تقديم
تعد الكاتبة المغربية فاطمة المرنيسي واحدة من أبرز الباحثات اللواتي أثرن جدلا واسعا في المشهد الفكري المغربي والعربي، فقد عرفت بجرأتها، وطرقها موضوعات حساسة، وعرضها على مشجب المساءلة والنقد والتحليل. كما أنها سجلت حضورا لافتا في الأوساط العربية والغربية، لتجسد بذلك شكلا من أشكال التفاعل الممكنة بين الذات والآخر.
لقد درجت كتابات على تسييج أعمال المرنيسي ضمن خانة من تعلق بالغرب ومال إليه ميلا شديدا درجة الاستلاب، وفيما سيأتي كشف لمدى تسرع بعض من تلك الأحكام، استنادا إلى ما تلمح إليه الكاتبة بين الفينة والأخرى في كافة تضاريس كتابها "شهرزاد ترحل إلى الغرب"، وهو كتاب يقع في حدود ثلاثة عشر فصلا، هي: حكاية المرأة التي تلبس الريش/ الغرب والشرق: هل من علاقة بين الحريمين؟/ يالسعادة الغربيين في حريمهم!/ قمة الذكاء/ شهرزاد تزور الغرب/ الذكاء أم الجمال؟/ حريم جاك: لا صراع ولا مقاومة/ هارون الرشيد، الخليفة الأنيق/ المجالس: تقليد عربي عريق في المتعة/ في حريم رسام فرنسي شهير: أنجر/ الأميرة شيرين تبحث عن الحب/ الأميرة نورجهان تصطاد النمور/ الحجم الصغير: حريم النساء الغربيات.
المرأة في شهرزاد ترحل إلى الغرب
انشغلت فاطمة المرنيسي بقضايا عديدة، ولعل أبرزها قضية المرأة التي عرضت لها في كتابات عديدة، ومنها كتاب "شهرزاد ترحل إلى الغرب"، واللافت للانتباه أن العنوان، باعتباره عتبة نصية دالة، يشير إلى المرأة/ شهرزاد، كما يبعث على التساؤل عن دواعي رحيل شهرزاد إلى الغرب! لقد عمدت الكاتبة إلى عرض أشكال الرقابة والتضييق والمنع التي طالت المرأة في الثقافة العربية الإسلامية وقتئذ. ومن جهة أخرى، كشفت المرنيسي عن تلك التناقضات الصارخة في الحضارة الغربية ممثلة في نموذجها (الإغريق)، وبعض متنوريها، خصوصا كانطـ، وهي في الغالب الأعم تناقضات تنبني على مفهومهم الخاص للحريم، علاوة على مجموع الصور النمطية التي عقدوها حول المرأة الشرقية، وهي صور مستلهمة من اطلاعهم على كتاب "ألف ليلة وليلة"، مما ساهم في تكوين نظرة سكونية حول الشرق تعميما.
إن وضعية المرأة باعتبارها المبدأ والمعاد في فكر المرنيسي، هي وضعية محفوفة بأشكال الرقابة والإبعاد، سواء في العالم الغربي أو العربي. لقد أبعد الغرب النساء خلال قرون عن المهن الفنية ومنعوهن منها كما فعل اليونان القدامى مع عبيدهن. في موضع آخر، وفي سخرية لافتة، الأولى خصت بها الفيلسوف كانط، والثانية موليير، تعاود فاطمة المرنيسي بسط مسألة ذكاء المرأة وجمالها، إذ تحدثنا في الفصل السادس من الكتاب عن حادثة الفيلسوف التنويري كانط الذي كان يقيم تمييزا بين ذكاء المرأة وجمالها، فكان أن استخلصت ما يلي: "فهمت آنذاك الفرق الشاسع بين ثقافتنا وثقافة الغربيين، فالذكاء مقصور على الرجال لديهم، في حين أنه قاسم مشترك بين الرجل والمرأة لدينا ... إن إظهار المرأة لذكائها جريمة لديهم. إن المرأة يجب أن تتنازل عن ذكائها، وتحجب عقلها إذا شاءت إغراء الرجل في رأي كانط. لقد أرعبني هذا التميز الذي يضعه كانط بين المثقفة وتلك التي تمارس الإغراء، يا له من اختيار فظيع: الجمال أو الذكاء!". إن رسالة كانط على حد تعبير المرنيسي واضحة وهي: "الأنوثة هي الجمال، أما الذكورة فتوازي السمو، والسمو طبعا يعني القدرة على التفكير وتجاوز الحيوان والعالم المادي". ويزداد الأمر حدة مع متنوري القرن السابع عشر، القرن الذي يمجد العقل، القرن الذي أفرز أيضا أدباء مثل موليير، يسخرون من النساء اللواتي يمتلكن المعرفة. لقد كتب مولير مسرحية "النساء العالمات" عام 1672 وفيها يعرض " كليتاندر" أفكاره بشأن النساء المثقفات قائلا:
لا تعجبني النساء الدكتورات
أوافق على أن تفهم المرأة كل شيء
ولكني لا أريد لها الهواية المخجلة
لكي تصبح عالمة من أجل أن تكون عالمة.
إن اختزال المرأة في عنصري الجمال والذكاء ليس إلا جزءا من كل، إذ سرعان ما ستنتقل الكاتبة للوقوف على صورة المرأة الشرقية في المتخيل الغربي ـــ خاصة بعد رحلة كتاب " ألف ليلة وليلة " إلى الغرب ــــ وهي صورة لا تخلو من النزوع الاستشراقي، إذ "ارتبطت صورة المرأة الشرقية بمواد التجميل".
2. بين المرنيسي وآسيا جبار
لقد تم تصوير الشرق ــــ وضمنه المرأة ــــ باعتباره عالما يعيش حالة سكون وجمود دائمين، ويذكرنا هذا باللوحة الشهيرة التي رسمها الفرنسي أوجين دولاكروا ، بعد عودته إلى فرنسا، إذ يُظهر في لوحته نساء جزائريات، حبيسات، خاضعات، ومحاطات بجدران الحريم. وتضيف المرنيسي في سياق مشابه، أنه "لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل لقد رسم بيكاسو بين سنة 1954 و 1955 أربعة عشر مشهدا للحريم، إضافة إلى رسومات عديدة تعتبر بمثابة تنويعات بشأن محور لوحة "دولاكروا" التي تحمل اسم: "نساء الجزائر في بيتهن".
تقيم الجزائرية آسيا جبار حوارا بين النص ــــ " نساء الجزائر في مخدعهن "ــــ والصورة، وتعاود النظر في النظرة إلى الجزائريات، لتخلص أنهن "نساء خرجن من الحريم بكامله وبفضل ذكائهن وحكمتهن". والواضح أن المرنيسي تلتقي مع آسيا جبار في نقطة هامة تتصل بتمتع المرأة بالحكمة والذكاء على حد سواء، ولنتذكر أن الخصلتين هما من ساعدا شهرزاد على الافلات من دموية الملك شهريار. لقد كانت شهرزاد تجمع بين الذكاء والجمال إذ لا تكفي ــ على حد تعبير عبد الفتاح كيليطو ـــ معرفة الحكايات، "بل يجب إضافة إلى ذلك، معرفة طريقة روايتها وأيضا التمكن من إغراء المستمع بالإنصات إليها".
كان من العسير إذن أن تنجو شهرزاد/ المرأة لولا عبقريتها، وامتلاكها لمهارات التواصل والتشويق والقدرة على استمالة شهريار، وإشعاره بأنها قادرة على إتمام الحكايات بشكل مسترسل، إن الجنس الأذكى في تلك الحكايات هو المرأة.
خاتمة
تصل فاطمة المرنيسي الماضي بالحاضر، وذلك من خلال وقوفها على سؤال المرأة الإشكالي، السؤال الذي لطالما شغل حيزا واسعا من كتبها، ومن ذلك كتاب: "شهرزاد ترحل إلى الغرب". ويتضح مما سبق، أن شهرزاد المرنيسي هي شهرزاد الذكاء والانفتاح والتوق للإفلات من قبضة التسلط والرقابة وسطوة التقاليد والرغبة في العيش في وسط "بيني" لا يتنكر الماضي مثلما لا يقيم فيه.