يعيد الروائي الأردني المبدع جلال برجس – في روايته دفاتر الوراق (1) – إنتاج مدلول الهوية الذاتية وفق منظور تجريبي، يقوم على كل من الرؤى الاحتمالية للذات، والآخر، والمرجع، والانبعاث الحلمي / الأدائي لشخصيات الأدب، أو التاريخ الحضاري؛ والتي تتجلى في سياق الحضور الطيفي لمجموعة من الأقنعة التمثيلية التي تحدث تغييرا في واقع البطل / إبراهيم الوراق، وطرائق إدراكه للعالم، وبنائه لنماذج إنسانية وإبداعية متنوعة من التواصل؛ مثل التواصل الافتراضي الحلمي مع السيدة نون، والتواصل الإنساني الأدبي مع ليلي، والتواصل القائم علاقتي التفكك، والتناغم، والغربة معا في علاقته اللاواعية الملتبسة مع الطفل الصغير بداخله؛ والذي يمثل قوة تمثيلية ذاتية مضادة لاتجاه البطل في الحياة؛ وأرى أن شخصية الطفل المجازية ستؤسس لمدلول ما بعد حداثي في النص حين يظهر صوته المجازي في المسافة بين قسم الشرطة، والشارع، فضلا عن أعراض انتفاخ البطن التي تجلت أمام البطل في المرآة في غرفته؛ ومن ثم يجمع خطاب جلال برجس – في تصوره لصوت الطفل المجازي – بين الفانتازيا والواقع في آن؛ ويؤكد سمة التداخل ما بعد الحداثي بين الخيال النصي، أو الفانتازيا، وعلامات الواقع الرئيسية مثل مرجع / الشارع في الرواية؛ وقد تواترت الشخصيات الشبيهة المضادة للذات، أو القوى الداخلية المضادة لاتجاه الشخصية في تاريخ الرواية العالمية؛ فالشبيه – في رواية المثل لدوستوفسكي، يمثل قناعا مضادا للشخصية بصورة ظاهراتية، كما تواترت تلك القوى في عوالم سارتر، وفي السقطة لكامو؛ ولكن قوة الطفل المجازي – عند جلال برجس – تؤسس لتحول إدراكي فيزيقي معا، يقوم بدور المحرض للبطل؛ لتغيير واقعه بصورة سلبية مضادة للآخر أحيانا في سياق ثقافي نسبي محدد، نستطيع تلمس آثاره في الموقف الفعلي لإبراهيم الوراق الذي يترك كشك الكتب، وكذلك المنزل، ويعيش في مسافة احتمالية تقع بين ارتداء القناع التمثيلي للحلم الذي يتصل بالتحليل النفسي الفرويدي، أو بأصداء اللاشعور الجمعي عند يونغ، أو بحياة النماذج وفق نورثروب فراي، ودرجات التحوير والتجدد في واقعه الملتبس؛ فهو يقوم باستشراف النهايات، ويستنزفها في الوقت نفسه عبر امتلاء الفراغ بالدفاتر التي تحوي كوابيس متعارضة، تؤكد الانتماء روحيا إلى الأب، والتصور الفرويدي الأوديبي عن الأب أيضا، كما تعكس حضور الذات في مراجع المجتمع الواقعية؛ مثل الفندق، واستنزاف مركزية المرجع الواقعي نفسه في الحضور السريالي للبحر، والتجسد الأول للسيدة نون في الوعي واللاوعي؛ ويعيدنا الوراق إلى حالة القوى الثقافية في الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين، ثم حقبة ما بعد الألفية، فضلا عن دفاتر الأب التي تعود إلى أواخر الأربعينيات من القرن العشرين؛ ويصل بينها – في خطابه السردي – الذي تشكل وفق فاعلية الشخصية الأدبية في مسافات الإدراك البينية المحتملة، وتشكيل عالم افتراضي من الأقنعة عبر مواقع التواصل الاجتماعي على الإنترنت؛ وكأنه يستشرف انبعاث شخصيات الأدب، والحضارة عبر العالم الرقمي الآلي بصورة مضادة سياقه الفعلي، وأنماط قراءة العالم فيه؛ فهو يستدعي ديوجين مؤسس الكلبية في اليونان القديمة مثلا في موقع التواصل؛ ليكشف عن أصالة اتجاهه في الحياة على الهامش، بينما نجده يمارس إغواء ارتداء القناع الأدبي المضاد لذلك الاتجاه القديم المتجدد نفسه أحيانا؛ وأرى أن المقاربة التداولية لهوية البطل، وتنويعات اتصاله بالآخر – عبر الخطاب، والمحادثة – سوف تكشف عن ثراء دلالة الهوية الذاتية، وتفردها، واحتفائها بالقوى الداخلية المتعارضة، واحتمالية الرؤية التي جاءت كانعكاس أدبي لاحتمالية النظر إلى الهوية الذاتية التي اكتسبت قوتها فيما وراء الفراغ المولد عن النهايات في بنية الواقع.
يقدم السارد خطابه الموجه إلى المروي عليه – في رواية جلال برجس – عبر التبئير الداخلي المتعدد المميز لرواية الأصوات طبقا لتعبير جيرار جينيت؛ ومن ثم فهو يخاطب المروي عليه – طبقا لنموذج التواصل التداولي الأول بين السارد والمروي عليه – عبر خطاب الشخصيات الداخلي المباشر في تعدديته، وتنوع طرائق الرؤية، والإدراك للذات، والآخر، والحدث، والمراجع المكانية الواقعية، أو الممكنة؛ ومن ثم يتجلى دور السارد في وضع المروي عليه مباشرة ضمن الرؤية الإدراكية الاحتمالية للشخصية؛ مثل البطل / إبراهيم، وليلى، وناردا؛ أما المروي عليه فيتموضع في تتبع الحجاج التي يقدمها الرواة حول صلة الشخصية الواقعية بأقنعة الأدب التمثيلية، ونوازع الهو والأنا الأعلى، والعلاقة المتداخلة بين الإيروس والتدمير طبقا لفرويد في كتابه الأنا والهو، وأصوات اللاوعي الجمعي الكثيفة، وكذلك في إحداث قدر من التناغم بين الهويات والأقنعة الأدبية، والروايات المتعارضة التي تنبع من مسافات إدراكية محتملة تتجاوز أحادية الجريمة في النص.
يقوم الخطاب السردي – في دفاتر الوراق – إذا على استدعاء الفاعلية الأدبية المجازية كطاقة داخلية في سياق ثقافي محدد تتنازع فيه قوى الآلية العبثية، وقوة العالم الافتراضي أو الأدبي، ومستويات تشكل هذه القوى الخيالية في فراغات المرجع الواقعي، أو على حافاته انطلاقا من فعل القراءة، أو إدراك البيانات الحسية الظاهراتية، أو إنتاجية الحلم الأوديبي، أو محاولة تغيير واقع الشخصية من داخل التحول الأدائي الفيزيقي للصوت الأدبي الآخر؛ ومن ثم يكشف الخطاب عن تعارضات السياق الثقافي الداخلية، والتباسها بالموقف الفعلى الذي ينتمي فيه البطل إلى وضعه الهامشي، وإلى المرجع الممكن الحلمي أو الأدبي في آن.
ويحتفي الخطاب بهوية المرسل التجريبية التي تتنازعها قوى متعارضة في الآن نفسه؛ وهو ما يكسبها نوعا من الثراء الدلالي؛ فإبراهيم الوراق ينسج كينونته من داخل الهارموني بين مهنة الوراق الآفلة، وفعل القراءة، وفاعلية فعل القراءة وشخصيات الأدب، وقدرتها على تحريف وظائفها الأولى، وتحريف واقعه، واتجاهه الوجودي؛ أما مستقبل الخطاب فيتشكل وفق حالة الانتشار اللانهائي الراهن للصور، وتحولاتها الممكنة في الوعي واللاوعي؛ لهذا فهو قادر على تخييل الفيزيقي وفق فاعلية الشخصيات الأدبية التي تكمن بداخله، أو تؤول حضوره الشبحي السريع، وغيابه، أو تعيد تمثيله في اتجاه إدراكي مختلف في تنويعات التواصل المعقدة التي تقع بين العالم الواقعي وفراغاته، ومراجعه المكانية الهامشية؛ مثل الكشك المستبدل، والمنزل المهجور، والمقهى الذي يذكرنا بمقاهي ثلاثية محفوظ، وخان الخليلي، أو مقهى إدوارد مونك التعبيري، أو الأماكن المتحولة إلى مراجع ممكنة عقب نهاياتها؛ مثل كشك الوراق الشبحي الآخر؛ وقد تحررت شخصياته، وكائناته إلى كينونة البطل وصوته الخاص، أو صوته الآخر المضاد الممثل في الطفل الاستعاري الممزوج بالفضاء الواقعي في الآن نفسه.
ويتقاطع الخطاب المؤسس لفاعلية الشخصية الأدبية هنا مع مسلمة الاتصال الطبيعي العميق بين عالم المبدع، أو القارئ، وبعض شخصيات الأدب؛ وأرى أن هذه المسلمة سوف تمثل – في الخطاب – نقطة انطلاق، أو مقدمة منطقية لسلسلة واسعة من الحجاج التي تؤكد المستويات الأعلى من حضور الشخصية الأدبية، والتي بدأت بالاتصال الطبيعي بالشخصية الأدبية، ثم تحول هذا الاتصال إلى تشكيل مماثل أو مشابه داخل الكينونة؛ وقد أقر السارد بتقاطعه مع بطل الأبله لدوستوفسكي، أو باتصاله في مرحلة أخرى بسعيد مهران بطل اللص، والكلاب لنجيب محفوظ؛ وسنجد أن تضمينات الخطاب – بإقرارها بهذا الاتصال الوجودي – تمنح المروي عليه القدرة على قراءة ليلى وفق اللحظات الحرجة من حياة جين إير في رواية شارلوت برونتي، أو اللحظات الحرجة من حياة كوزيت في رواية البؤساء لهوجو، كما يتقاطع وضع الأب العبثي الأخير مع بعض أبطال نهاية اللعبة أو مالون يموت لصمويل بيكيت؛ أما ناردا فيتصل غموضها الأدبي – على نحو عميق – بالسيدة براون عند فرجينيا وولف، أو بغموض كل من رودا بطلة الأمواج، أو ليلي أو السيدة رمزي، وأطيافها في رواية وولف إلى الفنار؛ ومن ثم تتوالى الصلات الممكنة بين أنماط الشخصيات الأدبية والواقع في الخطاب؛ ولكن سارد جلال برجس يمنحها فاعلية دينامية تمثيلية وتحويرية فيما وراء تاريخها الأدبي؛ فخطاب السارد يستدعي مصطفى سعيد بطل رواية موسم الهجرة إلى الشمال للطيب صالح في غير سياقه؛ إذ بدا في حالة تنكرية تحريفية لواقع إبراهيم الوراق، بينما تجلت هوية السيد أحمد عبد الجواد في سياق مغاير لوضعه عند محفوظ؛ إذ تجلى في موضع الاحتفاء بجماليات المقهى كمعبر للمرجع الممكن فيما وراء الواقع، وقد يكون مارس إغواء الحكمة الأخير عند بطل محفوظ قبل أن يبحث عن بداية جديدة تنفتح على أصوات الماضي بصورة مستقبلية في الخطاب.
وقد جمع سارد جلال برجس في تمثيله للأصوات بين لغة تداعي الذكريات، والحوارات التي تؤسس لتنويعات التواصل بين الذات، والآخر، واللغة الاحتمالية البينية التي تتجنب تأكيد الحقائق أو الفواعل في النص بصورة حاسمة، كما تقاطعت لغة الخطاب مع التحليل النفسي، وإنتاجية الشخصيات الأدبية – بصورة مجازية مغايرة – في السياق الفعلي للبطل؛ أي في لحظة الخطاب؛ وهو ما يجعل إنتاجيتها التمثيلية قابلة للتحقق في المستقبل، وفي الفجوات المعرفية المتضمنة في بنى الحدث، والشخصية، والفضاءات المتداخلة؛ وقد ارتكزت لغة السرد – عند جلال برجس هنا – على أثر الحكاية في العالم النفسي لكل من مرسل الخطاب، والمستقبل أكثر من ارتكازها على اكتمال الحكاية ووحداتها الوظيفية؛ فالحكاية قابلة لإعادة التمثيل بواسطة شخصية أدبية مختلفة، أو داخل تحريض من أصوات اللاوعي الجمعي المبهمة، أو يدونها السارد وفق منظور مضاد في دفتر آخر من دفاتر كوابيس الوراق؛ وهو ما يمنح الخطاب نوعا من الثراء الدلالي الواسع في النطاق الذاتي، وفي الأثر التعبيري للسرد.
ويمكننا قراءة وحدة الخطاب تداوليا من خلال تطور تحقق الشخصية الأدبية في الكينونة من التقاطع إلى التماثل ثم الفعل، والأداء التمثيلي من خلال المرجع، والسياق، و المؤشرات الذاتية والزمكانية، والحجاج، وأفعال الكلام، والتأشير العائدي / الأنافورا، ودرجة التجانس في وحدة الخطاب في نموذج التواصل الأول بين السارد وتجليه بداخل بنى الأصوات والمروي عليه.
يشير السارد – وفق صوت إبراهيم الوراق – إلى مماثلة كينونته ل الأمير ليون نيكولايفيتش بطل رواية الأبله لدوستوفسكي عبر ضمير المخاطب؛ ويؤكد أنه في تلك اللحظة يمثل السذاجة، وأن وجهه سيأخذ قسمات البطل نفسها في بنية الشارع.(2)
يحيلنا الخطاب – إذا – إلى المرجع المكاني؛ وهو الشارع، ولكنه يؤكد تجدد الكينونة في حضور بطل رواية الأبله بداخله أيضا؛ ومن ثم يمنح المرج بعدا أدبيا ممكنا؛ فالشارع – كمرجع – يبدو نصيا، وأدبيا ويحوي أصداء العالم الافتراضي، وأطيافه، وقد استخدم ضمير المخاطب / أنت ؛ ليوحي بمؤشر ذاتي أبعد قليلا من الأنا؛ ومن ثم يوسع من إمكانية تماثل ليون مع شخصيات أخرى في المستقبل، ولتشابه آخر في المصائر، والآلام، ويمنح الذات القدرة على استنبات الآخر في الكينونة عبر الضمير أنت أيضا؛ وكأنه يخاطب الآخر داخل الكتاب، أو داخل المرآة، أو داخل عقل سارد دوستوفسكي؛ ويحيلنا الخطاب أيضا إلى المؤشرات الزمنية إلى الماضي في زمن رواية دوستوفسكي، وبنية الحكي التي تتشكل فيها الشخصية الأدبية آنيا في التشابه، والتجسد، والقدرة على الفعل في المرجع المكاني المحدد / الشارع؛ وتتواتر - في الخطاب – الحجة الاستدلالية الرئيسية؛ وهي قابلية الاتصال بمستوياته المتباينة مع الشخصية الأدبية إذا تشابه الاتجاه الوجودي للمرسل أو المستقبل مع اتجاهها الوجودي القديم في بنية الخطاب الأول؛ ومن ثم تكون المقدمة المنطقية للحجة الاستدلالية هنا هي وجود تشابه فعلى بين المسار الوجودي لإبراهيم ضمن السياق الفعلي، وليون في خطاب دوستوفسكي، وتكون الكلمات المعجمية المحفزة لسلسلة الحجاج الاستدلالية الأخرى هي (القسمات نفسها)، أو (أنت الآن هو)؛ كما يمكننا توقع تكرار الشخصية في المستقبل وفق المصير نفسه، أو مصائر مغايرة وفق تضمينات الخطاب، وتلميحاته؛ فالتشابه قائم على المسلمة نفسها في المستقبل؛ ولكن يمكن أيضا بناء حجة استقرائية تقوم على نقطة البدء بحالة إبراهيم، وتكرارها الآني عبر أشباهه في مرجع الشارع / الواقعي والممكن معا؛ لتصير عبر التكرار في حالات أخرى حجة منطقية أيضا؛ وينسج الخطاب نوعا من التجانس أو الهارموني بين شخصية ليون، وكينونة إبراهيم، وبين الماضي، وتحولات الحضور، والمستقبل، كما يماثل بين ضميري أنت، وهو، أو بين القسمات في وجهه وقسمات الشخصية الأدبية نفسها باستخدام لفظ التوكيد المعنوي / النفس، كما ينسج مجموعة من الذوات الأخرى التي تكرر الشخصية، ولكن في ثلاثة أوضاع هي الوضع الفيزيقي، ووضع الأداء، ووضع التداخل بين الفانتازيا والواقع عبر الرؤية الاحتمالية للذات والمرجع المكاني / الشارع الذي يشبه متجر الوراق القديم المستبدل.
أما أفعال الكلام فقد ارتكزت على فئتي التمثيلات / التأكيدات، والتعبيريات – وفق تصنيف سيرل - والمتضمنة في الأثر النفسي غير المرئي لفعل التماثل مع شخصية دوستوفسكي؛ فالسارد يؤكد كلا من التشابه في الكينونة، وفي الأداء الجسدي في الشارع؛ ليوحي بفكرة جديدة يتطابق معها العالم عبر فئة التمثيلات؛ وهي إمكانية التشابه الوجودي العابر للزمكانية؛ ويوحي الخطاب – عبر التلميحات – بشعور يشبه البهجة الافتراضية بهذا التحول، أو الأسى على المصير الذي قد يعاينه السارد في المستقبل؛ وهو ما يعزز فئة التعبيريات، ومساحاتها العاطفية البينية في الخطاب.
يكشف البحث التداولي لخطاب سارد جلال برجس – إذا – عن الهارموني، ووفرة التناظرات، والتماثلات، والقوى الداخلية الضدية التي تثري الشخصيات، والأحداث في نموذج التواصل؛ وتكشف الدراسات التداولية المعاصرة عن الرؤى التعددية قي لسانيات التواصل في المرجع، والسياق، والأنافورا / التأشير العائدي، وتحليل المحادثة وفق مبدأ بول غرايس التعاوني؛ وتشير باربارا أبوت – في دراسات المرجع المعاصرة – إلى تقييد البعض لتفرد المرجع بسياق المحادثة؛ وهو ما يطلق عليه هاوكينز الوضع التداولي؛ أما بيرنر ووارد فيجمعان بين قابلية تعيينه بواسطة المرسل إليه، وبواسطة الوضع التداولي أيضا، بينما يعلي روسل من تضمينات الكلام، أما هورن، وينوروسليان فيشيران إلى الجانب التوافقي في تحديد المرجع في الكلام(3)؛ أما دراسة جينيت غاندل، ونانسي هيدبرغ، ورون زاشرسكي حول علاقة الحالة الإدراكية بالإشارات المرجعية فتؤكد قدرة المتحدثين – في اللغة الطبيعية – على تأويل أشكال متنوعة من المرجع في اللغة الطبيعية للخطاب وفق نظرية الصلة والحد الأقصى من مبدأ الكم وفقا لغرايس.(4)؛ وهو ما يمنح المرجع دينامية في حدوده وفق الموقف النسبي، وطرائق الإدراك والوضع التداولي والتلميحات الكامنة في الخطاب في الدراسات التداولية المعاصرة؛ أما إنتاجية السياق في الدراسات التداولية المعاصرة فتتسم بالدينامية أيضا بين التوجهات النسبية للموقف، واستراتيجية التكيف، وإنتاجية الحد الأقصى من الصلة في التداوليات الإدراكية عند كل من دان سبيربر، وويلسون؛ وقد عرضت آن بيزويدنهاوت في دراستها عن السياقية وأبعادها الدلالية للتوجه النسبي الذي يرتكز على ظروف رؤية الحقيقة، وخصائص البيئة الخارجية لحدوث الكلام في الموقف المعين لدى هاوثورن، وكابلان، كما تعرض لاستراتيجية التكيف والتعديل في إنتاجية السياق وفقا لمفهوم وظيفة التعديل في السياق أو Modulation Function طبقا لريكاناتي؛ فقد يعدل المعنى باتجاه موضوع الهوية إذا كانت هي الوظيفة البارزة. (5)؛ ومن ثم تثري هذه المفاهيم الدينامية السياق ابتداء من ظروف الرؤية في الموقف الفعلي إلى الوظيفة التعديلية البارزة في الخطاب، ثم تتبع الصلات الممكنة الموجودة فعليا في الخطاب في التداوليات الإدراكية؛ وهو ما يمنح الدراسة التداولية للنص الروائي مستويات عديدة من تصور السياق، ودلالاته النسبية؛ وقد توسعت دراسات الأفعال الكلامية فيعرض جيوفري ليتش – في كتابه مبادئ التداولية – لدرجات التحقق المترتبة على فعل الكلام – ويتفق هنا مع أوستن – فيميز بين إنجاز فعل الكلام، أو تأدية الفعل بالقول، وقوة فعل الكلام؛ أو إنجاز فعل حال القول، ولازم فعل الكلام؛ وهو تأدية الفعل بواسطة القول؛ فالفعل أخبر يحدث في المخاطب حالة معرفية لم تكن موجودة من قبل، وأقنع يغير معتقدا سابقا، أما حض فيستدعي استجابة نشطة معقدة بتأدية الفعل؛ ويحقق لازم فعل الكلام. (6)؛ ويحقق الخطاب مثل هذه الدرجات من التغير الذي ينشأ عن أفعال الكلام حسب الهويات والسياق، وتحولات الحدث بصورة دينامية؛ ويشير يان هانغ – في دراسته الأنافورا، أو التأشير العائدي - إلى الإعلاء من التأثيرات السياقية أكثر من الملاءمة التقليدية؛ وإلى اقتراح سبيربر وويلسون بتصنيف نظام بول غرايس ضمن نظرية الصلة في علاقات الأنافورا. (7)؛ ومن ثم تنفتح العلاقات الإدراكية الاستدلالية بين الإشارة ومكونات الخطاب الأولى ضمن وحدة الخطاب في عملية التواصل؛ ويمثل بول غرايس للتداخل بين مبدأ الكم، والجودة، وتضمينات المحادثة - في دراسته المنطق والمحادثة – ضمن تحليله لمحادثة يسأل فيها A عن المكان الذي يعيش فيه C فيجيب B بأنه يعيش في مكان ما جنوب فرنسا؛ ومن ثم فهو ينقص من الكم لصالح الجودة، وينسج تضمينا بأنه لا يعرف بالتحديد الموقع؛ لهذا يعزز غرايس من توافقية الكم والجودة أو الاستجابة الذكية وبناء الحجاج، والمواءمة أو الصلة، والأسلوب الذي يتضمن التنظيم المنطقي للكلام. (8)؛ وتظل مبادئ غرايس لتحليل المحادثة قائمة في حوارات الأدب، والسرديات الفنية جميعها؛ والتي تتضمن لغة الحوار؛ للكشف عن درجة الانسيابية والتناغم؛ وستكشف – في تحليل بعض المحادثات في رواية دفاتر الوراق لجلال برجس – عن مستويات من التوافق والاختلاف، والاستطراد الذي يؤشر للانهائية حضور شخصيات الأدب بصورة تمثيلية محولة سيميائيا في الواقع، وفي فعل الكتابة معا؛ ويمكننا تناول هذه الجوانب من الدراسة التداولية؛ لفهم سرديات الحلم، وتدويناته في الرواية، والكشف عن الدلالات والتلميحات الكامنة في المحادثة، ودرجة قوة أفعال الكلام في السرد الاحتمالي للحدث، ومدى اتصال الإشارات العائدية بمكونات الخطاب الأولى؛ مثل إشارة انتحار الأب، وإشارة ديوجين، وإشارة السيدة نون.
يسرد الراوي حلما رأى فيه بطل رواية طبل الصفيح لغونتر غراس ضمن مستوى اللاوعي، أو مستوى الصور المقطعة السريعة فيما قبل الكلام وفق تعبير همفري؛ يقول السارد / صوت إبراهيم:
"كان عليك ليلة أن غادرت القرية أن تحذو حذو أوسكار ماتزيراث بطل رواية طبل الصفيح لغونتر غراس الذي قرر ألا يكبر عندما وجد أباه يصنع مستقبله، ... ورأيت في منامك ماتزيراث، شكوت له ضعفك، وهو يجلس قبالتك صامتا، وحين انتهيت من فضفضاتك، مسح بيده على رأسك ثم غادر" (9).
تأتي صورة ماتزيرالد هنا بين الوعي، واللاوعي كصورة حلمية مقطعة ضمن حوارية تتسم بقرب الإشارات المكانية بين الذات، والآخر؛ فالسارد يحيلنا إلى مرجع المدينة فيما بعد مغادرة القرية، ومقاومته الداخلية لطريق الأب، ثم إلى المرجع الممكن الذي التقي فيه ببطل رواية الطبل الصفيح، وقد تميزت علاقتهما بالتناغم، والقرب الجسدي في مستوى اللاوعي؛ فالإشارات الذاتية هنا قد جاءت في توالي ضمير المخاطب الذي قرب الذات من الآخر/ الفني ضمن سياق الحلم، وتعالت الحوارية في لحظة الاقتراب من الشخصية، وتأكيد مسارها الإبداعي المتجاوز لمركزية الأب؛ وسنلاحظ تقارب صيرورة البطل مع مسار أوسكار الوجودي حين يدون كتاباته في المستشفي في نهاية النص؛ ويتشكل المرجع الممكن هنا بين فضاء المدينة لدى إبراهيم؛ وهو فضاء ينطوي – بمدلوله الواسع – على أقنعة شخصيات الأدب التمثيلية / الأدائية؛ ومن ثم يتقاطع في بنية المرجع الحلمي مع فضاء شخصية أوسكار فيما وراء تحققه الوجودي وعزفه الموسيقي؛ وكأن صورة أوسكار الأخرى تؤسس لتكرار دوره – بصورة أدائية تمثيلية – في فضاء البطل الحلمي.
وإذا تأملنا السياق وفق رؤية الحقيقة طبقا لظروف الموقف النسبي للتواصل بين البطل، وأوسكار، سنجد أن صورة أوسكار الأخرى قد نبعت من داخل البطل؛ فهو يستدعي مصيره كبديل لولوجه مسار الأب، بينما نجد أن حضور أوسكار الحلمي القصير قد نبع من استبدالات اللاوعي لعلامات نص غراس في زمن آخر، وفي حالة توافقية مع نوازع البطل، وصيرورته؛ وقد نعاين السياق طبقا لوظيفة التعديل البارزة في الخطاب وفق تصور ريكاناتي؛ وهي تتمركز هنا حول إمكانية تداخل الاختيارات، والمصائر بين الشخصيات الأدبية والواقعية؛ ومن ثم يمكن قراءة مصير إبراهيم طبقا لتطور شخصية أوسكار، أو قراره الأول بالتوقف؛ وهو قرار تفسيري؛ أي يمكن أن يتم تحويله – في مسار البطل – إلى توقف آخر، أو عزف موسيقي آخر؛ وهو ما وجده البطل في توالي الأقنعة المحولة عن تاريخ الأدب، والحضارة في فضائه الواقعي.
أما أفعال الكلام فقد تراوحت هنا بين التأكيدات لمسار أوسكار الوجودي، أو حضوره الحلمي، والتوجيهات المتضمنة في تلميحات خطاب إبراهيم؛ وكأنه – في حواريته – قد قام بتوجيه الأسئلة الشخصية لأوسكار، ولكن الأخير أجاب بنغمة التقارب الروحي الجسدي الحلمي؛ وكأنه يوحي بإمكانية تحول الاختيار الأدبي في واقع آخر، وزمن مختلف؛ ومن ثم نعاين قوة فعل الكلام في لحظة استجابة أوسكار التصويرية / الطيفية المتناغمة وفق منطق الحلم؛ وهي تؤكد أفعال الكلام التعبيرية الذاتية في صورته القوية التي استدعت استجابة نشطة من الشخصية الأدبية باتجاه التوافق؛ وتمثل حالة أوسكار النسبية حجة استقرائية يؤسس لها النص السردي قبل أن يوغل في الحلم؛ إذ يمكن للمسار الوجودي أن يتبدل في لحظة حرجة من حياة الشخصية، وبالصورة الاستثنائية التي طرحها خطاب غراس؛ ومن ثم يؤسس سرد الوراق للحجة الاستقرائية المتمركزة على حالة أوسكار لفكرة التغيير في قراءته لكينونته طبقا لما سيلحق الشخصيات الأدبية من تغيير يفرضه السياق الثقافي الآني في حياته؛ وسنعاين استحالة تكرار الحالة النسبية المطروحة في الحجة أيضا، دون نوع من التخييل الموسع الموازي لقرار بطل غراس؛ فتحقق الخروج عن مسار والد إبراهيم التقليدي، سوف يقتضي مساحات من التحول في بنى الشخصيات، تعود إلى الماضي، وتتجاوز بنية النص، وكشك الوراق باتجاه مسارات تمثيلية أخرى في المستقبل.
وينطوي خطاب إبراهيم الوراق – في المقطع السابق – على مضمر نستنتج فيه حالة التقاطع بين المصائر؛ والتي تجلت في الاقتراب، والتناغم بينهما في الحلم؛ فإبراهيم سوف يفكك منطق الجرائم التي نسبت إليه، بينما لا يقر بذلك صراحة في المستشفى، ويؤكد المسافات البينية الاحتمالية للرؤية، بينما نجد أن أوسكار يتجاوز منطق الإدانة العبثية بالصمت أيضا؛ ومن ثم يضمر خطاب الوراق مثل هذا التقاطع في المصائر، ودرجة تحققه، كما يضمر التصاعد السيمفوني للقاء الشخصية الواقعية بالتحولات الأدبية الآنية في انتشار هذه الشخصيات بصورة أفقية ضمن عالمه الداخلي الذي سيجمع بين ليون نيكولايفيتش سعيد مهران، وأوسكار، وأحمد عبد الجواد، وديوجين، وزيفاكو وغيرهم.
يشير السارد – في خطابه في النهاية – إلى زيارات ناردا القصيرة، ويعود – بصورة دائرية – إلى تأكيد حدث انتحار الأب؛ ولكن في سياق احتمالية الحدث، وتناقضاته، وتداخل الخيال مع الحقيقة؛ ومن ثم فدفاتر الوراق تحتمل التفكك، والاستبدال، ومعاينة المصائر الضدية التي تتوزع بين ليون، ومهران، وأوسكار بصورة أفقية.
أما صورة ديوجين فيمكن الاستدلال عليها كظل ضمن صيرورة البطل الوجودية؛ فهو يسعى إلى التوافق مع الشارع الذي يحوي شخصيات الأدب، والشخصيات الواقعية الهامشية مثل ليلى؛ ولا يمكن فهم إشارات الأب، وناردا، وديوجين إلا عبر دراسة ورودها المبكر في الأشارات الأولى للخطاب وفق علاقات الأنافورا / التأشير العائدي؛ فصورة انتحار الأب الأولى قد امتزجت بجمود إبراهيم، وومشاعر الأسى العبثية، بينما نعاين العلاقة الأوديبية بالأب في كابوس لاواع آخر؛ أما ناردا فقد امتلكت حضورا ظاهراتيا في الوعي يمتزج بمرجع سريالي ممكن؛ وكأنها تقلب دفاتر بحارة غامضين؛ وقد أتت الإشارات المبكرة – في الخطاب – إلى صورة ديوجين ضمن صور مواقع التواصل قبل أن تصاحبه في صيرورته، وتأملاته التي تتجاوز بنية الواقع، والهوية المحددة ببدايات، ونهايات، ومرجع مستقر (10).
تؤكد الإشارات الأولى لانتحار الأب – إذا – التنازع الداخلي بين الاتجاه الأوديبي، واتجاه إكما مسيرة الأب، أو التداخل مع صورته، وربما يصح هذا التوجه إذا تجلى الأب كشخصية تجسد عوالم العبث عند بيكيت مثلا؛ فالسارد ينحاز لمثل هذه التحولات المجازية؛ ومن ثم يظل موت الأب مؤجلا في تكرار المشهد وفق أكثر من منظور، وأكثر من كابوس؛ ويؤكد فرويد التداخل بين صورة كرونوس الأبوية الوحشية القديمة في الأساطير، وصورة الأب في المجتمعات الحديثة؛ وقد أبرزها إبسن في مسرحياته؛ ومن ثم يعاين الحالم اقتران مثل تلك الصورة بالعقاب (11).
يعزز التصور الفرويدي – إذا – من بعض إشارات الانفصال عن نموذج الأب في لاوعي الحالم أحيانا؛ وهو ما يؤكد النزعة الأوديبية، بينما نجد التأشير الأول للأب يوحي بالتناغم، وقلق الموت، أو جمود الحلق الذي يذكرنا بجمود صخرة سيزيف، أو جمود مواجهة الميدوزا؛ وكأن السارد قد عاين مراجع تجريبية حكائية أخرى فيما وراء صالة المطبخ التي انتحر فيها الأب انتحارا احتماليا.
أما الحضور الظاهراتي الأول لناردا فيذكرنا ببطلات أشعار سان جون بيرس، وأزمنتهن المتداخلة السحرية في الوعي، واللاوعي؛ وتوحي دفاتر البحارة بانبعاث أخيلة اللاوعي الجمعي المقترنة بالمياه، وتذكرنا بسيولة التكوينات السريالية التي اقترنت بالفضاءات الواسعة عند البحر، أو بضخامة الأشياء الحلمية إزاء الحالم، وتحول وظائفها؛ ومن ثم تتحول وظائف دفاتر البحارة من التدوين إلى التأسيس للواقع الحلمي كمرجع ممكن للشخصية التي تعيد قراءة هويتها من داخل تموج الهوية، واتصالها بالآخر / الحكائي في ظروف الموقف النسبي للسياق؛ ومن ثم يعاين السارد حضور دفاتر البحارة، وتأملات ناردا ضمن بنية الشوارع، وفيما وراء الفنادق؛ ليؤكد حضور العالم الافتراضي، وفاعليته ضمن تضمينات الخطاب.
ويكمن طيف ديوجين في القناع الإلكتروني للسارد بينما يتوسع حضوره كلما تقدمنا في النص؛ فإشاراته العائدية ترتبط بالاستدلال عليه من داخل الحياة فيما وراء الهامشي والممكن اختياريا في مصير البطل، وتطوره؛ فهو محفز لاستبدالات الشخصية الأدبية من جهة، ويؤكد حضوره كظل، أو كمجموعة من الظلال في المنزل المهجور، والشارع، والمقهي من جهة أخرى؛ لأن شخصية ديوجين – في التراث الجضاري، ومثلما عرض لها ول ديورانت – هي قرينة مرجع الشارع الذي يصير – في خطاب سارد جلال برجس – متضمنا لمراجع، وهويات مجازية أخرى تثري الشخصية، وتنسج من عالمها دفاتر، وكوابيس متوافقة، أو متعارضة، أو تفكك الحقيقي في سيرة الشخصية باتجاه مستقبل أدائي آخر للشخصية الأدبية التي تجلت أخيرا في التنازع، والاختلاف بين ارتداء الوراق لملابس تشبه ما كان يرتديه أحمد عبد الجواد، ومقتضيات الموقف الآني في السياق؛ فهو يمهد لبنية التحول وإنتاجية حيوات مناظرة لا تنفصل عن سياق الموقف أيضا.
وإذا أعدنا قراءة محادثتي البطل مع كل من صوت الطفل الخيالي المحرض بداخله، ومع ناردا؛ سوف نكتشف مجموعة من الدلالات، والتضمينات التي تعيد تأويل الشخصية، في علاقتها بالآخر، وأطياف الأدب، وتحولاتها الداخلية المحتملة؛ وذلك من خلال المبدأ التعاوني Cooperative Principle لغرايس في تحليل المحادثة، ودرجة قوة فعل الكلام.
يروي السارد محادثة دارت مع صوت الطفل الداخلي عقب نزوله من المخفر للإبلاغ عن خطورته؛ يقول:
"كدت أعود أثناء هبوطي درج المخفر عندما رأيت شكل بطني يتغير، وبت أسمع الصوت ذاته:
-ألم أقل لك إنهم لن يصدقوك؟ حتى لو عدت سأتخفى، وربما هذه المرة يعتقلونك.
أخذت خطواتي تتعثر، فتوقفت؛ لئلا أسقط:
-حتى لو لم يصدقني أحد، لن أستسلم لك.
-أنت تؤمن بي، لكن خوفك يدفعك للقفز عن الحقيقة ... بقي صوته يطاردني إلى أن ذبت في الزحام، وكلماته تتردد في مسمعي:
-ستأتي اللحظة التي تنصاع لي فيها، وتلقي بكل دفاعاتك الرديئة" (12).
وسنعاين تطور الصوت في توصيفه للبطل حين يناديه باسم الشخصية ويحرضه؛ يقول:
"سعيد مهران ... احمل هذا المسدس .."(13).
الصوت الأدبي للطفل يستطرد هنا بدرجة أكبر وفق مبدأ الكم لغرايس؛ لأنه هو من يريد الإقناع بتبديل الهوية؛ كما أنه مهموم بالحجاج الجدلية التي تقوم على النقيض من توجه البطل النفسي، والوجودي؛ ومن ثم فالحجاج هنا تنطوي على مغالطات، وإن غيرت قليلا من وعي البطل بذاته في تلك اللحظة؛ ومن ثم فهي لا تملك الجودة الكافية في تطابقها مع المبادئ العقلانية والمقدمات المنطقية؛ أما حجاج البطل فكانت خبرية، وصحيحة في ظل السياق وظروف الموقف الفعلي، ولكن اختفاء الجانب الفيزيقي من الطفل وضعها في موضع تساؤل؛ وقد التزم الصوت وإبراهيم بالصلة بموضوع حضور الصوت، وتبديل الهوية في اتجاه آخر، ولكن الصوت خرج قليلا عن الموضوع باتجاه دفع البطل للخوف، والانصياع الآلي لرغبته؛ وهو موضوع لا يتصل مباشرة بفكرة تبديل اتجاهه في الحياة، ولكنه يوحي بتنازع القوى الداخلية التي تختلف عن شبيه البطل في رواية المثل لدوستوفسكي مثلا؛ وقد ارتكز أسلوب الطفل على التلاعب بحضوره الملتبس بالغياب عبر الأسئلة، والتهديد، وتأكيد حقيقة ملتبسة؛ وكأنه – في تضمينات الخطاب – يوحي بحالة استبدال موجهة للبطل؛ ولهذا يناديه بسعيد مهران ويكرر فئة التوجيهات من الأفعال الكلامية؛ وهو يوجه الاستبدال الإبداعي لشخصيات الأدب نحو فعل واحد؛ وهو الاتجاه الضدي للذات، والآخر، بينما نجد البطل ينحاز بدرجة أكبر للاستبدال الإبداعي المتغير، واللغة الاحتمالية، أو التي تنتظم منطقيا حول فكرة بهجة استدعاء الشخصيات الأدبية، دون النزوع التدميري، وإن أقر بحضور الصوت الداخلي ضمن قواه الداخلية المتناقضة التي ستنحاز لاحتمالية الرؤية.
وقد تنوعت أفعال الكلام في خطاب الصوت بين التوجيهات، والوعديات، والتأكيدات الملتبسة بالاحتمال، وإن زادت نسبة التوجيهات التي أراد أن يحرض البطل من خلالها على الفعل المضاد؛ ومن ثم إذا اتجه السرد إلى تنفيذ البطل للتحريض؛ فقد تحقق لازم فعل الكلام؛ وهو أعلى درجة من القوة في أثر أفعال الكلام، وإذا تأثر بصورة فورية إدراكية فقد تحققت قوة فعل الكلام بصورة جزئية.
أما المحادثة الثانية فهي بين البطل، وناردا في مرجع المقهى الذي يتداخل مع العوالم التعبيرية، ومقاهي محفوظ؛ ووفق نظرية الصلة يمكننا تخييله كنافذة تشبه ما وراء فضاء كشك الوراق في انفتاحه على أزمنة مختلطة؛ فالبطل قد ارتدى ملبس أحمد عبد الجواد في ثلاثية محفوظ في سياق يقع بين بنية الحضور التي تتنازعها النهايات، وبدايات انفتاح الذات على الشخصيات الأدبية الأخرى في المستقبل؛ يقول:
"-يبدو أن الذي يحدث لي معك بعبارة في أولها قوس، وآخرها مفتوح، مع هذا لن أضع لا فاصلة، ولا حتى نقطة، سأترك العبارة بلا أي علامة ترقيم ... أنا في المقهى ذاته..
-كأنك تقرأ الوجوه، وأنت ساهم بهذا الشكل.
-كنت أنتظرك.
-طريقك إليّ مغلقة ..
-سأحفرها بيدي" (14).
البطل / إبراهيم الوراق يبدو أكثر استطرادا وفق مبدأ الكم؛ لأنه ينشئ جملة شعرية مفتوحة من الاستبدالات الطيفية مع الشخصيات؛ ومن ثم فهو – يكرر مقاومة الحقائق الحاسمة، ويقاوم النهايات في الوقت نفسه – في بنية الخطاب؛ وأرى أن هذا التكرار يمثل درجة عليا من التجانس في وحدة الخطاب، وفي التناغم بين الذات، والآخر / ناردا في بنية المحادثة، فضلا عن التناغم الحلمي المتجاوز للواقع بينهما؛ ويوحي فعل الانتظار بتضمين خطابي يعزز من الحب؛ أما الطريق المغلقة في خطاب ناردا فيوحي بالأسى على عدم اكتمال العلاقة وكلاهما من فئة التعبيريات من الأفعال الكلامية، بخلاف التمثيلات الأولى التي تتضمن قوة الإقناع بانتشار الشخصيات الأدبية بدون قوس، أو فواصل؛ وكأنه ينزع عن المقهى حدوده المرجعية الأولى باتجاه فضاء البحر الذي يذكرنا بعوالم ميشو، وسان جون بيرس مثلا؛ وقد ارتكزت تمثيلات ناردا على قراءة إبراهيم للوجوه؛ والوجوه مفردة معجمية ذات دلالة في تجانس الخطاب؛ لأنها تعيدنا إلى الالتباس بين الشخصيات، وقدرتها على التقاطع، والتكرار، والأداء التمثيلي في ظروف السياق الفعلي، أو في درجة التوافق رؤيتها في سياق المحادثة النسبي، أو تطورها إدراكيا وفق نظرية الصلة في التداوليات الإدراكية المعاصرة؛ وتبدو حجاج كل من البطل، وناردا هنا خبرية؛ فهي تستشرف خطورة اتهامه؛ ومن ثم صعوبة ارتباطهما واقعيا، وهو يؤكد حالة الانتظار التي تؤكد حبه للقائها؛ وقد تضمنت المحادثة الصلة بكل من موضوعي تناغمهما، والاستعادة الشعرية التي لن تنتهي للشخصية في مراجع الواقع الممكنة؛ ولهذا جاء الأسلوب كثيفا، ومتضمنا لمضمر آخر يمكن استنتاجه من وحدتي الخطاب، والمحادثة؛ وهو الانتظار البهيج لتناظر تشبيهات الشخصيات في تلك المراجع الممكنة بينهما.
*هوامش الدراسة /
(1) راجع، جلال برجس، دفاتر الوراق، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ببيروت، 2020.
(2) راجع، جلال برجس، السابق، ص-ص 231، 232.
(3) Read, Barbara Abbott, Definiteness and Familiarity, in The Oxford Handbook of Reference, Edited by: Jeanette Gundel and Barbara Abbott, Oxford University Press, 2019, p. 117.
(4) Read, Jeanette K. Gundel, Nancy Hedberg and Ron Zacharski, Cognitive Status and The Form of Referring Expressions in Discourse, Ibid, p. 98.
(5) Read, Ann Bezuidenhout, Contexualism and Semantic Minimalism, in The Oxford Handbook of Pragmatics, Edited by Yan Haung, Oxford University Press, 2017, p. 32: 46.
(6) راجع، جيوفري ليتش، مبادئ التداولية، ترجمة: عبد القادر قنيني، أفريقيا الشرق بالدار البيضاء، المغرب، 2013، ص 262، 263، 264.
(7) Read, Yan Haung, Anaphora, Cross-Linguistic Approach, Oxford University Press, 2000, p. 247.
(8) Read, Paul Grice, Logic and Conversation, in Syntax and Semantic 3, Edited by: Peter Cole and Jerry Morgan, Academic Press, 1975, p.p 51, 52, Online, College London for Pragmatic Theory at:
https://www.ucl.ac.uk/ls/studypacks/Grice-Logic.pdf
(9) راجع، جلال برجس، السابق، ص-ص 86، 87.
(10) راجع، السابق، ص 13، 15، 55، 89، 366.
(11) Read, Sigmund Freud, The Interpretations of Dreams, Translated by: James Strachey, Basic Books, New York, 2010,pp 274, 275.
(12) راجع، جلال برجس، السابق، ص-ص 47، 48.
(13) راجع، السابق، ص 206.
(14) راجع، السابق، ص-ص 345، 346