يقدم الكاتب السوداني هنا قراءة مفصلة لواحد من أهم الكتب النقدية التي صدرت مؤخرا في السودان. والتي تميط اللثام عن جوانب من تاريخ هذا الأدب لم تحظ بما تستحقه من اهتمام الواقع الثقافي العربي. ويقدم معها للقراء ناقدا سودانيا يستحق المتابعة، برغم انشغاله بالأدب السوداني بشكل كبير.

قراءة في كتاب «الشعر السوداني»

لعبد المنعم عجب الفيا

حامد فضل الله

 

تعرفت على عبد المنعم للمرة الأولى، عند ما قرأت له منذ عدة سنوات، بحثا نقديا عميقا وضافيا عن الشاعر الراحل محمد عبد الحي في مجلة "كتابات سودانية"، التي كانت تصدر عن مركز الدراسات السودانية بالقاهرة. ومنذ ذلك الحين لم يفارق اسمه ذهني. لقد صدرتْ له العديد من الكتب لم أعثر عليها في مطبعة مدبولي بالقاهرة، فكان مدخلي له المجلات الاِلكترونية، خاصة سودا نايل، والراكوبة وأحيانا الحوار المتمدن. عبد المنعم ناقد أدبي متميز وباحث في الثقافة واللسانيات.

حمل لي البريد مظروفاً ضخماً، فتحت المظروف بشغف، وجدت فيه كتابين من الحجم المتوسط، الكتاب الأول في "الشعر السوداني"، والثاني "في نقد التفكيك"، لعبد المنعم عجب الفيا، لقد اعتبرتهما هدية عيد الأضحى المبارك (يوليو 2021)، من صديق أم درماني عزيز، فالهدايا نحصل عليها في العادة في عيد ميلاد السيد المسيح عليه السلام ورأس السنة. هذا المقال يتعرض بصورة مكثفة للكتاب الأول بعنوان: "الشعر السوداني، من مدرسة الاِحياء إلى قصيدة النثر، دراسة نقدية" الصادر عن دار مدارات للطباعة والنشر-الخرطوم. يضم الكتاب من القطع المتوسط ( 364 صفحة، الطبعة الأولى 2020)، مقدمة وبابين و15 فصلاً وكل فصل يحتوي على عدة عناوين فرعية، وثم قائمة المراجع والمصادر.

جاء في المقدمة القصيرة "لو كانت هنالك ثورة في الثقافة العربية شبيهة بثورة كوبرنيكوس في علم الفلك، فهي الخروج على نظام القصيدة التقليدية التي ظلت متوارثة عبر الأجيال على مدى أكثر من ألف عام. وقد بدأت ارهاصات هذا الانقلاب بظهور ما سمي بـ "الشعر المنثور" ... وغرض هذه الدراسة رسم خطوط عريضة لمسيرة وتحولات الشعر السوداني، من مدرسة الاِحياء مروراً بقصيدة وحدة التفعيلة وحتى قصيدة النثر، وهذا لا يكتمل إلا بالحديث عن ذلك في إطار منظومة الشعر العربي الحديث والقديم".

الباب الأول
الفصل الأول: الشعر العربي من التقليد إلى التجديد":

"مع انفتاح العرب على الحضارة الغربية إثر حملة نابليون على الشام ومصر (1798  ــ 1801)، برز اتجاه إحياء الشعر العربي القديم من جانب شعراء بارزين في مصر، والسودان والعراق وسوريا وغيرهم من شعراء الأقطار العربية الأخرى، أن شعراء هذا الاتجاه النهضوي الاِحيائي العربي، لم يكونوا مجرد شعراء مقلدين بل كانت لهم أصالتهم وشخصياتهم وفق متغيرات عصرهم". ثم يتعرض الكاتب إلى المد الرومانتيكي وتجديد عمود الشعر، ويرى عكس كثيرين يظنون أن مدرسة (الديوان) بزعامة شكري والعقاد والمازني هي أول من رفع لواء التجديد في الشعر العربي الحديث، وإنما الشاعر اللبناني المجدد خليل مطران، وان كل مدارس التجديد اللاحقة، قد خرجت من عباءته. ويشير إلى دور الأديب والناقد السوداني معاوية محمد نور (1909 ــ 1941 ) في نقده للرومانتيكية، وتطبيق نظريات الحداثة النقدية الأوروبية، على الشعر العربي آنذاك من خلال مقالاته في كبرى الصحف والمجلات المصرية الرائجة في ذلك الوقت. ويبرز عبد المنعم ما وجهه معاوية من نقد إلى شعراء الحركة الرومانتيكية العرب ومدى إدراك معاوية لضرورة التجديد ومدى استيعابه العميق والمبكر لتيارات الحداثة الشعرية.

الفصل الثاني: قصيدة وحدة التفعيلة العربية:
ويبدأ بالإشارة  إلى نظام القصيدة العربية، الذي يقوم على وحدة البيت، ويتكون من شطرين ثم القافية والوزن ويعقد مقارنة بين الشعر العربي والشعر الأوروبي، ويبرز خصائص كل منهما. وان شعر التفعيلة هو شعر موزون يلتزم بقواعد العروض الخليلية في بحوره المختلفة والكتابة على نظام الشطر الواحد على نسق الشعر الأوروبي. ويقول بأن الشاعرة العراقية نازك الملائكة، هي أول من حاولت التأسيس لقصيدة (التفعيلة)، ثم السياب، صلاح عبد الصبور، أحمد عبد المعطي حجازي وأخرين ... وأطلقت عليه مصطلح (الشعر الحر) للشعر الجديد، قبل أن تتبنى بعد ذلك مصطلح (شعر التفعيلة ــ قصيدة التفعيلة. ويرى الكاتب، أن صفة (شعر حر) و مصطلح (شعر مرسل)، لا ينطبقان على هذا الشعر، ولا مندوحة من الاكتفاء بـ (شعر التفعيلة) اسماً على هذا النوع من الشعر.

الفصل الثالث: الخصائص الأسلوبية لقصيدة الحداثة:
ويقصد بقصيدة الحداثة كل من قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر، ويتحدث أولاً عن بعض الخواص الأسلوبية، التي تنتمي إلى قصيدة وحدة التفعيلة. مشيرا إلى ألفاظ ولغة الشعر، والايحاء وتوظيف الصورة والرمز في التعبير عن الرؤى والأفكار الشعرية بطريقة غير مباشرة. وتعرف هذه التقنية عند تي اس إليوت بـ "المعادل الموضوعي"، أي خلق صورة في الخارج تعادل الشعور الذاتي للشاعر. وتوظيف الأسطورة، كما استخدمها الشاعر السوداني محمد عبد الحى، بتوظيف أسطورة (السمندل). وكذلك من خصائص قصيدة الحداثة، الاقتباس والتضمين أو ما يعرف حديثاً بالتناص، الذي برع فيه الشاعر الفذ أمل دنقل. ويشير إلى نقطة هامة، بوجوب التمييز بين مفهوم الاقتباس عند نقاد وشعراء الحداثة، الذي يعني عملية الاقتباس الواعي التي يقوم بها الكاتب لتوظيف النصوص الأخرى، ومفهوم التناص عند منظري ما بعد الحداثة، الذين يعتبرون أن أي كتابة أدبية، هي إعادة كتابة لا واعية لكتابات سابقة، مما يعني نفي الذات ونفي الاِبداع وأصالة المبدع.

الفصل الرابع: قصيدة النثر العربية:
ونشير هنا باختصار إلى ما جاء عن خصائصها: الوحدة والكثافة، أي تجنب الاستطراد والايضاح والشرح، المجانية، بمعني فكرة اللازمنية، أي لا تقدم نحو غاية أو هدف كالقصة أو الرواية، ويشير إلى أهم المنظرين، أدونيس وانسي الحاج وللمنظرين الأوروبيين، والتفريق بين النثر الشعري وقصيدة النثر. أما نازك الملائكة فترفض (قصيدة النثر)، فهي ترفض كل شعر غير موزون مقفى، ويناصر عبد المنعم قصيدة النثر، بقوله "إذا استشهدنا برأي نازك الملائكة عن فضيلة الوزن في الشعر، فأننا لا نتفق معها في موقفها الرافض لقصيدة النثر".

الباب الثاني
الفصل الأول: الشعر السوداني والاتجاه الاِحيائي:

بعد استعراض موجز لتاريخ العربية في السودان، وهو أسبق على دخول الاِسلام، فقد ظلت القبائل العربية منتشرة في سهول وصحاري السودان الشمالي في ظل حكم الممالك النوبية المسيحية والتحالف مع قبيلة (الفونج) إحدى المجموعات الأفريقية الأصلية وتأسيس المملكة الاِسلامية الآفروعربية التي حكمت  معظم أقاليم السودان الشمالي حتى الغزو التركي المصري للسودان بزعامة أسرة محمد علي باشا في 1821 م. ثم يشير إلى مدرسة الاِحياء في الشعر السوداني، والتطورات التي حدثت في المجتمع السوداني مع بداية العهد الاِنجليزي - المصري، وإدخال نظام التعليم المدني والتأثر بمدرسة الاِحياء في مصر، وبشعر شوقي وحافظ وعلي الجارم. ومن أبرز شعراء مدرسة الاِحياء السودانية: عبد الله محمد عمر البنا ومحمد سعيد العباسي وعبد الله عبد الرحمن الضرير وأحمد محمد صالح ومدثر البوشي وتوفيق صالح جبريل وأخرين، لقد حافظوا على أغراض القصيدة القديمة، ويقدم نمازج جيدة من دواوين الشعراء، عبد الله محمد عمر البنا ومحمد سعيد العباسي واحمد محمد صالح.

الفصل الثاني: بدايات التجديد في الشعر السوداني:
بدأت معركة التجديد عندما فتحت جريدة (حضارة السودان) صفحاتها للأدباء والنقاد، والهجوم الكاسح للناقد الشاب الأمين علي مدني، واصفا الشعر السوداني بالجمود والتخلف والتقليد وغياب روح التجديد، ثم الاِشارة إلى الشاعر والناقد المجدد حمزة الملك طمبل والتأسيس للسودانوية، وقد كان جريئاً في طرح آرائه وأفكاره التجديدية، ودعوته إلى أدب سوداني يحمل مكونات الاِنسان السوداني، وخصائصه الثقافية والاجتماعية والجغرافية والتاريخية. والهجوم الذي تعرض إليه من الناقد عبد القدوس الخاتم، وقد تعجب عبد المنعم كيف لا يدرك عبد القدوس الخاتم كناقد طليعي، القيمية التجديدية والتأسيسية لحمزة الملك طمبل. ويشير إلى مقالات محمد عشري الصديق ووضعه الاِطار النظري الذي قامت عليه النهضة الأدبية السودانية في ثلاثينيات القرن الماضي، وحماس محمد أحمد محجوب إلى هذه الفكرة، والتي اصبحت محور اهتمامه الأدبي والنقدي والفكري، ويمكن القول بأن الدافع الأول لقيام جماعة مجلتي النهضة والفجر، هو تأسيس لأدب قومي سوداني. ويختتم الكاتب هذا الفصل ــ الذي أتسم بنقاش موضوعي وتخلله هجوم صارخ احياناً ــ  بكلمات مضيئة "علينا إذاً أن نقرأ تاريخ بلادنا الأدبي والثقافي والفكري في كليته وتكامله الديالكتيكي الصاعد المنفتح، وألا ننظر إليه كجزر منعزلة لا رابط بينها، أو كنبت منبت بلا أصل ولا جذور. وعلينا أن نتخلى عن عقلية: إثبات وجودي رهين بأقصاء ومحو الآخر. فهذه نظرة عدمية غير علمية وغير تاريخية وغير واقعية، لا تفضي إلى شيء".

الفصل الثالث: التجاني يوسف بشير:
يقدم الكاتب دراسة نقدية وافية (71 صفحة) وعميقة، مستعرضا مسار هذا الشاعر العظيم، الذي أختطفه الموت مبكراً، تاريخ أسرته والتحاقه بالمعهد العلمي الديني بأم درمان، ثم مفهومه للشعر، الذي عبر عنه في حفنة من المقالات الأدبية والنقدية والثقافية بالصحف والمجلات، وشارحا بنية القصيدة وموسيقى الشعر، ويمزج التجاني في شعره بين الرومانتيكية كما نجدها عند كبار الشعراء الغربيين، وبين الصوفية العرفانية في تجلياتها الاسلامية عند الغزالي وابن عربي وعبد الغني النابلسي والسهروردي. ونزعته الانسانوية. ويستشهد بالعديد من قصائده ومشتبكا مع نقاده مثل د. عبد المجيد عابدين، د. محمد عبد الحي، ومحمد محمد علي. ويرى عبد المنعم،  بأن التجاني تأثر بالشاعر التجديدي حمزة الملك طمبل، عندما يقارن عناوين قصائده وبرؤاه الشعرية، وبأسلوبه وموسيقاه وقوافيه المقيدة (الساكنة). ويشير إلى جناية المطابع على ديوان إشراقة منذ صدور طبعته الأولى، أغلاط مطبعية كثيرة لا يمكن للغة الشعر وموسيقاه التسامح فيها أبداً، ويشير بأن الباحث والناقد النابه د. عبدالله علي إبراهيم، قد تنبه وأشار إلى هذه الأخطاء أيضاً.

الفصل الرابع: النهضة الأدبية والفكرية في السودان:
ونشير هنا باختصار شديد: بدأ المشروع النهضوي بسلسلة مقالات طمبل بعنوان (الأدب السوداني وما يجب أن يكون عليه) بجريدة (الحضارة) السودانية في غضون العام 1927 ، ثم تكوين جماعة مجلتي النهضة والفجر (أولاد الموردة وجماعة أبي روف) وظهور الكتاب الذين شملت كتاباتهم وبحوثهم مختلف فروع المعرفة من الفلسفة وعلم النفس والاجتماع والتاريخ إلى الأدب والنقد والشعر والقصة والإشارة من جديد لمعاوية محمد نور كمثقف عضوي.

الفصل الخامس: محمد أحمد محجوب:
يفرد الكاتب فصلا كاملا لمحمد أحمد محجوب، بصفته أديب ومفكر وشاعر كبير سرقته السياسة وظلمته في ذات الوقت. فعندما يأتي الحديث عنه دائما يكون الجانب السياسي هو الطاغي، ويعتبرهُ أحد أهم ناقدين أدبيين ظهرا بالتزامن في تلك الفترة بعد طمبل، أي المحجوب ومعاوية محمد نور، ويشير إلى مقالاته العديدة التي نشرها بمجلتي النهضة والفجر. والمحجوب شاعر مطبوع، جزل الأسلوب، ناصع العبارة. صدرت له ثلاثة دواوين هي ديوان (قصة قلب) وديوان (قلب وتجارب) وديوان (مسبحتي ودَني) ويُعتبر الأخير في نظره، أفضل ما كتبه المحجوب من شعر.

الفصل السادس: المجذوب مجمع البحرين:
"شهد النصف الثاني من أربعينيات القرن العشرين، وأوائل الخمسينيات، بداية التحولات الجذرية في مسيرة الشعر العربي، إذ بدأت تتبلور محاولات الخروج على عمود الشعر العربي، وكانت الساحة الفكرية تعج بالتيارات والاتجاهات الفلسفية والنقدية، ومعارك الصراع الفكري والحضاري، بين أنصار التراث وأنصار المعاصرة كانت على أشدها. ومن خلال هذه الفترة، بدأ الشاعر الضخم محمد المهدي المجذوب (1918 ــ 1982 ) كتابة الشعر كما تكشف دواوينه". ويشير الكاتب إلى أبرز شعراء هذه الحقبة: إدريس جماع، محمد محمد علي، سعد الدين فوزي، عبد الله الطيب، منير صالح جبريل، الهادي أدم، والطيب العباسي وآخرون، ويعتبر المجذوب مدرسة قائمة بذاتها، وهو يمثل عنده ملتقى تيارات الحداثة الشعرية بالمدرسة التقليدية. ويقوم الكاتب بعرض العديد من قصائد المجذوب من دواوينه المتعددة، ويقول بالرغم من أن شعره، يغلب عليه النظم على عمود الشعر العربي، إلا أنه كتب بكل الأشكال الشعرية: عمودي، وشعر تفعيلة، وقصيدة نثر، ويقوم بتحليل هذه القصائد، والتفات المجذوب إلى المكون الأفريقي، الاِثني والثقافي، في الذات السودانية ويفاخر بأصله الأفريقي.

عندما يقول في أحدى قصائده:

عندي من الزنج أعراقُ معاندةُ      وإن تشدق في أشعاري العربُ

وفي قصيدة أخرى:

فليتي في الزنوج ولي ربابُ         تَميلُ به خطايَ وتستقيم

وفي حَقويَ من خرز حزامُ          وفي صدغيًّ من وَدع نظيمُ

وأجترعُ المريسةَ في الحواني       وأهذِرُ لا ألامُ .. ولا ألوم

طليقُ لا تقيدنــــــي  قريشُ           بأحساب الكرام ولا تميم

وكان أبناء جيله والأجيال السابقة، يغفلون هذا الجانب في ذواتهم، ويكتفون فقط بالتغني بالانتماء العربي مكوناً وحيداً.

وفي قصيدة بعنوان (معرفة):

 وحدي أعيشُ على بؤسٍ ومعرفة

 وأكتبُ الشّعرَ ألواناً من الوجع

وهذا يذكرني بقصيدة صلاح أحمد إبراهيم، القائل فيها:

لو أنّ الشعر شواظّ لهب/ لمضيت أقول الشعرَ/  أقول إلى أن تفنيني الكلمات

لو أن القلب يسيل بحار لهب/ لعصرت القلب عصرة / إلى أن يفلت من كفي قطرات

مثل هذا الشعر يضع بصماته في روح وجسد مبدعه.

ويقول عبد المنعم في ختام مقال المجذوب:

"وإذا كان المجذوب يرى في طمبل، أول شاعر وناقد (سودانوي)، فنحن نرى في المجذوب ثاني شاعر (سودانوي) بعد طمبل. فالمنجز الشعري العظيم للمجذوب، هو ثمرة من الثمرات الكبرى لمشروع طمبل التنويري. ليس المجذوب وحسب، بل صلاح أحمد إبراهيم، ومحمد المكي، ومحمد عبد الحي، وعلي عبد القيوم، والمحجوب، ومحمد الحسن سالم (حميد)، ومحمد طه القدال، وعاطف خيري، وكل شعراء بلادي العظام، بل وكل كتًاب القصة والرواية، هم ثمرات ذلك المشروع النهضوي السوداني، الذي وضع لبناته الأولى طمبل ومعاوية وأولاد عشري، والمحجوب، وعرفات، ورسخه المجذوب ومحمد محمد علي، وآخرون كثر جاءوا من بعدهم".

الفصل السابع: قصيدة وحدة التفعيلة في السودان:
ثورة الشعر السوداني في الستينيات "لم تتحول قصيدة التفعيلة عند الشعراء السودانيين إلى موجة أو حالة عامة إلا في مطلع الخمسينيات حيث بدأ عدد من الشعراء الشبان الذين كانوا يقيمون بمصر نشر تجاربهم الشعرية الجديدة وأصدروا دواوينهم الأولى في فترات متقاربة". ويشير إلى الفيتوري وديوانه الأول (أغاني أفريقيا) في عام 1955، وكذلك الشاعرين جيلي عبد الحمن وتاج السر الحسن، ومحي الدين فارس، وحسن عباس صبحي. وقد تم نشر دواوينهم قبل نشر صلاح عبد الصبور ديوانه الأول (الناس في بلادي) سنة 1957، أحمد عبد المعطي حجازي وديوانه الأول (مدينة بلا قلب) في عام 1959. ومن السودان صلاح أحمد إبراهيم ديوان (غابة الأبنوس) في عام 1959 وكذلك قصائد محمد عثمان كجراي في الصحف والمجلات. ويقوم بشرح وتحليل بعض القصائد البديعة من الشاعر الفيتوري. ويقول بأن قصيدة التفعيلة نضجت واستوى عودها في السودان في ستينيات القرن الماضي، ويذكر شعراء تلك الفترة، محمد المكي إبراهيم، والنور عثمان أبكر، ومحمد عبد الحي، وعلي عبد القيوم، ومصطفى سند، وعمر عبد الماجد، وعبد الرحيم أبو ذكرى وغيرهم، ويقدم أمثلة لإشعارهم. وظهرت في السبعينيات أصوات شعرية منها: كمال الجزولي، وعالم عباس، وفضيلي جماع ، وعبد القادر الكتيابي، ومحمد نجيب محمد علي، ومحمد محي الدين وغيرهم. وظهرت في الثمانينيات أصوات شعرية جديدة أيضاً منهم: ألياس فتح الرحمن، ومحمد مدني، وأحمد الغالي، وعاصم حنفي، وعبدالله شمو، ومحمد عبد القادر، وعبد المنعم الكتيابي، ويوسف الحبوب، والطيب البرير، والمعز عمر بخيت، وروضة الحاج وغيرهم.

الفصل الثامن: قصيدة النثر في السودان:
"ظهرت بدايات هذا النمط من الكتابة الاِبداعية في السودان في شكل محاولات معزولة متباعدة، وتم ازدهار قصيدة النثر في عقد السبعينيات من القرن الماضي، وصارت الغلبة في إنتاج الشعراء الشباب. ويقول بأن محمد المهدي المجذوب أول شاعر سوداني يكتب (قصيدة نثر)، ويشير إلى التجارب التي يجدر التنويه بها، تجربة الشاعر، التجاني سعيد، ومحمد عبد الحي (حديقة الورد) ومن الذين سجلوا حضورا منذ التسعينيات، يذكر على سبيل المثال: عاطف خيري، محمد عبد الخالق، محمد عبد القادر سبيل، الصادق الرضي، بابكر الوسيلة، حاتم الكناني، محجوب كبلو، أسامة الخواض، كلتوم فضل الله، بهجة جلال، نجلاء عثمان التوم، أنس مصطفى، محمد الصادق الحاج، نصار الحاج، بله محمد الفاضل، أحمد النشادر، مأمون التلب، مصطفى عجب، محفوظ بشرى وآخرين. ويقول وقد بلغ بعضهم مستوىً رفيعاً من الكمال في هذا النمط من الكتابة. فهم يكتبون قصيدة النثر بكل جمالياتها المعروفة في أرقى النماذج التي تكتب عالمياً. ويشير إلى عاطف خيري وديوان (الظنون)، ويعتبر عاطف خيري عبقرية شعرية فذة واشتهر بفرادته الشعرية، وإلى محمد عبد الخالق ووضوح الصورة والفكرة في شعره، ويقدم نماذج عديدة من قصائدهما.

الفصل التاسع: موسيقى الألفاظ والأفكار:
في هذا الفصل مادة تعليمية قيمة، يتحدث عن موسيقى الشعر من الوزن ومن الجَرس، أي الموسيقى الداخلية، وإلى علم البديع والمحسنات اللفظية: السجع والتكرار والجناس والتضمين وعن المحسنات المعنوية (الطباق، والمقابلة والتورية) وهي التي تولد موسيقى المعاني والأفكار. إن الطباق والمقابلة القصد منهما، المقارنة بين المعاني والصور وتناظرها، ويُعرَف الطباق بأنه "الجمع بين الشيء وضده في الكلام".

الفصل العاشر: إشكالات وتحديات قصيدة النثر:
يقول "برغم من الانجازات والفتوحات الشعرية، فإن قصيدة النثر، تواجه بعض الاِشكالات والتحديات. ومن ذلك إنها قصيدة النخبة، كونها تتطلب من القارئ حصيلة معرفية واسعة ووعى جمالي معقد، لا يتوفر عند كثير من الخاصة، دعك من عامة القراء، كما إنها كُتبت لتُقرأ لا لتُلقى أو تُسمع لتخليها عن الوزن والقافية وهما أساس الإنشاد الشعري، وكذلك مشكلة الغموض الدلالي ويواصل، فلو تأملت الرؤى الفكرية لقصيدة النثر العربية، منذ الستينيات وحتى اللحظة، لوجدت أنه تغلب عليها الرؤى العبثية والعدمية للوجود، وفقدان الاِحساس بالمعنى والمعقولية. وهي السمات الفكرية التي لازمت قصيدة الحداثة في الغرب منذ نشأتها، وكذلك نزعة التجريب اللاهث الذي لا يعرف حداً ولا نهاية أو استراحة أو إقامة في أي شكل أو أسلوب، قطعاً لا جدال أن التجريب من حيث المبدأ، أصل الفن والأدب، ولكنه وسيلة وليس غاية في حد ذاته."

الفصل الحادي عشر (خاتمة الكتاب): صوت شعري جديد:
"في الوقت الذي تتسيد فيه قصيدة النثر ساحة الاِبداع الشعري العربي، هل علينا صوت شعري جديد أعاد وحدة التفعيلة اعتبارها وجماهيريتها التي افتقدتها على مدى الثلاثة عقود الأخيرة، أنه الشاعر السوداني الشاب، محمد عبد الباري، من مواليد 1985م،  فهو موهبة شعرية كبيرة". ويقدم الكاتب نماذج كثيرة من قصائد متعددة للشاعر الشاب ويتولاها بالشرح والتحليل.

بعد هذا العرض المكثف لهذا الكتاب الكبير، أود أن أبدي بعض الملاحظات القصيرة:

ــ أن مصطلح (قصيدة التفعيلة) صكه ناقد الأدب السوداني الأستاذ عز الدين الأمين في مطلع عام 1962، (أنظر عبد الله محمد الغَذامي، تأنيث القصيدة والقارئ المختلف ص 22)، لا أدري، لماذا لا يذكر الكاتب ذلك؟

ــ ذكر عبد المنعم أسماء العديد من الشاعرات السودانيات، ولكن كل أمثلته واستشهاداته وتحليلاته الضافية تعود إلى قصائد الشعراء الذكور.

ــ يرى العلامة عبد الله الطيب أنه سبق نازك الملائكة والسياب وغيرهما في كتابة شعر التفعيلة، ويشير عبد المنعم إلى قصيدة عبد الله الطيب اليتيمة بعنوان (الكأس التي تحطمت)، التي يعود تاريخها إلى أبريل 1946 ، ويرى عبد المنعم، أن قصيدة الطيب مزج من وحدة التفعيلة والكتابة النثرية، وهي لا تخلو من أصداء لقصيدة لـ تي اس إليوت. "ولا شك أن محاولات مبكرة ظهرت في العراق منذ 1919 ومحاولات أخرى في مصر وفي لبنان وجميعها سابقة ولكنها مجرد محاولات فردية معزولة وغير فاعلة، ولم تتمخض عن حركة واعية، كما أنها جميعها لم ترق إلى مستوى إبداعي لافت، ولم تشتعل حركة الشعر الحر إلا في عام 1948 أي بعد سنة من تجارب نازك والسياب، وهذا رأى يميل إليه عدد من الباحثين منهم محمد النويهي وإحسان عباس، ولذلك يُنسب الحدث إلى نازك وبدر" (عبد الله محمد الغَذامي، مصدر سابق، ص 34).

ــ يختار عبد المنعم نصوص الشعراء بعناية شديدة ويخضعها إلى تحليلاته الثرية والعميقة ويظهر جوانبها النحوية والصرفية وحتى شرح بحور القصيدة وكشف المستور عن آفاقها اللغوية والدلالية والبلاغية والجمالية، ويقدم بذلك فائدة للقارئ غير المتخصص فائدة لا يستهان بها.

ــ كتاب عبد المنعم يشمل الأدب والشعر والنقد الأدبي ويؤرخ لمسيرة الشعر السوداني، ودليل لطلاب الثانويات والجامعات ومرجع للمعلمين والأساتذة لا غنى عنه، بجانب ذلك فهو كتاب ممتع يجمع بين التاريخ والفكر والأدب.

ــ التحية للأستاذ عبد المنعم لهذا السِفر الهام، وفي انتظار المزيد من إبداعاته.