تنوعت أشكال كتابة السيرة، وينزعُ عدد من الكتاب إلى حصر ما ينشرونه في الشق الفكري أو الأدبي وذلك ما تلمحهُ من عبارات تجنسية مرفقة بالعنوان، إذ أصدر المفكر اللبناني علي حرب سيرته بعنوان "خطاب الهوية" مضيفاً مصطلح سيرة فكرية إلى العتبة الأولية وعلى هذا المنوال أرادت الكاتبة والروائية العراقية لطفية الدليمي تحديد مضمون كتابها السيري الموسوم بـ"عصيان الوصايا" المرفق بجملة توضيحية "كاتبة تجوب أقاليم الإبداع" بالحديث عن تجربتها الأدبية من خلال العلامة التجنسية كما يشيرُ الروائي المغربي بنسالم حميش في مقدمة سيرته المعنونة بـ"الذات بين الوجود والإيجاد" بأنَّ الغالب الأعم لمرويته، فكرية ذهنية.
وقد يكون الغرض من إيراد هذه المفردات هو إدراك صاحب السيرة بأنَّ ما يتوقعه القاريء منه هو الحديث عن الإنشغالات الفكرية والإبداعية لأنَّ الخلفية الثقافية والإبداعية في نهاية المطاف لا تنفصلُ عن المكونات الأخرى لشخصية الأديب والمُفكر.
بخلاف ما ذكر آنفاً فإنَّ الكاتب العراقي علي الشوك نشر سيرته الذاتية "الكتابة والحياة" دون وجود ما ينم عن حصر المضمون بالجانب الفكري أو التكوين الثقافي أو التجارب السياسية بل ما يضمهُ الكتاب يشمل الحديث عن البيئة الأولى ومواقف المؤلف السياسية، ومن ثُمَّ نمط حياته في المنفى وإنصرافه إلى الدراسات اللغوية وكتابة الرواية بعد مرارة تجربة السجن.
المشترك في كتب السيرة والمذكرات هو حضور الخطاب النقدي إذ يمارسُ المؤلف نقداً لذاته، وما كانت بمنزلة المسلمات الأيديولوجية والسياسية
سوء التقدير
يعترفُ الشوك بهشاشته أمام آلة التعذيب مبدياً إعجابه بالرفاق الذين لم تلن إرادتهم ويذكرُ أسماء من تمت تصفيتهم، وماكادت أن تنجح المحاولات لإطلاق سراحه من معتقل خلف السدة حتى يتدخل أحد أقاربه مخبراً جهات نافذة في نظام الحكم بأنَّ هذا السجين الشيوعي عنصر خطير على الدولة.
وفي السياق ذاته يقول علي الشوك بأن ابنة خالته كانت سبباً لاعتقاله واقتياده إلى قصر النهاية. ما يعطي السلاسة لأسلوب "الشوك" في الكتابة هو الإعتماد على الحوار القائم بينه وبين صديقه الطبيب علي السعدي فيكون صوت الأخير مجاوراً لما يسردهُ الكاتب عن تجربته في السجن، كما يدور النقاش بين الاثنين بشأنِ مفهوم البطل. أكثر من ذلك ينسحبُ علي الشوك في بعض الفقرات تاركاً زمام الحديث لـ"علي السعدي" وآرائه الصريحة عن السياسيين العراقيين واصفاً إياهم بالأرستقراطيين والسطحيين لافتاً إلى أن عبدالكريم قاسم كان شخصية غامضة. فيما يكنُ إعجاباً شديداً للسياسي المغربي مهدي بن بركة مشيراً إلى أن عملية اختطافه كانت بتواطؤ شبكة من الأجهزة الإستخباراتية.
يفهمُ مما يقدمه علي الشوك عن الأجواء السائدة عشية انقلاب 1963 وماتبعه من المجازر ضد اليسار والشيوعيين بأنَّ هناك سوء التقدير للأوضاع لدى قادة الحزب، وتفاؤلاً غير مسوغ بالتطورات. أخذ الأمل الذي كان يلوحُ في فكر صاحب "الموسيقى والميتافيزيقا" بالإنطفاء وتوصل إلى القناعة بأن الشيوعية العالمية حلم لن يتحققَ، وما أنجز في كوبا لم يكن إلا إستثناءً قد لايتكررُ. ويرى بأنَّ السوفيت لم يدعموا قيام الثورة الإشتراكية في العراق سنة 1959 حتى لا يصل الصراعُ مع القطب الرأسمالي إلى حافة الإنفجار. وبنظر علي الشوك كان تحقيق الإشتراكية أيسر من شرب قدح ماء آنذاك.
وعن مد الفكر الماركسي وقوته المعنوية وانضواء جماهيرية عريضة تحت مظلته تقول الكاتبة العراقية فاطمة المحسن في مذكراتها "الرحلة الناقصة" بأنَّ مكانة الحزب الشيوعي في الشارع كانت أكبر بكثير من أعداد منتسبيه بعد انقلاب البعث الثاني، وذلك يعود حسب رأيها إلى تعاطف العراقيين مع التيار اليساري كما أنَّ تجدّد الفكر الماركسي عالمياً دفع الشباب والمثقفين في العالم العربي إلى تبنيه. لكن هذه الإنطلاقة على ما يبدو لاترافقها مشاريع فكرية لقراءة الواقع العراقي وأزماته السياسية ونمط الإنتاج الإقتصادي على ضوء مفاهيم الفلسفة الماركسية، فبالتالي لم يتمخض عن هذه الحراكات مدونة فكرية ولا تحولاً على الصعيد السياسي. وتحملُ المحسن ما تسميهم باليمين الشيوعي مسؤولية انتكاسة الحزب والإستهانة بتضحيات قاعدته.
لا تغيبُ النبرة الإنتقادية في سيرة علي الشوك غير أنَّه ينصرفُ إلى داخل المعقل السوفيتي. كانت الديكتاتورية وسياسة التخويف ثغرة في المعكسر الإشتراكي. وهذا ما يؤكده غائب طعمة فرمان لصديقه علي الشوك. وينقلُ الكاتبُ على لسان عادل حبة واقعة إغتضاب لافرانتي بيريا لرفيقة شيوعية لأنها إنتقدت صناعة الأحذية في الإتحاد السوفيتي.
المتصالح
لقد تألمَ علي الشوك وهو يشاهدُ بوادر انهيار الحلم الاشتراكي مستعيداً سلسلة من الفرص التي فوتت على اليسار للوصول إلى الحكم في العراق وإيران وإيطاليا وفرنسا، متسائلاً عن أسباب تداعي نظام استمر لمدة سبعين سنةَ وبعث الأمل بإمكانية إنشاء عالمٍ تنتهي فيه ظاهرة الإستغلال بأنواعها المختلفة. ويعطفُ على ذلك بسؤال عن سر اختياره للإشتراكية وتمسكه بها رغم تهاوي الدولة السوفيتية؟ موضحاً بأنَّ السبب ليس عدوانا للمعسكر الغريم لأنَّه لا يمقت الرأسمالية. فعلاً أنَّ ما يرويه علي الشوك عن أرومة أسرته وإمتلاك جده لمساحات الأراضي والوفرة التي تمتعوا بها، يكشفُ عن صعوبة التخلص من ترسبات متراكمة بمجرد اعتناق أفكار جديدة. فكانت الأراضي التي تعود ملكيتها لعائلة "الشوك" تشملُ كل المنطقة التي تقع فيها بناية المتحف، مطار المثنى، وقصر النهاية، طبعا الكلامُ على عهدة عم الكاتب.
يقدمُ مؤلف "أسرار الموسيقى" رأيه عن القادة الشيوعيين معلناً بأنَّه لم يحب ستالين ويكتشف بأن لينين يزدري المثقف ويعتبره ماكينة الحزب ويرفض نبوءة ماركس بعدما يعلمُ بأن الأخير أنجب من خادمته، وكان أنجلس وحده موضع أعجابه. هل يمكنُ فهم موقفه من صاحب "ديالكتيك الطبيعة" على خلفية تقاطع اهتماماتهما العلمية أو لأنَّ أنجلس كان ابن عائلة أرستقراطية كما علي الشوك.
الملمح البارز في هذا النص السيري هو ما يسرده المؤلف عن انهمامه على عالم الرواية وشغفه بالروائيين الكبار ستاندال وشولوخوف ستيفان زفايغ وتوماس مان وغيرهم. ويعودُ إلى قراءة "الحب الأول" لتورغينيف بعد ستين عاماً على القراءة الأولى. يُذكر أن فلوبير قد احتفي بهذه الرواية أيضاً كما قرئت رائعة تورغينيف داخل بلاط الإمبراطور الروسي.
لا يكتفي علي الشوك بمتابعة الأعمال الروائية إنما يسكنه هاجس كتابة الرواية لكن إنجاز هذا المشروع يتأخر لأنَّ الإنخراط في هذا العالم يتطلبُ معرفةً بامرأة بمواصفات خاصة. ويدركُ المتلقي بأنَّ الشوك كان يبحثُ عن امرأة من طراز ماتيلد بطلة رواية "الأحمر والأسود".
عن تواصله مع الجنس الآخر يقولُ علي الشوك بأنه لم يكن ساحراً أمام المرأة لكن ثمة شخصيتين نسائيتين قد أعجب بهما الكاتب؛ الأولى هناء بتحررها وقوة حضورها، فهي قد آوته بألمانيا الشرقية، والأخرى من يرمز إليها بـ"غ".
يتناولُ علي الشوك في مفصل آخر من سيرته كواليس كتابة الرواية إذ ينشر روايته الأولى بعنوان "الأوبرا والكلب" وتليها أعمال أخرى منها "السراب الأحمر" و"فرس البراري" وهو قد راودته في البداية فكرةُ إصدار رواية بعنوان "المعصوبي العين"
يناقشُ الكاتبُ ما قاله النقادُ والقراءُ عن سردياته الروائية، وتستشفُ من ردوده بأنَّه لا يستسيغُ بعض الآراء ويعتبرها استهانةً بعملٍ أحرق أعصابه في إنجازه عن حب وعناية الأمر الذي يذكرك بما لاحظته فاطمة المحسن بأنَّ ما يزعج العراقي هو مجادلته في مسلماته.
لاتخلو عبارات علي الشوك من الإستعلائية وهو يقول بأنه يرثي نفسه لأنه وجد بين أمة متخلفة لا تستحق أن تمارس حياتها في القرن الواحد والعشرين. كما يصف ثورة 14 تموز بأنها كانت ثورة رعاعية كأن ما شهدته فرنسا في نهاية القرن الثامن عشر عبارة عن حركة سلمية. وينزلُ بالقاريء دون مستوى المبدع فبرأيه أن الكاتب هو صاحب الإنجاز أما القاريء فهو مستهلك. والمشترك في كتب السيرة والمذكرات هو حضور الخطاب النقدي إذ يمارسُ المؤلف نقداً لذاته، وما كانت بمنزلة المسلمات الأيديولوجية والسياسية. كما يرصد مظاهر التخلف على المستوى السياسي والإجتماعي، وقد تفيد مضامين هذه الكتب لفهم التكوين النفسي للنخبة المثقفة. ومستوى تفاعل هؤلاء مع المعطيات الفكريةز
(نقلا عن ميديل إيست أونلاين)