ربما لا يمكننا تصنيف هذا النص المدهش بارتياح، فالتناص حيلة بنائية أساسية ملهمة؛ لا يرد عبثًا اسم "بورخيس" وقصته "مكتبة بابل"، يتصاعد النص إلى للطبقة السابعة حيث "وحيد الزمان"، مهندس المكتبة التي هي "النص الخصيب"، والسرديات الكبرى، أما الواقع فهو سرد يعاد تشكيلة إلى ما لانهاية.

رواية العدد

المكتبة الافتراضية

صـادق الطـريحي

 

من المؤسف أنّ الكثير من قرّاء الرواية، وربما القرّاء جميعاً لم يشاهدوا المكتبة الافتراضية عياناً، ولم يسعوا بين طبقاتها السبعة، ولم يتلمسوا آجرّ جدرانها المشويّ في كور بورسبّا، ولم يتأملوا استدارة أروقتها، أو صلابة مصاطبها الحجرية التي جلبت من الجبال، ولم تغتسلوا أنتم، أو أطفالكم في حماماتها ذات الماء الساخن، ولم تشربوا من آبارها الطيبة، ولم يكلف أحدكم أن يجرب الكتابة على ألواحها المصنوعة من الطين الحرّيّ، وقد تلف بعضها الأن نتيجة سوء الخزن مع الأسف الشديد، أمّا الناس في هذه الأيام فلم يسيروا في ممراتها المبلطة بالفرشيّ[i] المزجج، ولم يجلسوا في قاعة المطالعة المخصصة للسواد الأعظم من الناس، أو القاعة المخصصة لأولاد المدرسة، حيث تشملها رائحة أزهار الحدائق المحيطة بها بعطر الرازقيّ، ويدخل إليها الهواء البارد عبر نظام (البادكير) ويدخل إليها الضوء عبر نظام المرايا المتقابلة المثبتة بزاوية 45 درجة، بلْ إنكم لم تتجولوا في حجرات المكتبة، أو مكاتب الأرشيف، أو غرف أهل الإحصاء، ولم تدخلوا مخازن الكتب، ولم تعرفوا نظام الاستعارة، وليست لديكم أدنى فكرة عن سجلات الفهرسة، ونظام تصنيف الكتب، ولم يلتق قارئ ما بالسيد عبد الشهيد الحلي مدير الإدارة، وهو يتفقد المكتبة فجر كل يوم، قبل أن يجلس في غرفته في الطبقة الرابعة، ثم يعود وقت الزوال للتأكد من تطبيق تعليماته وتوجيهاته التي لا تحتمل التأجيل.

وأخشى أنّ القانون الأساسي للمكتبة لم يصل إليكم، فقد رأيته منقوشاً على صفيحة من الحجر الأسود (الذي هبط إلينا من السماء) في واجهة قاعة الوفود، دون أن يعرف أيّ شخص ماذا حل به من مصير، وكان من طقوس المكتبة أنّنا نقبّل هذا الحجر ليلة رأس السنة، حيث العيد الكبير.

ومن المؤسف حقاً أنّ كل الطبعات التي نشرت لرواية النص الخصيب لم تقدم وصفاً سردياً مناسبًا للمكتبة، واكتفت بإشارات بعيدة لها، وكلي أمل أن تقدم الطبعة الأخيرة للرواية مثل هذا الوصف، وهي تحت الطبع الآن كما قيل لي.

أما الكتب التي تحدثت عن التصاميم الإنشائية والمعمارية للمكتبة فلم تصل لكم بكل تأكيد، وفي الكثير من الكتب تخطيطات هندسية، ومنظورات مجسمة لها، ومن مئات الكتب المتخصصة في المكتبة، وربما الآلاف، كتاب واحد فقط وصل لكم عنها لمؤلف أعمى يدعى خورخى لويس بورخيس بعنوان (مكتبة بابل).

أما أنا فذاكرتي مشوشة، وربما ما سأكتبه الآن يتقاطع مع مرويات أخر، فما زلت أتذكر أنّ أبي قد اصطحبني ذات صباح كانونيّ إلى المكتبة، إذ اعتاد أن يرتادها أيام العطل والأعياد، ذهبنا مباشرة إلى قاعة الكنزا، وهي القاعة المخصصة للفعلة والعمال والمهندسين الذين اشتركوا في تصميم المكتبة وبنائها، وهناك رأيت قرّة العين للمرة الأولى، فقد أحضرها والدها لرؤية المكتبة لا أكثر، وهناك شربت الماء من الكوز الذي شربت منه، بالكوب نفسه، فتذوقت فيه طعم التفاح، وما زال طعم التفاحة في فمي وأنا أكتب في هذه القصة، كما أنني رأيت للمرة الأولى أيضًا المهندس وحيد الزمان يحيى، أمين المكتبة، رأيته مهيباً، مباركاً بملابس العيد الزرقاء المصنوعة من الصوف الخالص، واقفاً في باب القاعة تحت شجرة السدر، ليشرف بنفسه على تقديم الفطور لرّواد المكتبة، فمن طقوسها أنّ المكتبة تقدم لروادها يومياً وجبة إفطار من حساء العدس، موضوعة في قدر كبير وتشعل تحته سيقان أشجار الآس وقشور الشلب، فتتجاوز رائحته البساتين والدور والأنهار حتى تصل أهالي بابل ...

ربت على كتفي ومسح بيده على رأسي، قائلاً لأبي:

- ما أجدر بابنك هذا أن يكون مشرفًا في المكتبة!

نظرت إلى وجهه السّماوي الجميل، كان مزيجاً من البياض والحمرة، وقد استعاض عن النظارات بعينين سوداوين صافيتين واسعتين، وكأنه صقر في ريعان الشباب، قلت في نفسي:

- هو وأبي في عمر واحد، فلماذا النحافة والسمرة في وجه أبي؟

أمسك بي أبي من يدي وضغط عليها بقوة، وكأنه ينبهني إلى خطورة ما أفكر به، أحسست به يتلعثم في كلامه، بل رأيت وجهه يحمر وهو يجيبه:

- لك الشكر، يا سيدي، هذا شرف كبير ستفتخر به أسرتنا، ولكنه يا سيدي، لمّا يدخل المدرسة بعد، وأمامه زمن شاسع، حتى يحسن القراءة والكتابة ... لقد جئت به إلى المكتبة آملاً أن يلتحق بمدرسة المكتبة ليكون من عمالها إذا كبر ...

فقاطعه وحيد الزمان يحيى بصوته الذي يشبه صوت انحدار الماء من جبل كوثا:

- ليست لديك القدرة على أن تتنبأ بالمستقبل يا عبد الله، ابنك هذا سيكون له شأن كبير في هذه المكتبة، لن يكون عاملاً فيها، سيكون كاتباً ممتازاً، وسيحمل الكتاب بيمينه، وربما سيتولى ختمها أيضًا ...

لم أفهم من حديثهما كثيرًا؛ لأنني كنت أمد بصري في أرجاء المكتبة، وما يحيطها من نخيل كثيف، وكأن كل البساتين ملك المكتبة، أو أنّ المكتبة هي ملك البساتين كلها، ولم يكن ثمة سور يفصل المكتبة عما جاورها، فحدست أنّ المكتبة هي مركز النص الخصيب ...

ترك أبي يدي واتجه مع يحيى وحيد الزمان إلى ناحية البستان الجنوبية، رأيت وحيد الزمان يشير بإصبع السبابة في يده اليمنى إلى جهة الصحراء وهو يتحدث، أما أبي فظل ينصت له باهتمام بالغ دون أن ينحرف بنظرته عن عينيه ...

فانطلقت متمشياً في الممرات الطويلة للمكتبة، متفحصاً الصور المعلقة على جدرانها، وهو المعرض الأول للمصور سين، ثم صار المعرض الدائم له كما علمت فيما بعد، لأنه كان يستبدل صوره دائمًا، أتذكر أنّني رأيت صورة لأبي وخلفه سفينة جانحة في الفرات.

ظن بورخيس أنّ قاعات المكتبة سداسية الأضلاع تتكرر بشكل لا نهائي «ومن أيّ قاعة مسدسة ترى الطوابق السفلية والعلوية: بلا نهاية». وأنّ أيّ قاعة منها تشكل مركز الدائرة، وهو محقٌ في ذلك، لاختلافات يسيرة في المصادر والمراجع التي استقى منه معلوماته، فضلاً عن حدسه، وهو المبصرُ في زمن أعمى.

لكنّ الحقيقة أنّ المكتبة مصممة على شكل زقّورةٍ[ii] هائلة بسبع طبقات فقط، مخصصة للشؤون الإدارية والفنية، أما قاعات المطالعة والخدمات فهي بثلاث طبقات تمتد متصالبة مع الاتجاهات الجغرافية وسط بستان أخضر يمتد حتى حافة الجزيرة. وعلى الرغم من انخفاض مستوى منسوب البستان؛ لوقوعه في واد ذي زرعٍ، فإن المكتبة تشاهد من أيّ مكان بعيد خارج النص الخصيب، وكأنها كعبة الناس هنا، بل هي الكعبة عند بعض كتبة هذه القصة.

في كلّ طبقة قاعة واسعة مثمنة الأضلاع بارتفاع يساوي ارتفاع قامة ونصف من قاماتنا، وبطول أربعة وثمانين متراً لكلّ ضلع من اضلاع المربع الرئيس في الطبقة الأرضية، ثم باثنين وسبعين متراً للطبقة الثانية، ثم بستين متراً للطبقة الثالثة ثم بثمانية وأربعين متراً للطبقة الرابعة، ثم بست وثلاثين متراً للطبقة الخامسة، ثم بأربعة وعشرين متراً للطبقة السادسة، ثم باثني عشر متراً للطبقة السابعة والأخيرة وهي غرفة أمين المكتبة.

وترتبط قاعات المطالعة بكلّ جهة من جهات المضلع، حتى الطبقة الثالثة بطول يساوي طول الضلع، وبعرض يساوي نصف طوله، ويمكنك الوصول إلى القاعات عن طريقين: إمّا من الباب الخارجيّ لكل جناح، وهو الباب الذي يدخل منه المطالعون، فضلاً عن السلّم الخارجي الذي ينتهي في الطبقة الثالثة، وإمّا من الباب الداخليّ لكل ضلع من اضلاع الباحة، وهو الباب الذي يدخل منه الكتبة، والمدّرسون والموظفون، وعمال التنظيف.

قسمت الطبقات إلى قاعات مثمنة متساوية المساحة، ورتبت الكتب والرفوف فيها كما هي في مكتبة بابل، ولكلّ قاعة كاتبة، أو كاتب يرتبط بالمشرف العام على الطبقة الذي يرتبط بالمهندس يحيى وحيد الزمان أمين المكتبة ... «وتضم المكتبة بالفعل كافة البنى اللفظية، كافة التنويعات التي تتيحها رموز الكتابة».

ولا أدري كيف صرت في قاعة الطبقة الأرضية الأوسع بأضلاعها الثمانية السميكة، ورفوفها التي تغطي الجدران الستة المتقابلة، رأيت الأبواب المقوسة المصنوعة من الخشب الذي جلب من غابة الأرز، وهي تؤدي إلى القاعات، رأيت السلالم الحجرية المتقابلة الصاعدة حتى غرفة أمين المكتبة، والهابطة حتى بستانيّ الحديقة، رأيت حجرة الكاتب في الممر الذي يفصل بين كل قاعتين، رأيت النقوش النباتية تزين جدران الممر، وفيما كانت غرفة نومه مغلقة، رأيته منهمكاً في نسخ كتاب أخبار النص الخصيب، فلم يلتفت لي.

يؤدي الجدار الشرقيّ إلى قاعات المطالعة مباشرة، فيما يؤدي الجدار الغربيّ إلى المدرسة الملحقة بالمكتبة، عبر ممرات أضيق قليلاً، ولم أعرف إلى أين يؤدي الجدار الجنوبيّ أو الشماليّ؛ لأنني صعدت السلالم بخفة طفل إلى الطبقة الأولى، فوجدت القاعة تشبه القاعة الأرضية تمامًا، لكن بمساحة أصغر، وحيث يؤدي الجدار الغربي إلى مخازن المخطوطات، فيما يؤدي الجدار الشرقي إلى قاعة الموسيقى، أما الجدار الشمالي فيؤدي إلى غرف القسم الداخلي للمدرسة، رأيت الموظفين والموظفات منهمكين في الكتابة في سجلات المكتبة، فسألني أحدهم إن كنت أحسن القراءة والكتابة!!

فقلت له بعد تردد بسيط:

- جئت إلى هنا كي أكتب هذه الرواية ... أنا الراوي الأول فيها!

سكت الموظف وعاد إلى عمله، أما أنا فقد صعدت السلالم مرة أخرى حيث القاعة تشبه الأولى، ولكن بمساحة أصغر، وجدت الموظفين والموظفات منهمكين أيضًا في الكتابة في السجلات، فسألني أحدهم إن كنت أحسن القراءة والكتابة!!

فقلت له بعد تردد بسيط:

- جئت إلى هنا كي أكتب هذه الرواية ... أنا الراوي الأول فيها!

سكت الموظف وعاد إلى عمله، أمّا أنا فقد صعدت السلالم مرة أخرى، لكنّ يداً قوية أمسكت بي، سحبتني بقوة من السلّم دون أن اشعر بقربها مني، كانت يد أبي وهو يلهث ...

- بني العزيز، من أوصلك إلى هنا!! لا يسمح للطلبة بالوصول إلى هذه الطبقة، لا أريدك أن تخسر وظيفتك.

- أأنا تلميذ في المدرسة ولا أعلم!! متى صرت تلميذاً يا أبي؟

- لقد بشّرني مولاي المهندس وحيد الزمان قبل قليل أنه قبل عشرة طلاب فقط ليلتحقوا بالمدرسة بعد العيد مباشرة، تعال معي بسرعة، هل رآك بعض الكتبة؟! ...

- أجل يا أبي، ولقد تحدثت مع بعضهم ...

- يا إلهي، كيف حدث هذا؟ كيف فلتّ من يدي؟ لو علمت أمّك لماتت! هل تعلم كم بحثت عنك، يا إلهي، ما أوسع المكتبة! ...

- ولكنها ليست متاهة كما يظن بورخيس يا أبي، تحتاج إلى بعض العلامات الإرشادية فقط ...

- بورخيس!! مَنْ بورخيس، أبنّاء هو أم فلّاح؟

لحظت إحدى الموظفات الجميلات (كلّ الموظفات في المكتبة جميلات وأنيقات) تغير مزاج أبي وعصبيته، فجاءت بنفسها لتقول له:

- عفواً سيدي، لم يرتكب ابنك مخالفة ما، التّجوال مسموح للطلبة هنا، عدا الدخول إلى غرفة أمين المكتبة كما تعرف.

أحسست أنّ وجهها مألوف عندي، وكنت أتوقع أنّ أبي يعرفها حتماً عندما أجابها بارتياح:

- شكراً جزيلاً، ابنتي الكريمة، شكراً لمعلوماتك، أرجو أن تسلمي لي على أهلك، لكنني لم أعرف من هو بورخيس، ظننته أحد الخارجين على القانون!!

ضحكت الموظفة قليلاً وهي تعدل في تسريحة شعرها الأسود، وقالت مستنكرة:

- خارج على القانون!!

ودعها أبي بأدبه واعتذاره، وسحبني عائداً بسرعة إلى الأسفل، ويبدو أنه لا يريد لوحيد الزمان أن يفتقده، فوجدناه واقفاً في مكانه وهو ينظر بحذر إلى جهة الصحراء، فخاطب أبي قائلاً:

- لا تخش على ابنك يا عبد الله، فاسمه يوافق اسمي!! هو في رعايتي، ولكن، ألا ترى تلك العجاجة!!

 

السارد سين

ما أجملَ ذلك اليوم! وما أطيبَ طعم هذا الماء، فما زال فمي بارداً مذ شربت من الكوب الذي قدمه لي في ذلك الصباح الكانونيّ الذي تعارفنا فيه، كان بقرب السّقاء الذي يجلب الماء من نهر الفرات، فسألني عن اسمي، قلت: قرّة العين.

فردد مع نفسه فرحاً: قرّة العين، قرّة العين ...

كنت في التاسعة من عمري، ولا أعلم أهمية أن أذكر في هذه الرواية كم هو عمري الآن، فيما ظل هو في العشرين، وهو عمره الذي توفي فيه، وقد تلوثت أوراقه بالدم الذي نفر من عنقه، ثم داستها أقدامهم الثقيلة المتسخة، ثم احترقت باللهب المتصاعد من المكتبة الافتراضية، فضاعت مني للأسف الكثير من فصول هذه الرواية.

لا أعلم ما المعايير التي اعتمدها وحيد الزمان يحيى لاختيارنا تلاميذًا له في المدرسة؟ لكنه أخبرنا في أول درس له أنه اختارنا كي يدرسنا السرد، فقد اكتشف أنّ درس السرد لم يكن له ذلك الحضور في المدرسة، مقارنة بدروس الهندسة أو الفلك، أو الزراعة، وأنّ الكثير من السرديات ضعيفة فنياً، وملتبسة ومتداخلة، وأنه يأمل منا أن نروي المكتبة سردياً عن طريق بناء فني جديد.

لبثنا في المدرسة اثني عشر عاماً، حتى وصلتها خيول خالد الحجاج، قرأنا معاً الكثير من السرديات، ورسمنا تخطيطات لأبنيتها السردية، وتأملنا رؤيتها، وأنساقها الثقافية المضمرة وتناصاتها، أما هو فقد زودنا بنسخ جديدة من بعض السرديات القديمة، وأملى علينا جزءاً من روايته (النص الخصيب) قائلاً لنا إنه ما زال يكتب فيها، وطلب منا أن نقدم تحليلاً نقدياً للرواية، بل طلب منا أن نتوقع نهاية مقنعة لها، ثم نحللها بعد ذلك. لكننا ما زلنا نتعجب من طريقته في التدريس؛ لأنه يأخذنا في كل عام إلى إحدى القرى، ويطلب منا أن نقدم وصفاً سردياً لها استناداً إلى وثيقة تاريخية يقدمها لنا، قال لنا ذات درس:

"سيأتي يوم ما وستمحى هذه القرى والمعابد، وسيقام بدلها معابد جديدة، فاكتبوا لي توقعاتكم في نص سردي مستقبلي، يعنى بالمكان ووظيفته، وبالبيئة وأثرها في الشّخصيات ..."

أما في قاعة الدرس فإنه يقضي معظم الوقت واقفاً مقابل جهة الصحراء، فينسى إلى أين وصل بنا الدرس حتى نذكره نحن، وفي بعض الأحيان كانت تأخذه سنة من النوم، وما زلنا نتعجب من طريقته في السرد؛ لأنه يكرر بعض سردياته دون أن يشعر، بل أنّ بعض المقاطع كانت تتناسخ تمامًا، أو باختلاف طفيف في حرف أو كلمة، أو جملة، وفي إحدى المرات انتبهت إلى بعض الأخطاء النحوية في النص!!

وعندما نسأله عن ذلك يبتسم لنا قائلاً:

- هذا بسببكم أنتم، فأنتم مَنْ تكتبون النّص، وتنسبوه لي!

 

مخطوطة النص الخصيب

تغيرت ملابسنا جميعاً هذا اليوم، ارتدت آنسات وسيدات فرقة الإنشاد زيّاً موحداً، هو الثوب الأبيض الطويل الذي يكشف عن الكتف الأيمن لهنّ، وقد نقشت عليه من الأسفل حتى الأعلى النخلة العراقية. أما رجال الفرقة فكانوا يرتدون زيهم الجنوبيّ الدائم، الدشداشة العراقية مع الشماغ الملفوف مثل عمامة كوديا، ومن الواضح أنهم كانوا ذاهبين إلى المسرح الصّيفيّ؛ حيث سيغنون هناك بعض الأغاني العراقية. أما موظفات المكتبة فكنّ الأكثر أناقة في العيد، فقد صبغن شعورهن بالحنة، ولبسن التنورات القصيرة، وتبرجت شفاههن بأقلام الحمرة الباهظة الكلفة، ومع ذلك كنّ يوزعن (الديرم)[iii] على الأخريات، أما عائشة فكأنها ما زالت في الثامنة عشرة من عمرها، بوجهها المتورد بحمرة شفيفة، وقد لبست الهاشمي الكردي الأزرق، فكأنها نجمة برتقالية وهي توزع أزهار الرازقيّ[iv] على الضيوف، وعندما وصلت إلينا قالت ليحيى مازحة:

- أما زلت لا تعرفني!! لن أعطيك الرازقي حتى تقول لي من أنا ..

   فأجابها بسرعة:

- أنت الزّهرة التي تستطيع أن تنبت في البادية، فيصل ضوعها إلى أقصى الحاضرة، كيف لا أعرف أجمل السيدات!

ويبدو أنها لم تلق من يتغزل بها مسبقاُ، ففرحت فرحاً عظيماً، وقالت له وهي تنظر لي مبتسمة:

- الرازقية في يدك، فتمتع بضوعها ...

أخبرني بصوت منخفض ونحن نتجول في عطلة عيد النيروز أنه استطاع أن يكمل كتابة الرواية، وهو واثق تمامًا من أنها تطابق ما كتبه وحيد الزمان، نصاً، ورؤية ً مستقبلية، كنت أرتدي ثوباً قصيراً بلون الحنة المعجونة، أرسلته لي أمي قبل العيد بأيام معدودة عندما قال لي:

- أحبك بهذا الثوب الحنيّ، سأسميك حنّة بابل في الرواية، وأرجو ألّا تبيحي بهذه السّر! هي كتابنا معاً.

أيّ نيروز مبارك هذا! فما أجملَ أن يبوح الرجل بالحب في مثل هذا اليوم ... لكنني لا أعلم أكنت غبية أم لا، عندما تجاهلت حديث الحب، وتواصلت مع حديث الدرس!! ...

- وكيف استطعت أن تنجزها بهذه السرعة! بل من أين لك مثل هذا اليقين! أتراك اقتحمت غرفة السيد المهندس وقرأت مخطوطته! ...

فقاطعني مبتسماً:

- بل سنقتحمها اليوم معاً، أنا وأنت، سنترك بصمتنا في رواية جديدة، سنختلف معه، لم يعد السرد حكراً على المركز ...

- لا، لا تقول معاً، أأنت أدهم في رواية (أولاد حارتنا) ولا أدري! ...

- رجاءً اخفضي من صوتك!! أنا لست أدهم، لقد احببتك مذ رأيتك في ذلك الصباح، في ملابسك الطفولية، أنت طفلتي الأولى في هذا العالم، حينها قررتُ أن تكوني أنتِ زوجتي، لكنّ أدهم المسكين كان مفروضاً عليه أن يتزوج منها، لا خيار أمامه في الرواية.

يا إلهي! أوصتني أمي ألّا أنتبه لأيّ حديث خارج الدرس، لكنّ هذه الكلمات الجميلة تجعلني أخالفها! بقيت صامتة، وهو ما زال يتحدث ...

- سأكتب عنك أجمل قصيدة حب في العالم، أنت قرّة عين السواد، والحب هو قدرنا المشترك، لذا علينا أن نعرف معاً ما مكتوب في المخطوطة ...

- لقد تنبأ وحيد الزمان أمام الطلبة جميعاً بقدرتك السردية، وهو يعرف نواياك الآن بلا شك ...

- لقد أنهيت الرواية ونحن معاً في غرفة وحيد الزمان نقلب في المخطوط، وهناك سأقبل يدك طالباً الزواج، ولن يكتشف وحيد الزمان أمرنا، فأنا لا أقصد السرقة كما تعرفين، الرواية عندي هي الواقع كما أريده! ...

- ما أشبه نهايتك هذه بنهاية الساعات الأخيرة من (مائة عام من العزلة) كان أورليانو يقلب في ورقات المخطوط أيضًا ...

- كلا، نحن نولد من جديد دائمًا، ولا نموت كقرية ماكوندو ...

لم نشعر أننا كنا نسير قرب المهندس وحيد الزمان، فقد كان مفترشاً طعام النيروز تحت شجرة سدر عظيمة، في الحديقة الخلفية، وهو بملابس العيد الخضراء، ومعه بعض الناس، فنادانا بصوت أبويّ رحيم كي نأكل معهم الحليب بالأرزّ ... وتعجبت كيف أننا لم نشاهده؛ فنسلم عليه، وكأنّه علم ذلك أيضًا، فقال لنا مبتسماً ومباركاً:

- العشاق لا يرَون مَن في الطريق!

شكرناه بصوت واحد، بالجملة نفسها، وكأنني موافقة على ما قاله، التهمنا الطعام بشهية العيد، وكأنّنا لم نأكل من قبل، تناولنا البيض المسلوق بماء ملون بقشور البصل، أكلنا الخبز الرقاق الطيب، وتملحت أفواهنا بملح المكسرات الطيبة، ثمّ تناولنا عصير الرمان ...

لم يبد الارتباك على وجه يحيى، وكأنه لم يفكر بسرقة المخطوطة! لكنني أحسست أنّ وحيد الزمان يحيى يعرف ما تحدثنا به قبل قليل، ولكي أخفف من وساوسي، وارتباكي، قلت:

- إنّ أمي تصنع لنا في النيروز مثل هذا الطعام أيضًا، لكنّ ما تناولناه لذيذٌ جداً، أطيب من طعام أمّي.

فقال لي ضاحكاً:

- هذا الحليب هو ما طهته أمك! لقد وصلت أمس وطلبت مني أن تشترك في إعداد طعام النيروز، وأن توزعه على الطلبة بنفسها، وهي مشغولة الآن بغسل الصحون، وستلتقين بها ليلاً في غرفتك.

فقلت له فرحة، وقد تيقنت الآن أنّ يحيى العبد الله يمتلك من القدرة ما يستطيع إخفاء مشاعره:

- كم أنت طيب يا سيدي، وأنّ فضائلك لا تحصى.

ثم جاءت مجموعات أخرى من الناس من البلدات القريبة، وتناولت الطعام معه فرحة بتطابق الليل والنهار.

 

النيروز بعد الظهر، أطول ساعات الرواية

مثل ملاك غامض، هطل الأخضر ممطراً على أرض المكتبة الافتراضية، فأحالها إلى حديقة الرحمن كلمح البصر، ومثل سجادة فارسية، تفتحت أزهار النسرين والنيلوفر، باقات، باقات، صارت السماوات خيمة زرقاء تمتد بعيداً لتلتقي بأطراف الصحراء، فيمتزج الأزرق مع الأصفر، وهناك يذوب اللون الأزرق تمامًا، إنهم يكرهون الأزرق.

وما برح بعض العمال الموكلين بالتنظيف يرتبون أصص الأزهار المفخورة في مدرسة نفّر، في طبقات الزقورة، ويرشون الماء في الممرات، ويعزقون الأعشاب الضارة في صمت، ولقد أخبرني الكثير من القراء، والقارئات الصديقات أنهم ما زالوا يشموّن رائحة أزهار النارنج في أوراق الرواية هذه.

همس لي يحيى العبد الله مبتسماً كعادته:

- أحب رائحة النارنج، لقد ولدت في مثل هذا اليوم، في بيت قرب شط الحلة، وقد تهدم البيت بفعل الزمن، لكن أشجار النارنج ما زالت باقية، وأنت تحبين هذه الرائحة أيضًا ...

- أأنت تعلم الغيب! أنا أحب أمي، ولن أشترك معك في عمل صبياني ...

- وأنا أحب أمي أيضًا، رغم أنها ماتت بعد دخولي المدرسة بقليل، والله، أنا صادق معك، لن نسرق المخطوطة، أريد أن أطلع عليها فقط، لي القدرة على التنبؤ بنهايات السرديات الكبرى، نحن الهامش الذي يتقدم الآن ...

- والله العظيم، إنّ المهندس وحيد الزمان يحيى يكاد يعرف ما تفكر به، لقد رأيت ذلك في عينيه، أرجوك، لا تضيع نفسك، لقد اختارك لتكون مشرفًا في المكتبة، ولم يبق على تخرجنا فيها سوى القليل!!! ...

لا أدري أكنت أبكي أم لا وأنا أحدثه، طلب مني بلطف أن يمسح بنفسه الدموع عن خدي، ولم ينتظر جوابي، أخرج منديله الذي ما زلت محتفظة به، وأخذ يمسح الدموع، أحسست بنسمة من رائحة النارنج تسري في جسمي، أحسست بيده ترتجف أيضًا، فأخذت المنديل مسرعة ومسحت بوجهي، ووضعته بين كتبي دون أن أشعر...

صمت كلانا، لكننا ما زلنا نتجول في الحديقة، ذهبنا إلى قاعة المعرض الدائم للمصور سين، وتأملنا الصور الفوتوغرافية الجديدة، أراني صورة والده وخلفه سفينة جانحة في الفرات، دخلنا إحدى القاعات لمشاهدة مسرحية (المجنزرة ماكبث) خلت المسرحية من الديكور تقريباً، غير أنّ حركة الممثلين مع الإضاءة وتباين الظلال والصوت أحدثت إيقاعاً شدّ النظارة لهم، وكم كنت أتمنى أن أكون ممثلة لا ساردة في هذه الرواية، همس في أذني ونحن على المدرج:

- أنت أوفيليا وأنا هاملت، لكننا لن نموت في نهاية المسرحية.

- لقد خط الموت على جبيننا كما خطت القلادة على جيد الفتاة، هكذا تقول أمي.

- كم كان هاملت يحب أوفيليا!! 

أردت للحوار أن ينتهي، فقلت محذرة:

- صمتاّ، فنحن في مسرحية!!

- لقد رأى هاملت الحقيقة، ولكن لم يصدقه أحد، ليس الذنب ذنبه، وأنا رأيت الحقيقة أيضًا، هاملت ليس مسرحية، هاملت معاصرنا!

ولم يصمت إلا بعد أن قلت بنبرة أشد من السابق:

- نحن في مسرحية!!

صمتنا مرة أخرى، حتى النهاية، خرجنا من المسرحية وذهبنا إلى معرض الزهور، في الجانب الشرقي من الحديقة، حيث فرقة الإنشاد تغني ما تيسر من أغاني التراث العراقي، استمعنا إلى أغنية (خدري الشاي خدري) ونحن نرتشف أكواب الزّنجبيل الساخن، وقبل أن نخرج قطف زهرة رازقي ووضعها على شعري دون أن يقول شيئاً ما، وما زلت محتفظة بهذه الزهرة حتى اليوم.

نادانا أحد العمال لمساعدته في وضع حوض للزهور في العربة لحمله إلى المكتبة، فطلبت منه أن نساعد العامل حتى القاعة لكبر سنه، فباركنا العامل قائلاً:

- طوبى للذين يحملون الزهور، طوبى للذين يحبون الزهور ...

وجدنا الطبقة الأولى مليئة بأحواض الزهور، والعمال منهمكون باستبدال الأحواض المزججة التالفة بأخرى جديدة وتوزيعها على الطبقات، وإضافة بعض السماد لها، ومازال الموظفون والموظفات، والكتاب والكاتبات، والقراء والقارئات، والطلاب والطالبات، والحافظين الكتاب والحافظات، خارج القاعات في زينة العيد، حيث السحرة تحول العصيّ إلى حياتٍ تسعى، طلب مني أن نشترك مع العمال في تنضيد الزهور، عسى أن يخفف ذلك بعض التوتر عنا، فوافقت بلا تردد.

ومع أنّ الكثير من العمال في عمر متقدم، وليس لهم حظ من التعليم المنظم؛ لكنهم يمتلكون من القوة، وحسن الذوق ما يجعل عملهم آية من عجائب الدنيا، كانوا رحماءَ بينهم، أشداءَ على العمل، تراهم صاعدين نازلين يبتغون مرضاة السيد وحيد الزمان يحيى، فهو المهندس الوارث لهذا الوادي الخصيب، حيث يرقد فيه أسلافهم بأمان وطمأنينة حتى عيد النيروز هذا، وكلما ساعدنا أحدهم في عمله باركنا بقوله:

- طوبى للذين يحملون الزهور، طوبى للذين يحبون الزهور ...

وخلال ساعة واحدة، أو أكثر بقليل، دون أن نشعر، وجدنا أنفسنا، أنا وهو، بأسمائنا المتعددة، وبهيأتنا التي لا تتغير كثيرًا قرب غرفة السيد المهندس وحيد الزمان يحيى، في الطبقة السابعة من المكتبة، وكأننا في السماء السابعة، ومن درس منكم في المكتبة، أو قرأ عنها، أو زارها للنزهة، يعرف أنّ للغرفة باباً مخفيّاً لا يستطيع أحد أن يهتدي إليه، أو يلج منه، بلا إذن من السيد نفسه، وأنّ نقوش جدرانها تختلف عن نقوش بقية الطبقات، ولا شكّ في أنّ تفصيلات هذه النقوش الملونة، من الأفاعي التي تلتف حول سيقان الحنطة، أو شجيرات التفاح التي على شكل الصليب، أو النقش المكرر لرجل وسيدة يقرآن الشّعر عاريين، وكأنهما في طقس طواف مقدس موجودة في الكتب التي احترقت في المكتبة، أو فقدت في زمن لاحق.

تلفت يحيى العبد الله، راقب المكان بعينين يقظتين، نظر إلى أسفل السلّم ... لم يصعد أحد من العمال إلى هذه الطبقة، رأيته مرتبكاً وهو ينضد حوض الزهور المزجج، أو هكذا خيل لي، دار حول الغرفة، تفحص بيده بعض النقوش، متلمساً إياها، نظر إليها من زوايا مختلفة، ثم سحبني من يدي برفق، وكأنه يسحبني إلى رقصة في أحد الأفلام الكلاسيكية، فاستجبت له، دار دورة قصيرة أخرى وأنا معه، وقال مع نفسه: "من هنا!!" ...

تلمس النقوش في جانب محدد من الجدار، ثم قبلها، وكأنما يقبل أمه، ثم دفع بكتفه الأيمن جانب الجدار، دفعه مرة أخرى، دفعه بقوة أكبر، فاستجاب له ...

سرعان ما صرنا في الغرفة ذات الجدران الثمانية، وكلمح البصر سدّ الجدار علينا منبهرين بالنور الذي تعكسه الجدران المليئة بالكتب، وبالنافورة التي تتوسط الغرفة، وكأننا في غرفة المتاهة ذات المرايا، أو في مغارة افتح يا سمسم التي رواها الناس في الليالي الألف!!

 

النيروز بعد المغيب، أقصر ساعات الرواية

كم كنت مرتبكة وخائفة! أدركت أنني ارتكبت مخالفة لأنظمة المكتبة وقوانينها؛ بل أنني ارتكبت إثماً لن يغفر لي أبداً، والحق، والحق أقول لكم: ما كنت في لحظة ما موافقة على اقتحام الغرفة لرؤية مخطوطة الرواية، لقد استجبت له دون وعي مني؛ لأنني كنت أريد حمايته، وكم وددت أن يبقى متغزلاً بي؛ فينسى أمر المخطوطة، غير أنني قد فشلت، وكما يحدث في السرديات العظمى، كل شيء مقدرٌ ومكتوبٌ على بني البشر!!!

قال يحيى العبد الله مبتهجاً:

- سبحان الله!!!

وانبهرت أنا بالكتب أيضًا، فرددت معه:

- سبحان الله!!!

قال وكأنما اكتشف أمراً ما:

- هي عشرة كتب لا غير، ستبقى تتناسخ حتى المقطع الأخير للزمن، وثمة رواية واحدة فقط هي رواية (النص الخصيب).

وأضاف وهو يتنقل مثل طفل غرير من رفّ إلى آخر، ومن كتاب إلى آخر:

- في اللغة يستطيع الإنسان أن يولّد جملاً جديدة من جملة واحدة ... للإنسان القدرة على توليد اللغة وتحويلها ...

كنت أعرف مدى اعتداده بنفسه، وسعة خياله، فضلاً عن قدراته السردية، وخمنت أنه لن يغامر لاقتحام القاعة السابعة لرؤية المخطوط أو نسخه، لكنه بدا لي الآن وكأنه كالثمل أمام المكتبة، قال لي وكأنه معلم في الدرس:

- هذه هي الكتب الأولى، كل شيء مكتوب هنا على شكل رموز وإشارات ومجازات، مثلاً، القبلة تعني المعرفة هنا ...

مازال هو المتحدث الوحيد في هذه الساعات القصيرة، سحب يدي وقبّلها، كما تقبّل أيدي السيدات في الروايات الانكليزية في القرن التاسع عشر، لامست كفي شفتين جميلتين طالما تدفق السرد منهما، أحسست بالقبلة كالشّعر تسري في جسدي، حتى غمرته بالأمن والطمأنينة، لكنّني سحبت يدي برفق بعد القبلة خوف أن يظل يمسك بها.

قال لي بحماس:

- الآن أحسست بالأمن والطمأنينة، الآن عرفت ماذا يعني أن تكون سارداً!

فقاطعته قائلة باستنكار:

- لقد ارتكبنا المحظورات! ... لم يؤذن لنا بالدخول إلى الحضرة السابعة!!

- لكننا عرفنا مصادر السرد ...

- ليست الكتب من مصادر السرد، الواقع هو المصدر الوحيد للسرد، ولكن بعد إعادة تشكيله، أليس هذا ما تعلمناه في الدرس الاول!

- نعم، إننا نعيد تشكيل الواقع في الواقع، وليس في السرد، هذه هي اللذة!!

وهنا أخذ يقبلني من شفتيّ، كانت لحظة واحدة لا غير، أوقفني أمامه، فوقفت، نظر إلى وجهي، فنظرت إلى الأرض، طوقني بيدي طفل بريء، رفع رأسي، وقال لي:

- لشفتيك لذة السرد.

ورغم أنني لم استجب له إلّا أنّ طعم القبلة ما يزال في فمي، فما أجمل أن تُقبل الأنثى في عيد النيروز! ومن المؤسف أنّ متاحف العالم المتخصصة بالفنون، لا تملك لوحة أو نقشاً أو تمثالاً لتلك القبلة، وكأننا شعب لا يعرف الله!  

 

الكتب العشرة في الحضرة السابعة

علمت متأخراً أنهما دخلا حجرة الكتابة، لكنني ما كنت قلقاً حيال الأمر؛ لذلك تركت لهما الوقت كله لكي يعرفا لذة السرد، ويتحسسا مواطن الجمال في النصوص، ثم ليكتشفا بنفسيهما الكتب العشرة في الحضرة السابعة ...

فقط، كنت قلقاً وأنا أنصت لدبيب خيالة خالد الحجاج، إنها مازالت تقترب من المكتبة دون أن أعرف كيف أوقفها ...

أكنت مخطئاً، وأنا أعلّم التلاميذ هنا معنى حب الكتابة دون أن أعلّمهم كيف يدافعون عن أنفسهم!! أكنت مخطئاً، وأنا أبني هذه المكتبة بلا حماية أو حرّاس!! أكنت مخطئاً وأنا أعلّم التلاميذ هندسة الزخرفة، وإنشاء المحاريب، وتخطيط الطرق والجسور، وبناء سداد الرّيّ، وحفر الجداول، دون أن أعلّمهم كيف يشيدوا الحصون الدّفاعية أو حفر الخنادق!!

صارت الأصوات أقوى الآن، سمعتهم يقولون بنشوة:

- نشم رائحة الخبز الرقاق ...

- أجل، نحن الآن في الحقول ...

- أسرعوا أيها الإخوة، الحور العين تنتظركم في جنة عرضها السّواد والفرات!!!

كان الجميع نياماً متعبين من سهرة عيد النيروز، سوى يحيى العبد الله وقرّة العين، وأحسب أنهما يتصفحان الآن مخطوطة النص الخصيب، ويكتشفان المناطق المثيرة في الرواية، ومنحنياتها من جديد.

سيصلون عند الفجر حتماً، وسيقتحمون المكتبة عاجلاً، ولا أعلم حتى هذه اللحظة أكان تصرفي صحيحاً أم لا!! ومن بعيد، من خلل ضوء النجوم الشاحب، رأيت الأعور خالد الحجاج يتقدم الجيش في ثلة من الجند، كان طويلاً بجسم ممتلئ وقوي، وكـأنه راع وخلفه الغنم المسؤول عنهم، ضج الوادي الخصيب بصهيل الخيل، وصليل السيوف، وتزاحم الدروع، وكأنه الخميس الذي وصفه أحمد المقتول شهيداً، شقوا طريقهم عبر ممرات ضيقة في حقول الحنطة، أكلوا من ثمر السواد العظيم، من أعنابه ورطبه، لم يعلموا أنّ سريّة واحدة فقط تكفي لاحتلال المكتبة، وقبل أن يقتربوا أعادوا تنظيم الجيش، رأيت بضعة خيالة تقترب من المكتبة؛ بل أنّ أحدهم دفع الباب الموارب بحذر وأكل من الطعام المبذول في الحديقة الخلفية، ثم عادوا متفرقين، ومن اليقين أنهم سيقتحمون المكتبة الآن، ولا أعلم حتى هذه اللحظة أكان تصرفي صحيحاً أم لا!!

*  *  *

في منتهى النشوة كانا يقلّبان معاً في صفحات مخطوطة الرواية عندما دخلت فجأة القاعة السابعة في المكتبة، لم يعلما كيف دخلت، فطفقا يختفيان وراء منضدة المخطوطة في محاولة فاشلة لدرء خجلهما، ناديت عليهما برفق، فاختفت قرّة العين وراء يحيى العبد الله، فيما بقي هو واقفاً مذهولاً، قلت مستنكراً:

- ما جزاء من يقتحم غرفة أبيه!!

فقال بارتباك:

- عفوك يا أبي، أردت أن يطمئن قلبي ...

قاطعته بسرعة:

- ألم أؤثرك على بقية التلاميذ! ألم أقل لهم إنك ستكون أمين المكتبة بعدي!! فأيّ اطمئنان تريد! أيّ اطمئنان تريد!

سكت قليلاً، ثم قال متوسلاً:

- لقد أخطأأأت الآن يا سيدي! أعترف لك بخطيئتي، أرجو أن تغفر لي ...

كم مسّني التعب! لا شك في أنه لاحظ ذلك، مسحت قرّة العين جبهتي، أخبرتني أنّ الغبار يغطي زجاج نظارتي، وقد عهدتها نظيفة دائمًا، بدأت الأصوات تعلو، كلّ شيء تغير في المكتبة الآن، لقد دخلت الخيول الحرم، ولم تعد المكتبة سوى حطام، ولن تجد من يعيد كتابتها، هذا ما كتبته في آخر سطر من الرواية ...

قال بهدوء:

- لقد قرأت الرواية كاملة، لكنني لا أعرف مصير المخطوطة نفسها!!

فقلت له مختبراً قدراته من جديد:

- أقادرٌ أنت أن تتحمل أمانة المكتبة بعدي! لقد عرضتها على آخرين فأبوا تقبلها!

فأجاب بلهجة تلميذ عسكريّ:

- نعم، سيدي! لقد تعلمت من أخطائي في الكتابة، أنا قادر على تحمل أمانة المكتبة.

وفي الحقيقة لم أكن مطمئناً إلى إجاباته، فلقد اختبرته من قبل!! فقلت:

- من يضمن لي ذلك؟!

لكنه أجابني بجواب قاطع:

ـ- أنت يا سيدي، أنت من يضمنني؛ فأنت أعرف مني بنفسي! وأنتَ الأقرب لي ..

حينها تيقنت من قدراته في التعلم، فقلت منهياً الحوار:

- إذن عليّ أن أنزل إلى أرض المكتبة، عليّ أن أموت مع الناس الآن!!

 

أطول ساعة في الرواية

كلّ شيء ما زال غامضاً بالنسبة لي، لمَ تأخر السيد وحيد الزمان يحيى عن المجيء إلى غرفته؟ فمن المفترض أن يبدأ طقس كتابته في الساعة العاشرة مساءً، وأنّ يحيى العبد الله تمهل كثيرًا في تصفح الكتب؛ وكأنه يعلم بتأخره! وكان يطيل النظر في كل صفحة، ويردد: سبحان الله، ما أجمل الخالق!!

وتساءلت مع نفسي لم صفح بسرعة عن يحيى العبد الله!! ونحن نعرف من أخباره أنه طرد من المكتبة أقرب التلامذة إليه؛ لأنه حاول الدخول إلى الغرفة، فقط لا غير!!

لم نشعر به أبداً حتى رأيناه فجراً مقابلنا في القاعة، رمقنا بعينين غاضبتين، قبل أن يتحدث، شعرت أنه متعب، شاهدت طبقة من الغبار على ملابسه ونظارته، وعندما مسحت العرق عن جبينه لاحظت بعض التغضنات عليه، وبدا لي أنّ وجهه قد اصفرّ قليلاً، لكنه ما زال مهيباً، قال، وقد استعاد هدوءه:

- عليّ أن أقابل الموت الآن؛ فقد حل في الوادي!! ما توقعته منذ سنوات يتحقق الآن، سيحرقون المكتبة، وستضيع السرديات التي ما زلت أكتب فيها ...

وسرعان ما ركع يحيى العبد الله أمامه، سجد على أقدامه متوسلاً:

- سيدي ومولاي! ألستُ ابنك الوحيد، دعني أنزل كي أكفر عن خطيئتي، لقد قرأت الرواية كاملة! أتوسل إليك أن تدعني أنزل كي أكفر عن خطيئتي ..

فردّ عليه السيد وحيد الزمان كمن يعلم الغيب:

- سيقتلونك دون أن تستطيع أن تفعل شيئاً!! أنت لا تعلم ما يعدون من قوة، وما يمتلكون من خيل ...

فقال يحيى العبد الله واثقاً من قدره:

- لقد كتبت رواية النص الخصيب، هذه هي رسالتي ...

ظل السيد وحيد الزمان يحيى ساكتاً، أراد أن يقول شيئاً، فقال بصعوبة:

- انتظرني قليلاً، لقد أصبت ببعض الكدمات وأنا أصعد السلم ...

سرعان ما تسلل يحيى العبد الله من الغرفة دون أن أشعر به، كنت مشغولة بمسح العرق عن جبين السيد، وتضميد كدماته، فقد جلس متعباً فوق كرسي القراءة الذي يشبه كرسي العرش، وحين تلفتُ بحثاً عنه، قال لي متيقنًا:

- لن تجديه! ولن يعود بعد الآن!! ولكن عليك أن تعيدي كتابة الرواية، فقد كتبها فصولاً متفرقة، وهي عملية متعبة بالنسبة لك!!

بقيت صامتة للحظات قليلة، أخيرًا قلت له معترفة:

- سيدي الجليل، لا أدري كيف دخلت القاعة معه! كم وددت أن أثنيه عن ذلك، وكاد يقتنع برأيي، لكننا وصلنا إلى هنا لأنّ العمال طلبوا مساعدتنا، وكأن شعورًا خفيًا يدفعنا إلى دخول القاعة ...

ما زال وحيد الزمان متألمًا، صامتًا، أحاطت بعينيه هالات سود، ثم دخلت الشمس السومرية القاعة من خلل الكتب، وكأنها تشرق على القاعة أول ما تشرق على العالم، أضاءت وجهه الكريم، فتبسم لي، وكأنه يصدق ما قلته، وقال بهدوء:

- لا تخافي، ما زلت باقيًا، وسأكون معك دائمًا ...

اقتربت الأصوات الآن من القاعة السابعة، سمعت وقع أقدامهم، سمعتهم يتراطنون بكلمات مبهمة، كانوا يدقون على الجدران بأيدٍ قوية، وكأنهم يبحثون عن الباب، سيدخلون حتمًا، سيجدون الباب ...

ثم أحسست بدم لزج بين فخذي، أحسست بوجهي يصفرّ، ثم يشحب، ثم يتيبس، صار وجهي الآن بلون الزّعفران، كما تصفني أمي عندما تنتابني الدورة الشهرية، ناولني السيد كأسًا من الماء القراح، وكأنه يعرف حالتي؛ فاستعدت بعض قوتي؛ لأنسحب من جديد خلف منضدة المخطوطة، كنت أنزف بألمٍ، فلم أعلم كيف جرت الأحداث في القاعة السابعة، وكيف انتهت، وما زالت النسوة حتى هذه اللحظة ينزفن أجنتهن بسبب الحرب ...

 

كاتب من العراق

 

(*) بعد تردد اخترت نشر هذا النص في باب "رواية العدد" اعتمادا على نقطتين الأولى: أنه من حيث عدد الكلمات، جاء النص أقرب إلى شكل قديم استخدم في مصر كثيرا حتى وقت متأخر من خمسينيات القرن العشرين تحت مسمى "قصة طويلة"، على سبيل المثال قصتي "صح النوم" و"قنديل أم هاشم" ليحيى حقي، وقد انقرض هذا المصطلح مع بزوغ عصر الاهتمام الجماهيري والنقدي بالرواية أوائل السبعينيات من القرن الماضي، وحل محله مصطلح "نوفيلا" أو "رواية قصيرة" أو "رواية" ومن الأعمال التي تنتمي لمرحلة الستينيات والتي أحدثت هذه النقلة النوعية: "المقهى الزجاجي" و"الأيام الصعبة" لمحمد البساطي، "تلك الرائحة" صنع الله إبراهيم. النقطة الثانية: أن النص هنا يعتمد في بنائه فضلا عن التناص على تعدد الأصوات ومن ثم تعدد مستويات السرد وتراوحها ما بين الواقعي والتاريخي وحتى الميثولوجي.

محرر باب سرد

 

[i] نوع من طوب التبليط القديم مازال مستخدما في العراق منذ العصر البابلي وحتى الآن.

[ii] نوع من التصاميم والتقنيات المعمارية من العصر البابلي لايزال يستخدمها البناؤون العراقيون

[iii] نوع من الطلاء الشعبي العراقي القديم للشفاة يضفى عليها حمرة طبيعية مصنوع من الحناء ومواد أخرى، وهو في الوقت نفسه ترياق للفم واللثة.

[iv] نوع من الياسمين رائحته بالغة العذوبة.