كان أول ما قرأت من الكتب قصص الحب والعشق، لم يكن ذلك اختيارا بقدر ما كان قدرا، حيث كانت جدتي الأمية حريصة بشكل مبالغ فيه، كل الحرص على أن أقضي الكثير من الوقت في قراءة الروايات التي كانت تشتريها بشكل عشوائي تلبية لرغبة ابنتها الوحيدة وهي في لحظاتها الأخيرة فوق هذا الكوكب المستهتر بمن غادره أو زاره، فبحجم اتساعه للجميع، لا يبالي بفقدان أحد ..
لا أذكر أول عنوان قرأته، لكن لا زلت أتذكر وجوه الشخصيات كما تخيلتها تلك الليلة، انتابني احساس رائع كما تلك الأيام وأنا أسترجع ملامح سكنت غيابات الخيال، خيال دفعني في سن مبكرة لعشق ابنة المعلم التي تيمت بها حد الجنون، ومن حسن حظي أن أباها قد أجلسها بجواري بالصف الأمامي فتلك عادة المجتهدين، دائما ما يتواجدون بالمقدمة.
كنت صغيرا جدا لأعي الفخ الذي أوقعتني فيه قصة تبدو من غلافها بريئة، أو ربما تلك لعنتي، فلطالما كنت المتعطش دوما، الذي لم يكن يشبع من القراءة.
عاودت قراءتها ماشيا، متكئا وقاعدا مرات ومرات عديدة حتى حفظتها حفظا، غافلا أنداك أني بهذا الإدمان القاتل كنت أرسم خارطة ضياعي.
أخيرا أصبحت لي حبيبة تفوق جمال بطلة قصتي الورقية، لم أكن متسرعا كما الآن، بل إن نظرة خاطفة إلى وجهها الطفولي والمنحوت بعناية إلهية كانت كفيلة بتخدير جسدي الصغير الغارق في سيول الأحلام، كنت أجيد أحلام اليقظة بشدة.
لم أكن مهتما لأعرف رأيها فقد حمّلت وحدي ذلك العشق، وكنت راضيا كل الرضا و قليل من يرضيه الحب العذري و قليلون من بلغوا ذروة جنونه، ربما كنت أشد ذكاءا من مجنون ليلى أو ربما كثير الرضى و القناعة ..
مرت الأيام، العديد من الأيام والأيام، و "هند" تزداد جمالا وأنا أزداد ولها وعشقا، اقتربت عطلة نهاية السنة فقررت البوح وفضح سري الثمين.
أتى اليوم الموعود، الجو رطب معتدل والنسيم يلامس الوجوه بكل لطف و انسياب، إنه فصل الربيع؛ بسمة الطبيعة قبل أن تجود، كل شيء منفتح و مبشور، كانت الأشجار و الأزهار تحيطنا من كل جانب، قبل أن يثبت الغزاة قوالبهم الإسمنتية دون أي اعتبار للطبيعة، للسكينة و الطمأنينة التي تشبعناها و نحن نتسابق بين الأشجار و نتدحرج فوق الأعشاب الخضراء ..
إن للون الأخضر سرا عميقا، يهدئ النفوس ويسمو بها.
زاحمت باقي الأطفال لأقطف وردة، كان لزاما أن أختار وردة تغنيني عن أي كلام وتشرح ما سكن صدري، قصد الجميع المعلم ليهديه وردة الشكر والامتنان، لما يقدمه لنا من علم، لكني لم ألق لهذا بالا؛ فهناك من هو أهم يا معلمي العزيز، لكنه منك؛ لذلك فلأمر سيان.
مكثت مكاني منتظرا جرس الاستراحة، ارتفعت حرارة جسمي وأحسست مغصا في بطني، تثاقلت خطواتي وأنا أتجه نحو "هند" في تردد شديد، كانت تلك المرة الأولى التي لم أستطع النظر إليها بل مددت يدي في ارتعاش كبير، مدت يدها وأخذت الوردة، رفعت رأسي لألمح ابتسامتها التي هيجت قلبي بعدما فاق أبعاد القفص الصدري وتعدى حدود قضبانه، أطلقت العنان لساقاي نحو المجهول، كمجنون يلاحق الأطياف، لم يوقفني إلا صوت الجرس، بدأ هاجس الخوف يدب في قلبي، ماذا لو لمحني المعلم؟ بل ماذا لو أخبرته؟
كنت أنتظر فقط وقت المغادرة، من شدة رعبي لم ألتفت إليها، حتى سمعت صوتا لن أنساه، يهمس لي: رفيق، رفيق خذ هذه الورقة بسرعة !!
أخذت الورقة المطوية بعناية فائقة ووضعتها في مقلمتي بشيء من الخوف و السعادة ..
سلكت طريقا مغايرا إلى المنزل، حتى أتخلص من هتافات أصدقائي الذين فطنوا لما يجري بيني وبين هند، أخرجت الورقة، كان أول ما وقعت عليه عيناي، رسم لوردة باللون الأحمر، لها ساق به ورقة خضراء على كل جانب تحمل اسمينا وقلب أحمر بالأسفل ينطق كلمة «أحبك» بصوتها الملائكي، لا تستغرب أقسم أني سمعت صوتها من خلال تلك الكلمة المكتوبة ..
كان ذلك كافيا ليفتح أبواب الخيال أمامي، لأغوص في بحر العشق والابتهاج، فلا شيء يفوق أن يؤثرك شخص تتمناه.
كنت حريصا على حفظ تلك الورقة من كل مكروه، لقد كانت آخر ذكرى من
"هند"، لم يمر أكثر من شهر؛ حتى قرر أهلي الإنتقال من تلك المدينة، فأصبت أنا بصدمة مزدوجة؛ فقدان أصدقائي وبنت المعلم ونكسة المنتخب أمام تونس في النهائي، لم أقو على تحمل ذلك مع جسدي النحيف وامتناعي عن الطعام كنوع من أنواع الرفض المطلق، لكن انطلت على كذبتهم بأننا سنعود فور ابتداء موسم الدراسة، وأغروني بقميص «الشماخ» وكرة تحمل أعلام دول مختلفة، لعلمهم شدة ولعي بكرة القدم.
احتجت لعدة سنوات لأفهم أنني ارتطمت بالحب، وبلغت عنان اللارجوع، لقد كنت سجين الحروف والكلمات، كل "هند" قابلتها خارج النصوص، لم ترسم لي زهرة! لم تُنطق حرفا، ولم تعرِّ كلمة ..
مجرد كومة أرقام مملة، إلتزامات ومحاسبة …
كنت أحلم أن نصير معاً فكرة، نجوب الكتب سطرا، سطراَ، ونتسخ رصّاصاً وحبرا.
لكن يوما ستكتمل الفكرة، ونلتقي في رواية للذكرى !!
إن صادفك كتابي فأنا أبحث عنك، ويغريني جدّا أن نكون معا حتى في الخيال.
تطوان، المغرب