يرى الناقد المصري أن السارد يعيد – في خطابه – تشكيل العلاقة بين أفعال الحكي، والقراءة، والتدوين، وتجلي الجسد بصورة طيفية جمالية، واستكشاف المكان، وحضوره الاستعاري النسبي؛ ليؤول مفاهيم الذات، والآخر، والعالم وفق الحد الأقصى من الإنتاجية الإبداعية التجريبية للسياق في موقف التواصل.

الإنتاجية الإبداعية للسياق الأدبي

في رواية «قارئة القطار» لإبراهيم فرغلي: مقاربة تداولية

محمد سمير عبدالسلام

 

يواصل الروائي المصري المبدع إبراهيم فرغلي مشروعه السردي التجريبي في رواية قارئة القطار الصادرة عن الدار المصرية اللبنانية بالقاهرة 2021؛ ويعيد سارد إبراهيم فرغلي – في خطابه – تشكيل العلاقة بين أفعال الحكي، والقراءة، والتدوين، وتجلي الجسد بصورة طيفية جمالية، واستكشاف المكان، وحضوره الاستعاري النسبي؛ ليؤول مفاهيم الذات، والآخر، والعالم وفق الحد الأقصى من الإنتاجية الإبداعية التجريبية للسياق في موقف التواصل؛ ومن ثم يجدد البطل / السارد اكتشاف هويته من خلال بحثه عن ذاكرته الخاصة عقب ولوجه لقطار مجهول، يختلط بالعوالم، والفضاءات الجمالية الممكنة التي تعيد تكوين علامات الواقع اليومي، والصور الحلمية المقطعة، والأصوات المتداخلة بوصفها نغمات شبحية تفسيرية كثيفة لعلامات الذاكرة، والتاريخ، والفن، والواقع اليومي، وعلامات الموقف الفعلي الذي يتضمن لحظة الحكي / الخطاب؛ وكأن السارد يومئ – في تضمينات الخطاب – إلى ازدواجية التكرار، والتحويل الحلمي الممكن في المستقبل لعلامات الواقع، واللاوعي، والذاكرة، وتاريخ الفن، والحكايات، والأساطير في سياق حكائي جديد يقوم على انتشار الدوال المحولة عن الشخصيات، والأصوات، والمواقف القديمة نفسها، ولكن بصورة ما بعد حداثية تتجاوز مركزية إدراك الذات لهويتها من خلال منطق الحلم التصويري الذي يستلزم التحول السيميائي الممكن لآثاره الأولى؛ ومن ثم تصير الذات موضوعا لذلك التحول السيميائي عبر فعل القراءة لوثيقة تمثل ذاكرة افتراضية تستدعي التداخل، والتأجيل معا؛ وكذلك سنعاين صورة الأنثى / قارئة القطار / زرقاء بصورة فوق واقعية، أو سريالية؛ فالسرد يمنحها هوية تقوم على تكرار دور القراءة في فضاء عربة القطار الحلمية الفارغة؛ وهي متوافقة مع استمرارية رحلة القطار بدون نقطة وصول محددة؛ وكأنها تسهم – في تضمينات الخطاب – في إدخال البطل / السارد إلى ذلك السياق الواسع من الحكايات، والأصوات، والعلامات، والنغمات الشبحية المحولة عن الذاكرة اليومية، وصور الحلم السريالية، وتاريخ الفن الذي يأتي إلى القطار في نغمات خفية عبر آلية الصلة / الإدراكية بين العلامات الممكنة التي تشكل السياق التجريبي؛ أما المرجع المكاني / القطار، فهو يتضمن بعض علامات القطار الواقعية؛ مثل الشكل الخارجي، وتجليه ضمن سياق البطل اليومي حين ذهب لاستلام وظيفة؛ بينما نجد أنه – من الداخل – ينطوي على الفراغ، وحفل حلمي سريالي، وأصوات جمالية متداخلة، ومجموعة من النسوة اللائي ينخرطن في حالة من الأداء المتقطع المنتج لخبرة يومية جمالية جديدة تتجلى بوصفها نغمة، أو رقصة، أو جلسة على مائدة طعام؛ ومن ثم فالقطار يتجلى كمرجع تجريبي ينفتح على العوالم النسبية الممكنة، والتي تصير قيد التحويل، والتشكل دائما في رحلة القطار التي تؤجل نقطة الوصول دائما؛ ومن ثم أرى أن قراءة العمل وفق المقاربة التداولية الإدراكية، سوف تسهم في الكشف عن التجريب في المؤشرات السياقية المتعلقة بالذات، والآخر، والمرجع المكاني، والإشارات الزمنية المتباينة في ذلك السياق التجريبي الواسع الذي يقبل إضافة العلامات المحولة من المواقف اليومية، وصور الحلم الكثيفة، وعلامات الحكايات، والأساطير، ومتحف الفن؛ وذلك من خلال تحليل الخطاب، والمحادثة في مواقف التواصل المتنوعة  بين الذات، والآخر في الرواية.

تبدأ الرواية بالتبئير الداخلي، والكشف عن وعي شخصية البطل، ثم تنتقل إلى صوت قارئة القطار أثناء قراءتها لسيرة البطل المقترحة، وصوت مؤلف كتاب الأحلام، أو كتاب الأوهام الذي يكشف وجهة نظره، وحجاجه المتعلقة بالعلاقة بين الحلم، والواقع، والذاكرة، والخيال الملتبس بالحقيقي؛ ومن ثم فالروية – في مجملها – تقوم على التبئير الداخلي المتنوع وفق تعبير جينيت؛ ويكشف فيه الراوي عن العالم الشخصية الرئيسية ثم بعض الشخصيات الأخرى، ويعود إليها مرة أخرى؛ ومن ثم يعزز النص من تعددية طرائق إدراك الذات، والعالم عبر ارتكازه على الخطاب الداخلي المباشر الذي يعيد قراءة الذات من خلال الآخر أحيانا، أو يكشف عن نسبية الشخصية في استكشافها للسياق الحلمي أو الفني الواسع المنتج للتو في موقف فعلى يقوم على فعل تجدد الهوية، ومقاومة الماضي؛ وقد ارتكز خطاب قارئة القطار – أثناء قراءة الوثيقة – على معرفة الراوي العليم، أو التبئير الصفري وفق جينيت، ولكنها قد أتت ممزوجة بفعل الحكي، ومقدمته التقليدية "كان يا ما كان ...."؛ وكأن ذلك الخطاب الذي يمنح المروي عليه / البطل – في سياق التواصل – إشارات إخبارية يتضمن السخرية ما بعد الحداثية من موثوقية الوثيقة نفسها؛ فضلا عن التجلي التشبيهي الأول لزرقاء بوصفها كائنا من كائنات القطار الشبحية التي لن تمتلك دور الراوي العليم؛ كما أن دورها الأول قد اقتصر على فعل القراءة الدائري الممزوج بالتخييل، وتأويل الكينونة الأنثوية من خلال العلامات المجازية المضاعفة المولدة عن نغمات القراءة، وأصوات الشخصيات، والنماذج القديمة المتجددة؛ ورغم الإشارة إلى الخلفيات التاريخية التي صاحبت نشوء سيرة البطل في وثيقة / حكاية زرقاء؛ مثل أجواء مصر في نهايات القرن التاسع عشر، وبدايات القرن العشرين، ووجود الكتاب، ورحلات الإنجليز بمصر، وأثر الثورة العرابية في تغيير مصير البطل؛ فإنها تظل سيرة أدبية مقترحة في سياق القراءة الدائري، وانتشار العلامات المجازية السريالية في المرجع التجريبي / القطار؛ هكذا تؤسس رواية إبراهيم فرغلي لتجريب استعاري / إدراكي في كل عناصر المثلث التداولي في عملية التواصل؛ وهي الذات / البطل الذي يمارس حالة الأداء في موقف آني يشبه الحلم، والآخر / زرقاء التي تجسدت في التراث الثقافي، وتطورت عبر فعل القراءة الدائري الذي يحتفي بالحلمي، والمرجع المكاني / القطار الذي يضاعف من علامات السياق الأدبي المحتمل في المشهد؛ فهو يفكك نقاط البداية، والنهاية، وينفتح على همهمات الماضي، والمستقبل الكثيفة المحولة التي تتجلى في مسافة بين الوعي، واللاوعي، وبنية الفضاء التجريبي.

وتناقش باربارا أبوت – في دراستها التداولية الموسعة / المرجع – إشكالية تجلي المرجع في السياقات فائقة الأبعاد، والدلالات، وتعرض لتصور شيسولم حول الظواهر العقلية التي تتضمن الموضوع بصورة قصدية؛ فالشخص قد يدرك الحصان، ولو لم يكن موجودا في المشهد، كما تعزز من الآراء التي تتناول المرجع في الموقف الفعلي النسبي كبديل عن العالم الممكن. (1)؛ ومن ثم يمكننا معاينة القطار كمرجع مكاني وفق التبديل الدينامي، ووفق العناصر المكملة، أو المضافة لبنية الموضوع دائما؛ فالقطار قد بدا في الموقف الأول بصورة واقعية ملتبسة بالغرابة، ثم انفتح في النهاية على فضاء واسع يتضمن اليومي، والجمالي، وأشباح القراءة، والتدوين ضمن معاينة البطل السارد لحجاج كاتب كتاب الأحلام؛ وسنعاين مثل هذا التبديل النسبي الدينامي لمرجع القطار في تحليل محادثة السارد مع زرقاء، ومن خلال معاينته للحفل، وأطياف شخصية ذكرى، والتأشير العائدي / الانافورا بصورتها السياقية الحرة التي تكشف عن الجانب الأدبي في بنية القطار؛ وبخاصة في تجلي الفراغ داخله، وخارجه؛ وغموض رحلته الذي يذكرنا بعوالم بيكيت، ودورينمات، وغرف ألف ليلة، ومائنات ماكس أرنست، وإدوارد مونك، ورينيه ماجريت، وغيرهم.

وأرى أن الملمح التجريبي الأكثر حضورا – بصورة تداولية في رواية إبراهيم فرغلي – هو الإنتاجية الإبداعية المتجددة للسياق الأدبي المضاف لبنية المرجع المكاني / القطار الدلالية؛ فضلا عن النغمات الخيالية السريالية الكثيفة المضافة لمراجع الشخصيات؛ مثل البطل، وزرقاء، وذكرى، وشخصيات الحفل؛ ولم تكن الصور، والنغمات المضافة للمراجع – في الرواية – منفصلة عن بنية الإدراك، وتحولاتها، ودرجة انحيازها لمبدأ الإنتاجية، وإضافة العناصر، والعلامات الخيالية التي أسهمت في التركيب الدينامي للمرجع / القطار ضمن الصيرورة السردية؛ ومن ثم يتوافق النص مع نتائج الدراسات التداولية الإدراكية عند دان سبيربر، وويلسون التي وسعت من مبدأ الصلة الذي اقترحه بول غرايس كمبدأ أساسي من مبادئ تحليل المحادثة؛ ومن ثم يمكننا قراءة السياق وفق المدخل المؤسس للتداوليات الإدراكية الذي يعرض له يان هانغ في رصده للتداخل، والاختلاف مع رؤى غرايس، وطبقا للعامل المؤثر في تصور ريكاناتي للسياق، فضلا عن رؤى دان سبيربر، وويلسون الموسعة حول الصلة، وطرائقها الإنتاجية في موقف التواصل التداولي.

يوازن يان هانغ بين الصلة طبقا للتصور الغرايسي من حيث أهمية أن يكون الكلام ذا صلة كافية؛ ليعالج بواسطة المستمع، والشكل الإدراكي الفائق من الصلة الذي يؤهل المتلقي؛ ليتجاوز الصلة الكافية بموضوع الكلام باتجاه الحد الأقصى من إنتاجية الكلام المتوافق مع الموضوع؛ والذي يشكل نظاما تفسيريا كما هو لدى ويلسون، كما يقترح تضمن الصلة لتلميحات الخطاب، ومفاهيمه البسيطة أيضا. (2)؛ ويرى دان سبيربر، وويلسون – في كتابهما الصلة، والتواصل، والإدراك - أنه لا شيء في طبيعة السياق، أو التأويل يستبعد إمكانية إعادة تشكيل السياق، وانفتاحه على الخيارات، والمراجعات، والتفسيرات الممكنة ضمن العلاقة بين سياق معين، وافتراض معين؛ فثمة سياقات جزئية تضاف للسياق الأول؛ لتحقق أقصى صلة بالموضوع. (3)؛ أما ريكاناتي – فيقترح في كتابه الحقيقة في التداوليات السياقية – قراءة السياق وفق العامل المؤثر، أو وكيل السياق طبقا لكابلان؛ وهو يعبر عن وظيفة رئيسية في السياق الفعلي ذات علاقة دلالية بالمحتوى؛ ويمثل لذلك بإمكانية بروز مؤشرات الهوية كسمة ثابتة في السياق. (4).

هكذا تتنوع قراءات السياق بدءا من الحد الكافي من الصلة عند غرايس، إلى تحديد العامل المؤثر عند كابلان، وريكاناتي، ثم العلاقة الدينامية بين السياق، والافتراض وصولا إلى الحد الأقصى من إنتاجية الإدراك عند كل من سبيربر، وويلسون؛ ويمكننا تحديد عامل ريكاناتي المؤثر – في قارئة القطار لإبراهيم فرغلي – عبر الإشارة المتكررة لانتشار العلامات التمثيلية الطيفية، والنغمات اليومية الحلمية الكثيفة في المشهد؛ وتتجلى هذه العلامات، والصور كوظائف إبداعية تشبه مؤشرات الهوية، وتناظرها؛ ومن ثم فهي تختلط بتلميحات الخطاب إلى إمكانية استبدال الموضوع التمثيلي للذات فيما وراء مشهد ولوج القطار الواقعي؛ وسنعاين العناصر المضافة / الحلمية للتجلي المجازي الآخر للقطار؛ وهي تنفتح على متحف الفن في تضمينات الخطاب، والعلاقة مع المروي عليه في خطابات كل من البطل، وزرقاء، ومؤلف كتاب الأحلام.

يقول السارد / البطل حول فكرة الانتشار المكمل للعلامات التمثيلية / الموضوعات التشبيهية للهويات والمراجع الممكنة في مرجع القطار التجريبي:

"أما ذكرى فذهنها شارد أبدا؛ بسبب تتبعها لقراءات توءمها ... في لحظات إنصاتي لإيقاع طبول، لا أعرف مصدرها، أراها كخيال راقص يتثنى أمامي، كأن طيفا من أطيافها خرج من إسار الجسد؛ ليرقص أمامي ... يتهيأ لي أن الإيقاع ليس سوى طرقات أيد قوية ورشيقة على زجاج النافذة ... أسمع ما بين النوم واليقظة صوتا عميقا، وغريبا كأنه نفير صاخب، أو كنغمة عالية، تصدر عن آلة كمان عملاقة، تعزفه يد وحش غامض لا يراه أحد". (5).

يوجه السارد خطابه هنا إلى المروي عليه؛ ويمكننا تحديد هوية مرسل الخطاب من داخل بنية الحضور، وتحول علاماته في السياق الدينامي بدرجة أكبر من فاعلية الماضي الذي يظل ضمن دائرة الاقتراحات، والحبكات المتنازعة؛ ومن ثم يقوم المروي عليه – في بنية التواصل التداولي – بإدراك الحجاج الخبرية الآنية المصاحبة لسياق السارد التجريبي، كما يواصل التوسع في مبدأ الصلة بصورته التداولية الإدراكية كما هي في تصور سبيربر، وويلسون؛ أما القطار / المرجع التجريبي فيتشكل في الموقف الفعلي بوصفه مفتتحا لتوسع التشبيهات، والعلامات الفنية اللامرئية التي انبثقت من العامل الطيفي في المراجع الشخصية؛ ذكرى، والسارد، وزرقاء.

وترتكز وجهة النظر – في الخطاب – على التفاعل الإبداعي مع الموضوع الاستعاري التجريبي / المرئي، واللامرئي؛ فالسارد يهتم بالتأشير للموضوع بدرجة أكبر من الذات في المقطع السابق فيذكر ضربات الطبول، وأطياف الآخر / ذكرى، والصوت الصاخب، ونغمة التشيللو، ويد الوحش الغامض؛ وهي علامات محولة، ومضافة لبنية السياق التجريبية؛ ومن ثم يصير تكرار الموضوع الخيالي مؤشرا من مؤشرات تجانس الخطاب؛ ويومئ السارد - في تلميحات الخطاب – إلى قراءة حضوره التمثيلي الخاص من خلال أطياف الآخر / ذكرى، ورقصتها الجمالية التي استدعت النغمات الحلمية الفنية الأخرى؛ أما المضمر فيتشكل هنا ضمن الجانب التأويلي الكامن في نغمات الحلم، والفن المقطعة؛ فالسارد يضمر كونها تأويلا آنيا، ومستقبليا لمحتوى الذاكرة، ولمشاهد الوجود الواقعي نفسه الأسبق في التاريخ، أو المحتمل، والمتكرر في المشاهد اليومية الغائبة الحاضرة في زمن الخطاب.

ويمزج السارد في استخدامه للقواعد النحوية واللغوية بين فعل الرؤية أرى / بصيغة المضارع المؤكدة لتعالي بنية الحضور في المرجع الشخصي، واستخدام كاف التشبيه؛ وكأنه يؤكد مستوى انتشار التمثيلات في بنية السياق.

ويرتكز الخطاب على الحجاج الخبرية التي تراقب مستوى قوة حدوث الصور، والأشياء في المشهد؛ وقد تتضمن هذه الحجاج استدلالا ينطوي على إمكانية تكرار بنية الصور المقطعة في الحلم؛ والتي كشفت عنها روايات تيار الوعي في مستوى سياقي آخر؛ ومن ثم تصير هذه الصور التمثيلية الجديدة مؤكدة لفرضية صور الحلم المكررة في الحياة البشرية بوصفها سياقات آنية تأتي، وتتلاشى بصورة مفاجئة في واقع الحالم.

ويغلب على أفعال الكلام المتضمنة في الخطاب فئة التمثيلات / التأكيدات وفق تصنيف سيرل؛ وتبدو في توصيف السارد المعرفي للمشهد؛ ومن ثم فهي تأكيدات تتسم بالمؤقتية، والنسبية، والتجريب؛ ولكنها تحمل قوة فعل الكلام وفق درجة تحقق الفعل الكلامي، وتأثيره طبقا لجيوفري ليتش ؛ إذ يميز جيوفري ليتش – في كتابه مبادئ التداولية – بين فعل الكلام الأصلي (التحدث)، ودرجة قوة فعل الكلام في مستوى (الحدوث) أو الاستجابة النشطة؛ فمثلا تتجلى قوة فعل الكلام في نتائج الفعل اللغوي أخبر أو أنشأ؛ والذي يحدث – في المخاطب – حالة للمعرفة لم تكن موجودة، وكذذلك الفعل أقنع؛ وقد تستدعي بعض أفعال الكلام استجابة نشطة، وتحقق درجة لازم فعل الكلام؛ وهي تتفاوت في نتيجتها؛ فالنتيجة القصوى للتوبيخ قد تؤدي إلى الإصلاح، أو الشعور بالذنب مثلا. (6)؛ ومن ثم فتمثيلات السارد للصور، والنغمات – في خطابه لذاته، وللمروي عليه – تنشئ عالما إدراكيا جديدا يترتب عليه تحقق قوة فعل الكلام؛ بينما تمثل العناصر اللامرئية المضافة نوعا من الفاعلية التي قد تحقق لازم فعل الكلام / الاستجابة النشطة الإنتاجية؛ فالسارد ينتقل من الوصف إلى المشاركة في إنتاجية العلامة.

وقد يتضمن الخطاب أيضا فئة التعبيريات في حالة انحياز السارد، أو حبه للأطياف التمثيلية؛ وهو ما تؤكده حالة تأويله لذاته من خلال أطياف الآخر؛ والتي تذكرنا بتصور بول ريكور لدينامية علاقة الذات بالآخر في كتابه الذات عينها كآخر؛ كما تؤكده توافقية المتكلم مع تلك العلامات المضافة؛ مثل آلة التشيللو العميقة التي تكثف جو الحلم.

ويبدو القطار / المرجع التجريبي بوصفه متحفا ضمنيا، أو مكتبة تشبه مكتبة بورخيس في سداسية بابل؛ ولا يمكننا فهم تحولات المرجع إلا بالعودة إلى بنية الغرابة الأولى التي منحها له الخطاب وفق توصيف التأشير العائدي، أو الأنافورا بصورتها السياقية المفاهيمية في التداوليات الإدراكية المعاصرة.

وترى كارين فون هويك – في كتابها التأشير العائدي / الأنافورا وفق البنية المفاهيمية – أن الإشارات المرجعية قد ترتبط بأبعاد ذات إطار مفاهيمي، يتصل بوظائف تقع ضمن الجزء الرئيسي المن الخلفية السياقية، ومن ثم تكون الروابط دلالية بين التأشير المرجعي؛ ومن ثم يقرأ التأشير المرجعي / الأنافورا وفق تصور تداولي، ودلالي بدرجة طبيعية. (7).

وإذا قرأنا علامة القطار وفق الأنافورا بصورتها المفاهيمية الإدراكية التي تقوم على تحولات السياق؛ سنعاين تحول الغرابة الواقعية الأولى في بنية القطار إلى تجليه الواقعي الآخر المحتمل في البنية الواسعة الفارغة التي تطل وفق نوافذ ضخمة على فراغ إبداعي مؤقت قيد الامتلاء؛ ثم تتواتر الصور الحلمية في بنيته، ونجده قابلا للتوسع حتى يصير مفتتحا لفاعلية النغمات، والصور، والأصوات، والتلميحات، والنماذج المحولة سيميائيا، والقابلة للإكمال، والاستبدال دائما؛ وكأن الخطاب يجمع بين حضور القطار في الموقف الفعلى، والفرضية الإدراكية التي تؤكد اتصاله – عبر النوافذ الحلمية الضخمة التي تذكرني بالعين الحلمية الواسعة في رؤية رينيه ماجريت – بانتشار العلامات المحولة التفسيرية لمؤشرات الموضوع اليومي، والحكايات المقترحة التفسيرية لهوية المراجع الشخصية للسارد، وذكرى، وزرقاء، وإلهام، ونسوة القطار.

ويواصل السارد / البطل إدراك العلامات الحلمية، وصور القطار، ونغماته الجمالية في عربة الحفل؛ يقول:

"ثم يبدأن في تذكير من أردن بجملة أو واقعة، أو حوار دار بينهن في تلك الليلة، أو ذلك اليوم. حاولت أن أجتذب كل من تحدثت معهن إلى شيء يخص حياتهن خارج القطار، لكني فشلت فشلا ذريعا، بدون وكأنهن ولدن في القطار، ولا يعرفن شيئا عما يدور في الخارج ... أكدت لي إلهام أن لنا ذكريات مشتركة خارج القطار ... لكنني مع بدء الحوارات معها شعرت تدريجيا بأن الحفل بدوره ليس إلا حلقة أخرى من حلقات الوهم". (8).

يبدأ خطاب السارد للمروي عليه هنا بإنتاجية لعلامة الغرفة المغلقة المتضمنة للحفل والمضافة لبنية المرجع / القطار؛ وهي تتضمن نغمات مقطعة حوارية، ولكنها تنتمي لعالم القطار السري الذي يذكرنا – في هذا المستوى الإبداعي الجديد من تطور السياق في بنية الموقف الفعلي – بغرف ألف ليلة السرية التي صاحبت مدينة النحاس، أو رحلة حسن صائغ البصري؛ ومن ثم يومئ الخطاب – في تلميحاته – إلى المستوى الطيفي العميق من اللاوعي، وما ينطوي عليه من ذكريات تتعلق بالبنية الداخلية السرية لمعارف النسوة عن الطعام الذي يبدو جماليا بدرجة كبيرة، أو الخبرات، والحوارات المشتركة التي تتشكل في عالم السارد الإدراكي كهمهمات، أو كنغمات موسيقية ما بعد حداثية؛ متداخلة، وتعددية في الآن نفسه؛ أما المضمر فيتشكل وفق تخييل السارد لذاته ضمن موقف وجودي تفسيري تستبدل فيه أصوات العالم بأصوات عربة السيدات؛ ومن ثم يبدو المشهد المتخيل كمواجهة أولى للآخرين في العالم الممثل في الغرفة السرية العميقة في اللاوعي.

وتتجلى وجهة نظر الخطاب في كل من المحو، وإثبات واقعة الحفل؛ فالسارد يختار الجمع في إشارته لحلقات الوهم، ويختار المفعول المطلق المؤكد لفعل الفشل في معرفة حياتهن خارج القطار، بيما يثبت الجمل، والوارات بصيغة النكرة التي تلائم بنية النغمات الموسيقية اللاواعية، وغير المحددة؛ ومن ثم يكتسب الخطاب تجانسه من استقلالية غرفة الحفل، وسرية مكوناتها الجمالية.

أما خطاب زرقاء حول الهوية المقترحة للسارد بوصفه شخصية محمود الوهم؛ فقد ارتكز على بنيتي التوثيق للماضي بواسطة راو عليم مؤجل ممزوج بنغمة السخرية، وتأكيد بنية الحكي في سياق تنازع الحكايات، والمؤامرات، والحبكات الإبداعية المقترحة؛ لهذا سنعاين حبكة أخرى تفكك سيرة محمود في خطاب السارد، وتعليقه على زرقاء؛ مما يؤكد التوجه السردي ما بعد الحداثي، وبعض تصورات ريكور في صراع التأويلات؛ إذ يبدأ نص إبراهيم فرغلي بالحكي، والقراءة، وينتهي بمواصلة التخييل، ومعاينة تحولات عوالم القراءة، والواقع اليومي في فضاء الذات، وفراغات الخارج العبثية، أو البهيجة؛ يقول السارد بصوت زرقاء / قارئة القطار:

"أراد الأجنبي أن يزور معبد دندرة، واقترح عليك أن تصحبه مع المترجم، وصديق له ظهر في قنا ... في معبد دندرة رأيت رسوما لم ترها عيناك من قبل، وألوانا بديعة، وبناء فريدا أثار في داخلك مشاعر شتى، ضاعفها الخواجة الذي كان يصرخ من فرط الدهشة". (9).

توجه زرقاء / قارئة القطار خطابها – إذا – إلى المروي عليه / البطل هنا، وترتكز وجهة نظرها على بنية الموضوع، وتشكيلاته الجمالية السرية المدهشة، بينما تضمر زرقاء الإشارة إلى أنوثة حتحور، وغموضها، واتصالها بحبكة حورس في التراث الثقافي؛ وكأنها تريد أن تلمح – في خطابها – إلى ذلك التناظر بين متخيل وعي الفنان، والتحولات السيميائية التي تحدث بصورة آنية في بنية القطار؛ فهي تؤكد أن وثيقة حياة البطل / المروي عليه تتصل بتلك التشكيلات التي أدهشت الخواجة؛ وقد استخدمت فعل صرخ تداوليا لتمزج بين اللذة، والرعب في المشهد الآني المهيمن؛ وهي تستخدم أفعال الكلام من فئة التأكيدات بصورة تجريبية مؤقتة أيضا، وتحقق في البطل قوة فعل الكلام / تغيير إدراك الذات، والهوية، بينما سنجدها تنشئ – في المستقبل – استجابة نشطة / أو لازم فعل الكلام حين يتخذ المروي عليه / البطل استراتيجية تفكيك تلك الحبكة المقترحة.

يفكك السارد – إذا – بنية زرقاء الحكائية؛ ليوحي – في تضمينات الخطاب، وتلميحاته – إلى لذة تنازع الحكايات، والحبكات التفسيرية للذات، والآخر؛ ومن ثم يجمع بين حبكة الحفل السريالي، وحبكة حكاية زرقاء، وحبكة الجريمة الافتراضية التي اتهم بها في سياق الإضافات المكملة الإدراكية للموقف الفعلي؛ يقول:

"لم يكن لكل ما قالته أي أثر في تذكيري بأي شيء عن حياتي خارج القطار، أو عن علاقتي بها، أو حتى مفيدا لي في محاولاتي لاستعادة ذاكرتي، وأدركت في نهاية الأمر أنني وقعت ضحية مجموعة من النساء اللائي أردن أن يقضين على ملل حياتهن في القطار بالتلاعب بي؛ ولعل هذا ما تسبب في إثارة جنوني، وانتهى بالفضيحة التي تحولت خلالها إلى متهم بالشروع في القتل". (10).

تبدو مؤشرات الآخر / الأخريات في خطاب البطل / السارد أقرب إلى تمثيل واقع بورجوازي قريب من اللعب بمدلوله الاجتماعي، بينما نحن أمام لحظة آنية موغلة في التجريب التمثيلي؛ ومن ثم تبدو رؤية السارد التفكيكية للمؤامرة الأسبق هي بحد ذاتها مقترحا لمؤامرة أخرى؛ فهو ينحاز – في تضمينات الخطاب – ليس ضد لعبة النسوة الترفيهية، ولا إلى وثيقة زرقاء، وإنما ينحاز إلى لعبة نزاع الحبكات التجريبية؛ ونلاحظ أن التجانس – في الخطاب هنا – قد أتى من خلال تكرار الإشارة إلى الذات، وهويتها، وإلى الذاكرة المعلقة، وحالات الجنون، والرفض، والاتهام؛ وكأن السارد يضمر الانحياز – في أفعال الكلام من فئة التعبيريات – إلى فعل الانبعاث، والتجدد داخل القطار، وخارجه بعد أن أثبت رفضه، وتمرده في التأكيدات لمركزية حبكة زرقاء المقترحة؛ ولهذا استخدم النكرة في الإشارة إلي الاتهام، وحياته خارج القطار؛ ليوحي بإمكانية التعريف المؤقت في المستقبل داخل القطار، وخارجه.

أما خطاب مؤلف كتاب الأحلام فقد ارتكز على العلاقة الإدراكية الدينامية بين الحلم، والذاكرة؛ وكأنه يوحي – في تضمينات الخطاب – بدائرية النزعة الإنتاجية الإبداعية للعلامات؛ وبصورة أساسية تختص ببنية السياقات التجريبية التي تنشئ الحكايات، والحبكات المقترحة المكملة، أو المحولة سيميائيا، أو المعدلة بواسطة الذاكرة التي قد تتخلى عن مركزيتها الأولى حين تتعامل مع علامات الحلم.

يقول السارد بصوت مؤلف الكتاب:

"في الحلم نرى صورا ملونة أو شاحبة. تنبثق من وحش اللاوعي البدائي، صورا تتشكل، وتتجاور، أو تقفز؛ لتقول جملا بلا معنى ... وحين نصحو تلعب الذاكرة بالحلم كما تشتهي؛ فتزيح، وتضيف ...". (11).

يرتكز خطاب المؤلف الافتراضي للكتاب على فرضية أصالة صور الحلم المقطعة بينما يكرر المفردات / الأفعال المضارعة التي تشير جميعها إلى الإنتاجية التنقيحية التي قامت عليها الرواية ككل ضمن فعل الكلام التأكيدي؛ مثل تشتهي، تزيح، تضيف، بينما نجده ينحاز إلى الخطاب الاستعاري الذاتي حين يصف اللاوعي بالوحش؛ ومن ثم فهو يستخدم فئة أفعال الكلام التعبيرية؛ ليعلن انحيازه لتلك العمليات الإدراكية التجريبية في السياق؛ وسنجده يرتكز على مسندين إليه أساسيين – في الخطاب – وهما الحلم، والذاكرة بوصفهما العنصرين التجريبيين المحركين للسياق الآني.

وتكشف محادثة السارد مع زرقاء درجة من الاستطراد الموسع إدراكيا لمبدأ بول غرايس التعاوني، وفق إضافات دان سبيربر، وويلسون؛ لهذا يكشف تحليل المحادثة وفق مبدأ غرايس التعاوني الموسع إدراكيا عن مؤشرات التوسع العلاماتي في بنية الموضوع / القطار بوصفه وجودا دائريا استعاريا في وعي، ولاوعي زرقاء، كما يكشف عن لحظات الانفصال الكامنة في السؤال الذي يقع بين الموقف الفعلي، والمواجهة الأولى للعالم في لحظات تبدل السياق؛ وما تحمله من رعب، أو لذة.

تبدأ المحادثة بسؤال قارئة القطار عن الآخر / السارد حين عودته؛ تقول:

"-لماذا عدت؟

-جئت لأسألك عن العربة المغلقة.

-الحفل؟ هل وصلت إليه؟

-أي حفل؟

-عربة الحفل، المكان الوحيد المأهول بالبشر في هذا القطار، ألم تصل إليها؟

... – ولماذا لا تلحقين أنت بهم؟

-لا تناسبني الحفلات؛ أفضل العزلة، والهدوء كما ترى، ثم إن الداخل إلى الحفل لا يخرج منه أبدا.

-لا يخرج منه؟

-هذا القطار لن يتوقف ... سيظل يطرق القضبان للأبد، وسوف أقرأ للأبد، وسيظل أهل الحفل في حفلهم للأبد.

-هل يعني ذلك ..؟". (12)

وإذا قمنا بتحليل المحادثة السابقة بين السارد / البطل، وزرقاء / قارئة القطار وفق مبدأ غرايس التعاوني القائم على مفاهيم الكم، والجودة، والصلة، والأسلوب، مع تعديلات مبدأ الصلة طبقا لسبيربر وويلسون؛ سنعاين الكثافة، واقتصاد الكلمات كميا في خطاب السارد، بينما تستطرد زرقاء في توصيف بنى الغرفة، والحفل، والسير الدائري للقطار؛ وأرى أن الزيادة الكمية في خطاب زرقاء توائم غرابة الموقف، وصيغ السؤال، أو فعل الكلام التوجيهي المتكرر في خطاب السارد؛ والذي يستدعي استجابة نشطة، أو قوة لفعل الكلام في الإجابة؛ ولكن إجابات زرقاء جاءت غامضة، وتستدعي المزيد من الأسئلة.

وسنعاين – في استكشاف الجودة – أن خطاب زرقاء يواصل الحجاج الخبرية التي تقوم على قوة حدوث السير الغامض للقطار؛ لتوحي للمخاطب / البطل بأن السير سيكون دائريا؛ ومن ثم سيظل وضعه الوجودي معلقا، وقائما على استكشاف انتشار العلامات الإبداعية إدراكيا.

أما مفهوم الصلة فقد جاء موسعا؛ لأن السارد قد أتى ليسأل زرقاء حول العربة المغلقة بينما نجدها تضيف علامات الحفل، وعلامات القراءة التي تقبل التحول الدائري في فضاء القطار الواسع؛ ومن ثم تؤكد مفهوم دان سبيربر؛ حيث تبدأ من غموض العربة في وعي المخاطب، وتنتهي بالانتشار الواسع للعلامات، أو تحتفي بانحيازها لذلك التوسع العلاماتي التمثيلي في فعل كلامها التعبيري الذي يؤكده تكرار كلمة الأبد في وضع قد يكون مؤقتا أيضا.

أما الأسلوب فقد غلب على خطاب زرقاء التنظيم المنطقي القائم على تداعي إدراك العلامات الإبداعية التي توحي بالسرية، والمستوى العميق من اللاوعي، بينما نجد خطاب السارد ينطوي على التساؤل الوجودي، وغلبة فعل الكلام التوجيهي المصحوب بالرعب، والبحث عن تجدد الهوية في آن.

*هوامش الدراسة:

(1) Read, Barbara Abbott, Reference, Oxford University Press, 2010, p. 6, 7, 8.

(2) Read, Yan Haung, Relevance and neo – Gricean Pragmatic principles in Cognitive Pragmatics, Edited by WOLLFRAM Bublitz, Andreas H. Tucker and Klaus P. Schneider, V. 4, De Gruyter Mouton, Berlin, Boston, 2012, p. 28, 29.

(3) Read, Dan Sperber and Deirdre Wilson, Relevance, Communication and Cognition, second Edition, Blackwell, Oxford, UK, Cambridge, USA, 1995, P. 144.

(4) Read, Francois Recanati, Truth – Conditional pragmatics, Oxford University Press, 2010, p. 37, 38.

 (5) إبراهيم فرغلي، قارئة القطار، الدار المصرية اللبنانية بالقاهرة، سنة 2021، ص 42.

 (6) راجع، جيوفري ليتش، مبادئ التداولية، ترجمة: عبد القادر قنيني، أفريقيا الشرق، الدار البيضاء بالمغرب، 2013، ص-ص 264، 265.

(7) Read, Karen Van Hoek, Anaphora and Conceptual Structure, Cognitive Theory of Language and Culture, University of Chicago Press, 1997, p. 5, 6.

(8) إبراهيم فرغلي، السابق، ص 88.

(9) السابق، ص. 120.

(10) السابق، ص 150.

(11) السابق، ص 252.

(12) السابق، ص 25، 26.

msameerster@gmail.com