم ودعمهم إياه، فيخرج إليهم يحييهم ويشكرهم.[26] وفي 7 مارس يجتمع أساتذة كلية الآداب، وأغلبهم من الأساتذة الأجانب، ويقررون رفض قرار الوزير بنقل عميدهم. وبعد يومين من إضراب طلبة كليتي الآداب والحقوق – ينضم إليهم طلاب الطب والعلوم، وينطلقون جميعا من قصر الزعفران، وقد راوغوا شرطة صدقي، ثم يتوجهون إلى قصر عابدين للاحتجاج على القرار.[27]
وحينما يرسل إسماعيل صدقي قوات الشرطة لقمع تلك المظاهرات، وحصار الجامعة، يُضطر مدير الجامعة، أحمد لطفي السيد – رغم علاقته الوثيقة بصدقي منذ كانا طالبين معا في مدرسة الحقوق، ودوره في إعادته لإدارة الجامعة، وعمله معه في أكثر من وزارة سابقة ثم لاحقة – أن يقدم استقالته من الجامعة في 9 مارس 1932، احتجاجا على: «نقل أستاذ من أساتذتها بقرار من الوزير دون الرجوع إلى الجامعة بالمخالفة للتقاليد المطردة منذ نشأتها، ولعقد إلحاقها بالحكومة. ولأنه لا يستطيع أن يقر الوزارة على هذا التصرف الذي يخشى أن يكون سُنّة تذهب بكل الفروق بين التعاليم الجامعية وأغيارها.»[28] وهو الأمر الذي تُضطر معه الحكومة إلى إغلاق الجامعة. في محاولة للتهوين من الأمر،
لكن المعركة تنتقل من الجامعة إلى خارجها وتتناولها الصحف والحياة الثقافية والسياسية. فيكتب أبرز الكتاب – وفي طليعتهم عباس محمود العقاد – مستنكرين فعلة الوزير، ومطالبينه بالاستقالة. ويطلب رئيس الوزراء مقابلة طه حسين فيرفض طه. ويعرض عليه الوزير أن يقبل النقل إلى أي مكان يريد في وزارة المعارف، واعدا إياه بألا يُشغَل مكانه في العمادة حتى تسوى المسألة في المستقبل القريب، فيرفض طه أيضا. وتؤكد جريدة (الشعب) ثقتها في أن الموضوع سيسوّى بما يرضي كل الأطراف، ولكن ذلك لا يحدث. حيث يُصَعّد الطلبة مظاهراتهم المؤيدة له، رغم فصل حكومة صدقي لزعيم الطلبة الوفدي، فريد زعلوك، وغيره من كلية الحقوق. بل ما أن يكتمل الأسبوع حتى تصل برقياتهم في 11 مارس إلى كل الجامعات الغربية تشكو لها العدوان على الجامعة المصرية، وعلى العميد الدكتور طه حسين، الذي أصبح من يومها عميدا للأدب كموقف ضميري حرّ مستنير، بعد أن كان مجرد عميد لكلية الآداب.
ولا تجد الحكومة إزاء هذا التصعيد، إلا أن تصعّد هي الأخرى هجماتها علي طه حسين، فيقدم أحد أعضاء البرلمان بلاغا ضده. وفي جلسة 30 مارس 1932 يقرر مجلس الوزراء، برياسة إسماعيل صدقي باشا، فصل طه حسين من الحكومة، فينقطع مورد رزق الأسرة الوحيد، مرتب الأستاذ العميد. ويلغي وزير المعارف حق الكلية في إنشاء ما تريد من أقسام، أو في انتخاب عميدها لمدة غير محدودة، مقيدا بذلك استقلالها، ويقرر أن الوزير هو من يختار من يروق له من بين ثلاثة أسماء ترشحها الجامعة له، فيعين منها عميدا لمدة ثلاث سنوات، يتوقف عليه وحده تجديدها، فترفض الجامعة ترشيح أحد غير طه حسين، بل وتدعمه الكليات الأخرى، وخاصة كلية الحقوق، رغم أن أغلب أساتذتها كانوا من الأجانب. وفي عزّ استعار تلك المعركة تنجح الحكومة في إغراء الأستاذ المصري الوحيد في القسم – د. منصور فهمي – بتولي كرسي العمادة، فينعم عليه الملك برئاسة مجمع اللغة العربية الوليد وقتها، فوق البيعة. وشتان ما بين موقف طه حسين وموقف زميله المخزي من استقلال الجامعة.
ولا تكتفي الحكومة بقطع رزقه، بل تبلغ كل الجهات أن طه حسين شخص مغضوب عليه من السراي ومن الحكومة، وأن أي تعامل معه يعتبر تصرفا غير ودي تجاه القصر والحكومة. ثم تبدأ الحكومة نفسها في قطع كل تعامل معه، بأن تسعى إلى تشريده هو وأسرته. فتبلغ شركة مصر الجديدة البلجيكية بأنه قد فُصل من الحكومة، وليس من حقه السكن في المنزل الذي تؤجره الشركة له في شارع المنيا، لأنه من المساكن المخصصة لسُكنى موظفي الحكومة. وتضطر الشركة البلجيكية للتنفيذ، ولكنها تبلغ طه حسين وأسرته أن المسكن الواقع خلف مسكنه، ومدخله من شارع موازٍ، وهو شارع الساكركير (القلب المقدس)، ملك لها وهو خالٍ حاليا، وليس مخصصا لموظفي الحكومة، وتعرض عليه استئجاره بدلا من مسكنه، وبنفس إيجار المسكن القديم رغم أنه أكبر منه. فيشرع الجميع في نقل الأثاث إلى المسكن الجديد قطعة قطعة طوال يومين. فيتندر بعدها الناس ساخرين «لقد طرد صدقي الدكتور طه من بيته، ولكن ها هو الآن يسكن في بيت أفضل من البيت السابق بكثير.»[29]
ترسيخ القيم الجامعية والمحنة الثانية:
كان طه حسين – ومعه صديقه وأستاذه أحمد لطفي السيد – في طليعة الذين ساهموا في إرساء القواعد المهنية النزيهة في الجامعة المصرية. وهي القواعد التي تستند على الموهبة والذكاء والمعرفة والجدارة العقلية والمعرفية، دون أي تمييز طبقي أو عرقي. فهو بحق الابن البكر للجامعة الأهلية/ المصرية فيما بعدـ وأول من حصل منها على الدكتوراه. أو بكلمات أخرى أول أستاذ جامعي مصري مؤهل، بالمعنى الجديد للكلمة، في تاريخ مصر الحديث. فقد كان أول من تخرج من الجامعة الأهلية، وقدم رسالة تخرج منها (تجديد ذكرى أبي العلاء) كانت توازي العالمية في نظام التعليم المصري المستقر (الأزهر) وقتها. ثم ابتعثته الجامعة لفرنسا – لجدارته ودون وساطة من أحد – لمواصلة تعليمه بها والتأهل للتدريس الجامعي فيها، بعدما اجتاز اختباراتها في اللغة الفرنسية. هناك واصل دروسه وتأهله للتدريس في الجامعة، بدءا من تعلم اللغات الأوروبية القديمة من يونانية ولاتينية، واستمرارا بدراسة الأدبين العربي والفرنسي،[30] وصولا إلى رسالته للدكتوراه – دكتوراه الجامعة – في التاريخ وعلم الاجتماع (الفلسفة الاجتماعية عند ابن خلدون) عام 1918، فضلا عن دبلوم الدراسات العليا في التاريخ القديم ودراسة اللاتينية واليونانية التي نالها عام 1919. وإن لم تتح له الجامعة مواصلة الدراسة للحصول على دكتوراه الدولة التي أراد الحصول عليها، لأن ميزانية الجامعة وقتها لم تكن قادرة على مد بعثته لأربع سنوات أخرى.[31] ولما عاد إلى مصر بعد انتهاء دراسته في فرنسا، عُين بها لتدريس الأدب القديم والحضارات القديمة، كأول مدرس للتاريخ القديم وتاريخ الفلسفة بمرتب شهري مقداره 32 جنيها.[32] ونحن نعرف أن هذا المرتب كان دخل طه حسين الأساسي، لأن كتاباته في الصحف، برغم كثرتها، كانت معظمها تطوعية لا تدرّ عليه دخلا يذكر.
لكن ها هي الضغوط على طه حسين تصل أقصى حدودها، حرمانه من العمل ومن الدخل الذي يعيش عليه ويعول به أسرته، وكان لديه وقتها طفلان، ومن الدور الذي لعبه بكل طاقته.[33] ومع هذا لم يساوم على مبادئه، ولم ييأس – وإن أخبرتنا زوجته في روايتها لتلك الأيام الصعبة أنه فكّر في الانتحار، وأنه كان يغرق في موجات من الحزن الأسود، والصمت المخيف في بعض الأحيان .[34] وأصرّ بشكل عام على موقفه المبدئي، ورفض أي مساومة عليه. وكان يعزي نفسه بقراءة سيرة الرسول الكريم، وما تعرض له من مكاره في سبيل رسالته، يتأمل وقائعها، ويستمد العون من تواريخها.[35] وتدعوه الجامعة الأمريكية لإلقاء سلسلة من المحاضرات عن الأدب – لعب الطالب في الجامعة وقتها مصطفى أمين، صاحب دار أخبار اليوم فيما بعد مع شقيقه، دورا في مطالبة الجامعة بدعوته – يشهدها الجمهور، فتمتلئ القاعة عن آخرها. ويُستقبل طه حسين بحفاوة كبيرة في قاعة المحاضرات في شارع الشيخ ريحان – لدرجة أن الطلاب أرادوا حمله على أعناقهم حتى المنصة، ولكنه اعتذر وسار إليها بهدوء مع رئيس الاجتماع الدكتور ماكلنهن – ويهتف الجمهور له بعد نهاية المحاضرة، تقديرا لمواقفه.
غير أن مكافأة مثل تلك المحاضرات لا تقيم أود أسرة وسكرتير. فيبدأ طه حسين في القلق والأرق والاستدانة، بعدما رفض عرضا مغريا جاءه من جامعة أمريكية عن طريق صديقه المستعرب الفرنسي الشهير لويس ماسينيون Louis Massignon (1883-1962). دعنا نقرأ ما كتبه لزوجته عن هذا العرض، «بعد ثلاثة أيام من التفكير، لقد أيقظتني رسالة ماسينيون. إنني أستاذ معزول وعالم ممنوع عن العمل، ومن واجبي ألا أشتغل في السياسة، وإنما أن أؤلف الكتب، وأسعى وراء الرزق. أما في أمريكا، فإنني سأكون أجنبيٍّا، وسأنظر إلى حياة البلد دون أن أشارك فيها، ولن يكون عليَّ أن أقوم فيها إلا بواجب محدود.» وتعلّق زوجته على ما اقتطفته من رسالته لها: «نعم، أيها المناضل، فأنت لم تكتف قط بواجب محدود.»[36]
ذلك لأن المثقف المناضل في طه حسين يدرك أنه ضمير مجتمعه، وأن عليه أن يرود ويقود، مهما كان ثمن هذا الدور. فيرفض عرض الجامعة التي كتبت إليه بعد رسالة ماسينيون تلك تخبره بأنها تترك له حرية اختيار الموضوعات التي يريد أن يحاضر فيها. ومع أن العرض سيوفر حياة رغدة له ولأسرته، إلا أنه يتساءل: «من ذا الذي إذن لي بالتخلي عن مسؤوليتي إزاء بلدي، هذا البلد الذي منحني كل شيء.»[37] والواقع أن إحساسه بالمسؤولية تجاه بلده هو الذي يعزيه عن كل ما يتحمل في سبيله من عناء، خاصة وأنه يعي أن البلد بأغلبية شعبها ومثقفيها تقف معه. فقد انهالت عليه خطابات الدعم من كل أنحائها، وحتى من مبعوثيها بالخارج وعلى رأسهم في ذلك الوقت محمد مندور، وعلى حافظ، وعبدالهادي شعيرة. وتعهد إليه جريدة (السياسة) التي كان يرأس تحريرها محمد حسين هيكل وقتها، بتحرير «القسم الأدبي» بمكافأة (ثلاثين جنيها) أقل من المرتب الذي بدأ به حياته الجامعية عقب عودته من فرنسا. فيضطر إلى التأقلم مع تقلص موارده، دون المساومة على مواقفه. وتسانده زوجته في تلك السنوات العصيبة التي وصفتها بأنها «سنوات المجاعة»، والتي استمرت لأكثر من عامين. أُلغيت فيها رحلة الصيف إلى فرنسا. تقول زوجته «كنا عزمنا على الترفع والاعتزاز بأنفسنا، فلا نغير شيئا من مظاهر حياتنا الأولى. فإذا اضطررنا لمعاناة الحرمان، فإنه لا ضرورة لأن يعرف أحد آخر غيرنا بذلك.»[38]
وحينما يزوره سكرتير حزب «الوفد» مكرم عبيد في الاسبوع الأخير من فبراير 1933، للسؤال عنه، والحديث معه عن أحوال البلاد، تبدأ بشائر تحوّل قد يقلل من وطأة الأزمة عليه، وعلى أسرته. لأنه أثناء النقاش يقول مكرم عبيد أن صدقي يجاهد لإخضاع مصر بالقوة والإرهاب فيرد عليه طه حسين ببصيرته الثاقبة «إن الذي يحاول إخضاع البلاد في الحقيقة هم الانجليز والسراي، وأن الشعب لاشك سيحقق لنفسه بكفاحه آخر الأمر ما يصمم على الوصول إليه من الاستقلال السياسي والحرية الاجتماعية.»[39] فيقول له مكرم عبيد أن الوضع الراهن يتطلب تضافر كل القوى الوطنية الرافضة لذلك، وأن على قادة الرأي أن يقوموا بدورهم في استنهاض تلك المقاومة. ويقترح على طه حسين أن يشترك في تحرير الصحيفة المسائية الناطقة باسم حزب الوفد (كوكب الشرق). فيطلب طه حسين مهلة للتفكير، ولما يكاد أن يعتذر، يتصل به مصطفى النحاس – رئيس حزب الوفد – ويقنعه بأن كفاح الشعب من أجل تحقيق الحرية والاستقلال يحتاج إلى جهاد كل مؤمن بحقه، فيقبل.
هنا تبدأ مرحلة تحول جديدة في حياة طه حسين ودوره العام، لأنه حينما يقبل العمل مع حزب الوفد، فإنه يتحول عن حزب النخبة الذي سانده، وقام بكثير من أدواره العامة من خلاله – حزب الأحرار الدستوريين – إلى أكثر احزاب مصر شعبية، وتعبيرا عن المطامح الوطنية في الاستقلال والعدل والحرية. ولا شك في أن فكر طه حسين الذي تبلور طوال مسيرته حتى لحظة التحول الفارقة تلك كان أقرب إلى فكر الوفد وموقفه الوطني. وهذا ما أدركه طلابه، حيث كان الطلاب الوفديون في طليعة من تظاهروا في الجامعة احتجاجا على فصله منها. وأن الوفد الذي يمد يده إليه هو إلى حد ما غير الوفد الذي تمحور حول شخص سعد زغلول وشعبويته. كما أنه يدرك قبل غيره أن انحيازه لحزب الوفد له ثمنه الذي قد يضع على كاهله المزيد من المخاطر والأعباء. وكان الوفد يقدر – ومجيء المبادرة من مكرم عبيد له دلالاته – قيمة أن يكسب إلى صفوفه مثقفا بقامة طه حسين وتاريخه. فما أن يقبل الانضمام للجريدة، حتى يخصص صاحبها ورئيس تحريرها، أحمد حافظ عوض، صفحة (كوكب الشرق) الأولى كلها مساء 5 مارس 1933 لمقال يعلن فيه للشعب «حدثا خطيرا بالغ الأثر، وهو مشاركة طه حسين بقلمه الفياض في الصحافة المصرية، وفي السياسية المصرية، وفي الأزمة المصرية الحالية.» كما تنشر الجريدة في نفس العدد رسالة واردة إليها من رئيس الوفد المصري مصطفى النحاس باشا يقول فيها «إنه مغتبط باشتراك النابغة الكبير الدكتور طه حسين في تحرير جريدة (كوكب الشرق) على المبدأ الوفدي الذي دلت الحوادث على أنه مبدأ الحق، ودين الأمة الذي قامت عليه في نهضتها نحو غايتها السامية في الحرية والاستقلال.»[40].
وقد أثار احتفاء (الوفد) الكبير بطه حسين حفظية عباس محمود العقاد، وأشعل نيران غيرته منه، وهو الأمر الذي سيتفاقم في قادم الأيام. خاصة وأن العقاد كان يعتبر نفسه نجم (حزب الوفد) الثقافي وقلمه السياسي بلا نزاع. وكان محط ثناء زعيمه السابق سعد زغلول – الذي لقبه بالكاتب الجبار – الذي كرس قلمه للتصدي لأعداء الوفد، وبعثرتهم أشلاءً على صفحات الجرائد. وقد كتب العقاد كتابا ضخما عنه بعد رحيله.[41] ولم يُخفِ العقاد سعادته بعداء سعد زغلول لطه حسين، لكن هذا الأمر ليس موضوعنا. فما يهمني هنا هو التأكيد على أن انحياز طه حسين لفكر الوفد ومواقفه، كان من منطلق مغاير لذلك الذي ينطبق على العقاد، وأنه قد أضاف بهذا الانحياز – من موقف الندية والوعي بدور المثقف الريادي في مجتمعه – مخاطر جديدة، ليست قاصرة على الساحة السياسية وحدها، وإنما تعدتها إلى الساحة الثقافية والفكرية أيضا وسوف يتجلى ذلك في مسار الأحداث فيما بعد.
المهم أن طه حسين انضم بكل طاقته الجبارة إلى صحيفة الوفد المسائية تلك، فغير صورة الصحيفة، ولغة المقال السياسي فيها، وصورة حزب الوفد معا. وهو الأمر الذي وعاه وأدرك أهميته كل من مصطفى النحاس ومكرم عبيد، عمودي خيمة حزب الوفد في ذلك الوقت. وقد افتتح مشاركته فيها في 9 مارس 1933 بمقال بعنوان «عهد» - منشئا فيه نسقا جديدا من العناوين التي تتكون من كلمة واحدة طوال تحريره لها، بالقول «إن خير ما يستطيع المصري أن يقدمه لوطنه في هذه ا لإيام إنما هو الإخلاص في القول والعمل، والصدق في الرأي، والمضاء في العزم، والقوة على المقاومة، والاستعداد لاحتمال المكروه .... "ثم يعاهد الذين سيقرؤونه على أنه" سيكون من هذا كله بحيث يحبون.»[42]
الصحافة وتنمية رأسمال المثقف الرمزي:
وقد أوفى بعهده ذاك مع القراء فالتفوا حوله، لأنهم وجدوه معبرا عن كل ما يريدون التعبير عنه في القضايا الوطنية والثقافية على السواء. وحوّل الصحيفة الى منارة للثقافة والوطنية المصرية معا، فقد استطاعت بفضله، وبرغم مسائيتها، أن تنافس أغلب الصحف الصباحية. ولنترك زوجته تكشف لنا عن سر ذلك: «كان يعمل في جريدة (كوكب الشرق) كما يعمل محكوم بالأشغال الشاقة؛ فقد كان يقضي فيها كل ساعات الصباح. وعندما حلَّ الصيف، كانت الحرارة لا تُطاق. وكان مكيِّفُ الهواء مُعَطَّلًا، كما كان المتطفلون الذين يغيظونه يُوجَدون دومًا عنده في اللحظة التي يكتب فيها مقاله. أمرٌ لا يكادُ يُصدَّق! كيف أنهم لم يدركوا أنهم كانوا يُسبِّبون له المزيد من التعب بتطفلهم هذا!؟ كان هناك ما هو أسوأ من ذلك. ففي أحد الأيام، دخلَ عليه مجهول لوحده. فبأيِّ بصيرة استطاع طه أن يحدس أنَّ هذا المجهول كان يحمل سكينًا؟ إذ سرعان ما ضغط على مكبس الجرس الذي كان موجودًا أمامه، فهُرِعوا إليه في الحال، وكان ظنُّه في محله. كان مُلاحقا ومشغولا إلى درجة لم يَعُد يستطيع معها رؤية أصدقائه.»[43]
يكشف لنا هذا المقتطف من كتاب زوجته عنه، برغم طوله النسبي، عن أمرين غاب أولهما عنها وإن أرعبها ثانيهما حينما فهمته. وهو أن ما دعتهم بالمتطفلين الذين يغيظونه هم عيون الأمن في زمن بطش صدقي واستبداده – وفي أزمنة كل المستبدين من بعده. وهم من أدوات قهر الأصوات الوطنية الحرة التي تؤرق كل مستبد – اسماعيل صدقي – ومن وراءه من السراي والانجليز. وأن هذا المجهول الذي استطاع أن يقتحم مكتبه وحده، ليس منبت الصلة بهؤلاء المتطفلين الثقلاء، بل هو ذراعهم المنفذة، حينما أخفقوا في أن يغير وجودهم الفظ أثناء إملائه لمقالاته من رأيه في من أرسلهم للتجسس عليه. وربما كان وعيه بوجودهم الثقيل أثناء إملاء مقالاته – وطه حسين مناضل عنيد – وراء تلك السخرية الشفيفة والتهكم اللاذع الذي يسرى في عروق كتاباته السياسية، ويرتقي بها إلى أفاق الأدب الساخر. فالكاتب الحر يدفع ثمن حريته دوما، وينمي من خلال هذا الدفع وما تصاحبه من جسارة في الرأي والفكر، رأسماله الرمزي ومكانته لدى القراء. ويؤسس عبر صلابته ومضاء عزمه القيم والمعايير الأخلاقية والضميرية.
كما يكشف لنا حديث زوجته عن أيام العمل الشاق في (كوكب الشرق) عن حرمانه لنفسه من إجازة الصيف، وإرساله زوجته وطفليه إلى الإسكندرية لثلاثة أسابيع، بدلا من شهور الصيف التي اعتادوا تمضيتها في فرنسا. ويضيف إلى هذه الصورة التي تؤكد لنا أن بطش القوى المعادية لمصر به، وحرمانه من العمل في الجامعة، قد انقلب إلى ضده،. حيث تحولت الصحيفة على يديه إلى مركز إشعاع ثقافي وفكري تربت فيه الأجيال التالية من تلاميذه، ممن أصبحوا من كبار الكتاب فيما بعد.[44] ويمتد تأثيره إلى كل أرجاء العالم العربي، وإلى كل المقاومين للاستعمار في مختلف أقطاره. هكذا حوّل طه حسين (كوكب الشرق) بجهده الخلاق، وجلده وصدقه وصبره على كل مكروه، ومواقفه الوطنية الناصعة، إلى جامعة جديدة مفتوحة، واستطاع أن يرفع توزيع الجريدة من أربعة آلاف نسخة إلى عشرين ألف نسخة. وكأنه حقق بذلك ما استشرفه حافظ إبراهيم في بيتيه في الاحتفال بطه حسين عقب فصله من الجامعة:
أجدبت دار الحجى والنهى بعدك من آرائك النافعة
أخصبت أرجاء مصر بمن صيّر مصر كلها جامعة
ولا يمكن في هذه العجالة أن نحيط بدور طه حسين في هذه الجريدة، وفضله عليها وعلى مهنة الصحافة العربية من بعده. فقد جعلها صوت مصر الوطني الحر – وهو وصوت طه حسين صنوان – لا تمنعه تبعيتها لحزب الوفد أن يكتب فيها ناعيا عدلي يكن عندما مات في باريس في 22 أكتوبر 1933. صحيح أن من يقرأ مقاله عنه يدرك كم هو نابع عن حزن شخصي عميق، وعلاقة وثيقة به دامت لسنوات، ولكن هذا الحزن لا يمنعه من التركيز على ما تمثله حياة الراحل من قيمة وطنية في المحل الأول: فهو عنده رجل أحب مصر، واحترم شعب مصر، ونزل دائما على أحكام الدستور الذي ارتضاه هذا الشعب. هذا فضلا عن أنه يفتح الجريدة لمثقفي العالم العربي ومناضليه يكتبون فيها كما هو الحال مع عبدالعزيز الثعالبي، الذي يضع قضية الشعب التونسي أمام قرائه في مصر. بل إن طه حسين نفسه يكتب أكثر من مقال فيها في رفض احتلال فلسطين ونصرة شعبها الذي يعاني – كشعب مصر تماما – من قهر الاحتلال البريطاني ومؤامراته على وطنهم.[45]
وسأكتفي بما كتبته عن دوره الصحفي في (كوكب الشرق)، ولن أتطرق إلى ما قام به بعدها، عندما ضاقت الصحفية بمطالبه الكثيرة، وضاق هو بها بعد عام من العمل المضني فيها، فاقترض ألف جنيه من بنك مصر وأصدر جريدته الخاصة التي يتحكم هو في كل شؤونها (الوادي) في ربيع 1934، وما جرته عليه التجربة من مشاكل، لأن السلطات الحاكمة كانت تضيق عليها الخناق، وتحث موزعي الصحف على حجبها، ولكنها واصلت مسيرتها في إرهاف الوعي، بل حتى في تحقيق التوازن المالي برغم كل الصعاب، حتى أغلقها بُعيد عودته للجامعة. كي أعود من جديد إلى معارك عودته إلى الجامعة التي فُصل ظلما منها. لكنني أود قبل الانصراف عن دور طه حسين في الصحافة السياسية أن أشير إلى ارتقائه بلغتها وبمنطق العمل والكتابة فيها. فقد حرر الكتابة السياسية من العبارات الرنانة أو الصياغات المثيرة للمشاعر، وكرس فيها استخدام الأسلوب المنطقي، ومخاطبة العقل، والإقناع بالحجة والبرهان المنطقي.
وكثيرا ما كان يضمن مقالاته إشارات إلى الأدب القديم أو الشعر والحكمة، كي يرتقى بتفكير القراء وذائقتهم.[46] بل إن الاهتمام بالجانب الثقافي في الصحافة، ومنح الأدب والثقافة مكانا مهما فيها كانا من أهم انجازاته منذ أشرف على القسم الأدبي في (السياسة) وحتى توسع فيه في كل من (كوكب الشرق) و(الوادي) من بعدها حتى أصبح من ثوابت الصحافة المصرية ، ثم العربية، من بعده. فضلا عن أن منهجه الذي رسخه عبر مسيرته تلك، وهو وصل القراء العرب بأفضل ما في أدبهم القديم من ناحية، وبما ينتجه الفكر الغربي الحديث من ناحية أخرى، مع الاهتمام بالإنتاج الثقافي المصري المعاصر وتمحيصه نقديا من ناحية ثالثة، ظل هو المنهج المثالي حتى اليوم. قد يميل البعض إلى جانب منه دون الآخر – وفق تحيزات أيديولوجية في الغالب – ولكن يبقى له فضل تحقيق التوازن الحساس بين هذه المجالات الثلاثة.[47] ناهيك عن منهجه الأهم في التعامل مع الثقافة العربية من المحيط إلى الخليج على أنها ثقافة واحدة، وفتح المجال أمام كتاب مختلف البلدان العربية من المشرق والمغرب للمساهمة فيها.
ولا يمكن لأي مؤرخ منصف لتلك المرحلة إغفال الدور الذي لعبته كتابات طه حسين السياسية في تعرية حكومة إسماعيل صدقي، وما تلاها أو سبقها من حكومات تفتقر للشرعية، ولا تلتزم بسعي مصر للتحرر من سلطة السراي، وتحقيق الاستقلال الكامل بجلاء القوات البريطانية عن مصر. لأن حكومة صدقي، برغم مواهب رئيسها السياسية ودهائه، سرعان ما سقطت، وانتهت معها ما دعته زوجته بسنوات المجاعة: «يجب التخلص من هذه الحقبة من حياتنا التي سمّيتها المجاعة. فقد استقال صدقي في سبتمبر 1933، وكان لهذا الإنسان الصلف كلمة بدت لنا عذبة الرنين: "إن الدكتور طه لا يُعوّض في الجامعة" كما صرح في مقابلة أجريت معه.»[48]
ولم تصمد حكومة خلفه عبدالفتاح يحيى التي جاهدت للحفاظ على دستور 1930 المرفوض أكثر من عام. لأن مقالات طه حسين السياسية التي كان يكتبها تحت عنوان «حديث الوادي» – والتي واصل فيها «حديث المساء» الذي كان يكتبه في (كوكب الشرق) – انهالت عليها بالتقريع، وعرّتها من أي شرعية في تمثيل صبوات الشعب المصري، أو تحقيق أمانيه في الاستقلال والحرية. حيث يؤكد طه حسين «أن أكبر عقبة تعوق طريق التقدم في مصر هي استمرار احتلال بريطانيا للبلاد. ... فإذا شكت الوزارة القائمة من أن بريطانيا تتدخل في موضوع الدَّيْن العام تدخلًا يعرِّض استقلال مصر للخطر، فالوزارة هي التي عرَّضته للخطر؛ لأنها قبلت تدخل الإنجليز منذ ارتقت مناصبها. إذا كان الاستقلال في خطر حقا فيجب أن يتنحى هؤلاء السادة عن ميدان الجهاد؛ لأنهم لا يصلحون لميدان الجهاد، إنك لا تجني من الشوك العنب.»[49]
عود على معركة استقلال الجامعة:
ولما ترتكب حكومة عبدالفتاح يحيى نفس الخطأ القاتل الذي اقترفته حكومة سلفه – صدقي – في في حق طه حسين، بفصلها لعبد الرزاق السنهوري من كلية الحقوق، تجد افتتاحية طه حسين في صحيفته (الوادي) لها بالمرصاد، تدافع عن السنهوري وعن استقلال الجامعة معا. فيكتب طه حسين: «تستقبل الجامعة عامها الجديد، فإذا أحد أعضائها الممتازين المتفوقين قد أُقصي عنها، هذا العضو هو الأستاذ السنهوري، أُخذ بالريبة، وعُوقب بالشبهة، وحُكم عليه بالظن … وكان قرار فصله إهانة صارخة للجامعة التي لا ينبغي أن يُفصل أعضاؤها بغير أن تُستشار. ... أن الفوز للسنهوري ولأمثاله من المظلومين آخر الأمر، فلينتظر هذا الفوز، فليس مقدمه بعيدا.» وقد صدقت نبوءته، لأنه لم تمض على هذا الفصل ثلاثة شهور حتى عاد السنهوري إلى كليته محمولا على أعناق طلابه ومناصريه.
فقد سقطت وزارة عبد الفتاح يحيى بعد فصلها له بعدة شهور، وما أن يتولى توفيق نسيم الحكم في نوفمبر 1934 حتى يقنع الملك بالتخلي عن دستور 1930، وإن لم يتمكن من إقناعه بإعادة دستور 1923. ويستطلع توفيق نسيم رأي الانجليز في إعادة لطفي السيد وطه حسين للجامعة، فيوافق الانجليز على عودة لطفي السيد، ولكنهم يرفضون عودة طه حسين – التي تكشف تقاريرهم عن أنه أكثر عداءً لهم من لطفي السيد، وأكثر راديكالية في تأليب الرأي العام ضد وجودهم المرفوض في مصر. يقول الباحث الأمريكي دونالد ريد – في تأريخه المهم لجامعة القاهرة – «إن طه حسين أثناء حملته الصحفية الطويلة في (كوكب الشرق) الوفدية ضد حكومتي صدقي وعبد الفتاح يحيى، قد انخرط في الهجوم القاسي على الانجليز وتحريض الشعب المصري ضدهم. وحتى هاجم كتاب الكابتن كروزويل، الاستاذ المساعد للعمارة الإسلامية في كلية الآداب، على أساس أنه يحتوي على عبارات معادية للإسلام.»[50]
والواقع أن لطفي السيد رفض العودة لإدارة الجامعة، برغم طلب توفيق نسيم، إلا بعد أن يتلقى من الحكومة تأكيدا بألا تمس أيا من أساتذتها بالنقل أو الفصل أو أي إجراء تأديبي دون موافقة الجامعة. كما أنه طالب توفيق نسيم بالإلحاح على الانجليز لإعادة طه حسين أولا. ولم يصمد رفض الانجليز أمام إلحاح توفيق نسيم فوافقوا على إعادة طه حسين للجامعة أستاذا، دون أن يتقلد منصب العمادة من جديد. وما أن أعلن توفيق نسيم الخبر، حتى توجه الأساتذة والطلاب جميعا إلى منزل طه حسين في الزمالك يوم 16 ديسمبر 1934، ويحملونه على الأعناق في مظاهرة حاشدة حتى يدخلونه مكتبه في الجامعة. وقد أحصى الطلاب أيام غيبة أستاذهم وعميدهم عن كليته فإذا هي قد تجاوزت الألف يوم (فقد زادت على عامين وتسعة أشهر).[51] وما أن يعود للجامعة – رئيسا لقسم اللغة العربية فيها – حتى يحيل القسم إلى شعلة من النشاط الإنتاجي العلمي من جديد. وكان قد وضعه على الخريطة الدولية بمشاركاته في المؤتمرات الدولية العلمية في بروكسل، وأكسفورد، وروما، وباريس وغيرها. فهو من القلائل الذين يتسمون بغزارة الإنتاج، ويدفعون من يعملون مهم للاقتداء بهم وتحفيزهم على الانتاج والعمل.[52]
وتتأخر عودة أحمد لطفي السيد إلى إدارة الجامعة إلى أبريل عام 1935، حتى أوفت وزارة توفيق نسيم بعهدها معه، وصدر القانون رقم 96 لسنة 1935 الذي ناضل طه حسين وأحمد لطفي السيد لإصداره حفاظا على استقلال الجامعة. وظل حافظا لاستقلالها حتى إصدار القانون المعيب رقم 128 لسنة 1953 الذي نظم لجان تطهير الجامعة بعد وصول «حركة الضباط الأحرار» للسلطة في مصر، وبدأ في الإجهاز على استقلالها، مما وضعها على طريق الانحدار البطيء الذي أوصلها إلى ما بلغته الآن من حضيض. وفي صيف 1935 يسافر طه حسين مع أسرته إلى فرنسا بعد غيبة السنوات العجاف، مواصلا العمل في )على هامش السيرة( حتى أكمله. فنحن نعرف – مما كتبه وما كتبه أقرب الناس إليه – أنه كان يستخدم شهور الصيف في الريف الفرنسي أو الاوروبي الهادئ للكتابة وإكمال كثير من المشاريع البحثية التي كان قد انشغل بها وجمع مادتها أثناء العام الدراسي، بعيدا عن الانشغالات العامة التي كانت تلتهم الكثير من وقته وطاقته في مصر.
ويحضر أثناء رحلة الصيف تلك مؤتمر المستشرقين في روما في سبتمبر 1935 – وفي أوج الحكم الفاشي، بعد أن احتلت إيطاليا أثيوبيا في ذلك العام، وكانت بالطبع قد تمكنت من السيطرة الكاملة على ليبيا التي احتلتها منذ عام 1911 بقضائها على المقاومة بها مع إعدام عمر المختار في سبتمبر 1931. وقد مكنته زيارة روما تلك من التعرف عن قرب على طبيعة الحكم الفاشي الفظ في إيطاليا، وهو يشاهد – مع مصطفى عبدالرازق – بعد خروجهما من اجتماعات المؤتمر «تجمع الشباب الفاشتي يتظاهر في الشوارع بحماس وتهور تأييدا لغزو موسوليني للحبشة.» وأرهفت هذه الخبرة المباشرة نقده الحاد للفاشية، ورفضه لها وللنازية التي صعدت بعدها، وقد نعود لذلك فيما بعد.[53]
لكنه بعدما عاد لمصر في الشهر التالي، وجد أنها قد ضاقت بتردد توفيق نسيم وحيرته، بين إرضاء الملك الذي يريد الاستئثار بكل السلطات،[54] وممالأة الانجليز الذين ساهموا في الإطاحة بسلفه عبدالفتاح يحيى، لانصياعه الكامل للملك دون الرجوع إليهم. وحينما أعلن وزير الخارجية البريطاني صامويل هور في خطاب له في نوفمبر 1935رفضه عودة دستور 1923 الذي يطالب الجميع بعودته، وجمعه إياه مع دستور 1930 باعتبارهما معا لا يصلحان للعمل بهما في مصر، اندلعت المظاهرات الشهيرة التي طالبت بسقوط «هور ابن التور!» والتي لم تشهد البلاد مثلها منذ ثورة 1919. واضطر الانجليز لاستخدام الرصاص الحي فيها، وفُتِح كوبري عباس الشهير لمنع المتظاهرين من الوصول للقاهرة، وقتلوا طالبا من كلية الآداب، حُفر اسمه في ضمير الحركة الوطنية المصرية هو «عبدالحكم الجراحي»، سرعان ما تحول إلى راية لمزيد من المظاهرات والعصيان، وانضم الوفد وبقية الأحزاب الوطنية في جبهة موحدة اضطرت توفيق نسيم إلى إعادة دستور 1923. بل اضطرت الملك والانجليز مع تصاعد المظاهرات المعارضة إلى تعيين علي ماهر في 20 يناير 1936 رئيسا لحكومة محايدة، نظمت انتخابات حرة في مايو من العام نفسه.
وأسفرت هذه الانتخابات بالطبع عن فوز الوفد بالأغلبية – وجاءت نتائجها لحسن حظ الملك فؤاد عقب وفاته في 28 أبريل 1936، وهي الوفاة التي جنبته تلقي الصفعة الأخيرة بفوز خصمه اللدود (حزب الوفد). وتحسبا للمهانة، أو الصفعة القادمة، التي ستلحق بعميد كلية الآداب – د. منصور فهمي – كان آخر قرار يصدره علي ماهر – قبل أن يسلم الحكم لحكومة الوفد الفائزة – هو محاولة إنقاذه من الهوان الذي لابد سيلحق به، بأن عينه مديرا لدار الكتب المصرية. وكان توقعه صحيحا، لأن أحد أول القرارات التي أصدرتها حكومة النحاس الجديدة كان إعادة طه حسين إلى موقعه عميدا لكلية الآداب، مع منحه لقب البكوية أيضا.
وفي هذا العام 1936 وبعد عودته المظفرة إلى عمادة الكلية التي فُصل ظلما منها، تنفس الصعداء قليلا، ودفع بجهود الكلية للتطور والتقدم في شتى المجالات، وحث على تدريس المزيد من اللغات والآداب بها، وعلى مشاركة أساتذتها في المؤتمرات العلمية الدولية، كي يضع الجامعة على خريطة العالم باقتدار وندية. وشجع باحثي المصريات الشباب: سامي جبرة وسليم حسن على التنقيب عن الآثار حماية لتاريخنا وآثارنا من نهب المنقبين الأجانب. وأنشأ نظاما جديدا للمعيدين، للاستفادة من الشباب النابهين وإعدادهم للبعثات. وفي هذا العام أيضا انتقل إلى بيت شارع البارودي الذي أصبح شارع سكوت مونكريف بالزمالك. وهو البيت الذي عاش فيه أخصب سنوات حياته حتى انتقل إلى رامتان عام 1956،[55] وأصبح له فيه وبانتظام صالون ثقافي اسبوعي – ينعقد كل أحد – يتردد عليه مزيج راقٍ من أساتذة الجامعات والكتاب والشعراء والرسامين والدبلوماسيين والأطباء والممثلين من مصر، ومن غيرها من بلدان العالم الغربي والعربي على السواء. وتطرح فيه الكثير من الأفكار التي تدفع الحياة الجامعية والثقافية، بل وحتى المسرحية للأمام، وينتج عنها ما دعته زوجته: «حجارة جديدة من أجل البناء الذي كان طه يتابع إنشاءه بكتبه ونشاطه. حجارة جديدة للآخرين أيضا.»[56]
[1] . كان جوس سيرفي أستاذ اللغة اللاتينية والآداب الكلاسيكية بكلية الآداب في جامعة القاهرة، وكان الدكتور دوويه طبيبا في المستشفى الفرنسي بالقاهرة.
[2]. راجع سوزان طه حسين (معك)، ص 116.
[3] . راجع سوزان طه حسين (معك)، ص 116.
[4] . دعنا أيضا نتوقف عند شرائها لتلك الهدية لزوجها، الذي ضحى من أجلها وأجل طفليه وأرسلهم دونه إلى فرنسا لاسترداد صحتهم: ركبت الباص الذي يسير على خط «كليشي أوديون «Clichy-Odéon وكان مسار هذا الخط يسرني ويؤدي إلى صائغ في جادَّة الإيطاليين. فعلتُ ذلك في اليوم العظيم الذي اشتريت فيه «اللونجين «Longines وهي الساعة التي حملها طه دومً معه حتى اليوم الأخير. كانت هذه الساعة باهظة الثمن، وكان شراؤها بالنظر إلى وضعنا المادي يُعتبَرُ عملًا جنونيٍّا. ولقد كنتُ مجنونة في الواقع، مجنونة فرحًا. وعندما سطا اللصوص على دارنا «رامتان» في الربيع الماضي، كانت الساعة من جملة ما سطوا عليه. لقد آلمني ذلك أكثر من أي شيء آخر. وكان عذابي من الوضوح بحيث إنَّ ضابط البوليس المكلف بالتحقيق قال لي: «سوف أعيدها لكِ، أقسم لكِ أنني سوف أعيدها لكِ». ولقد أعادها لي فعلًا … فليباركه لله (معك ص 66) ولا يفوتني هنا أن عيناي قد دمعتا حينما قرأت هذه الكلمات، خاصة وأنني أعرف مسار هذا الأتوبيس رقم 39 وطالما تسكعت في جادة الإيطاليين في الحي الثاني بالقرب من دار الكتب والوثائق القومية الفرنسية القديمة في باريس، وقبل نقلها إلى مقرها الجديد الذي بني في أواخر الثمانينيات – في عهد ميتران – في الحي الثالث عشر على النهر، وإطلاق اسم ميتران عليها.
[5] . لم يصدر كتاب (معك) بالفرنسية – وهي اللغة التي كتبته بها مؤلفته – إلا عام 2011، بعد رحيلها في 26 يوليو 1989 ودفنها في مصر بلد طه حسين، أي بعد 34 عاما من نشره بالعربية.
[6] . يخبرنا مترجم الكتاب، بدر الدين عرودكي، أن سهيل إدريس صاحب (الآداب) حينما عرف بأمر الكتاب أراد نشره بإلحاح، ولكن سوزان طه حسين – وكأنها تعي أن كتابها جزء من مشروع العميد – أصرّت على أن تصدر طبعته العربية الأولى عن (دار المعارف) ناشر جل كتب طه حسين. راجع مقدمته لطبعة مكتبة هنداوي التي اعتمدنا عليها هنا.
[7] . سوزان طه حسين (معك) ص 20.
[8] . راجع محمد حسن الزيات (ما بعد الأيام) ص 59.
[9] . كان الوزير علي الشمسي، والنائب الوفدي عباس محمود العقاد أبرز المدافعين عن طه حسين في مجلس النواب وقتها، حينما كان سعد زغلول ومعه أغلبية الأعضاء ضده.
[10] . النص الكامل للخطاب: حضرة صاحب المعالي وزير المعارف العمومية …الآن، وقد تم تعيين العميد لكلية الآداب، وانتهت هذه القصة التي لم أردها والتي لقيت منها من الألم المُمِضِّ ما لم أستوجبه، ولا أراه يلائم كرامتي؛ أتشرف بأن أرفع إلى معاليكم أصدق الشكر وأخلصه لما تفضلتم به عليَّ من عطف وثقة. وإني أرجو من معاليكم أن تتفضلوا بنقلي إلى أي عمل علمي آخر في غير كلية الآداب التي أصبحت أجد مشقة كبيرة في البقاء فيها. طه حسين. ويزور علي الشمسي باشا الدكتور طه حسين في بيته يعاتبه، ويقنعه بالعدول عن طلبه؛ إن العميد الفرنسي مسيو "ميشو" غائب عن مصر في الوقت الحاضر، والوكيل غائب أيضًا، وسيستمر طه حسين في القيام بعمل الوكيل بالنيابة عن العميد حتى يعود واحد منهما إلى الكلية. راجع (مابعد الأيام) ص 60.
[11] . مثل أحمد أمين، أو محمد عوض محمد، أو إبراهيم مصطفى وغيرهم.
[12] . مثل عباس محمود العقاد، وأحمد حسن الزيات وصديقه محمد المرصفي الذي شجعه على تأسيس مجلة (الجديد)، وفكري أباظة، ومحمود عزمي وواصف بطرس غالي
[13] . يعتبره كثير من المؤرخين ممثل البرجوازية ورأس المال الاجنبي في مصر، وأعتبره أول من أرسى آليات وخطاب تزوير الانتخابات واحتواء المعارضين وشرائهم وغير ذلك من الممارسات التي تفشت في مصر بعد حركة الضباط الأحرار عام 1952.
[14] . المرجع السابق، ص 73.
[15] . المرجع السابق، ص 73.
[16] . وكان الملك قد حاول من قبل استقطاب طه حسين فطلب مقابلته بعدما عرف برفض الجامعة لزيادة مرتبه بعد رفض عمادته الأولى وترقيته، راغبا منه أن يلجأ إليه عند الحاجة، لكنه رفض ابتلاع الطعم المسموم الذي مده إليه الملك، وحرص على كرامته واستقلاله.
[17] . لمعرفة المزيد عن وقائع هذا اللقاء وما عُرض على طه حسين فيه من عرض تلو الآخر كان يرفضها جميعا، مراجعة (مابعد الأيام) ص 72 – 75.
[18] . محمد حسن الزيات (مابعد الأيام) ص 75.
[19] . لاحظ حرص الوزارة على أن تضع عددا من الأجانب يمثلون أهم البلدان الأوروبية في القائمة، كي ترفع بمجرد وجودهم قيمة ما تسبغه على أنصارها من مكانة من ناحية، وإرضاء للإنجليز الذين كانوا يصرّون على وجود الأساتذة الأجانب، والانجليز منهم خاصة في الجامعة وفي مناصبها القيادية من ناحية أخرى. مع أنها لا تحترم نفسها حتى في هذا المجال، ولا يهمها إن كان ثمة متسع من الوقت لاختيارهم وإعلامهم وحضورهم لمصر لتلقي تلك الشهادات، وهو الأمر الذي يصون كرامة الجامعة والذي أثاره طه حسين ضمن اعتراضاته الكثيرة على استخدام الجامعة بهذا الشكل الفج.
[20] محمد حسن الزيات (مابعد الأيام) ص 76.
[21] . سيجعل طه حسين استصدار هذا القانون الذي رفضه محمد حلمي عيسى بين أهدافه الأساسية لتحصين الجامعة وأساتذتها وتأكيد استقلالهم، ولن يهدأ له بال – ومعه أستاذه وصديقه العزيز أحمد لطفي السيد – حتى يصدر هذا القانون، وهو القانون رقم 96 لسنة 1935 فيما بعد.
[22] . كان من الاسماء التي اقترحها طه حسين: عبدالعزيز فهمي وعلي الشمسي اللذان وضعا حجر الأساس للمبنى الذي قدم الملك لافتتاحه، ناهيك عن تكريم أسماء الراحلين مثل قاسم أمين ومحمد فريد وسعد زغلول، برغم عداء سعد زغلول الطويل له.
[23] . راجع اسماعيل صدقي (مذكراتي)، القاهرة، 1950، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، 2014، ص 67-77.
[24] . كتب المندوب السامي البريطاني بالقاهرة، سير بيرسي لورين في 3 مارس 1932، تقريرا لحكومته عما حدث من إحراج للملك وللوزارة، وأبلغها أن المسؤول عن هذا الإحراج هو طه حسين.
[25] . التعليم الأولي هو الاسم القديم للتعليم الابتدائي حاليا: حيت كانت مراحل التعليم هي: الأولي لمدة أربع سنوات، ثم الابتدائي لأربع سنوات أخرى تنتهي بالشهادة الابتدائية، ثم الثانوي الذي يؤدي بعد ثلاثة أعوام إلى شهادة الثقافة، وبعد عامين آخرين إلى التوجيهية أوالباكالوريا، وهي التي تعادل الباكالوريا الفرنسية. راجع محمد حسن الزيات (مابعد الأيام) ص 77.، وقد نشر الخبر في (المقطم) يوم 3 مارس 1932.
[26] . لمن يريد الاطلاع على نص خطبة طه حسين فيهم عندما خرج لهم يرد على دعمهم له في موقفه ذاك، راجع (مابعد الأيام) ص 83-83.
[27] . كان مقر كلية العلوم هو قصر الزعفران في العباسية، والذي أصبح فيما بعد مقر جامعة عين شمس، بينما كانت كلية الطب في مقرها التاريخي بالقصر العيني، وقد نسق الطلاب انطلاق المظاهرات من هناك بعدما حاصرت شرطة صدقي مبنى الجامعة الجديد في الجيزة.
[28] . (مابعد الأيام) ص 79.
[29] . (معك) ص 92 ولما بعدها لمراجعة المزيد، وكيف تم النقل العشوائي وتأثيره على أسرته وقتها وشجاعتها في تحمل أثر ذلك كله.
[30] . كان طه حسين أول مبعوث مصري – من بين من بعثتهم الجامعة قبله أو معه – يحصل على درجة الليسانس في الآداب عام 1917. راجع (الأيام) الجزء الثالث، ص 460-462، وسامي الكيالي (مع طه حسين) القاهرة، سلسلة إقرأ رقم 112، دار المعارف، 1952، ص 38.
[31] . راجع الفصل 16 من الجزء الثالث من (الأيام)، وفيه إشارة إلى ما أثارته رسالة الدكتوراه التي قدمها قبله منصور فهمي إلى جامعة باريس عن (وضع المرأة في الإسلام) عام 1913 والضجة الكبيرة التي ثارت حولها، ومنع على إثرها من التدريس بالجامعة لسنوات حتى أعاده إليها عبدالخالق ثروت باشا بعد ثورة 1919. وقررت الجامعة بعدها أن يوقع طلاب البعثات على تعهد «بألا يقدم رسالة إلى جامعة أجنبية، مهما يكن موضوعها، إلا بعد أن تقرأها الجامعة المصرية وتأذن في تقديمها. وكان الصديق الكريم الدكتور منصور فهمي هو الذي اضطر الجامعة إلى أن تأخذ طلابها في أوروبا بأن يعطوا على أنفسهم هذا العهد» (الأيام) لبحزء الثالث ص 464.
[32] . بالرغم من أن هذا المرتب يبدو كبيرا جدا بمعايير ذلك الزمن، فقد كان مرتب خريج الجامعة الذي يعين بالحكومة على الدرجة السادسة الإدارية هو 8,5 جنيه مصري في الشهر. وبالرغم من أن أحمد ضيف الذي عين قبله كان مرتبه نصف هذا المبلغ أي 16 جنيها في الشهر، وقد طالب فيما بعد بتسويته بطه حسين، ونجح في استصدار القرار الذي ضاعف به مرتبه. إلا أن طه حسين ظل يلح باستمرار على رفع مرتبه، لأنه أعمى ويحتاج إلى أكثر من سكرتير – عربي وأجنبي – وقد تتبع دونالد ريد هذا الأمر بشيء من التفصيل في كتابه المذكور عن الجامعة (راجعDonald Malcolm Reid, Cairo University and the Making of Modern Egypt، ص 82-85.
[33] . بل وكان عليه دوما – بسبب عاهته – أن يوظف منه سكرتيرا ليقرأ له ويكتب ما يمليه عليه، فضلا عن قارئة أخرى للغة الفرنسية في كثير من الأحيان.
[34] . تقول زوجته « ثم وقعت المحنة من جديد في مارس 1932. ومرة أخرى يدفع طه غالبا ثمن جريمة أن يكون إنسانا حرّا. والحق أنه لم يكف أساسا على الإطلاق عن دفع هذا الثمن، إلا أنهم كانوا يريدون سحقه هذه المرة. إذ لم يكتفوا بطرده من الكلية التي كان عنوانا لعزتها وكرامتها وقوة نابضة فيها، وإنما أرادوا أيضا إحراق كتبه. فأخذوا منه بيته الذي يسكن فيه، وأغرقوه بالشتائم، وحاولوا أن يحرموه من كل وسيلة للعيش بمنعهم مثلا بيع الصحيفة التي كان يصدرها، وبإنذارهم البعثات الأجنبية في مصر بالكف عن أن تقدّم له عروضا للعمل.» راجع (معك) ص90 ثم 95 و 97.
[35] . ما أن تمر عدة شهور على هذه المحنة حتى يبدأ في إملاء أولى فصول كتابه المهم (على هامش السيرة).
[36] (معك) ص 92 و 93.
[37] . (مابعد الأيام) ص 82.
[38] . (معك) ص 92.
[39] . (مابعد الأيام) 85.
[40] . للمزيد من التفاصيل راجع تقديم محمد سيد الكيلاني لكتاب طه حسين (حديث المساء)، القاهرة، دار العرب للبستاني، 1983، والذي جمع فيه مقالات طه حسين التي كانت تصدر في باب بعنوان حديث المساء في جريدة (كوكب الشرق)، ص 15.
[41] . هو (سعد زغلول: سيرة وتحية) 1936.
[42] . (مابعد الأيام) ص 86. وكذلك (حديث المساء) وفيه النص الكامل للمقال، وغيره من مقالات (كوكب الشرق) التي انتهجت طريق العنوان المكون من كلمة واحدة.
[43] (معك) ص 95.
[44] . (مابعد الأيام) ص 86-90.
[45] . راجع على سبيل المثال مقاله الرئيسي يوم ١٨ أكتوبر سنة ١٩٣٣ الذي كتبه عن فلسطين، يستنكر ما ينزله الإنجليز بأهلها من مظالم، ويقارن ذلك بما أنزلوه من الظلم بمصر، وينبه إلى أن تضامن مصر مع فلسطين هو صالح مشترك، يلحُّ في الدعوة إليه وينذر بالعواقب الخطيرة التي سيشهدها المستقبل إن نحن قصرنا فيه. (مابعد الأيام) ص 90.
[46] . وقد أصبح هذا الأسلوب البسيط والمثقف معا مطلب كل صحفي نابغ يحلم بالتحقق في الصحافة أو الارتقاء بها، من محمد التابعي وكمال الشناوي وحتى إحسان عبدالقدوس وأحمد بهاء الدين ومحمد حسنين هيكل.
[47] . لم تكتف صفحات القسم الأدبي للصحيفتين أثناء إدارته لهما، بمساجلاته الأدبية والفكرية مع معاصريه فحسب كما كان الحال في جل الصحف الأخرى، وإنما ظهرت فيما كتابات أسماء جديدة شابة تنشر لأول مرة في مجالات ثقافية مختلفة أصبح لها شأن كبير فيما بعد مثل كامل الشناوي، وسهير القلماوي ويحيى الخشاب وخليل يحيى نامي وسيد قطب ومحمد حسن الزيات ومحمد عبدالمعطي المسيري وآخرون.
[48] . (معك) ص 104.
[49] (ما بعد الأيام) ص 92.
[50] . راجع Donald Malcolm Reid, Cairo University and the Making of Modern Egypt ص 124. والواقع أن هذا الباحث الأمريكي المجتهد – فكتابه عن جامعة القاهرة من أفضل ما كتب في تأريخها – لا يفهم منطلق طه حسين، ويعتبر أن معاداته لكل ما هو استعماري، بما في ذلك الكابتن كروزويل الذي هاله نقد طه حسين له، نوعا من التعصب much xenophhbia and anti-British attacks. حسب تعبيره، وإن كان في الواقع استشراف مبكر لما سنعرفه فيما بعد بثقافة ما بعد الاستعمار. لأن الكابتن كروزويل Keppel Archibald Creswell (1879-1974) والذي وفد إلى المنطقة مع جيش اللينبي الذي احتل فلسطين أثناء الحرب العالمية الأولى هو مستشرق بامتياز بالمعنى الذي بلوره إدوار سعيد، برغم قيمة جهده التوثيقي الكبير للعمارة الإسلامية في مصر. فقد كان شغوفا بالعمارة الإسلامية منذ صباه وتعلم الرسم الهندسي المعماري لهذا الغرض، ثم انضم للجيش، وأنفق عشرات السنين في مصر يعمل على مشروعه لتوثيق الآثار الإسلامية، والذي رعاه الملك فؤاد منذ أن عرضه عليه، فعينه في الجامعة المصرية عام 1931، وقدم له 800 جنيه لمواصلة العمل على مشروعه التوثيقي بالرسم والدرس والتصوير لأثار مصر الإسلامية. وهو عمل كرس له بقية حياته، وصدر الجزء الأول منه عام 1932، وهو الذي يشير دونالد ريد إلى نقد طه حسين له. ولكنه استمر في إصدار أجزائه الستة المتتابعة حتى وفاته عام 1974. وقد عمل في جامعة القاهرة حتى عام 1951، ثم انتقل للعمل في الجامعة الأمريكية بالقاهرة عام 1956. وأمضى بقية حياته في القاهرة، ولم يغادرها إلا في العام الأخير حينما تضعضعت صحته، فعاد إلى بريطانيا ومات فيها بعد عودته بشهور. وتيرع بمكتبته الضخمة وآلاف الصور التي وثق فيها عمارة مصر الإسلامية لجامعة القاهرة. ويعد عمله الضخم الذي يتجاوز ألفي صفحة، وبه مئات الرسوم، أهم مرجع لدراسة العمارة الإسلامية. لكنه لايزال عملا تكتنفه مسحة استشراقية أرجو أن يتاح لها من الدارسين ما يعيد تفكيكها لأهمية إنجازه.
[51] . كان طه حسين هو الآخر – مثله في ذلك مثل تلاميذه – يعد الأيام التي فصلته عن الجامعة، ويتشوق للعودة إليها. حيث يقول حينما هتف الطلاب يريدون أن يخرج إليهم ليروه في كليته، ويسمع خطب فرحتهم بعودته، وقصائد شعرائهم بالترحيب بتلك العودة، إذ قال ردا على خطبهم «أصدقائي الأعزاء، الحمد لله الذي أتاح للأسرة الجامعية أن يجتمع شملها بعد الغربة. ولست شاعرًا كهذين الشاعرين اللذين سمعت منهما الآن أجمل الشعر وأروعه — ويسكت قليلًا ليضيف وهو يبتسم ابتسامته — وإن كان هذا الشعر يحتاج إلى النقد. ويستأنف حديثه، بعد أن يسكت ضحك المستمعين المغتبطين بعودة أستاذهم إليهم ينقد ما يكتبون من الأدب وما ينشدون من الشعر،: فيقول لست شاعرًا ولو كنت شاعرًا لوصفت لكم وصفًا صادقًا العواطف التي كانت تملأ قلبي منذ أكثر من عامين، شوقًا إلى الجامعة وإلى أهل الجامعة وحرم الجامعة، والعمل في الجامعة، ولقلت لكم، بصراحة وسذاجة أيضًا إنني كنت أتجلد حين كنت بعيدًا عن الجامعة، وقديمًا قال أبو ذؤيب: وتجلدي للشامتين أريهم/ أني لريب الدهر لا أتزعزع.» (مابعد الأيام) ص 95.
[52] . لمزيد من التفاصيل راجع الفصل المعنون «الاستاذ والعميد من جديد» في (مابعد الأيام) ص 97-121.
[53] . خاصة وأن تأثيرات صعود الأيديولوجيات الفاشية والنازية قد وجدت لها أرضا خصبة في مصر. حيث كوّن أحمد حسين وفتحي رضوان – وكان عمر كل منهما 22 سنة – حزب (مصر الفتاة) على غرار تلك الأيديولوجيات عام 1933، وكان أهم ما تميزت به (مصر الفتاة) هو شباب القمصان الخضر، واجتياحهم للشوارع والتجمعات. وهو الأمر الذي دفع الوفد إلى تأسيس تنظيم مشابه هو القمصان الزرق لمواجهة قمصان مصر الفتاة الخضر وفاشيتهم. وكان حسن البنا قد أسس قبلهما أول الحركات الفاشية في مصر، وهي حركة الإخوان المسلمين عام 1928، بتحريض واضح من الانجليز في سعيهم لشق الصف الوطني، وتأسيس تنظيم يستخدم الدين للعمل بين شباب الطبقات الدنيا والوسطى التي يستمد منها الوفد قوته وشعبيته. وأذكر هنا أن مرتب حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان بتعليمه المتوسط الذي أهله للعمل كمدرس في التعليم الأولي بمدينة الاسماعليلة عام 1927 كان خمسة وثمانين قرشا في الشهر، أي أقل من جنيه واحد، وأن شركة قناة السويس الانجليزية – وبإيعاز من السفارة البريطانية كما ثبت فيما بعد – قد منحته خمسمئة جنيه لينشئ جماعة الإخوان ومؤسساتها المختلفة، أي ما يزيد عن مجموع مرتبه في خمسين سنة. وسرعان ما أنشأت جماعته «تنظيما خاصا» وسريّا في داخلها، كانت أهم إنجازاته أنه وضع الاغتيالات في قلب الحياة السياسية المصرية، باغتيال المستشار أحمد الخازندار ثم أحمد ماهر ومحمود النقراشي من بعده.
[54] . فقد كان رئيسا للديوان الملكي لفترة طويلة قبل تكليفه بالوزارة.
[55] . وأصبح هذا البيت الذي سكنه في الزمالك، لعشرين عاما، أصبح الآن ملحقا بكلية الفنون الجميلة.
[56] راجع (معك) ص 111، وكذلك الصفحات السابقة واللاحقة التي تتحدث فيها عن تلك اللقاءات وعن بعض من تذكرت حضورهم الفعّال فيها من معممين ومطربشين وأجانب.