يتناول الباحث التونسي هنا أعمال ثلاثة من الرسامين التوانسة المعاصرين، اختلفت أساليبهم في التعامل مع الصيغ البصرية المختلفة والأدوات التشكيلية المتعددة، ولكن جمعتهم الرؤية المأساوية للواقع التونسي، وظاهرة الحرّاقة – أي المهاجرين غير الشرعيين عبر البحر – بمختلف تجلياتها التي يتحول فيها الحلم بالنجاة من الأفق المسدود إلى كوابيس دامية.

الرسم التشخيصي الحرّ بين الحلم والمأساة

قراءة لأسلوب ثلّة من الفنانين التونسيين

أميـر الشـلّي

 

يعتبر الرسم الخطي من أقدم أشكال التعبير والتواصل بين البشر، يتجاوز حدود اللغة لأنه الوسيلة الأولى التي يلجأ إليها الفنان لسرد علاقته بالعالم حين تكون الكلمات غير كافية. تأصّل الرسم في الممارسة الفنية لفترة طويلة، بدًا من الرسم على جدران الكهوف ثم المعابد إلى الفترة الكلاسيكية، حيث عانى فيها من الدور الثانوي الذي أُختزل فيه. حيث إنحصر في المرحلة التحضيرية للوحة الزيتية أو المنحوتة، مع ذالك فقد كان جوهر الممارسة الفنية. تمتع الرسم مع الفن المعاصر بحرية تامة تقريبًا.

تتسم ممارسة الفنان المعاصر اليوم بالاستقلالية والتحرر الكامل من قانون المحاكاة، كما تجاوز تدريجيا إطار اللّوح وحدود سطح الورق ليستقر في كل مكان، ويقدم بأشكال أكثر تعددية وحيوية. يبتكر الرسام المعاصر شُخوصا تعكس مشاعره ومشاغله، شخوصت متمردة ومتحررة تعرف بأسلوب التشخيص الحرّ. تبنى ثُلة من الفنانين التونسيين هذا الأسلوب الفني في ممارساتهم التشكيلية، عبر صياغة شخوص خيالية تتفاعل مع الأزمات الإجتماعية التونسية وتبدي قلقها وحُلمها بواقع أفضل.

يُعتبر الفنان وسام العابد أحد أبرز الرّسامين على الساحة المعاصرة. هو فنان تشكيلي تونسي من مواليد 1977 في صفاقس. متحصّل على الدكتوراه في الفن وعلومه من جامعة السوربون. تتخذ رسوماته أشكال شخوص تتميّز بكبر الرأس وضمور باقي الجسد، يطلق عليها تسمية »بو رأس« يشكك وسام من خلالها في قدرتنا على تغيير أفكارنا وأحكامنا المسبقة، لذالك نجد شخوصه تمتلك رؤوس ضخمة، في إشارة إلى الدوغمائية. ما يلفتنا تجاه رسومه هي تعابير الوجه المتنوعة التي تعكس الذات الإنسانية في مختلف تقلباتها. نجدها ضاحكة، وغاضبة، ومنتشية ومتجهمة أو حالمة. ينتقد وسام العابد من خلالها أوضاع البلاد التونسية مسلطًا الضوء على أحلام الشباب الضائعة. البٍطالة، والنزوح والهجرة الغير شرعية مواضيع تُلهم وسام وتُغذي أعماله، ليجسدها بطريقة تجمع بين الأسلوب المِينيمَالي في بساطة الخط والسريالي المفعم بالخيال.

تتخذ رسومات وسام العابد وسائط مختلفة بين الرسم بالحبر على الورق نحو الجداريّات إلى التنصيبة الضوئيّة أين تغزو رسوماته كامل أرضية الفضاء وجدرانه. في تنصيبته التي تحمل عنوان »المُسافر« يعترضنا عند دخولنا قاعة العرض ظلام حالك ليتوجه مركز نظرنا تلقائيًا نحو شخوص مُشعة بالأزرق، هنا يصبح الزوار أشخاصًا ثانويين بالكاد يمكن رؤيتهم بسبب العتمة، حيث يتفاعل ضوء القاعة الأزرق مع الرسوم البيضاء فيجعلها متوهجة لينحصر جلّ اهتمام المتفرج نحوها. تأخذ هذه الرسوم هيئة شخوص كبيرة الرأس تتخذ وضعيات مختلفة بين المحلقة فوق السحاب والمهاجرة على قوارب و التي ترمقنا بلا مبالاة. ننظر إلى الأسفل أين تطأ أقدامنا، فنجد مجموعة من الشخوص والأيادي تخرج من الأرضية وكأنها تغرق فتستغيث وتطلب النّجدة. عمل يجسد وضعية الحرّاقة في مختلف جوانبهم الحالمة والمأساوية.

 

bbb_19.jpg

تفصيل من تصيبة  «المُسافر « لوسام العابد

 

ننتقل إلى عوالم نجاح زربوط التي تتسم رسوماتها بالطابع الأنثوي المناصر للمرأة. نجاح هي فنانة تشكيلية تونسية من مواليد 1979 بقرقنة. متحصّلة على الدكتوراه في الفن وعلومه من جامعة السوربون. تهتم في ممارساتها التشكيلية بمسائل مرتبطة بعلاقة الفرد بالآخر إلى جانب وضعيّة المرأة في المجتمع الرَقابي. من خلال رسوماتها نجد المرأة تستمد قوتها من شعرٍها الذي ينساب بكل سلاسة على كامل صفحات دفاترها. يمتلك شعر المرأة قوة خارقة يحمي جسدها وأفكارها من الشخوص المتحجرة التي تقف حولها، ليستحيل هذا الشعر في سلسلة أخرى إلى أجنحة تمكنها من التحليق عاليًا فوق السماوات والبحار. نلاحظ حضور بارز للعين في أغلب ممارسات الفنانة نجاح زربوط إذ تتحول العين إلى وحوش تترصد النساء وتلاحقهن. قامت نجاح بتقديم العين بطرق مختلفة لتخرج بها تدريجيًا من الرسم إلى النحت في شكل تنصيبات غزت الفضاءات العامة في باريس سنة 2006 أطلقت عليها تسمية »حقول بصرية» لتبتكر سنة 2008 تنصيبة بعنوان »غرفة التطهير« أين يتم إنتاج بيض يتم تخصيبه بواسطة حُقن تحتوي على عُيون ورقية ليبدو جانب الرقابة والتلصص بمثابة فيروس ينتقل من شخص لآخر. منذ 2018، طورت نجاح زربوط منهجًا في الرسم قائم على طيّ و تمزيق الورق، مما يخلق نوعا من الخطوط والظلال تعطي انطباعا على أنها غيوم، وأمواج وجزر لتضيف عليها شخوص مرسومة على ورق شفّاف، لتبدو محلقة في السماوات أو غارقة في أعماق المحيطات. تبتكر عالمًا من الورق، تقبع فيه شخوص هشّة تتلاعب بها الأمواج وتتقاذفها. من خلال هذه السلسلة تسلط نجاح الضوء على الجثث التي تختفي في عرض البحر نتيجة الهجرة السرية. سلسلة تُجسد ثنائية الحياة والموت، فالبحر الذي ينبع منه مختلف أشكال الحياة ويمثل مورد رزق أغلب التونسيين، هو نفسه الذي يسرق أرواح أبنائه الحالمين بمعيشة أفضل.

 

détail2.jpg

«فوق الغيوم»  تفصيل من عمل نجاح زربوط

 

ننتقل إلى عوالم هالة لمين حيث يحتل الرسم جزء كبيرا في ممارساتها الفنية. هالة هي فنانة تشكيلية تونسية من مواليد 1984 بتونس. خريجة جامعة السوربون. تتراوح ممارستها الفنية بين الرسم على مختلف المحامل إلى التصوير الفوتوغرافي. أين تطرح من خلاله تساؤلات حول علاقتنا بالطعام وإرتباطه بمفهوم آكلي لحوم البشر. لتنتقل في عروضها القياسية ورُسومها الجدارية وتطرح مواضيع تتعلق بالهجرة السرية. يتميز أسلوب هالة لمين في الرسم بكثافة أشكاله التي تتشابك وتتداخل فيما بينها مجسدة شخوصا طريفة متحررة من المنطق. تجمع هالة بين أسلوبين مختلفين في الرسم. حيث نجد شخوصا تتسم بالطابع الكلاسيكي في رسم الوجه يعطي إيحاء بجدّية الموضوع، لتنصهر هذه الشخوص الجدّية مع أخرى مناقضة لها تمامًا ذات عيون مجوفة غالبًا متعددة الأذرع أو مجنحة، مخلوقات ذات وضعيات وتعابير مفعمة بالحيوية تنسجم وتتفاعل مع الشخوص الكلاسيكية الجادة، لتبدو أحيانًا وكأنها تسخر منها وأحيانًا أخرى متعجبة أو مستاءة.

تحمل رسوم هالة لمين عوالم مختلفة بل ومتنافرة لكن رغم هذا التنافر تبرع في الربط والتوفيق بينها. تطلق هالة لمين العنان لخيالها في رسم شخوصها لكن إن كان هناك إسراف في رسم الأشكال فإن الألوان التي تعتمدها عادةً ما تكون قليلة حتى لا تُشتت عين المتقبل ويكون هناك توازن بين حركية الخط وإقتضاب اللّون. في معرضها الشخصي الذي يحمل عنوان» الحياة الغير سرية لسامانثا «، قامت هالة لمين بإجراء تجربة فريدة من نوعها استمرت لمدة عام ونصف، تابعت فيها سرًا المنشورات الفايسبوكية لإحدى المستخدمات تدعى سامانثا، التي اختارتها عشوائيًا من شبكة التواصل الاجتماعي. أكثر ما أثار اهتمام هالة هي الصور التي تنشرها سامانثا مع متابعيها على الفايس بوك، لتعتمدها كمادة تشكيلية تراوح فيها بين الرسم والتلصيق لتقدم لنا صورة عن حياة سامانثا اليومية تحاول فيها إبراز الجانب اللامرئي منها.

تطرح هالة من خلال هذه الممارسة مواضيع متعلقة بالهوية الإفتراضية وحرية الولوج للمعطيات الشخصية. سنة 2018 بمدينة سوسة قامت هالة لمين بإنجاز رسمة جدارية تحمل عنوان »شْقف الحريقة» يجسد العمل سفينة يركبها عدد كبير من الشخوص التي تتراكم فوق بعضها مجسدة شكل سفينة شِراعية ذات ألوان طفولية. من خلال هذا العمل قامت هالة بتكريم 150 مهاجرًا فقدوا في عرض البحر، إثر رحلة غير شرعية في قرقنة سنة 2017. تركيبة العمل اقتبستها من لوحة تحمل عنوان »طوافة مِيدوسا« للرسام جيريكو التي رسمها سنة 1819. احتفظت هالة بجميع أبعاد اللوحة الأصلية لكن على عكس لوحة جيريكو المظلمة والدرامية لحطام السفينة، فإن لوحة »شْقف الحريقة« هي إعادة سرد كاريكاتورية للمأساة. ربما إشارة إلى أحلام الطفولة التي غرقت مع 150 روحًا فقدناها. ومع ذلك، عند إلقاء نظرة فاحصة، تبدو أشكال الباستيل الكرتونية في الطوافة وكأنها أشباح بعيون مُجوفة نلمح فيها أحلام كبيرة متراكمة تجسدها خطوط وأجساد هزيلة.

 

Screenshot_5.jpg

»شْقف الحريقة» لهالة لمين

 

تتنوع المواضيع التي يطرحها الفنانين التونسيين فمن فنان لآخر تختلف التصورات وتتعدد المفاهيم لتلتقي أحيانًا كثيرة في مواضيع مفصلية. كما هو الشأن مع الهجرة السرية التي وحدت ممارسات الفنانين رغم اختلاف تمشياتهم واهتماماتهم. تعتبر الحرقة أو كما تعرف بالهجرة الغير شرعية أحد أبرز المشاكل التي تعاني منها تونس. فأمام الأزمات السياسية والركود الاقتصادي، تلوذ العائلات التونسية بالفرار على قوارب الموت، آملين بالوصول إلى الضفة الأخرى. ورغم المعرفة بتقلص فرص النجاة، تبقى آمالهم متشبثة بالفردوس المنشودة. معضلة إجتماعية حاول الفنانين معالجتها تشكيليًا فبين سفينة هالة الهزيلة وشُخوص وسام الغارقة وتَمزُّقات أمواج نجاح تتجسد المأساة بأشكال مختلفة. خلال الأزمات يأتي دور الفنان ليقدم للمشاهد صورة حول مجتمعه، وواقعه، حتى يتمكن من تطويره والارتقاء بوعيه. ليس على الفنان أن يأتي بإجابات، دوره هو طرح الأسئلة فالفن نوع من المحفز لبدء التغييرات والتعديلات اللازمة لإستمرارية المجتمع. وفقًا للفيلسوف جان بول سارتر "الفن ضروري لصحة المجتمع".

 

باحث تونسي في جماليات الفنون وممارستها