طرّة وكتبة[1]
ضاع (سوادي) في لجة المياه الفوّارة، ضاع من بيننا، وضحكاته إذا ما فاز في اللعبة يتردد صداها في أسماعنا نحن الصغار، شدو بدوي يرعى أغنامه، ويزجي وقته بعزف الناي الحزين، وسوادي بارع في اللعبة دوماً، كلّ الكبار يكونون في جهة وسوادي مقابل لهم، يصرعهم واحداً تلو الآخر بضربات كفه على تراب قنطرة النهر الكبير، يصرعهم باحتمالاتهم الخاطئة وفرصة الحظ الجميل له لما يخبؤه تحت كفه، فيقوم الواحد منهم مجللا بسراب الهزيمة بعد أن غطتّه سحابة الغبار من تحت كف سوادي.
عادة ما يطيّر سوادي قطعة النقد المعدنية من فوق ظفر إبهامه المنفلتة بقوة من دائرة سبابته، لتتلوى مثل شريحة لحم رقيقة، يكاد طرفاها الدائران على محورها يتلاشيان على بعضهما مكونان خيطا رفيعا يلمع في وهج شمس الصباح على شدة بحلقتنا وتركيزنا بفضاء لعبها فوق رؤوسنا الصغيرة.
وسوادي لا يملك من الدنيا غير أمّه، وكوخ عماده سقف بانت جذوع النخيل منه، وتميّز عن باقي بيوت القرية التي بدأ الاعمار فيها يتجه عند الميسورين فيها لتشيّد بيوتهم بالطابوق.
هو قصير الهيئة ضامر الجسم أسمر البشرة، ورغم علم الأولاد في القرية بأن سوادي وأمه يعيشان حياة فقر مدقع، لكنه كان معروفاً عنه إباء النفس واعتدادها، لا يقبل العطية حتى وإن أقضّهُ الجوع، وبعضنا تعوّد دون وعي أن لا يتباهى أمام سوادي في بداية كل عام دراسي بما اشتراه له أهله من ملابس جديدة، فكلنا يعرف أن سوادي سيلبس ذات القميص الباهت الألوان والبنطلون الرصاصي نفسه، وفي الشتاء يضيف للقطعتين سترة بمربعات صفراء ذات أكمام تغطي أصابع كفيه، وهو إن بدأ اللعب أمّا أن يشمّر عن كمّيه أو ينزع سترته ويرميها جانبا حتى ينتهي من جولة النصر المعتادة على خصومه واحداً تلو الآخر.
يربح في لعبة (الطرة وكتبة) دوما لكن أموال ما ربحه لا تمثل له هدفا يسعى لنيله، فهو كثيراً ما كان يساعد أحدنا على شراء دفتر مدرسي ليس بمستطاع من يريده أن يشتريه دون أن يستدين على مصروفه، وسوادي لا يعطي دينا ولا يستدين، لكنه يهب بعضا مما ربحه لمن هو بحاجة له، لكن تلك القطع النقدية الصغيرة أضحت له وسط دهشتنا كلنا هدفا يوم غرق.
أوه اللعنة على الذاكرة! فقد نسيت أن أقول لكم إن سوادي كان سبّاحاً ماهراً، يقفز من بيننا ليغط من ضفة النهر الكبير التي نقف عليها، ويضيع لحظات في لجة النهر الفوّارة ليخرج وجهه الأسمر لامعاً بقطرات مياه النهر من جهته الأخرى وسط تصفيقنا اعجاباً به، ويوم غرقه أبى أن يتركنا دون أن يخلف فينا دهشة أكبر مما تركت فينا شخصيته طوال فترة معرفتنا به.
الآن وأنا اقف عند قنطرة النهر التي شهدت مصيبة سوادي وسط كل أهل القرية نبحث عن جثة سوادي، أتذكر جيداً كيف بدأ الأمر:
أنهى سوادي جولة اللعب فائزا على كل من دخل معه السباق، ونهض عاصراً قطع النقود المعدنية بين أصابع كفه اليسرى فيما امتدّت كفه اليمنى لتلتقط سترته وكتبه المدرسية، فاختلط عليه صياحنا نحن الصغار :
- سوادي
- كم ربحت.
وقال ثالث:
- طبعاً كالعادة شطّبت جيوبهم كلها؟.
رد رابع فينا:
- سوادي بطل.
بان الانشراح بالنصر على وجه سوادي وافترت شفتاه عن ابتسامة عريضة، فتح راحة كفه اليسرى وراح يعدّ قطع النقود بصمت، تدانينا متدافعين حوله، وتطاولت رقاب القصار منا لتتمعن ببريق النقود في كفه، لكن الأجسام الصغيرة اتكأت على بعضها وانزلقت بعض الأرجل باتجاه منحدر القنطرة، وحدثت فوضى للحظات طارت بها القطع النقدية متناثرة في لجة المياه الفوّارة، وانشغلت يد سوادي اليسرى بسحب من انزلق فينا وكاد أن يسقط إلى وسط النهر الكبير.
اطمأن سوادي إلى أن كل الصغار فينا قد نجو من الانزلاق، فرمى سترته وراح ينزع قميصه وبنطلونه، وكتفيه يكادان أن يتكورا على بعضهما مع نسمات شتاء قارص تلسع وجوهنا وتيبس أطرافنا.
صاح الكبار فينا واختلطت أصواتهم:
- سوادي لا تفعلها.
- الجو بارد وستتجمد في النهر.
- سوادي جسمك ضعيف ولا يتحمل البرد.
حسم سوادي الأمر شارحاً باختصار أهمية النقود له هذا اليوم:
- لن أترك ربع كيلو اللحم الذي وعدت أمي به يضيع في النهر.
عند الظهر وجد رجال القرية جثة سوادي محصورة من وسطها تحت صخرة كبيرة في قاع النهر، واتفق كل الموجودين على احتمال أن سوادي نبش تحتها باحثاً عن قطع النقود التي ربحها في لعبة( الطرّة والكتبة) وانزاحت منقلبة على جسمه فعلق تحتها حتى مات غرقاً، لكنهم عندما انتشلوه ووضعوه على قنطرة النهر الكبير وجدوا أن أصابع كفه اليمنى مغطاة بالطين، وأصابع كفه اليسرى ملمومة على كومة القطع النقدية كلها، بعد أن حسب الخاسرون ما خسروه وقارنوه بما التمّت عليه أصابع سوادي قبل أن يفارق الحياة غرقا.
فَقْدٌ
تشتطّ بها الذكرى إلى يوم السفر لتمتزج بوجع فجيعتها به، وينتابها الشعور بالذنب ازاء نتائج ما حصل، فهي مرة تحاول أن تمزّق الثوب الذي تلبس، قبل أن ترتفع أيدي النسوة النائحات معها لمنع قبضة يدها من الوصول إلى زيق الثوب، ومرة تخونها قواها فتخفض ذراعيها لتجعل من فخذها طبلا تضربه بهما.
تعاود الكرّة ثانية قبل أن تمتدّ أيدي النسوة لمنع أظافرها من خرمشة الجروح المتقرّحة منذ يومين على خديها المحمرتين.
تمرّ أطياف شبحه سريعاً أمام مخيلتها، وتحاول جاهدة الامساك بتفاصيل الملامح مجتمعة، لكنها تضيع وسط ضباب كثيف، ويغشاها شعور بالضياع في لملمة تفاصيله الأخرى: لون الملابس، نوعها، آخر تسريحة شعر خرج بها ذلك المساء، فيلفها الفَقدُ وتعتصرها الذكرى أكثر لتولول هاذية دون شعور:
- كانت زرقاء بمثل لون السماء الصافية...تعوّدنا عليه هكذا منذ أن عرفنا طبعه، يقول ...يا حبة عيني عليه..
تتريث قليلاً وتعاود ضرب فخذيها، لتتذكر قوله ناشجة:
- (لون الملابس الغامق يجعلني أشعر بالتشاؤم، وإذا ارتديتها أحس كأن أطرافي عاجزة عن حمل جسدي!).
تصمت فجأة مع ذكرى صدى كلماته بداخلها، وتبدو لمن حولها ساهمة، لكنها لا تني تنتبه صارخة:
- أحمد...أحمد...اندهوا لي أحمد...أحمد.
يخرج جسد لطفل صغير من بين أرجل النسوة النادبات معها وقوفاً، متعثراً بخجله، وانشداهه، وغيمة الحزن تغطيه قبل أن يراها على وجه أمه، وفي الحال يعاودها شعور أنها محتلة بمساحة صورته، مرسومة على وجه الصغير، ملامح شاحبة تجمّع قطرات شحيحة لصورته قبل أن يسافر، وتتسع الرؤية وضوحاً كلما اقترب منها الطفل وهو يشق الصفوف معصوراً بين اللحم المكتنز لأفخاذ النسوة حولها.
تستجوب الطفل:
- أحمد...أنت من أخذ له بيجامته...أكانت زرقاء بلون السماء؟.
يدور بوجهه الصغير بين وجوه النسوة المحدّقة بسحنته الشاحبة، ويحار بفهم السؤال! فثمة أسئلة أصعب من هذا السؤال تراود مخيلته، وتبحث عن إجابات لها منذ يومين!.
كل من يسأله عن نوح النسوة يجيبه:
- إنهن ينحن على أبيك.
وأبوه منذ أن تعلّم النطق وهو يغيب عنهم لأيام، بعض سفره يكون منتظماً مع ما قبله أو ما بعده في مدة الغياب، وبعضه يطول فيه الغياب، وفي هذا البعض الأخير تعوّد أحمد أن يصحو ليلاً على مثل هذا النحيب من أمه، والذي يتحوّل إلى ابتسامة كبيرة تعلو وجهها حالما يطرق الباب عائدا لهم، وأحمد اليوم يرى أن لا داعي لأن يتحول نحيب أمه المعتاد إلى نحيب جماعي يشاركها فيه هذا الجمع الكبير من النسوة، والأكثر من ذلك يقيناً عند أحمد أن عيناه لا تفتران تلتفتان ناحية باب الدار، مترقباً فيهما وصول والده على حين غرة، ليتحول نحيب أمه إلى ابتسامة كبيرة.
لكنه يتساءل في سره عن حال النسوة:
(هل ستعلو الابتسامة وجوههن كذلك؟).
النحيب يتقطّع ويخيّم صمت مخيف، وكلّما استطال السكون وخِزت حناجر النسوة بدبوس الولولة ثانية.
تهامست امرأتان قرب الطفل بشكّ ودهشة.
قالت الأولى:
- يقال أن جسده بلا رأس!.
ردت الثانية بنقمة:
- طريق (اللطيفية) أكل كل من يذهب إلى بغداد باحثاً عن رزقه.
فقالت الأولى:
- أية حكومة هذه التي لا تقدر أن تحمي طريقاً عاماً في بلدها؟!.
سألت الثانية جزعة:
- متى سيجلبون رفاته؟.
قالت الأولى بيقين:
- قبل ساعتين استلموه من الطب العدلي...هم على وصول.
لدقائق خيم السكون ثانية قبل أن يشقّه صوت امرأة تصرخ بحزن ولوعة، وتساءل الطفل في سره عمّن يعود هذا الجسد من دون رأس؟ فيما ألحّ عليه فضول أن يرى جسداً يمشي طليقاً من دون رأس!.
اخترقت الفضاء أصوات شباب خارج الدار تصيح:
- لا إله إلّا الله...
فترد عليها جوقة ثانية، تميّزها عمّن تشهدّت نبرة الصوت الرفيعة، وشجن الفقد فيما تقول:
- أبو أحمد حبيب الله.
كانت سرعة الرد، وتكرار الهتاف يجعل الأصوات تتناغم فيما بينها كأنها تردد نشيدا دينيا يستوجب الخشوع:
- لا إله إلّا الله...أبو أحمد حبيب الله.
والطفل يرقب بوجل وجوه الشباب المهرولة عبر باحة الدار الطويلة إلى باب البيت الداخلي، وهي تحمل تابوتاً خشبياً على أطراف أصابعها، ولا تفتر همتها عن ترديد الهتاف بذات النغمة السابقة:
- لا إله إلّا الله...أبو أحمد حبيب الله.
والطفل يبحث عن أثر لأبي أحمد حبيب الله بين المهرولين ولا يجده، فتشدهه الحيرة وتجتاحه رغبة لأن يصيح:
- أبي...أخرج من بينهم، فأنا لا أكاد أراك!...أخرج حتى توقف أمي نحيبها وتعلو الابتسامة وجهها ثانية؟.
لكنه يمتنع عن الصراخ في آخر لحظة، متطشّرا بين عصرة البكاء التي يختض بها صدره الصغير، وبين يد أحد المهرولين تعطيه كيساً يخرج من حافته طرف بيجامة... لونها أزرق مثل السماء.
يشان أبيض
(في الحرب كلّ الأشياء تركض، سباق ماراثون طويل، طريق مبلّط بسواد الاسفلت، يرتقي إلى الأعلى وفي القمّة ثمة يشان أبيض وكل الأشياء تركض في الحرب لتتجمّع عنده، أو قربه، أو لتزيحه من مكانه، ثم تتربّع على عرشه).
المنتصر يركض إلى الأمام والمهزوم يركض إلى الخلف، الجاني يركض ليصل إلى الضحية والضحية تركض لتبتعد وتنجو من الجاني.
إلّا يشان أبيض باقٍ في القمة ثابتاً!.
المواد الغذائية تركض هاربة من الأسواق، تتسلّق سُلّما عالياً لتطال يشان أبيض في القمة، وفي أثرها تركض الأسعار مرتفعة لتنال القرب من يشان أبيض ، أو تتجمّع عنده، أو لتزيحه من مكانه.
في الحرب الأولى يكتب له أخوه من شرق البصرة:
- ( هذه حرب وأنت حديث عهد بها، والحرب إن لم تختبر ساحتها سابقاً فهي بلاد جديدة تسافر إليها، وعليك أن تنسى ما عرفته ببلدك وتحترم قوانين البلد الآخر، وفي سفرك للحرب قد لا تحتاج بندقيتك لأيام، لكنك لدقائق معدودة لو نزعتها عن كتفك قد يكلفك ركنها جانبا أنفاس صدرك).
وترك له هذه الملاحظة في هامش الرسالة:
- (في الحرب كل الأشياء تركض، سباق ماراثون طويل، طريق مبلّط بسواد الاسفلت، يرتقي إلى الأعلى).
وفي الحرب إن كان الإخوان رفاق سلاح قد يبحثان في جبهاتها أحدهم عن الآخر، ولا تكون دهشة اللقاء بينهما إلّا وشيجتها (بما يختصر كل الأسئلة الأخرى) هذا السؤال:
- أما زلت تتنفس؟...الحمد لله!.
وتفوح رائحة القناعة من لسان الآخر:
- الحمد لله إننا مازلنا سالميَن!.
وربما يكون الأول في سرية مشاة ويكون الثاني في بطرية مدفعية، والبحث على بعضهما ينحصر عبر الاتصال السلكي:
- ألو ...فوج أعطني اللواء...لواء أعطني الفرقة الفلانية...الفرقة الفلانية أعطني الفيلق الفلاني ...الفيلق الفلاني أعطني الفيلق العلاني...الفيلق العلاني أعطني المدفعية ... المدفعية أعطني كتيبة المدفعية الفلانية...كتيبة المدفعية الفلانية أعطني البطرية كذا.
والآخر يبحث عكسياً:
- ألو ...كتيبة أعطني المدفعية...مدفعية أعطني الفيلق الفلاني ...الفيلق الفلاني أعطني الفيلق العلاني...الفيلق العلاني أعطني الفرقة الفلانية...الفرقة الفلانية أعطني اللواء الفلاني...اللواء الفلاني أعطني الفوج كذا.
وربما في نقطة الاتصال ببدالة فيلقيهما يلتقيان وهذا يطلب الفيلق الفلاني من أخيه وذاك يطلب الفيلق العلاني من أخيه، وكم ستكبر دهشتهما إذ يكتشفان أن الوجد ألمّ بهما سوية فاتصلا ببعضهما في الوقت نفسه.
هو يذكر واعياً أن أخوه كتب له من شرق البصرة في الحرب الأولى:
- ( لا تأمن هدوء الجبهة، واقضِ جل وقتك في خندقك الشقّي، ولا تنسَ أن تُكحّل جوانبه بأكياس التراب لتصدّ تشظية القنابل ورصاص البنادق عن رأسك).
وفي هامش الرسالة كتب له:
- (في الحرب كل الأشياء تركض، سباق ماراثون طويل، طريق مبلّط بسواد الاسفلت، يرتقي إلى الأعلى).
في الحرب الثانية كتب هو لمن كان يكتب له في الحرب الأولى، لكنها هذه المرة من مدينة (الوفرة الكويتية)، وهذه الرسالة ستترك دون قراءة، على أمل أن يرجع الآخر قبله ويستلمها من أمهما العجوز:
- ( الجوع يدقّ الأبواب، وعلى أي منا يصل قبل الآخر أن يخزّن كيس تمر، فخمس تمرات منه تكفي لأن يعيش الإنسان يومه، وعلينا سوية أن نحصّن أمّنا ضد الجوع القادم).
وفي هامش الرسالة ترك له هذه الملاحظة:
- (في الحرب كل الأشياء تركض، سباق ماراثون طويل، طريق مبلّط بسواد الاسفلت، يرتقي إلى الأعلى).
غير أنه في آتي أيام المستقبل، وبعد أن زالت مسببات الحربين، قال لأخيه مبتسماً:
- في كل رسائلي كنت أتحاشى أن أذكر لك (في الحرب كل الأشياء تركض، سباق ماراثون طويل، طريق مبلّط بسواد الاسفلت يرتقي إلى الأعلى، لتزيح يشان الحياة الأبيض، وتركله إلى الأسفل، ثم تتربّع على عرشه) كنت أخاف عليك أن تخاف.
ابتسم أخوه قائلاً:
- وأنا الآخر كنت أتحاشى ذكر ذلك، لأترك لك فسحة حلم تتشبث فيه لتنجو بجلدك.
أصيغوا الانتباه: ما حولنا يهمس !.
غطّى صوت الطائرة المروحية على أصوات ذويهم في مطار المثنى، والذين تجمهروا يترقبون وصول جثامين أولادهم، من جبهة القتال المشتعلة قرب مدينة الموصل، والتي كان من الصعب على الجهات المسؤولة أن تُرسل تلك الجثامين على الطريق البري، لصعوبة تأمينها سالمة حتى تصل بغداد وتسلّم لهم.
وقف الرجال والنساء سوية وراحت الأعناق تتطاول لترى ما سينزل من جوف الطائرة الهابطة توّاً، رغم أنهم كانوا على بعد منها لا يسمح لهم لأن يتأكدوا مما سينزل: أهي جثامين أم أشياء أخرى تخص الوحدة العسكرية المرابطة في المطار؟. فالوقت ليلاً مظلماً غاب القمر عنه.
لكنهم رجالٌ ونساءٌ شاهدوا، من فسحة بروجكتور الاضاءة الأمامية للطائرة، شاباً يلبس بدلة مرقطة ترجل قافزاً منها، وتكلم قليلاً مع من كان قريباً لمكان هبوطها فأشار له ناحيتهم، وجاء مهرولاً وبيده كيس ورق أسمر.
سأل الجندي المتواجدين مركّزاً نظره على النساء فيهم، واللاتي انتحين جانباً وعيونهن غارقة بدموعها:
- من منكنّ كنيتها أم أمير وأميرة؟.
تقدّمت امرأة شابة تجاوز عمرها الخامسة والعشرين، وثمة مسحة احمرار خجل تنقّع خديها مع الدموع وقالت:
- أنا.
فقال الجندي :
- كلّفني السيد الآمر أن ألتقيك وجهاً لوجه، وأُبلغك تحياته وتحيات الجنود كلّهم، ثم أسلمك أشياء الشهيد أبو أمير، لأنه ترك لك أنت وحدك، دون من يعرفهم كلهم، رسالة فيها ما يهمك أن تعرفيه...رحم الله أبا أمير.
تناهى للمجموعة المنتظرة، من أحد جنود الوحدة العسكرية أن موعد تسليم جثامين أبنائهم سيتم بعد ساعة من الآن، ثم أضاف مبرّراً لهم تأخر التسليم، بأن سياقات التسليم من الطيار والاستلام من منتسبي الوحدة المرابطة في المطار هو ما يستوجب هذا التأخير، وقد يحوّلون إلى المطار الدولي لاستلامهم من هناك إذا أوجبت التعليمات العليا ذلك.
انزوت أم أمير جانباً وفتحت المظروف لتبحث عما قال عنه الجندي (رسالة فيها ما يهمك أن تعرفيه)!.
كان الكيس يحتوي على نسخة مفاتيح البيت التي عادة ما يحتفظ بها زوجها، لأنه في بعض الاجازات يكون وصوله للبيت بعد منتصف الليل، ولكي لا يوقظ الأطفال ويزعج جيرانه لو طرق الباب على زوجته احتفظ بنسخة من مفتاح باب البيت الخارجي، ونسخة من مفتاح باب المطبخ، وفي المظروف محفظة نقوده.
لم تكلف أم أمير نفسها وتبحث بين محتويات المحفظة، إذ إنها التقطت من بين الأشياء ورقة مطوية على أركانها ، وبادياً على أطرافها شيء من بلل قد أصابها فتهرأت كأن أيادياً كثراً تداولتها وكل واحدة منها تدعكها قليلاً وهي تطويها ثانية.
فضّت الرسالة وراحت تقرأ :
زوجتي العزيزة.
أنت تعرفين عندما أقول لك زوجتي العزيزة فأنا أعني جاداً ما أقول، ولكي ترتاح ذكراي في مخيلتك الشكّاكة بي دوماً، ولا تقولي متسائلة أنك لم تعلميني بشكك بي حتى أخمنه الآن هكذا؟ فبقدر حذرك عليّ، علمتني الجندية أن أكون حذراً، إذا أردت أن أحافظ على أشيائي الخاصة من العبث، ومثلما كنت أنت مواظبة على تفتيش هاتفي النقّال عما يحتويه من أرقام لنساء أخر غيرك، في الوقت الذي كنت تحاولين أن لا تجرحي مشاعري وتتحيني فرصة دخولي إلى الحمام، أو عندما يكون أحد صحبي في باب الدار ويتوجب عليّ أن أفتح له وأستقبله، في هذه الأوقات بالضبط كنت أتركك تمارسين شكّك وتقومين بجولة التفتيش بأشيائي وأولها هاتفي النقّال، لكنني كنت أضع هاتفي النقّال على سبيل المثال بزاوية مع أي أثاث قربه، وعندما أرجع أجد تلك الزاوية وقد تغيّرت، وما من مرة تركته قربك إلّا وقد وجدت الزاوية قد تغيّرت.
كنت أفعل ذلك واعياً كي أدخل الطمأنينة والهدوء إلى نفسك، والسبب لأنك زوجتي وأم ولدي وابنتي، ثم لأنني مؤمن تمام الإيمان أن دور الرجل في مجتمعاتنا يجب أن يغادر تمثيل شخصية الشرطي على عياله، ويتماهى لأن يكون لهم نافذة وسع أحلامهم يطلّون منها نحو الواقع والمستحيل...نعم والمستحيل أيضاً، فبعض أحلام السجناء عادة ما تكون ضرب في المستحيل، لأن السجين عندما يحلم أن يأتي الغد ولا يعذبه سجانه، أو يأتي الغد وتكون الحرية طوع أمره( خاصة سجناء الفكر) فمثل هذا الحلم حلم مستحيل، وعوائلنا مسجونة بمحجر كبير، مرة اسمه البيت ومرة اسمه المدرسة، وأخرى الدائرة، وستقولين لكننا نمارس حياتنا فيما ذكرت من أمكنة بشكل عادي؟ وهذا جد صحيح، لكن العائلة العراقية تمارس الحياة وسط هذه الأمكنة وثمة رادعان يحوّطانها: فهي تمارس الحياة وقوانين العرف الاجتماعي والعشائري والديني والسياسي تراقب وتؤول السلوكيات وفق قوانين تسمح لكل من يريد أن يشكّلها وفق هواه، وحتى في حالة تسيّد القوانين الوضعية في رسم الحريات الشخصية تبقى قوانين العرف الاجتماعي والعشائري والديني والسياسي بعبعاً يسيطر على أدمغتنا، ونخاف شبحه قبل أن نشير لاسمه، وهذا هو الرادع الثاني، فانت تذكرين يوم عقدت عليك قانوناً وشرعاً وامهلنا نفسينا قليلاً حتى أكمل ترتيب حفلة العرس كيف كنتُ وأنت نخاف مما سيقوله الناس عنا لو كثرت نزهاتنا سوية؟... كنا نتصرف وفق ما سيقوله المجتمع عنا وليس كزوجين يحلان لبعضهما وفق عقد الشرع والقانون الذي أكملناه أيضا وفق ما تراه الناس وتريده أن يجري كما تعارفت عليه!. وعلى الرجل أن يكون نافذة لعائلته ليس وسعها الواقع بل وشيئا من المستحيل، على الأقل ببث الحلم فيهم أن المستقبل من الممكن أن يطوّع المستحيل ويجعله قريناً للواقع ومن السهولة أن يتحقق، فقليل من الكذب الأبيض يا عزيزتي لأجل أن نمنح ابتسامة السعادة لغيرنا لن يضير واقعنا معهم بشيء.
أعرف أن عيناك الآن تأكل حروف الرسالة سريعاً، وداخلك يبحث عما تحتويه خلاصتها، لكنني سأكتب على مهل بما تبقى لدي من وقت، سأكتب على مهل مادام شبح الموت صامتاً وأزيز الرصاص يعزف موسيقى الرحيل برويّة، سأكتب ليس لقراءتك الأولى لرسالتي بل للقراءات اللاحقة، سأكتب ليوم يكون فيه أمير رجلاً ويفتح صورة من رسالتي هذه ليريها لأولاده ويقول لهم:
- هذا جدّكم، وهذا ما انتهى له.
أكتب لأميرة كي تفاخر بي أمام زملائها في الكلية التي ستقبل فيها مستقبلا.
وخذيها نبوءَةً مني:
لقد منحني العمر وتعب السنين يقيناً بأنه سيأتي يوم يتنزه فيه أولادنا( عشاقا ... أقرباء ... أصدقاء) فيما الأكبر سناً منهم أو ربما الأكثر وعياً, وقد يكون من تصفح تأريخ هذه الأيام بحيادية, سيسرّ لهم:
- قرب تلك الشجرة فجر انتحاري شيشاني نفسه على صبية عراقيين قيل أنهم خرجوا لتوهم من المدرسة..
فيرد الآخر مذكرا:
- وفي ذات المكان الذي أكلنا وشربنا به قبل قليل, فجر انتحاري أفغاني نفسه بين عابدين لربهم عزل.
فيضحك الآخر فيما الألم يعتصره قائلاً:
- تخيّل !! من هنا مرّت سبايا عراقيات ليبعن في سوق النخاسة.
يطبطب الآخر على كتفي صاحبه مهوّناً الأمر عليه ويقول:
- تلك أيام سوداء مرّت علينا...قم، قم لنكمل نهارنا, ففي المساء ثمة مسرحية علينا أن نحضر عرضها الأول.
وأنا أريد لأولادي أن يتكلموا متباهين مع من افترضتهم توّاً يتكلمون مستقبلاً عما جرى لنا وكيف تجاوزنا محنته، ولأجل هذا وأشياء أخرى أكتب رسالتي هذه.
زوجتي الحبيبة
قبل أن أسرد عليكم (أنتم عائلتي الصغيرة: زوجتي وولدي أمير وجميلتي الصغيرة أميرة) ما جرى لي، وكيف وصلت لقرار كتابتي لهذه الرسالة، يجب أن أقول لكم لا تصدّقوا أبداً من يقول لكم أنني انتهيت لما أنا عليه بمحض الصدفة، لأن كل ما جرى مخطط له وأنا من اتخذت القرار فيه ملء إرادتي، وذلك لقناعتي أن من يريد أن يزرع وردة عليه أن يتحمل وخز الأشواك بحقلها، وهذا بالضبط ما جرى لي :
توغّلت وحدتنا العسكرية في محورها المناط بها تحريره في الجانب الأيمن لمدينة الموصل، ومن المؤكد أنكم سمعتم من التقارير الصحفية التي تبثها الفضائيات، كما عرفنا نحن ممن ينهون اجازاتهم ويلتحقون بنا، أن التقارير الصحفية للفضائيات تركز على الكثافة السكانية وضيق الأزقة في الجانب الأيمن، وهذا الأمر عين الحقيقة، ولهذا فالوحدات تتوغل بالأمتار بين زقاق وآخر، والقتال بيننا وبين التنظيم هو حرب شوارع، يجري من بيت إلى بيت، والمدينة ليلاً ونهاراً لا يسمع بين أزقتها غير أزيز الرصاص، ومواء القطط، وعواء الكلاب الضالة، وهذا الجو المشحون بالترقّب لا يقطعه غير غارات سلاح طيران الجيش أو التحالف، ولأن المدينة قديمة، فمع كل غارة تهتزّ بيوتها بفعل صوت الطائرات قبل أن تهتزّ بتخلخل الضغط بين جدرانها من فعل عصف القصف هنا أو هناك.
كنا كلّما تقدمنا متراً إلى الأمام رأينا راية بيضاء ترفرف بها يد بنت أو صبي من السكان المدنيين لأحد أحياء الجانب الأيمن ومن شبابيك البيوت التي تعتلي على غيرها، وكان هذا الأمر يجري في البداية على استحياء، لكن مع مرور كل ساعة على الحرب كانت الأيادي ترتفع أكثر من الشبابيك، وكنا نرى بعضهم يقتل بنار قناصة التنظيم، ليحتموا بهم ويعيقوا تقدمنا نحوهم، لكننا كنا مع كل سقوط ضحية من المدنيين قرب أحد الشبابيك، يركبنا ألف عفريت على نجدتهم، وقد حدث قبل يومين من الآن أن أحدث قصف الطائرات فجوة في منتصف آخر حي بالمدينة القديمة، وكنا على علم أننا لو أنجزنا السيطرة عليه فستعلن بغداد نهاية معركة الموصل.
وعلى وجه السرعة اقترح الآمر أن تتوغل مجموعة منا داخل الفجوة وتوقف الامدادات لجانبها الآخر المواجه لتقدم القطعات عليه، وقد ترك الأمر لرغبتنا في من سيتطوع؟.
خرج ملازم فاروق من الموصل وخرجت أنا ثم لحق بنا حميد من البصرة وانضم ثالثٌ لنا من بغداد اسمه رامي، والحقيقة أن ما جعلنا نحن الثلاثة نلتحق متطوعين بملازم فاروق هو قوله بعد أن خرج جانباً إذ قال:
- أنا أول المتطوعين وإن لم ألحق بغدٍ، فبلغوا أهلي أن فاروق دخل الفجوة ليجعل شاربه ينبت الشعر عليه ثانية.
ولشارب فاروق عهد قطعه على نفسه قبل ثلاث سنين، فملازم فاروق من سكنة محافظة الموصل ويوم اجتاح التنظيم المدينة واحتلها كان فاروق قد التحق فينا من اجازته الدورية، تاركاً أباه وأمه العجوزين في الجانب الأيمن للمدينة، وبعد أيام خرج ملازم فاروق قائلاً أمام مجموعة منّا:
- مثلما كل واحد منكم ينتمي لعشيرة عراقية، فأنا الآخر لي عشيرتي، وفي نظم العشائر يعد الشارب هيبة الذكر وعنوان رجولته، وأنا الآن يجتاحني شعور أن رجولتي وهيبتي ناقصة بعد احتلال مدينتي وبقاء والدي ووالدتي أسرى داخلها، وحتى تتحرّر المدينة من التنظيم ويُفك أسر والدي فأنا سأحلق شاربي، ولن تنبت فيه شعرة مادامت المدينة محتلة ووالديّ أسيران.
ومن يومها قبل ثلاث سنين وهو حليق الشارب، وعندما أعلن بدء عملية التحرير ضحك ملازم فاروق كما ذكر الذين بقربه ساعتها، وارتفعت يده اليمنى تمسّد على شاربه، كأنه يريد أن يعدّل الشعر النافر فيه، ولكي تكتمل الصورة فقد تضامن معه الكثير من الجنود وحلقوا شواربهم أيضاً، وللحقيقة بعضهم رجع وترك شاربه ينبت ثانية لظروف اجتماعية وأسرية تستلزم ذلك، ولم يؤنبهم أحد فينا على ما فعلوه، وأكثر من حلقوا شواربهم مازالوا مناصرين لعهد ملازم فاروق، ورحم الله من فارق الحياة فينا ولم يترك شاربه ينبت.
توغلنا أربعتنا عند مغيب الشمس قبل يومين من الآن، وسط خراب أحدثه قصف الطائرات ما رأيت مثله خراباً طيلة عمري، أحجار مكومة على بعضها بفوضى عارمة، بعض البيوت القريبة من القصف كانت مخلّعة الأبواب من شدة العصف، وبعضها في جدرانها شقوق كافية لأن يدخل ويخرج منها الإنسان بطوله، وبعضها هطلت سقوفها والتوت مساندها تحت ثقلها، وثمة قطع من اسفلت الشوارع تقارب المتر وجدناها صباحا منزوعة من أماكنها ومرمية داخل البيوت، وقطع اللحم البشري ملتصقة على الحيطان كأنها لوحات سوريالية تحكي بشاعة ما جرى، ولو أن الجيش لم يستطع في الأيام الأخيرة لمعركة الموصل من إدامة خط الخروج الآمن للمدنيين وبقي تواجدهم للحظة التي أكتب لكم فيها لحدثت إبادة مروعة لمن يبقى هناك في أخر حي للمدينة القديمة، لكن لطف الأقدار كان أرحم بمن تبقى وأوجد لهم فسحة ممر ضيق يتسللوا منه وينجوا بجلودهم سالمين، ولم يكن هذا الطريق آمنا على كل الأهالي، فقد اضطرّت وحدات الجيش أن تضحي ببعض منتسبيها وهم يحاولون انقاذ مسنٍ، أو جريحٍ، أو طفلٍ مرعوبٍ يخشى أن يعبر شارعاً من جانب إلى جانب آخر، وقناص التنظيم يكمن لهما مترقّبا. وفي بعض مفاصل الطريق الآمن اضطرت وحدات الجيش أن تمد حاجزاً من قماش طويل من جانب الشارع إلى جانبه الآخر حتى تحجب رؤية القناص عمن يسيرون خلفه من المدنيين، وفي هذا الفعل راحت ضحايا كثر من الجيش ومن المدنيين، بين استهداف الحاجز من رصاص قناصي التنظيم العشوائي وقنابر الهاون التي تسقط خلفه، لإعاقة الحركة وراءه وايقاف نزوح المدنيين.
في صباح اليوم التالي لتوغلنا نحن الأربعة واجهنا حجم التحدي الذي وضعنا فيه، فقد أوصل عناصر التنظيم الذين خلفنا إلى الذين يقاتلون أمامنا بمواجهة الوحدات المتقدمة أن ثمة خرق خلفهم يمنع وصول الامدادات إليهم.
أمّا كيف عرفنا بذلك؟ فهو لأن العناصر المحصورون بين مجموعتنا المتوغّلة وبين الوحدات المتقدمة قامت مجموعة منهم بتوجيه نيران أسلحتها ضدنا، وفي تلك اللحظة أصبحنا بين نارين وصار لزاما علينا أن نشاغل الجهتين، وهنا أوعز لنا ملازم فاروق أن نشاغلهم مقتصدين بعتادنا، وخرج هو جانباً في مساء اليوم التالي ليستطلع طريق دخولنا حتى إذا استجدّ طارئ على خطة التوغّل والمشاغلة ننسحب خارجين كما دخلنا، وكم كانت دهشتنا كبيرة لحظة أن دخل ملازم فاروق وساعد يده الأيسر مجروحاً بطلقة قناص، ومعلناً لنا أننا محاصرون في فجوة التوغّل، ولا مجال لنا إلّا أن نصمد بمكاننا حتى تصل الوحدات المهاجمة لنا حيث نكمن!.
كان الملازم فاروق يتألم بشدة من جرح يده اليسرى لكنه عندما يشعر أننا نراقبه يحاول أن يغتصب ابتسامة شفافة على محياه ليبث قليلاً من الأمل فينا.
ويبدو أن حاجة عناصر التنظيم الذين أمامنا إلى الامدادات(سلاح أو رجال لا نعرف بالضبط!) جعلت من هم خلفنا ومن هم أمامنا يمطرون مكمننا طيلة النهار الفائت والليل الثاني بزخات رصاص ما هدأت أبداً، وفي الجندية هناك قانون متعارف عليه: هو أن على طرفي المشاغلة أن لا يقطعا رميهما على بعض، لأن انقطاعه في الاشتباكات القريبة يعني عند الآخر أن مشاغله كهدف قد أُسكت، وفي هذه الحالة يتقدم المستمر بالمشاغلة لاحتلال مكان الذي أسكت.
عند غروب شمس اليوم التالي بقي عند كل منا نحن الثلاثة( حميد ورامي وأنا) مخزن عتاد واحد، مضافا له أن ملازم فاروق كان قد جلب معه بالإضافة لمسدسه بندقية كلاشنكوف كسلاح احتياط، لأن تجهيز الضابط في الجيش من قطع السلاح مسدس فقط.
وقريباً من وقت عشاء هذه الليلة، بقي عندنا مخزن عتاد واحد فيه ثلاثين طلقة فقط مع تسع طلقات مسدس.
أجتمع فينا ملازم فاروق على وجه السرعة واتفقنا أن نشاغل فيهما لحين نفادهما، ثم تعاهدنا أن نشتبك معهم بالسلاح الأبيض أن لزم الأمر، فاستأذنت جماعتي وجلست أكتب لك هذه الرسالة، وثمة بصيص أمل صغير جداً وهو أننا نسمع وحدات الجيش المهاجمة يصيح بعض أفرادها على من تبقى من عناصر التنظيم بضرورة الاستسلام، وما يزيد شعاع الأمل بالنجاة سطوعاً أن الرمي من قبل عناصر التنظيم أمامنا على جهتنا وعلى جهة الجيش راح يصمت شيئاً فشيئا، لكن المخيف في الأمر أن رصاص من هم خلفنا منهم قد راح يقترب منا أكثر، ولأن ما نسمعه من خلفنا كثيفاً فإن فرصة النجاة تكاد تنعدم.
الآن وصوت رصاص مسدس ملازم فاروق يرمي بات أمر النجاة بعيد جداً، وكل ما أتمناه أن لا يلجأ عناصر التنظيم ، كما هي عادتهم دوماً مع من يأسروهم أو يجهزون عليهم، أن لا يحرقوا جثثنا، لأنهم لو فعلوا ذلك فستحرق رسالتي هذه وتذروها الريح مع بقايا رماد عظامي، وأجزم أنهم لن يلحقوا على هذا الفعل لأنهم يهابون المقتربين منهم على الأرض، ويخافون شبح الطائرات التي تحوم فوقهم، ثم أنني أخذت عهداً على نفسي أن لا أتصل بك هاتفياً ما دمت بمهمتي هذه، حتى لا أتركك تعيشين رعب الخوف على نهايتي ورعب خبر مقتلي، إذ يكفيك ما ستعيشينه من هول الثانية.
ولهذا سأوجز هذه الملاحظات السريعة:
- بعد تأكدك من وفاتي ووصول جثتي ودفنها، أنت في حل من عهد الزوجية بيننا، وعليك أن لا تردي خاطباً يتقدم لخطبتك.
- بيتي يؤجر (إن تزوجت من رجل آخر) ومن إيجاره خذي حصتك والباقي عليك بكل العهود أن تجمعيه لأولادي حتى يكملوا دراستهم ويكبروا ثم يتصرفوا بما تركت لهم، وما دمت بانتظار خاطبك فلك أن تعيشي أنت وولدك وأبنتك من راتبي التقاعدي، فإن تزوجت فأجمعيه على إيجار البيت لمستقبل الولد والبنت.
- أمّا أنت يا أمير فإنك ستكبر وتحصل على تعليمك قبل أن تكبر أختك أميرة، ولأجل ذلك فأنا أوصيك:
(قاتل حتى النفس الأخير واترك أختك تكمل دراستها، ثم لا تجبرها على زوج لا تقبل به، واقبل بمن تختاره هي شريكاً لحياتها...وإياك إياك أن تحرمها نصيبها مما تركت لكم).
وداعاً يا من كنتم نافذتي التي أراقب فيها كل همس الأشياء من حولي.
ملاحظة: سيبدو غريباً عليك، وأنت بهذا العمر، وغريباً على المجتمع أن شابة مثلك تستلم جثمان زوجها، لكن ماذا أفعل لك وأنا الصامت في تابوتي؟ فكما تعرفين إننا زُججنا بهذه الحياة ولا نملك إلّا بعضينا، أنت يتيمة الأبوين بسبب الضغط الذي صرع والدك فجأة، ومرض السرطان الذي أكل رئتي والدتك، وأنا فقدت الوالد في حرب الخليج الأولى وبعد عقد فقدت الأخ في حرب الخليج الثانية، والوالدة، يا حسرتي عليها، ماتت كمداً على فقدهما! فتجلدي وكوني امرأة يهابها الرجال...تجلدي وواجهي موتي بشجاعة، ولن تكوني كذلك إن لم تحبسي دمعك أثناء استلام جثتي.
المحب لك دوما
زوجك أبو أمير
الأبواق
على حائط دكان بائع الآلات الموسيقية أصطفّ البوق الكبير، والبوق الثرثار، والبوق ذو الأصوات المتعددة، والبوق اللمّاع، وراحوا سوية يسخرون ويضحكون مستهزئين على البوق الأثري، الذي عُلِّقَ على الجانب الآخر بصندوق زجاجي لا يفتح إلّا عندما يريد بائع الآلات الموسيقية تنظيفه، ولأنه كان من الأدوات التي دائما ما يقضي البائع جل وقته عندها، ويجزم البوق الثرثار لأصحابه من الأبواق الأخرى أنه كثيرا ما ضبط البائع يتحدث هامسا مع البوق الأثري، حتى إنه أسرّ لهم مرة ولم يصدقوا أنه شاهد البائع يبكي عند البوق الأثري وأوصاله ترتجف، كأنه عاشق مُنِعَ أن يرى حبيبته ثم التقاها صدفة، وربما صفة الثرثرة التصقت بالبوق الثرثار لكثرة ما كان يستهويه الحديث باستفاضة وتدقيق عن علاقة البائع بذلك البوق، لكن الشائع والذي لا يستطيع أيُّ بوق من الأبواق الأربعة أن ينكره، هو قيام البائع دوماً بسحب عملاء دكانه إلى مكان البوق الأثري، وكان يقف طويلاً عنده شارحاً لهم وقت صناعته، ومعدّدا لهم أشهر العازفين الذين استعملوه، وعدد الحفلات التي شارك بالعزف فيها، وكم وقف الجمهور في تلك الحفلات مصفقاً للعازف فيه بعد انتهاء كل حفلة يشارك فيها؟، وكان أكثر ما يزعجهم، ويجعل أبدانهم تصطك بعضها ببعض محدثة قرقعة تثير البوق الأثري وتلفت انتباهه، كانت عندما يصل الحديث ببائع الآلات الموسيقية للفقرة التي يعلن فيها للزائرين عدد الأوسمة والنياشين التي حصل عليها العازفون على البوق الأثري، ولو كان يكتفي بهذه النقطة لهان الأمر عليهم، لكنه كان يتشعب فيه الحديث ليذكر أعلى الرتب الشرفية في الحقلين الدبلوماسي والعسكري، التي كانت تقلّد تلك الأوسمة والنياشين للعازفين عليه، أما إذا أصاب صاحب الدكان شجن الذكريات، وامتدَّ فيه الحديث للفقرة التي يذكر فيها عدد رؤساء الدول، ومسؤولي الأكاديميات الموسيقية العالمية، وأشهر القاعات العالمية التي تحمل أسماء عباقرة الموسيقى والعزف، الذين شاركوا في تكريم العازفين عليه، فإن الاضطراب الذي ينتابهم يكاد يجعل المسامير التي علق عليها البوق الكبير وجماعته تكاد تنخلع من أماكنها، لشدة الاستفزاز الذي يركبهم عندها، ولولا عناد صاحب الدكان على إبقائهم في أمكنتهم، ليقارنهم دوما لزائريه مع بوقه الأثري، لقام صبي الدكان من زمان برصفهم في المخزن الخلفي، ولارتاحوا من حرق الأعصاب هذا الذي يعيشونه دوما، ولا سيما هذه الأيام، بعد أن فُتحت حدود البلاد المغلقة لعقود مضت في وجه السائحين العالميين، الذين كان يعدَّهم دكتاتور البلاد المخلوع، جواسيس يحاولون أن ينالوا من عزة بلاده وشعبها، ليجعلوا الغزاة من بلادهم يدنسوا الشرف في الوحل والرذيلة.
لكن اللحظة الحاسمة التي جعلتهم يرتاحون بوضعهم في المخزن الخلفي، وجعلت الصبي يلمهم سوية فرحا، كانت عند رمي أول قذيفة من فصيل مدفعية الاحتفالات، لكن تلك القذيفة ما انطلقت إلّا بعد أن سبقها بيوم واحد إعلان صاحب الدكان أنه سيعزف بنفسه على بوقه الأثري في الاحتفال الذي سيقام في شوارع العاصمة، بمناسبة مرور سنة كاملة على سقوط الدكتاتور، واستطاع البائع أن يقنع اللجنة المشرفة على كراديس المحتفلين أن يمروا في الشارع الذي يقع عليه دكانه، وأعلمهم أنه حالما يرى طلائعهم تسير في بداية الشارع فانه سيخرج البوق الأثري وسيستقبلهم عازفا عليه، لكن هذا الخبر تطاير من أفواه أعضاء اللجنة المشرفة ليصل أسماع معظم سكان العاصمة، فتجمهرت الناس بالآلاف منذ صباح الاحتفال مقابل دكان بائع الآلات الموسيقية، وداخل كل شخص منهم فكرة تدفعه لأن يحجز أقرب مكان له مقابل الدكان، ليشاهد عن قرب شكل البوق الأثري ويسمع صوته واضحا، سيما وأن كلَّ سكان العاصمة يعرفون الوعد السابق، الذي سينقضه صاحب الدكان، عندما أعلن منذ زمن بعيد أنه هجر العزف على آلة البوق، وتقاعد ليرتاح بقية عمره بائعا للآلات الموسيقية، واستجابة لفرح الناس واختيارهم موقع دكان بائع الآلات الموسيقية مكانا ليشاهدوا فيه الذكرى السنوية الأولى لسقوط الدكتاتور، فإن الجهة المشرفة على تنظيم الاحتفال اقترحت على فصيل مدفعية المناسبات أن ينصب مدافعه في الساحة، التي تقابل دكان البائع، ويكون اتجاه رمي المدافع باتجاه الفضاء الفسيح هناك، في الخلاء البعيد الذي يعلم الداني والقاصي من سكان العاصمة أنه مكب للنفايات، وهو يقع خارج حدود الأحياء السكنية التابعة للعاصمة، وزيادة في الحيطة والحذر فإن آمر فصيل مدفعية الاحتفالات أمَر بداية برمي قذيفة دخان، تحذر النابشين عن رزقهم في مكب النفايات، من خطر شظايا القنابل الساقطة قربهم، وعندها تنطلق فعاليات الاحتفال لتعقبها بنصف دقيقة اطلاقات حقيقة، ترمى على الإحداثيات ذاتها التي رميت عليها قذيفة الدخان الأولى، ولأن آمر مدفعية الاحتفالات كان رجلا كبيرا في السن، وكان في شبابه من متذوقي فن عازف البوق الأثري المتقاعد، فقد كانت فيه رغبة لأن يكون فصيله قريبا من الدكان، فراح يحدث نفسه قائلا( قذيفة دخان واحدة...ثم...ثم تعقبها نصف دقيقة لترمى ثلاث قذائف بالتعاقب.... لن يستغرق وقت إطلاقها أكثر من نصف دقيقة أخرى، وأكون بعدها...الله... حرا فاستمع مع الناس لذاك الصوت الشجي، الذي لا زال يتهادى في ذاكرتي منذ شبابي كأنه....كأنه عزف كتيبة مدفعية كاملة، يتعقب فلول العدو وهي تلوذ بالفرار بعد هجوم فاشل لها... لا أدري اليوم بأي سنة اشتركت فيه كآمر فصيل يوم صدته تلك الكتيبة...أوووه ...لا أدري أي كتيبة كنت فيها !).
وعند الساعة المرتقبة وقف العازف المتقاعد قرب الصندوق الزجاجي، يلمِّع بالبوق الأثري وينفخ عليه بخار أنفاسه، ثم يمسح ضباب البخار عنه بكم قميصه، ويعدل الشيب في شعر رأسه ويصففه، على انعكاس صورته فوق بدن البوق، فيما يقف الصبي عن جانبه يرقبه متى يخرج من الدكان حتى ينسل وراءه خفية، ليشاهد بقية الصبيان يتقافزون قرب أمهاتهم وآبائهم، الذين تجمهروا منذ ساعات الصباح الأولى على ناصية الشارع المقابل للدكان الذي يعمل فيه؟، ومع ازدياد الجلبة بين الناس، وارتفاع الضجيج الفرح بين الصبية، أمر آمر فصيل مدفعية الاحتفالات بتعبئة قذيفة الدخان، وتقدم بنفسه ليسحب حبل المدفع، فدوى صوت إطلاقها ليهز جدران البنايات القريبة منه، وفي داخل الدكان اهتزت كل الموجودات داخله، وانخلع المسمار الذي تعلق فيه البوق الكبير كل المدة الماضية، فسقط البوق الكبير وتهشمت رقبته.
قال العازف المتقاعد لصبي الدكان قبل أن يهم خارجا من الباب:
- اجمعه بكيس واركنه في المخزن.
لكن الصبي أضمر أن يجمعه بكيس ويرميه على كومة النفايات القريبة من الدكان، لولا خشيته من غضب ولي نعمته، وقبل أن يركن البوق الكبير الذي تهشم عنقه في زاوية المخزن، سمع صوت القذيفة الثانية، وشاهد على أثرها البوق الثرثار يسقط على الأرض وتنكسر زمارته، ثم أعقبها أن شاهد مع صوت القذيفة الثالثة، كيف يسقط البوق المتعدد الأصوات متدحرجا خارج المحل ويتناثر لقطع صغيرة، راحت أقدام الناس تدوس عليها في الشارع، وصاح رجل على صبية راحوا يلعبون بأقدامهم في بوق لمّاع صغير، تدحرج قافزا على الأرض خارج الدكان مع صوت القذيفة الرابعة.
وردّدت الأصداء صوتاً شجياً مؤنساً، لعزف البائع على البوق الأثري، كأنه يُذكّر مستمعيه باجتماع العائلة مساءً حول موقد تتوهج الجمرات فيه، كلما نثرت الأم عباءتها على طفل لها أراد أن يتوسد فخذها لينام عليه، ويدها الأخرى تمتد بكوب الشاي لزوجها الذي يعبث بموجة المذياع قرب أذنه.
صمت المقابر
رغم علمي أن الصراخ ، أو لنقل الهمس، مجرد الهمس، قد يكون موقفا تعبر من خلاله عمّا يعتلج داخلك إزاء ما يجري حولك، لكني منذ أن وجدت وأنا أقف صامتاً، ولا أذكر أن موقفاً، مفرحاً كان أم محزناً، حدث وكنت شاهداً عليه، ثم استطاع بفعله ذاك أن يشدني إليه ويزحزحني عن صمتي أبداً!، فمنذ أن حملوني من السوق وأوقفوني عند المصرف وأنا أصغي لمن يتكلم ولا أرد عليه، وأسمع من يعترض ولا أستجيب لاعتراضه، وربما لو استدعيت في قضية كبرى حدثت قربي تستوجب المحاكمة، لما تعدى حضوري خانة إكمال شهود العيان، لكن ما سيُعقِّد القضية التي ينظر فيها القضاء، أن صمتي سيزيدها غموضاً قد يستدعي القاضي لأن يأمر بإعادة التحقيق في ملابساتها كلها، وقد يطلب التعمق في التحقيق، الذي ربما سيزيد الضغط على المشتبه فيهم ليعترفوا بأفعال لم يرتكبونها، فينجو الفاعل الحقيقي، ويتهم البريء بجريرة لم يرتكبها، وفي منطق الضمير، سأكون مذنباً أمامه لأن صمتي جعل القاضي يشكّ في الوجه الآخر للحقيقة، ويطلب إعادة التحري والنبش في الملابسات لما قبل بدء فعل الإجرام الذي ينظر فيه، ولو كنت عندها في مكان القاضي لأصدرت القرار التالي قائلاً فيه، دون الرجوع لهيئة المحلفين معي:
- تُغلق القضية وتسجل آثارها ضد الصمت.
وهنا سيغدو الصمت معدياً وهو يلفّ قاعة المحكمة ومن فيها، ليزيد وطأة فعلي على الحاضرين شراسة، تجعلهم يصفون قرار القاضي بالتهور والجنون، فقد تعوّد كل الحاضرين الحكم على الأمور من ظواهرها، ومن يشذ عن هذه القاعدة، وينظر لبواطنها، كما فعل القاضي، يعدُّ سلوكه شذوذا يقابل بالصمت والسكينة أولاً، ثم يحكم عليه بالتهور والجنون ثانياً، لكن ماذا يفعل التحليل إزاء وضع وجدت فيه نفسي دون إرادة مني، مرغماً عليه؟ فمن الصعب أن تقف صامتاً وأنت ترى مدير المصرف يدخل في الصباح وهو يؤرجح حقيبته الدبلوماسية فارغة، دون أن يشد قبضته عليها، مثلما يفعل وهو يخرج محتضنا لها، كأنها وليد له يضمه بشوق وحنان على صدره! وقد يعترض أحدكم على اتهامي هذا متسائلاً عن كيفية معرفتي بفراغ الحقيبة صباحاً وامتلائها عند نهاية الدوام؟، ولو كانت الحالة هذه حدثت لمرة واحدة، لوافقت المعترض على ظلمي هذا، لكن فراغها وامتلاءها كثيراً ما كنت أحسه وهي تضربني في جنبي، إذ يدخل فيها المدير فارغة، ويخرج فيها ممتلئة دون أن يلتفت لي، أو يحس بوجودي! وما أسرده عليكم الآن لا يعود لفترة بعينها كما يتهيأ لذهن بعضكم، لكنه يعود لعقود مضت غير أن ذاكرتي شاخت وتخلّعت مساندها حتى راحت تتذكر ما مضى على أنه حاضرٌ وتعيد الحاضر لزمن مضى.
ومن الصعب كذلك أن تستمع صامتاً لموظفة حسابات تخبر حبيبها قربك، أنها ستدبّر أمر شراء البيت لهما، وما عليه إلّا أن يمهلها سنة مالية كاملة، وعندما يلح عليها ، كما يبان لي من احمرار خديها، ومماطلتها بالرد على معرفة الوسيلة التي ستجني فيها ثمن البيت بهذه السرعة، وراتبها لو جمعته لعشر سنين دون أن تصرف منه درهماً واحداً، لما جمعت ربع مبلغ ثمن البيت،!
كانت ترد عليه:
- ببساطة...سأحوِّل مبالغ من حسابات العملاء، وأتركها في حسابي لسنة مالية كاملة، فأجني أرباحها ثم أرجعها لهم.
ويظهر من احمرار الخدين عندها مرة أخرى، ثم قولها له أنها تعرف خبايا التحايل في مهنتها، أن الطرف الآخر يتعجب من تدبيرها لكنه يخاف أن يُكتشف أمرها وينتهي موردٌ ماليٌ سيدرُّ عليه الرفاه، غير أن تطميناتها له تجعلني أستمع لها ترد على سلامه، وتغلق هاتفها زائغة العينين على جانبيها، خوف أن يكون أحدهم قد استمع لاتصالها !، ومن الصعب أن ترى ثم تصمت على عامل خدمة في المصرف يجمع حوالات الفلاحين من (سايلو الحبوب)، ليمنحهم مستحقاتهم، لقاء مبلغ يستقطع من كل شخص، ويدعي هذا العامل أن موظفة صندوق الدفع تطلبه منه، والمصيبة أن الفلاحين يقبلون فعل ذلك صاغرين مثلي دون أن يعترضوا، لا لشيء، إلّا أن يرحمهم هذا الفعل من لفح سموم الصيف وحرارة شمسه! ومن الصعب أن ترى الحراس الليليين يسرقون وقود مولدة كهرباء المصرف، ثم تتعطل مصالح العملاء في الصباح، وأنت يلفك الصمت المطبق!، ومن الصعب أن ترى الموظفات في الداخل يوقفن صرف رواتب المتقاعدين، لأن عامل الخدمة نفسه جلب لهن الأكل من المطاعم خارج المصرف، ويخشين أن يبرد الأكل وتعافه نفوسهن، ثم تبقى مصراً على صمتك أيضاً!.
صدقوني أن تلك الأفعال تصيبك بالشلل، وتبلد الإحساس فيك وأنت تراها تحدث أمامك، ولا تفعل شيئاً لها تدلل فيه على وجودك. ولو حدثت كل واحدة منها لمرة واحدة فقط لهان الأمر ، لكنها تحدث منذ أن جلبوني من السوق وجعلوني بابا في حائط المصرف. أفتح فمي لكل قادم للمصرف وكل خارج منه، ويلفني صمت المقابر دوماً!.
كوب من عجين
لأن في إبريق الشاي هذا الصباح امتلاءً أكثر من كل يوم مضى في المعتقل ، فإنه طلب ممن كان يصب الشاي أن يجعل دوره الأخير في الشرب بالكوب المعدني، الذي يدخل كل يوم لوحده مع الأبريق، حتى وإن ازداد عدد الوافدين على الزنزانة، أو تراجع ليستقر عند الرقم ثلاثة وسبعون ! وبالرغم من أن زميله تعجب من طلبه، سيما وهو يعرف أنه كان كثيراً ما يطلب الشاي بإلحاح كل صباح، وكثيرا ما كان زملاؤه يشاهدونه وهو يحاول أن يقرب دوره من شرب الشاي على حساب الآخرين!. لكن هذا الزميل أصيب بالعجب وهو يراه يسكب الشاي في الكوب المصنوع من فتات لب الصمون ! وقد يتساءل شخص لم يعش تجربة الاعتقال: أيعقل أن تصنع الأكواب من فتات لب الصمون؟. والحقيقة المرة للجواب على ذلك تكمن في داخل كل معتقل عاش تلك التجربة، ولن يكون هنالك ضير من سردها لمن لم يعشها. فما من محجر اعتقال يخلو من قطعة كارتون مخططة لمربعات تحاكي مربعات رقعة الشطرنج، وهنا سيتبادر للذهن السؤال التالي: ومن أين حصل المعتقلون على قلم وخططوا فيه قطعة الكارتون لتحاكي في شكلها مربعات رقعة الشطرنج؟ لكن صيغة الاستنكار هذه ستخبو إذا علمنا أن بعض المعتقلين استطاعوا أن يهربوا بعد أن صنعوا مفتاح زنزانتهم من قطعة حديد وجدوها مرمية، على جانب الساحة الخارجية، وقت أن خرجوا لرمي النفايات، ومثلما يصنع المعتقلون في الزنزانات نردا (لعبة الطاولي) من فتات العجين، فإنهم يصنعون بيادق لعبة الشطرنج من ذلك الفتات، وإن لم يحصلوا على قلم رصاص يخططون فيه رقعة الشطرنج فإنهم يلجئون لقشط السطح الخارجي لقطعة الكارتون، في كل مربع أسود، ليميزوه عن المربع الأبيض الذي يستعيضون عنه بالوجه الصقيل لقطعة الكارتون، وهم بالتالي لهم القدرة على اختراع حاجياتهم، ومنها أكواب العجين مما تيسره لهم حياتهم البسيطة، التي أُجبِروا على أن يعيشوها، وذلك كله ليس بالمهم، بل إن ما يهمنا رصده أنه سكب الشاي في كوب العجين ووضعه جانبا أثار استغراب زملاءه ذلك الصباح، لكنهم بعد ساعة وعندما صحا زميل له كان نائما وقت توزيع الشاي، وشرب حصته منه ، تلك التي خبأها له في كوب العجين، راحوا يعجنون الكوب ثانية ليصنعوا منه كوبا آخر. فقد ينام صاحبٌ لهم ويفوته موعد توزيع شاي الصباح، وربما ينفعه الكوب المصنوع، فكل شيء يفتته البلل لابد لأيديهم أن تعجنه وتعيد صقل جدرانه ثانية.
عزلة
كلّ من يعرفه يبحث عن إيقاظ الموت داخله، وقناعته بما يفيد إنه قيد عزلة تتراكم فيه، لا أحد قربه، والقرب يتعدى الجسد ليشمل روح المشاركة. أوراق متناثرة على جانبيه تبحث عمن يشاركه فك عزلتها، إبداء الرأي وممارسة طقس القارئ البعيد مكانياً، والمتشرّب لروحه فك لعزلة أوراقه، في الجانب الآخر الأوراق طافحة بروح التعايش، يمازج بحروفها نقص ما يعانيه.
يلملم بعضه إذ يلملم أوراقه، وتلافيف الذاكرة ينضب معينها وسط وحشة الصحبة المؤنسة، يختار الليل شريكاً لتشرّب معاني صخب الحياة، لا يعيشها بل يتمثل وجودها، يُعيد بناء المكان ثانية ويوجد الحيوات كما يرغب، ومن رغباته أن يجعل الأشياء تتبادل أدوارها، فكرسي المقهى يجعله مقلوبا وقت الصباح ويعدّله عند المساء، والشرطي يجعله حارساً على سوق الجزارة ويترك باب مركز الشرطة فارغاً منه، والطالب يلتحق للمسجد ورجل المسجد يؤم المدرسة، لكن يبدو له في النهاية عالماً لا سحرية فيه، فكيف البديل لبيئة لا تمنحك القدرة على خلق البديل؟. تعاوده قناعته بما يفيد أنه قيد عزلة ولا أحد قربه.
يحدث نفسه جزعاً:
(رغم أنه سيحاصرني بالجملة الشعرية، وضرورة خلقها من وسط الألم الذي أكتب وحيه، لكنه بديل لا غنى عنه إزاء هذا الجدب، ولن أخسر شيئاً إن حادثته).
لمْلمَ بعثرة الأوراق بيده وخياله يسابق أصابعه لاحتواء تبعثر الأفكار أولاً. لكنه يعود ليبعثرها ثانية.
يخرج سريعاً إلى مقهى. يجلس قرب مجنون يحدث كائنات لا يراها، يجذبه خلق المجنون لأشخاص يعارك أحدهم ويضحك مع آخر، فيحاول أن يعيد تركيب المشهد بوجود عدو المجنون وصديقه، يتمثل روحه وسط هذا الموقف ويتساءل:
- كيف سأتحول بسرعة هذا المجنون من حالة الإحساس بالغيظ من العدو، إلى تلبّس شعور الفرح وممارسة الضحك مع الصديق؟.
يعجبه فن قدرة هذا الصديق الجديد على التماهي مع العالم حوله، لكن لحظة تعقّل عند المجنون تبعده عن عالمه، وهو يراقب غريباً يتطفل على جنته الصاخبة. المجنون ينهض مبتعداً إلى زاوية المقهى الأخرى، ومن بعيد يسمعه يخلق عالماً آخر فيه امرأة يدعوها خالة، وأخرى يدعوها أختي، لكنه هذه المرة يسخر من منطق الأخت وينصحها باتباع منطق الخالة الحكيم.
ما الذي قالته الأخت وسخر منه؟ وكيف أقنعته الخالة بحكمتها؟ هذا ما لا يفصح عنه المجنون!. تطحن داخله غرابة ما يراه بقناعة المجنون فيما يراه. قناعته بما يفيد أنه قيد عزلة تزداد تراكماً فيه.
يلمح شاعر المدينة يقترب منه مبتسماً في مساء تتفكك غيوم سمائه عن وجه القمر بدراً مضيئاً. يأمل خيراً فيه ويفسح مجالاً لجلوسه قربه.
يبادره شاعر المدينة قائلاً:
- قرأت قصتك الأخيرة.
ينصت ملء جوارحه فيكمل الآخر:
- لكن ألا ترى أن الرب بقدر ما سيثيبك على رصد قهر الناس ومظلوميتهم، فإنك ستخضع عنده للحساب؟.
اتساع عينيه يتساءل قبل نطق لسانه:
- كيف؟!.
يسارع الشاعر بالتفاصيل، كأنه بانتظار الدهشة:
- مشهد تحرش الجندي ببائعة القيمر عند محطة السكة الحديدية الذي صورت تفاصيله بقصتك!.
يغالبه شعور طوق المرحلة الآنية، وتخنقه مطالبة الذوبان فيها، ويغشاه شعور أن كل من يعرفه يبحث عن إيقاظ الموت داخله، فتزداد قناعته بما يفيد أنه قيد عزلة، قبل أن يحث خطاه راجعاً ليلملم بعثرة أوراقه من جديد.
مدينة تنبش ذاكرتها
كلّ مكان تدب عليه كائنات فيها روح شجاعة، جبانة، خانعة، مستسلمة، مقهورة، تقاوم للبقاء، باقية ولا تعرف ضيم، هذا في عرفي يسمى مدينة.
أُوجد دوماً قبل وجود تلك الحيوات، وعندما تصمت كلّ الألسن، وتغض كلّ الأعين أبصارها يبقى لساني ناقلاً لما حدث وسيحدث، وعيناي شاهدة على رؤية كلّ ما جرى وما سيجري.
في زوايا دروبي قد يلتقي عاشقان ليكسرا تابو العيب، وبسبب تحملي لثقل جسديهما قد أتحمّل وزر فعلتهما، فبعض تلك الحيوات أن تقادمت السنون على فعل العاشقين فيها، وأرادوا أن يُوجدوا شاهدا لما جرى يتهامسون لبعضهم في مسامراتهم على ضوء القمر، وتستدعيني ذاكرتهم الجمعية ليقول قائل منهم:
- لو أن للمدينة لساناً لقالت لكم ما فعلاه بين أزقتها!.
وعادة يحدث مثل هذا عندما يريدون أن يضخّموا حكاياتهم ويمنحوها بُعداً اسطورياً.
والحيوات الدابة على سطحي لو علمت أن لي ذاكرة تدون كلّ شيء، لما تجرّأت على ادعاء قداسة بعض الميتين داخل حفري ومنحهم هالة أكثر من كونهم حيوات مثلهم.
وما يجعلني اليوم أغادر صمتي، وأخالف كوني مدينة لا تحمل ذاكرة، أو هكذا يخال لهم، إني أرغب أن أفرغ ذاكرتي مما يحشونه فيها، فتاريخ المدن ليس له بداية، ونهايته سرمدية ومستقبل مجهول، ثم إن تلافيف ذاكرتي لا تقبل التزوير، هي نهر تجري مياهه زبداً رائباً بغرينها عند منابعه، وشيئا فشيئا يترسب كل الغرين إلى قاعه ويبدو لونه أزرق شفافاً، وتلك حقيقة تجهلها الحيوات التي تعيش على سطحي.
والحقيقة هم لا يفقهون ما يجري عند تدويني لما يفعلوه، وهم لا يعرفون أن تقادم الزمن على ذاكرتي هو من يمنحها الداينمو المحرك لنشاطها، شراب روحي استمدّ من تعتّقه ذاكرة نشطة لا تقبل التزوير.
لكنّي اليوم نظرت ملياً بمخزون هذه الذاكرة، وكنت كمن ينظر في قيح جرح غائر.
العبادة في زمني السرمدي علاقة روحية بين الخالق والمخلوق، وهي عندي لا تحتاج لوساطة شجرة تتدلى منها خيوط قماش ملونة لتمنحها الذاكرة على أثر ذلك هالة تكون فيها صاحبة بركة، ومن يزورها ويتعبد قربها سيلبي له الخالق ما يرغب! وهي ليست رؤيا لعاجز يرى في الحلم أن وليا صالحا دفن تحت أساسات غرف بيته، واحياء مرقده تكريم لمثواه ويوم سعد لصندوق تبرعات زائريه لجيب من أوجده!.
والعشق في زمني ليس عيبا، والحيوات تخطأ إذ تستشهد ذاكرتها الجمعية بما أملكه عن لقاءات العاشقين على دروبي، وستشلهم الحيرة ويجتاحهم الغيظ والغضب إذا علموا أنني لا أؤرّخ تلك اللقاءات، لأن من يفعلها يتحول لحظة الفعل إلى فراشتين بالكاد تلامس أطرافهما تربة الأرض في أزقتي. هكذا : حمامتان يغشاهما النعاس وقت سفادهما.
وذاكرتي لا تتعب ولا تمل لكنها تغفو قليلاً على همس العاشقين في دروب أزقتي، وغفوتي تلك هي راحتي الوحيدة، وهي مثل عطسة تريح قلوبهم من انقباضات عضلتها.
أنا مدينة مثل كلّ مدن الأرض، وهذا الذي ذكرته قد يجري في كل مدينة حول العالم، وقد يتناسخ في أكثر من مدينة، لكن لي حدثاً يميزني عن كل المدن، وهذا بالضبط هو من جعلني أغادر صمتي، وأصرخ ملء فمي:
- أنا مدينة أدركت العقد الأول من الألفية الثانية بثلاث سنين وصحت على يوم فيه، وجدت أن غالبية الحيوات على سطحها : مؤمنون كلهم، لا يفارق أصابعهم تختّم الإيمان، وجباههم مكوية من أثر السجود، لكنهم بعزائهم يتكومون مثل الذباب لتقبيل يد المعزي إذا كان مسؤولاً فيهم، ولا يلتفتون لفقير منهم إذا عزّاهم!. يجوع بينهم ابن من قُتل لأجل الأرض ولا يجد ثوبا يواري عورته، وابن المسؤول فيهم لا يصيّف يوما إلّا على شاطئ دولة يصفها أباه بأنها بلاد الكفر والإلحاد!.
توجّس
التوّهم يراوده حالة ارتداد رجعي، والعداء يحاصره مهاجماً، فتبدو الصورة لمخيلته قلعة ساكنة بمن فيها تُفاجأ فجراً بمن يريد أن يسلب الهدوء منها، وحالة الاسترخاء تستفزّ أعصابه بما يوشي للترقب، وعنوان الدعة والاستسلام للمؤاخاة يدفعه لأن يكشّر عن أنياب ضغينة تجد مبرّرها داخله، وتفقد سطوتها عند الآخر.
الالتباس بعدوانية الخارج تحاصر لامبالاته وتوقظ حنين الاجتماعية لمحيط يشكله وفق هواه لا كما هو موجود، الهاتف آخر، محفظة النقود آخر، مقعد السيارة التي تقلّه للعمل هي آخر يستفز التجاور مع المقعد الذي يليه جانباً أو من خلف وأمام، حتى قطع الملابس التي يرتديها آخر لا يطيقه، فقد تعوّد منذ سنين أن يوائم الأشياء ما حوله لما يوافق المزاج، ويطوّع الخيال لأن يلغي كل الموجودات ليعيد عجلة نشوئها إلى نقطة الصفر بما يوازي وجوداً يكون به هو المملوء فيه المكان وكل ما عداه صفراً وفراغ.
الحياة لديه رتيبة لكنها مستساغة بما يرسمها هو لا كما هي موجودة، فطريق العمل إن مثّل له ضيقاً، فلا مانع عنده إن غيّره لطريق آخر يكلفه طوله والوقت المستغرق لقطعه أن يبكر في النهوض قبل وقت نهوضه المعتاد، المهم عنده أن لا يرى ذات المشهد، والمشهد المزعج ربما يكون كوم قمامة ضربته الريح واشمأزت منه النفس، أو يكون يد متسولة امتدّت له بإلحاح أكثر مما ينبغي، أو طفل رث الثياب خرج لمدرسته وصحبه استضعفوه وراحوا يضربوه وقت مروره ساعة الصباح، فالأسباب كثيرة، وايقاظ التبرم أبسط وسائل الامتناع والشجب عنده ليغير نمط حياته وفقها، لكن أن تأتي عليه لحظة تجعل روحه فراغاً وصفراً وما حوله يتبادل الأدوار ويكون هو كل شيء، فتلك ما لم يحسب لها حسابا!.
كل صباح كوم القمامة يضحك له فرحا، ورائحة التخمر منه أضحت رائحة انتماء لألق صباح ينتظره طول الليل، ويد المتسولة عطاء خير يترجاه من دقائقه القادمة، والطفل الرث الثياب طفلاً أخرجته أصلابه وذود أذية صحبه عنه ذوداً عن طفل من صلبه سيخرج ذات يوم ويلاقي مصيراً كمصير هذا الطفل المضروب من رفقته!.
الصباح ما عاد كالصباحات التي تعوّد على رتابة استقباله لها، ولم يعد التوهم يراوده حالة ارتداد رجعي ولا عداء يحاصره، لا ارتياب ولا ضغينة، ولا الهاتف ولا محفظة النقود ولا مقعد السيارة التي تقلّه لعمله، لم تعد كل هذه آخر يستفزّ أعصابه، فبمجرد أن تتوقف حافلة نقل الركاب عند محطة بعينها تلبس الأشياء حوله ثوباً جديداً وتتراقص أغصان الأشجار أمام ناظريه، ومع كل عصفور يطير يخال له كأن فيروز تغني:
- (تك تك تك يا أم سليمان...تك تك عم يلحقني...عم يقطف خوخ ورمان).
والملابس جسد يحاول أن يمسك بتلابيبه حتى لا تغادر هيكله طائرة من فرحتها، تتمايل طربا رغم سكون حركة الهواء داخل الحافلة، والريح تصفر وجلة خارج زجاج النوافذ، تمخر نسمة ريح عبّيه لتترك قميصه بالوناً منفوخاً عند صدره أو هكذا يتخيل، يراوده شعور أن بالونه يرتفع فيه عائمٌ داخل الحافلة مثل رائد فضاء يعوم بفضاء غرفة مفرّغة الهواء، ثواني ال(ما قبل) تغدو بحساب الزمن عنده ساعات طوال، ودقائق ال(ما بعد) تغدو كلمح البصر، تتكثف بداية ثم تنعصر لتتقطّر رذاذ عطر منعش حالما يشمه تتلاشى الرائحة من فورها، ومع صرير باب الحافلة إذ يفتح عند كل محطة تزداد نبضات القلب، ويهوي الجسد إلى قاعٍ سحيق، لكن أمل القادم ينتشله من هوته وتهوّن النفس عليه بترقب الآتي، وفي محطة بعينها، قد لا يعرفها كل الراكبين، وهي ربما لا تمثل لهم إلّا محطة ستتوقف عندها الحافلة لدقيقة زمن وتخلّفها وراءها مثل كل المحطات السابقة، لكنها بالنسبة له تمثل التغيير، ولجة النشاط وحجم القرد داخل قفصه الصدري الذي لا يعرف إلّا القفز برعونة كأنه يريد أن يمزق قفصه الصدري ويخرج قافزاً بتوحش إذا لمح صاحبه خصلة شعرها من خلف صاحبته إذ تنحني على سائق الحافلة لدفع اجرتها.
الطنطل
في العطل الصيفية يتطشّر طلّاب المدارس على مناطق سكناهم، ويصبح الوقت مملاً إذا انعدمت وسائل تزجيته، وفي المدن يضيعوه على لعبة كرة القدم مشاركين فيها أو مشاهدين لها، وبعضهم يزجيه في التسامر على كنبات المقاهي لوقت متأخر من كل ليلة، والموسرون منهم قد يسافرون خارج محافظاتهم، لكن سكان الريف يبدو عليهم الأمر أكثر صعوبة، فمع غياب جهاز التلفزيون لمعظم بيوتهم، وتبرم أغنياء بيوت القرية من استضافة الشباب كل ليلة لمشاهدة ما يبثه هذا الجهاز العجيب، وإن استضافهم أحد البيوت تبقى المشكلة قائمة، إذ إن التلفزيون ينهي برامج بثه المعتاد عند الساعة الواحدة بعد منتصف الليل، وهو ما لا يوازي طاقة تحمل السهر عند الشباب التي قد تمتد إلى الفجر من كل ليلة، خاصة مع غياب فرصة العمل الدائمة التي تمتص طاقتهم وتجعلهم يناموا مبكرا.
لكن تبقى الحاجة دوما أم الاختراع، ومن اختراعات شباب تلك القرية البعيدة عن المدينة أن فلسفتهم للحياة حاولت أن تبتسر المفاهيم المطلقة بمواقف محدودة، لتمنح شخوص القائمين على ممارسة الفعل فيها صفة الجبن أو الشجاعة، فعلى بعد كيلومترين من مكان أكواخ القرية يوجد مرقد لولي صالح على ربوة أطلقوا عليها ربوة (أم خنزير) والتسمية ربما جاءت بسبب أن أحدهم شاهد عليها ذات يوم مجموعة خنازير وروى ما شاهده لمن التقى بهم، فاحتفظت الذاكرة الجمعية للقرى المحيطة بالربوة بهذا المشهد وراحت تستدعيه كلّما ورد ذكر الربوة تلك، وكان رهان شباب القرية في ذاك المساء على أن كل متطوع يستطيع بعد أن يغيب القمر وتظلمّ السماء أن يدق مسمارا على حائط مرقد الولي الصالح ويرجع، ثم تذهب لجنة من ثلاثة إلى أربعة شباب آخرين وراءه للتأكد من وجود المسمار، يكون مثل هذا الشاب شجاعاً ولا يهاب ظلمة الليل، وليس خافياً على أحد من أن ادعاء الرجولة في الريف تباهي ومحط نظرة احترام وتقدير لمن يجتمع رأي الفلاحين فيها على الصاق الصفة عليه، والعكس يسري على صفة الجبن والتخاذل.
وحاتم شخص بسيط جدا يعيش على صدقة أهل القرية، ودائما ما يظهر بين أبناء القرية وهو يرتدي دشداشة أكبر من مقاس جسمه، يضطر لرفع أطرافها أثناء سيره حتى لا يخط ذيلها على التراب وراءه، أو قد تتعثّر أقدامه بها، ويلف أردانها على ساعديه ليقصّر طولهما، والسبب في ذلك أن معظم ما يلبسه يكون من عطايا الناس الكبار له، وهو في كل المناسبات وفي كل العاب الشباب ينزوي جانباً ويشاهد ما يجري حوله صامتاً، لكنه في ليلة الشجاعة والجبن قرر أن يشترك طالباً بإلحاح أن تبتدئ جولة التحدي منه، ولم يكن في قانون اللعبة ما يعارض اشتراكه فيها، فالمهم في كل متقدم أن يأخذ مسماراً ومطرقة ويذهب لحائط مرقد الولي الصالح بعد غياب القمر، دون أن يصطحب معه رفيقاً أو وسيلة اضاءة تنير له دربه، وتؤنس وحشة الكيلومترين اللتين سيقطعهما في ذهابه وإيابه.
ووسط دهشة كل شباب القرية انطلق حاتم تلك الليلة، مسرعاً ما أن وافق الموجودون على أن يبتدئ شوط التحدي الأول منه، لكنهم بعد دقائق من انطلاقه تشاغلوا بحساب احتمالات الكيفية التي سينتهي بها تحدي حاتم.
قال واحد منهم:
- حاتم ليست له تجربة وسيرعبه ظلام الليل.
وقال ثان:
- سيقطع نصف المسافة ويرجع.
وثالث قال:
- ابحثوا عنه في الجوار وستجدونه متكوراً على نفسه وهو يبكي.
وضحك رابع هازّاً يده باستهزاء على ما جرى كله وما قيل عنه، لكن الجميع اتفقوا أن حاتماً إن لم يفعلها فسوف لن تقوم له قائمة بين رجال القرية، وسيتجلل بعار الجبن بينهم طيلة عمره، وكانوا وهم يقلّبون الأمر فيما بينهم لا يحسبون الوقت على قيام حاتم بمهمته التي سيعد بعدها في خانة الشباب الشجعان أو في خانة الشباب الجبناء، كما كانوا يفعلون كل ليلة مع أي متحدٍ آخر، لكنهم صحوا على أنفسهم وقطعوا جدالهم مع صراخ شخص بعد حين طويل على ذهاب حاتم، وهو يستنجد بمن في القرية أن ينقذه من الطنطل.
كان الصوت يأتي من بعيد ولا يستطيعون أن يميزوه، لكنه راح يتوضح لهم وتبان نبرة المستنجد فيه كلّما اقترب صاحبه من أكواخ القرية، وفي لحظة فارقة بان لهم كل شيء بعد أن ارتمى جسم حاتم وسطهم وهو عاريا كما ولدته أمه.
حاول بعضهم أن يهدئ حاتم ويفهم ما جرى له، لكن كان لا يردد إلّا كلمة واحدة:
- الطنطل ... الطنطل ... الطنطل.
نقّعوا رأسه بماء بارد وهو لا يردد إلّا كلمة واحدة:
- الطنطل ... الطنطل ... الطنطل.
تبرع أكبر الشباب وراح يقرأ على رأس حاتم المعوذتين، لكنه بقي لا يردد غير كلمة واحدة:
- الطنطل ... الطنطل ... الطنطل.
اقترح كبار الشباب أن يصطحبوا فانوساً بأيديهم ويذهبوا إلى مقام الولي الصالح ليقفوا على شكل الطنطل الذي أخاف حاتم وجعله يرجع عارياً كما ولدته أمه، لكنهم رجعوا خائفين بعد أن قطعوا نصف الطريق.
وعند ظهر اليوم التالي جاء خبر الطنطل مع رعاة الأغنام الذين وصلوا إلى المكان، فلقد قال أحدهم ووافق البقية على قولته:
- لقد دق حاتم المسمار على ردن دشداشته، فقد وجدناها تذري في أطرافها نسمات الصباح وهي مُعلّقة بالمسمار على حائط مرقد الولي الصالح.
الوحيد
سوّت أغطية السرير ونفضت وسادتها، لكنها قبل أن تُرجعها لمكانها لاحظت أن فيها لزوجة ناعمة، رغم يبوستها، فخلعت وجه الوسادة وكوّرته تحت ابطها، ثم أعادت الوسادة لمكانها. ارتقى وليدها على السرير يمرح، فسحبته من يده وخرجت، تاركة باب الغرفة مفتوحا للتهوية.
فتحت زر الغسّالة في الممر، ووضعت فيها وجه الوسادة، فأثارت شجنها فقاعات زبد المنظف، وهي تتشكّل داخل الغسّالة، كأنها موجة هادرة في نهر عميق، وسرحت بفكرها شاردة، لأيام اسودّت فيها الدنيا أمام عينيها، وراحت تستعرض تفاصيل الذكرى:
(قبل أن ترتقي الجسر، عبّأت نسمات الهواء أردان العباءة، فسرت رطوبة باردة، كأنها نصل سكين تمزق الثوب الذي تلبس، وتلتفّ عند ركبتيها، مثل سيقان نبات طفيلي على أغصان شجيرة رقيقة، وعوى الجوع كوحش كاسر داخل بطنها وأحسّتها تتقطع، فانشغلت بهَمْ الجوع ونسيت عظامها التي تصطلي برداً.
زاحمها ابنها يخبئ رأسه تحت ردن العباءة، فتعثرت أقدامها وكادت تنكبّ على وجهها وسط الجسر، لكنها تشبثت في مساند الجسر الجانبية، وتوقفت تسترد انفاسها سارحة النظر بامتداد جريان الماء، ترقب زبد النهر يطفو فقاعات على سطحه، وحاجيات تبدو كلها سوداء مبتلة تخرج مع موجة هادرة، فتعيدها أخرى لقعر النهر، لكنها لا تلبث أن تخرج ثانية، صغيرة هذه المرة، مبتعدة عن ناظريها.
تطاولت على رجليها لترتقي جدار الجسر من منتصفه، ولمّا استقرت على حافته السميكة، مدّت يدها لتسحب طفلها، غير أن ذراعين سميكين لفّا خصرها وطفلها، وما أحسّت إلّا وهي تفترش طريق الجسر، وصوت يؤنبها:
- حرام ما تفعليه!...ما ذنب هذا البريء؟.
ولولت باكية، وحطت أصابع كفها على رسغها، وراحت تنشج كأنها طفل، ولما قرفص قربها يواسيها، ارتمت على كتفه نائحة، وقالت:
- خذ الولد ربيه، واكسب فيه أجراً...
ربّت على كتفها، وأمسك ذراعها من المرفق، وقال:
- إن كنت وابنك وحيدين، فأنا أكثر وحدة منكما!.
وأضاف وهو يقدم لها منديلاً، لتنشّف دموعها:
- ما قصتك يا امرأة تحاول أن تهرب مما هي فيه؟.
عاجلته لتفلت يدها من ذراعه، وقالت:
- سيدي، أرجوك اتركني لأستريح؟...فقط خذ الطفل واكسب فيه أجراً...أمّا أنا فاتركني، لأن أمري لن يهتم له أحد!.
أحسّت أن ذراعه تتشبث بمرفقها أكثر، وفيها ألم يوخز ابطها، ويخدّر ساعدها، فقالت:
- اتركني أرجوك؟ ... أنت تؤلم ذراعي!.
تهادت سيارة على الجسر قربهم، فأشار للسائق بالتوقف قبل أن يجتازهم، ولما أوقف السيارة فتح هو بابها، ودفعها وطفلها عنوة، ثم صفق الباب من ورائه بقوة، وقال:
- المجمع السكني، الباب الأول ... بسرعة؟.
عرفت بعد أسبوع أنه رجل أربعيني يعيش وحيداً، بعد أن فقد عائلته بتفجير انتحاري، في أحد أسواق المدينة، منذ أكثر من أربع سنين مضت، وهو موظف في وزارة العمل والشؤون الاجتماعية، ويومها قال:
- ما دمت قد ضاعت منك عائلتك، كما ضاعت مني عائلتي، وبنفس الطريقة، فأجّري بيتك، ولنتشارك هذا البيت سكنا).
اهتزّت الغسّالة وتوقف محركها، فانتبهت لدمعة سقطت على كفها المتكئة على حافة الغسّالة، وتناهى لسمعها صوت أقدامه، تسبقه نحنحة ينبهها فيها ( أنا دخلت الدار).
كفكفت دمعتها مسرعة، وسوّت فوطتها على رأسها، ودخلت إلى المطبخ تستقبله.
سمعته يقول:
- مرحبا...
وقبل أن يسمع ردها، أضاف:
- اسمعي... اتركي أغراض المطبخ، وتعالي لتصغي لي؟.
توجّست خيفة، ورفعت كفها على صدرها قائلة:
- خير إن شاء الله!.
أطرق لحظة، ثم كأنه استجمع قواه قال دفعة واحدة:
- إن كان الجوع قد دفعك لأن تحاولي الانتحار، فأنا عندي ألف سبب، لأخلف سخافة هذه الحياة ورائي دون أسف ... إن رجعت لما قبل اسبوع من الآن!.
تأفأف قليلاً ثم أضاف مستذكراً:
- بعد أن دفنتهم وودعت المعزين، وفي أول ليلة، فزعت من نومي عشرات المرات، كانت أطول ليلة عشتها، ولما بزغ فجرها، حمدت الله أنها انقضت دون أن أجن، لكن النهار التالي عشت فيه جنوناً آخر، في الغرفة كنت أرى أطفالي يلعبون! .. المطبخ كنت أشم رائحة الشواء الذي تطبخ، وكل مرآة كانت تنبثق منها صورتها ... تسرّح شعرها ...!. تعدّل زينتها!. ووراء كل باب كانت تقف لتوصيني حاجة أجلبها معي إن رجعت إلى البيت ... كانت كل بلاطات الأرضية تسمعني أصوات أقدامهم!
ترقرقت دمعة بين جفنيه، فأشاح بوجهه جانباً ليداريها، وامتص المنديل دمعته كما امتص دمعتها على الجسر. نشج بصمت ثم قال:
- لأربع سنين مضت، لم أنم ليلة دون أن أراهم، وما عاد الحلم فيهم يُفرحني ... أوَ تعرفين شعور أن تتعذبي أربع سنين، وأنت تحلمين كلّ ليلة، بوجوه من تحبين؟ ... من لأجلهم تعيشين؟!.
سال الدمع على خديها، وما طرفت عيناها لحظة وهي تقف مبهورة، أمام لوعة يحكيها.
قالت تواسيه:
- كل الذي أصابك، أصابني! ... وكانت سلوى وحدتي هذا الطفل، الذي يتشبث بأطراف ثوبي ...
قاطعها وأكمل محمر العينين:
- وأنتما اليوم أنيس وحشتي، ولا أريد للحلم أن يُفزعني ثانية.
تريّث هنيهة، وأضاف بعد أن راقب عينيها شاخصتان على وجهه، تستفسران النهاية:
- تزوجيني، لنكمل الدرب معا؟.
فأطرقت، وابهام اصبع رجلها ينبش شيئاً على الأرض، ليداري حيرة ألمّت فيها، وما عادت تعرف ما تسلك.
المُدمِنة
ارتفع قرص الشمس عالياً في كبد السماء، ليتعامد على رأسه، فأضحت حرارة خيوطها ترسل لهيباً لاسعاً على جبهته، وثمة ريح تصفر وتحزّ شحمتي أذنيه، بوجع لا يحتمل كأنه وخز رأس ابرة خياطة داس عليه دون أن يدري، فرفع صحيفة كانت بيده، وراح يتّقي بها حرارة الشمس ولهيب هواء شهر تموز، غير أن وخزاً آخر شكّ ظاهر كفه الممسكة بالصحيفة، فدفع بتؤدة ورفق رجلاً جاوزه العمر، وحشر جسمه تحت فيء المظلة على رصيف الشارع بين خليط البشر الذين طال عليهم انتظار حافلة نقل الركاب.
ترقرق شبح الحافلة أحمر، تتمايل صورته بسراب الظهيرة، مثل بعير يسير على بعد بين كثبان رملية رمادية اللون، تغطيها سيقان نباتات جفّت أعوادها واصفرّ لونها، وشيئاً فشيئا أقبل صوت محرك الحافلة يهدر كلّما اقترب منه، وسحابة بيضاء ينفثها فيحجب معالم المدينة خلفه، لكن السحابة ما لبثت أن غطّت المحشورين داخل فيء المظلة بعد أن توقفت الحافلة قربهم.
عطس طفل يجره والده، وهزّت امرأة شائخة يدها أمام وجهها وتأفأفت منقبة في حقيبة يدها عن علبة ضخ تداري ربوها، فيما تعوذ بالله رجل ملتح، وراح يلملم عباءته فوق ركبتيه، قبل أن يمسك اطار باب الحافلة صاعداً.
دلف الشاب داخل الحافلة من الباب الثاني المخصص لمن يغادرها، وقابلته المساند الخلفية لمقاعد وقد مُلئت عن آخرها، فترك فكرة الجلوس وراح يبحث بعينيه عن شعر بنت يتهدل على كتفيها، وفي وسطه ضفيرة تعوّدت أن تكون علامتها المميّزة بين زميلاتها.
كان قد أزمع أن يتبعها لآخر خطوة يسمح فيها ظرفه وعيون الناس التي تُراقب، بعد أن تعوّد ولأشهر طوال أن يكتفي من حبها برؤيتها صامتاً داخل الحافلة، ورغم تحاشيه أن تقع عيناه على عينيها فتلاحظ الرجفة التي تسببها له رؤيتها، وفيه إحساس أنها مكشوفة لكل الناس، إلّا إنه صعد اليوم و وجيب قلبه يدق خفيفاً.
لمح الشعر المتهدّل والضفيرة مسترسلة فيه، كأنها أفعى تسبح وسط نهر تجري المياه فيه بهدوء، ولولا تموج جسمها وسط تياره ما استطاع الذي يراه أن يلمح جريانه.
توقف على بعد مقعد خلفها وراح يرقبها خفية، وانتبه أنها بدت تتحرك بجلستها وفيها رغبة لأن تلتفت خلفها، فازداد وجيب القلب خفقاناً، وتمتم مؤنبا قلبه مع نفسه:
- (اهدأ ... اهدأ وساعدني...أما سمعت الوالدة تطلب مني عنوان البيت؟).
استبدل اليد التي يمسك فيها مسند العمود الذي يتوسط الحافلة باليد الأخرى، وأكمل مناجاته:
- (أو...دعني أخبرك شيئا:... لقد أضجرتني طيلة الأشهر الماضية...خفقانك الجبان يقلقني...فقط امهلني لدقائق أخرى وبعدها دق ما شئت، دق حتى تشبع، أمّا فمي فاتركه يتكلم اليوم...).
انتشله من مناجاته الداخلية ارتجاج هيكل الحافلة وتمايل الواقفون فيها، وهدر محركها ثانية، لكنه خفت مع تحرك مزلاج بابها الهيدروليكي.
نهضت من مقعدها وسوّت ثوبها، ثم التفتت بنصف رأسها ناحيته، وابتسامة خالها تترقرق ناعسة بأهداب عينيها، كأنها طفل هدهدت أمه المهد فيه، بادلها الابتسامة بأخرى مرسومة على شفتيه، وفيه رغبة أن يتحدى العيون حولهما، وهمّ نازلاً درجات باب الحافلة وعطر شعرها الذي تعوده يعبّئ منخريه، وما عاد يشعر بحرارة الهواء ورطوبة لزجة يلتصق منها قميصه على جسمه الناحل.
غذّ السير وراءها مسرعا، ولمّا شارف مشيتها بأذرع قلائل، تريثها قائلاً:
- إذا سمحتِ...ممكن دقيقة أكلمك فيها؟.
التفتت مبهورة، وقالت بصوت طفولة محبورا باستلامه حاجة طال انتظاره لوالديه أن يشترياها له:
- أخيراً تكلمت!...لو تأخرت أكثر لقلت أنك أخرس.
فدلق جبل الثلج من بين شفتيه وقال:
- لولا أن أمي وأختي طلبن مني عنوان بيتك، لبقيت معك أخرساً طول العمر!.
أفرد كتفيه وفيه شعوراً بشجاعة قوية وقال:
- أمش كما كنت وسأتبعك لدارك، وعصر هذا اليوم ترقّبي أمي وأختي عند باب الدار.
فقالت مسرعة، وقد تغضّن جبينها وقوّست ما بين حاجبيها:
- مهلاً!...ولمَ تتبعني وبيتي تلك الدار البيضاء، في وسط رصيف الشارع؟.
قال موبخاً:
- إذا كانت دارك قريبة هكذا ! فلمَ لا تصعدي الحافلة صباحا من الموقف الذي تركناه؟.
ردّت وقد أشاحت بوجهها خجلاً، وهي لا ترى من حولها إلّا المساحة التي يشغلها جسمه:
- ببساطة؟...لأنني هكذا أدمنتك : أصعد صباحاً للحافلة من نهاية الشارع، متأبطة أحلامي، ويودعني ظهراً صمت فمك الأخرس بكلام تقوله عيناك، في بداية الشارع الذي أسكن فيه!.
فتحة في جدار
ما عدت أطيق مكاني، يحاصرني التناقض أينما وليت وجهي، فعند شروق الشمس، وهي بداية كل يوم، والتي يفترض أن تكون تجدد لنشاط كل الكائنات، تواجهني فرحة حالما تطلّ فإنها تضمحل سريعاً، فمع انشقاق الفجر وسربلة خيوط الشمس الدافئة تلفني زقزقة العصافير، حيث أطلّ على حديقة البيت وأشجارها الخضراء، وفيما أنا سارحة في عالم آخر بعيد عن ضجيج الآلات وزيف الناس، يجيء هذا المسطول الذي يدعونه (فلّاح الحديقة) وما هو بفلّاح! إذ إنه يقضي جلّ يومه في ركن البيت المواجه لي نائما ملء جفنيه، وشخيره يعزف مقطوعته السمجة، كأنها موقتة على هدير محرك سيارة صاحب البيت والحديقة، فهو حالما يهدر عند بوابة البيت، فكأن إبرة تخز الفلّاح في مؤخرته ليفزّ من نومه نشطاً، وشعر رأسه الأشيب منكوشاً، والمسكين صاحب البيت يصدق أن فلّاحه كان منهكاً في تشذيب حديقته والاعتناء بها عندما يرى شكل شعره وانعتاق نصف قميصه من تحت بنطلونه، مع سيل عبارات التملق التي يحرص الفلّاح أن يغيّرها كل مرة.
فهو مرة يهرع لملاقاته وهو يردد:
- أهلا، أهلا أستاذ...يبدو أنني كبرت وما عدت أسمع جيداً !.
ويسارع إلى لطم جبهته براحة يده اليمنى، لكنه في المرة الثانية يسرع لملاقاة أستاذه بمعزوفة أخرى:
- أهلا، أهلا أستاذ...في المرة القادمة إن تأخرت على فتح البوابة لك، والعتب على نظري، فأنا أستحق عندها ليس توبيخك فحسب، بل أستحق أن تقتطع من أجرتي ما يقرصني قرصة أتذكرها دوماً.
وفي مرة ثالثة، وهنا المصيبة، يلقاه وهو يقول:
- صوت مقص جزّ الأعشاب، وحفيف أوراق الأشجار تحتفل من حولي إلى درجة أني ما سمعت سيارتك وهي تقترب.
وهذه الأخيرة لو يفعلها مرة واحدة كل شهر لما استوطنت تلك الأفعى اللعينة بين حشائش الحديقة لتفزع العصافير وتطيرها بعيداً كل صباح! ويبدو أنني تعودت على كذب الفلّاح حتى بت أخاف أن أستمرئ الكذب ويغدو ملازماً ليومي، فتكرار السلوك السيء أمام المراقب له يجعله تطبّعاً مستساغاً عنده، وهذا ما يُخيفني كثيراً، سيما وأنا أشاهد بالتزامن مع سلوك الفلّاح مباشرة، وفي الجهة الأخرى، أقصد جهة الغرفة من الداخل، عندما تتحول كياسة الأستاذ الذي يهابه الفلّاح إلى ميوعة وابتذال مع الشغالة، خاصة في الأيام التي يفرغ فيها البيت من زوجته وطفليه، وعادة ما تكون في أيام الجمع والعطل الرسمية التي تصبح فرصة مناسبة للزوجة لأن تقضيها في بيت أهلها، وحكاية الهاتف الأرضي والمكالمات التي ترد عبره، وما تحمل من صفقات تجارية يجريها الأستاذ وجلها يتم عبر خراب البيوت، فمرة تجري على اتفاقات لشراء عقارات ورثة أحدهم يجري البيع والبقية لا يعلمون، ومرة تجري عن ابتزاز لموّقع على شيك مصرفي دون رصيد، ربما وقعه تحت حاجة ملحة لمبلغ هو في عوز له، تكون نتيجة سداده أن الأستاذ يبتزه بين أن يقدم الشيك إلى المصرف وإدارة هذا تحوله للقضاء، وبين أن يتنازل الأستاذ عن مبلغ الدين ومصيبة الشيك مقابل أن يكون شريكا للموّقع في أسهم عقار ما يملكه، والعقار عادة ما يكون بيت عائلة الموّقع على الشيك.
ولو أن الأقدار تمنحني القدرة على أن يكون لي صوت، وأنطق بما أراه لفضحت كل معوّج، لكنني ماذا أفعل وأنا مجرد نافذة، لا تعدو إلّا كونها فتحة في جدار.
انتحاري
الوقت ينفد مني، والنفس موزّعة بين الانقضاض أو أولي الأدبار هارباً، ولفح الريح تأخذني بين أن أغمض عيني لأتقي وخز لهيبها، وبين أن أقاوم ذلك وأوزّع نظري على المحيطين حولي دون أن أضيع ما أنشدّ لمراقبته.
تتضيّق المسافة وعلى الجانبين تبدو الضحية سهلة قياسا لما سيأتي بعد المئة متر التالية، وحرية الاختيار تبقى من نصيبه، لكن لحظة الانقضاض عليه تبقى من نصيبي: أوازن بين بُعد الضحية التي باتت تقترب شيئاً فشيئا، وخطوات القاتل المترنحة، يأخذني كم المعلومات الذي سمعته عمن يفعلون ذلك وبين سخف مواجهة القاتل منفرداً، ويتوزّعني شعور الخذلان لو أنني استنجدت بمن حولي ولم ينجدني أحدٌ منهم في لحظة الانقضاض فأكون رقما مضافاً لما سيحصده، وتكون النتيجة ربحا مضافا له، يقابله أن أخسر روحي وكم الأحلام داخلي، أحلام كنت قد أجّلتها عمداً، وأخرى شاءت الظروف أن تؤجل عنوة، لكن لو تعوّقت المهمة وحلت الكارثة: ترى كم حلماً سيموت عندها؟.
حثثت الخطى مقترباً منه، واشتداد الريح كلّما هبّت وبانت تقاسيم الموت على ظهره تفزعني وتشتت التفكير، وإحساس ينتابني أنني أمشي وسط غرين رائب يُعيق حركة أقدامي، وشعور بأن روحي تسقط إلى هاوية سحيقة ليس لها نهاية تأخذ بداخلي وتشلني!.
أتبادل الدور معه فأغدو المستنجد أمام خطواته السائرة بتصميم نحو غايتها رغم ترنحها على جانبيها، أسمع ضحكات الجنود أمامي، ويخال لي أني أشم رائحة شاي تدفعه ضحكاتهم متقصدين أن يصلني بخاره وأتنسم فيه لمّة بيتي وأطفالي!.
أستنجد بمن حولي؟...لكن ماذا لو تركوني لوحدي؟ ماذا لو أنهم التفتوا لي نصف التفاتة وهزوا رؤوسهم غير عابئين ثم مضوا كل إلى وجهته؟.
لا لا...لأتقرب أكثر ولأفعل ما خططت له منذ البداية.
راحت المسافة تُختصر بيني وبينه من جهة وبينه وبين الجنود من جهة أخرى، تتناسق خطواتنا مرة حيث يسرع فأسرع وراءه، ومرة تتعاكس حيث يُبطئ وأحافظ على سرعتي، يزداد وجيب القلب وينتابني لهاث مَنْ جرى لمسافة كبيرة، أنشغل بنقطة عند ظهره، ويسرع شريط الحياة بجمالها وقبحها أمام ناظري، تلتقيني زوجتي عند باب الدار مدققة بما أوصتني عليه من حاجيات للبيت، تتلقفني أذرع أطفالي من أطراف بنطلوني، وبعضها ينبش في جيوبي بحثا عما أوصاني عليه، الصغير الذي يحبو يتوزع بين أن يبكي على حضن أمه وبين أن يبتسم لمجيئي، يزداد خرير دش الحمام تساقطاً، وينعشني هواء مروحة سقف غرفة المعيشة، تمر وجوه الأصدقاء سريعاً وفيهم من يلوح لي مودّعاً.
تستفزه ضحكات الجنود فيزداد جنون تلاحق قدميه أثر بعضهما، أناسق نظري بين سرعة قدميه ورعشة أصابع يديه على جانبيه، أراهن على لحظة الانقضاض وتوقيتها، يلتفت على جانبيه خائفاً، فأتوجس خيفة أن لحظة التنفيذ عنده قد أزف موعدها، تتلاحق أقدامي سريعاً ويُمسح شريط الحياة كله من خيالي، لكنه لا يلبث أن يُختصر بضحكة جنود.
أنقض عليه من خلفه وقبضتي كماشة حديد من حوله ، وصوتي يهدر كبحر غاضب:
- انتحاري...انتحاري.
يفزع لي الناس من حولي، وثمة جنديان مازالت الضحكات مرسومة على محياهما، أحدهما يمسك قدميه وهو على الأرض ملقى على بطنه، والآخر يمسك ذراعيه ممدودتان إلى الأمام.
غيرة
الهوّة بين الاتكاء على مفهوم مزاولة الحياة وعدم الالتفات لخلفها وبين ضعف الحالة لحظة اقتراب الموعد تقضّ مضجعها، تحاول جاهدة أن تزاول روتين يومها، تتضخم الصورة وتتطاول ظلالها، يساعدها انصهار الوقت بين واجبات العمل ومسؤولية الحياة الأسرية على تناسي ما تعانيه، لكن يبقى الليل رفيق سوء فيعاودها تضخّم الصورة، وثمة ريح تعصف من ثناياها تحمل تباشير عطر تتمناه أنوثتها، ويرفض وعيها كأستاذة جامعية أن يأتيها شذاه من طيف آخر.
شبق الأنوثة وحلم السرير، يبدد أمنية أن ينتثر ليل شعر غيرها على وسادتها، فيعاودها الحنين لحضنه، دفقات همس عبر الهاتف مرة وأخرى عبر شبكات التواصل الاجتماعي، لكن وعي الأستاذة الجامعية يرفض أن تذهب الضحكات المكتومة، وخفقان القلب، وارتعاشه الصوت خلف أدراج الرياح، لأجل ارضاء قيم القرابة واختلاف المعتقد الديني.
- يا إلهي ماذا أفعل.
قالت عاجزة، وأضافت غيرة:
- أيعقل أن يضيع كل شيء؟ أيعقل أن تأخذه مني؟.
ثمة لغط يملأ رأسها قبل أن يملأ الشارع، كأن مراسيم الفرح تنتقل من البعد لتحتوي مكانها، فيعاودها التذكّر وتمتلئ رغبة في استعادة اللحظات الحميمية لترضي ما تعيشه، تترى الصور على مخيلتها وتتعاقب المشاهد تباعاً، وفي وسط الشريط يظهر لها مشهده يؤكد لها أنه لن يكون من نصيبها، فتتصالح ذاتها مع موقفه منها، وتتشابك أسباب الاختلاف الديني وقرابة ابنة العم منه مع أن تكون الأخيرة مستحوذة على ما أنضجته هي:
ولد ثيب لم يعرف العلاقة مع الجنس الآخر، ويجهل جغرافية جسد الأنثى رغم بلوغه الثلاثين من عمره، وقرابة ابنة العم هي من جذبته لأروقة الجامعة، ثم نادي وأروقة بين ممرات الكلية، نظرات تلتقي ورموش تعزف شيفرة لا يعرف رموزها إلّا المُرسِل والمُرسَل إليه :
- أما آن الأوان لنلتقي؟.
شفاه تفترّ عن ابتسامات رقيقة، وابنة عم تصبح المحافظة عليها ومتابعة أمورها في الجامعة طقساً معتاداً كلّما سمح وقت فراغه، بينما الرموش والشفاه ترسل شيفرتها بينه وبين أستاذة الجامعة، وفي نقاش على صفحة الفيس بوك لابنة العم تجده ويجدها، لكنهما يكتشفان بعد حين اختلاف المعتقد الديني بينهما.
يحدث ما سبق عندما يكون الطرفان قد حلّا كل رموز الشيفرات المُرسلة سابقاً بينهما، وتواجههما مشكلة الفلّاح الذي يقطع الأشجار الزائدة بحديقته ليلاً، لكنه يكتشف صباحاً أن بلطته جاءت على جذع شجرة نادرة وجدت الحديقة أصلاً لتظليلها وحمايتها.
يبادر هو لقلب أوراق اللعبة ويوزعها ثانية بعدالة ويعلن:
- لنبق أصدقاءً ولا نتعلق بأهداب حلم لن يتحقق.
ترفض أن تصدق وتتآكلها غيرة، كلما لمّح لها برغبة أبويه لأن يزوجاه ابنة العم التي تستطيع أن تداري شيخوختهما، وتعرف طباع الأسرة ونقاط ضعفها وقوتها، ويبقى هاجس المنافسة بين أستاذيتها الجامعية وروح الطالبة التي صحت على عشق ابن عم تمرس الهمس مع غيرها، وازداد خبرة في فنون العشق ودروبه.
تفتح بريدها الالكتروني وتقرأ:
(الخميس القادم سأتزوج، أرجوك لنقف عند النقطة التي وصلنا لها، ثم لنعطي ظهرينا لما جرى ولتستمر حياتينا).
تجتاحها غيرة عليه ولا تصدق أن ليل شعر غيرها سينتثر يوم الخميس على وسادة من علمته عشقها.
حيرة
يكتظّ المقهى بروّاده الشباب ويضيق المكان بهم، فتتزاحم المقاعد وتضيع الرؤوس بين أكتاف من يغطيها على الجانبين، يطير كوب شاي من يد أحدهم ويلطخ سائله المسوّد قمصان بعض الروّاد القريبين منه، فيما كان صاحب الكوب منشغلاً بمراقبة الظاهرة الفلكية لخسوف القمر الكلّي، لكنه حالما يكتشف اهماله لمسك الكوب جيدا يعتذر من صحبه، ويبادر لشراء قنينة مياه معدنية ليزيل لهم آثار البقع المتخلّفة على ملابسهم، وينحصر فعله بين الممانعة منهم تواضعاً وبين بحر الخجل الذي يغرق فيه.
تمرق سيارة شرطة من أمام المقهى سريعاً، لكنها تتوقف إلى الأمام وترجع لخلفها، ليطالب أحد الراكبين فيها صاحب المقهى، من خلال مكبر الصوت فيها، أن يقلل حجم تجاوز مقاعد روّاده على المساحة العرضية للشارع العام، ومن أصحاب الدراجات النارية والعجلات الهوائية تخفيف ركنها قريبا من الشارع ليفسحوا المجال لمرور السيارات المارة عليه بسرعة كبيرة.
يوقف الشرطي المتكلم زعيق سماعته ثوان، ثم يعاود فتحها وهو يسأل روّاد المقهى متعجباً:
- يا اخوان ماذا لو أن أحد سائقي المركبات الكبيرة كان نعساً وانحرف المقود من بين يديه؟...برأيكم: كم جثة منكم سنرفعها من تحت عجلات مركبته؟.
لكن تساؤلات الشرطي تضيع بين لغط زحام المقهى وبين ضجيج محركات السيارات الكبيرة على الشارع العام. ومع توالي اهمال الروّاد لما تطلبه منهم سيارة دورية الشرطة، يتقافز بضعة أفراد من الشرطة متجهين إلى الدرّاجات النارية والعجلات الهوائية محاولين رفعها إلى حوض سيارة الدورية، فيتطافر أصحابها من أماكنهم قبل أن تحتجز الدورية عجلاتهم.
يُصدّر أحد روّاد المقهى تصريحاً بصوت عالٍ، كأنه يكمل حديثاً مع صحبه الجالسين معه ليثبت لهم وجهة نظر كانت محطَّ نقاش وجدل بينهم:
- ها كم انظروا؟...نحن شعب لا نفهم إلّا منطق الخوف والتهديد!.
يرد آخر بلهجة ساخرة:
- بل قل نحن شعب ندرك أن لنا دستوراً يضمن لنا حياة كريمة وحدوداً لحريات شخصية مصانة، لكن من دون قانون يكفل ذلك!
يختفي أصحاب الدرّاجات بأنواعها من بين روّاد المقهى وتفرغ كثير من مقاعدها، ولا يخلفون ورائهم غير زوبعة من دخان محركاتها الصغيرة، وكمية غبار تطيّرها عجلاتها الهاربة سريعاً.
يتبرم صاحب المقهى من النقص الذي سيصيب رزقه هذه الليلة، ويتجشأ بضعة رواد قرفهم من اختناق حريتهم وسط مدينة ليس فيها غير مقاهٍ، وهي أمكنة ترفيهية تختزل وقت بطالتهم، وتحتضن عصافير العمر الذي لا ينتظر.
أبقى جالساً فوق مقعدي على رصيف الشارع، قريباً من مجراه الآسن، أراقب ما يجري أمامي بصمت وتأمل، ويحاصرني خلو مدينتي من المتنزهات الترفيهية، واكتظاظ المقاهي بروّادها الشباب، ودورية شرطة تريد أن تقوم بواجبها.
انتقام
لم تدخّن بحياتها سيجارة واحدة، بل لم تفكر في أمر التدخين مطلقاً، فهي من جانب شابة بلغت من عمرها الخامسة والعشرين عاماً، ومثل هكذا عمر يكون معيباً على المرأة أن تدمن التدخين فيه، ففي بيئة مجتمعها تتغاضى ألسنة الناس عن تدخين العجائز فقط، ولا مسامحة ممزوجة بإشاعة تخص الأخلاق وسيرة المرأة لكل ما دون سن الشيخوخة في النساء، تسمح لنفسها أن تتشبّه بالرجال وتجاهر في التدخين علناً أو سراً وتُكتشف لاحقاً، تلك الشيخوخة التي تجعل من الخدود المورّدة معصورة وكالحة، مثل جلد مسلوخ من شاة مذبوحة، أو هو كقشر متيبس لرمانة ناضجة سقطت من غصنها وتُركت تحت الشمس دون ان يرفعها أحد. وهي من جانب آخر سبق وأن استمعت لدردشات الناس من حولها عن مضار التدخين وفعله المدمر لرئتي المدمن عليه.
لكنها اليوم ومع اقتراب الموعد وانقضاء العد التنازلي عليه، أزمعت أن تشعل السيجارة وتدخنها، لم تفكر بما ستقوله أختها لو دخلت غرفتها واستنشقت رائحة الدخان تملأ هواءها، وهي لم تفكر فيما لو علمت عائلتها، وبماذا ستبرر لهم تصرفها؟ حتى أنها لم تعرف كيف ستستنشق دخانها؟ وبالرغم من أن فكرة الاستنشاق شغلت ذهنها لدقائق، لكنها ركلتها جانبا وداومت على الانشغال بمراقبة عقارب الساعة، وثمة رغبة يتنازعها فيها شعوران، فهي من جانب تريد لعقارب الساعة أن لا تبارح مكانها، ويتوقف الزمن حرناً في كل لحظة يجذب عينيها مغناطيس الفضول نحو موقعها على الحائط، ومن جانب آخر هي تتمنى أن تتسابق العقارب ليزف حين الساعة الموعودة وتغادر تلك المحطة دون رجعة، لكنها عندما تفكر فيما سيأتي لاحقا ومقدار الفراغ الذي سيتخلّف في مساحة الصورة، لو أسرعت عقارب الساعة، تنقبض نفسها ويعتصرها الألم، وينتابها إحساس أن ما حولها قد اظلمّ وبان قبح الحياة ووحشتها فيه، فتركل هذه الفكرة أيضا وترقب عقارب الساعة شاردة الذهن، كأنها تسبح في فضاء مفرّغ من الهواء، لا تعرف ما تصنع بجسدها السابح فيه!.
كانت كلما انقضت نصف ساعة همست لنفسها ما تبقى من الوقت، ومع كل نصف ساعة ينقضي تشعر أنها تهوي إلى قاع عميق، وتترا ذكرى المناسبة في خيالها كأنها حدثت للتو:
كانا في اليوم قبل الأخير من نهاية الاختبارات الجامعية للمرحلة الأخيرة، وقد أزمعت أن تخلف من رائحته عندها شيئا تتذكره فيه كلّما عصرها شوق الوجد إليه، ليس لانعدام وسيلة التواصل به، بل لانقباض راودها داخلياً دون أن تصرح به وهو يحكي لها، خاصة في المرحلة الرابعة لدراستهما، أنه واقع تحت تأثير ما يرسمه والده لمستقبله، وإشارة عابرة عن ابنة عم ترغب العائلة،(وليس هو كما أكّد لها)، أن تكون من نصيبه، وما رسّخ وخز حكاية ابنة العم في داخلها أكثر، قوله أن العم قبل أن يلفظ أنفاس عمره الشائخ قبض على ذراع أبيه موصياً خيراً بابنته.
سألته راجية:
- بعد غدٍ سيكون آخر أيام الدراسة ... حبذا لو حصلت منك على شيء أحتفظ به كذكرى منك؟.
وهي لا تنسى كيف شحبت شفتاه وافترتا عن ابتسامة باهتة، كأن طلبها ناغم ما يخشاه في دواخله.
قال مدارياً حيرته:
- ذكرى مني! ... طيب.
شعرت بأن ناقوس الموت يعلن بدء فجيعة قصتهما، فقالت تشجعه:
- سأطرز حرفي اسمينا على منديل أبيض ... تلك ستكون ذكراي عندك.
بعد يومين أعطته المنديل ليدسه في جيب بنطاله، وسحاب سيجارته التي أشعلها تواً يغطي ملامح وجهه.
سألته بلهفة:
- ها ... أين ذكراك لي؟.
قال محرجا:
- حرت ... الواقع نسيت.
لحظات قليلة واحتقنت جفونها بدمعة تحجرت في مآقيها، ودون أن تشعر امتدّت يدها لتختطف السيجارة من بين شفتيه، وتطفئ جمرتها، ثم تضيعها بين حاجيات حقيبتها اليدوية، وتصطنع ضحكة مهزومة:
- سأحتفظ بجزء سيجارتك هذه (وأشارت على حقيبتها) ذكراك عندي.
قال متسائلاً:
- ترى من فينا يمثل الجزء المحترق ومن فينا يمثل الجزء المتبقي؟.
هزّت رأسها بسرعة، كأنها تريد أن تطرد شبحاً مزعجاً مرّ على خيالها، ورفعت حاجبيها بتوعدها له:
- هذا ما سيكشفه المستقبل.
وأضافت بيقين بعد لحظة صمت خيّمت بينهما:
- عن نفسي سأحاول أن لا أكون الجزء المحترق.
ومنذ الأمس وهي جالسة قبالة الساعة المعلّقة على حائط غرفتها، بعد أن وصلها خبر من صديقة لها وجارة له:
- صاحبك سيُزف إلى ابنة عمه غداً عند الساعة الخامسة عصراً.
منذ الأمس وهي جالسة قبالة الساعة الجدارية، تحسب العد التنازلي لما تبقى من الوقت، وفي آخر ساعة عن الموعد قررت أن تشعل جزء السيجارة المتبقي لتحرق كل ذكرى له.
رحلة
عصّبني بجلدة لها طيّات وأطبقها عليّ ثم حشرني بكيس وأغلق السحّاب دوني.
كان الهواء خانقاً داخل ذلك الكيس، فيه رائحة عَطِنَة يخال لمن يشمها أن قماشها لم يرَ البلل منذ ان حاكت آلة النسج خيوطه.
نسيت أن أقول لكم قبل أن يعصّبني بالجلدة التي لها طيات كان قد حمل على كتفه عدة شغله، فهو كأجير ينجز الأعمال عند الميسورين لابد له من أن تكون لديه عدّة تساعده بعمله، وإن أردتم الحقيقة فأنا لم أرَ نوع عدّته وشكلها سابقاً، لأنني توا تعرفت به، وفي الأصل وجدت عدّته تلك مخبأة بكيسها، وما كان عليه إلّا أن شدّ الكيس جيداً ورماه على كتفه قبل أن يفعل فعلته القبيحة معي.
والواقع إن ما يجعلني أصف فعلته بالقبح، ليس لأنه عصّبني بجلدة لها طيّات وأطبقها عليّ، فأنا عادة ما يفعل كل الناس هذا التضييق ضدي، حتى وصلت إلى مرحلة أن وجودي أصبح لا يستقيم مع الناس، وأعد من لا يقوم بواجبه معي، يعصّبني بجلدة لها طيّات ويطبقها عليّ، أعد مثل هذا السلوك شرخا فيما تطبّعت عليه وصار جزءً من يومي، لكنني أصف فعلته بالقبح لأنه حشرني بكيس له هذه الرائحة العَطِنَة وأغلق السحّاب دوني.
كنت أشعر باهتزاز الكيس وأنا داخله، وفي بعض اللحظات يتوقف الرجل وينزل كيس عدّة العمل من على كتفه، لأنني كنت أسمع طقطقة الحديد فيها، وهو كان يفعل هذا الأمر أما ليستريح ويتنفس الصعداء قليلاً، أو لأن معرفة من أحد المارة تلتقيه، ويتجاذبا أطراف الحديث، أما كيف عرفت وأنا المعصّب بجلدة أطبقها عليّ وحشرني بكيس وأغلق السحّاب دوني؟ فذلك لأنني كنت لا أعدم من سماع تنهدات تعبه لو توقف ليستريح، وأطراف الحديث لو وقف مع من يمرون قربه وله معرفة بهم.
قال له أحد المارة:
- يبدو أن عملك اليوم كان فيه بعض المشقة! تحمل يا رجل فقد شارفت أن تصل بيتك وعيالك.
لم يسبق لي أن سمعت صوته منذ أن وصلت له وعصّبني بجلدة لها طيّات وأطبقها عليّ ثم حشرني بكيس وأغلق السحّاب دوني، غير أن اجابته لمن مرّ قربه وحدثه، فضحت مقدار التعب الذي يلف جسده، ورخامة الصوت وحشرجة صدره كانت كافية لكي أفهم أن صاحبي رجل هدَّ تدخين السجائر الرخيصة رئتيه، وجعل تنفسه لهاث من يركض مسرعاً إذ قال:
- ليت الأمر ينحصر بيوم عمل شاق...
صمت قليلاً وأضاف متحسراً:
- لقد ضاع العمر بالمشقة والضيق.
وأكمل بعد ثوان:
- يقضيها ربك يا صديقي.
وطقطق حديد العدّة المحشوّة في الكيس عندما رفعته يده قبل أن ينهض متوكلاً:
- يا الله.
عند باب داره فتح السحّاب وأخرجني من الكيس، ثم فتح طيّات الجلدة وأزاح العصابة عني، ومسكني بيد وبالأخرى راح يطرق باب بيته.
اقتربت خطوات عجلى من خلف الباب وصوت نسائي يقول:
- عسى أن يكون أبوه هو من يطرق الباب.
تغضّن وجه الرجل أكثر واتسعت عيناه فضولاً على ما ينتظره من طارئ خلف الباب وقال مستفسراً:
- ماذا هنالك يا امرأة؟.
وتمتم كأنه يحدث نفسه:
- يا إلهي؟ ماذا فعلت بحياتي حتى تضيع عليّ فرحة اليوم الذي أحصل فيه على عمل؟.
انشقّت الباب عن امرأة ثلاثينية، تبدو على وجهها نضارة اكتمال انوثتها، وتلبس ثوبا طرزته ورود على ما يبدو باهتة نتيجة لبسه وغسله كثيراً، لم تلتفت لناحيتي وهو يشير علي بل اكتفت قائلة باستعجال:
- انجد الولد بسرعة قبل أن تفقده وتفقدني من بعده، جسمه يشتعل، كأن فيه كتلة لهب من نار، هو على هذه الحال منذ أن خرجت للعمل!.
لم يحر جواباً على المرأة، فقط ناولها كيس عدّة العمل وأبقاني بيده، ثم اختطف الطفل سريعاً وهرول به إلى أقرب عيادة طبيب.
كان الولد يئن متوجّعاً، كأن هرولة والده به وارتجاجه على كتف أبيه توقظ الآلام في جسمه الهزيل، وهو كلّما أنَّ وتوجّع أسرع الرجل به عدوا واستيقظت آلامه أكثر.
وفي العيادة أخبره الطبيب بعد أن فحص الولد أن ما يعاني منه ابنه هو طارئ سيزول بعد يومين أو ثلاثة، لأنه مصاب بارتفاع درجة الحرارة نتيجة حمى الانفلونزا الموسمية.
تركني عند العيادة وراح يبحث عن علاج لابنه، بعد أن أعطاه الطبيب فئات عملات صغيرة أخرجها من درج الطاولة التي يجلس خلفها.
وما جعلني أكتب همومي وأفضفض بها لكم، هو أنني وجدت الطبيب يحكي هو الآخر ويشتكي لبعض معارفه الذين جاؤوا لزيارته في العيادة، عن ضنك العيش وصعوبة الحياة، لكنه عندما أخذني معه إلى البيت وأغلق الباب خلفنا، التقته زوجته، والتي يبدو من حديثها معه إنها طبيبة مثله، ولها عيادتها الخاصة كعيادته، وقد وصلت البيت قريباً، فرغم أن البلل مازال واضحاً على شعر رأسها إلّا أنها استطاعت بعد استحمامها أن تكمل زينة وجهها، وتتعطر بما أستنشقه مما يضوع منها، من عطر كان خير مواسي لي على ما شممته من رائحة عَطِنَة عندما عصّبني والد الصبي المريض بجلدة لها طيّات، وأطبقها علي ثم حشرني بكيس وأغلق السحّاب دوني.
قالت الطبيبة ضاحكة فيما أصابعها تفتح أزرار قميص زوجها على مهل:
- أنهيت فحص مراجعي عيادتي مبكراً، وقلت لأسبقه إلى البيت وأتحضّر لليلة الخميس.
سلّمها رزمة نقود ورقية بيد، وباليد الأخرى قدمني لها قائلاً:
- وهذه الورقة النقدية هي تكملة ما بيدك، لندفع آخر قسط من ثمن العمارة التي اشتريناها.
تماهي على خشبة مسرح
نهوض مبكر عند كل فجر، افطار بلبن رائب، رعي الأبقار كل النهار، رجوع إلى الدار وتناول أكلات مكررة، ثم نوم ونهوض عند فجر اليوم التالي.
لكن هذا لا يمنع أن يلبس أجمل ثيابه، أن يصرّ على حلاقة رأسه رغم وخز أطراف الشعر المتساقط على رقبته من الخلف، وقد كان سابقاً هو السبب المباشر لأن يمتنع عن قصه ربما لأشهر طوال قبل المناسبة، أن يصرّ على الاستحمام وهو يعرف أن رغوة الصابون المتخثرة في (الطست) لن تنفع بتقشير الأوساخ المتيبّسة على سمرة قدميه، لأنه يدرك أن نتائج السير حافيا سيكون ثمنها أوساخ متيبّسة على سمرة قدميه المتخشبتين، والسير حافياً عند الصبيان شكل طبيعي لطفولتهم في مثل عمره وفي قرية يكون جلّ منى أهلها أن ينجبوا أطفالاً يرعوا لهم الأبقار والاغنام حفاة، فلبس النعال عندهم نوع من البطر لا تخشن معه الأقدام، وعندما لا تخشن الأقدام لن يعود بمستطاع الصغار إن كبروا، أن يطؤوا الأرض المحروثة بعد يباس مخلفاً من حراثتها حجارة قد يضيع بين كتلها نصف طول طفل السادسة من عمره، ولبس النعال يخلق جيلاً بأقدام ليس بمقدورها تسلق النخيل الذي يحوّط القرية من كل جانب أثناء تلقيحه بداية كل سنة، وقص عذوق التمر في شهري حزيران وتموز، ولمخاصمة لبس النعال كما يراها وعيه الآن أسباب أخرى، يتربع على عرشها العوز عند جلّ سكان القرى، وبسبب ما عاشه هو شخصياً من ظرف قاس فهو يضيف لتلك الأسباب سبباً آخر يتمثل بغياب العدالة الاجتماعية في أسرة الرجل الذي يقترن بامرأتين( وما أكثرهم في القرى) الذي يُلبس أطفال أحداهما منذ صغره ولا يجعله يسير حافياً ويحرم أبناء الأخرى من ذلك، وبناءً على تحليله وفق ما عاشه، فهو يبرر لمثل هذا الرجل فعله تحت ضغط الضرورة المعيشية في القرية، لأنه يريد أن يديم جيلاً من أبنائه له القدرة على السير حافياً بين حجارة الأرض المتيبسة قبل وبعد حراثتها، وله القدرة على تلقيح وقص عذوق النخيل المحوّط للقرية من كل جانب، لكنه يرى في المقابل أن مثل هذا النوع من الآباء يؤسس، ربما دون أن يشعر، لجيل من بين ابنائه فيهم المعوّز وفيهم المتنعّم، ومثل هذا التأسيس قد تُولد منه كل صنوف القهر بين الأخوة مستقبلاً.
وعادة هو لا يلجأ للنبش في طفولته، إلّا إذا مرّت على خاطره ذكرى تستوجب غرابتها أن يُحلل ظروفها ويرجعها لأسبابها الرئيسة، وقد عنّت له اليوم ذكرى مناسبة أرجعته للبئر الذي نبعت منه.
وعلى حافة ذلك البئر كان يمارس طقس الاحتفال بالعيد كل سنة أبان طفولته، وما يجعله يضحك طويلا أنه كان يمارس شعائر طقس العيد دون أن يتغيّر نمط روتين حياته، لأن اليوم الذي يسبق العيد واليوم الذي يليه يشبهان أيام العيد تماماً.
نهوض مبكر عند كل فجر، افطار بلبن رائب، رعي الأبقار كل النهار، رجوع إلى الدار وتناول أكلات مكررة، ثم نوم ونهوض عند فجر اليوم التالي.
ويلحّ التساؤل عليه:
إذن : ما ذاك الاصرار على ممارسة طقوس العيد كما يمارسها صبي غيره يلبس نعالاً؟.
يختار أجمل ثيابه وهي في الغالب الأعم أقلها فتقاً ورتقاً، وطائعاً مستكيناً لوخز الشعر المتساقط على رقبته من الخلف يحلق رأسه، ويصرّ على الاستحمام وهو يعرف أن رغوة الصابون المتخثرة في (الطست) لن تنفع بتقشير الأوساخ المتيبسة على سمرة قدميه المتخشبتين.
يبتسم ويقول معلّلاّ ذلك كلما خلا لنفسه:
- ( ربما لأن التماهي مع الطقس ومزاولة تفاصيله الصغيرة تجعلني أخرج من تفاصيل روتين اعتدت على تكراره).
لكنه يضمر حتى على نفسه:
أنها كلها أسباب تجتمع في داخله لأن تجتاحه مساحة حبور طاغ، تناغي عقدة التهميش وسعة بئر الحلم فيه، يحاول أن يوفق بينهما ومجريات الواقع لا تمنحه الفرصة فيعيش التماهي بخياله ويحلّق به. أو هو يمثّل على نفسه أن يعيش حالة متغيرة لا تشبه الأمس الذي عاشه.
صفيحة دهن نباتي فارغة من الحجم الكبير هي بمثابة كرسي لحلّاق يكتفي لثمن عمله ببيضة دجاجة يأخذها عن كل رأس يحلقه، دقائق قليلة لا تتجاوز الربع ساعة يقضيها كل طفل وهو جالس على صفيحة الدهن الفارغة، ساكناً تحت يد حلاق القرية.
ممثل صغير يتلبّس دور طفل يعيش أجواء طقس العيد كما يعيشها أي طفل من المدينة.
طفل المدينة يلبس أجمل ثيابه الجديدة وهذا يلبس أقل الثياب فتقاً ورتقاً عنده، ذاك يجلس على كرسي حلاقة حقيقي ويعطي ثمناً لجهد الحلّاق نقوداً معدنية لها رنين جرس الدرس في المدرسة، وهذا يجلس على صفيحة دهن نباتي فارغة من الحجم الكبير ورنين جرس الدرس يتحول عنده إلى حذر وخشية على سلامة بيضة دجاج يخبئها في جيبه ويخشى من جسم الحلّاق أن يضغطها اثناء عمله فتنكسر وتوسخ أجمل ثيابه وأقلها فتقاً ورتقاً، وأمام جمع الطفولة المحتفل يتباهى الحلّاق بعدالته، فهو يؤكد:
- لا أستلم البيضة إلّا بعد أن أنجز عملي كاملاً.
ولو فعل لضمن بيضته، وأراح الصبي من هم الخوف من كسرها.
وطفل المدينة يستحم بحمام مستور بأربعة حيطان وله سقف وباب، وثمة صنبور مياه اسالة يجري فوق رأسه مادام يستحم ورغوة الصابون يبتلعها سريعا ثقب أسفل قدميه، وهذا يستحم جالساً ب(طست) في عراء باحة الدار، ورغوة الصابون تتخثر أسفله، ومع ذلك لا تنفع بتقشير الأوساخ المتيبسة على سمرة قدميه المتخشبتين!.
يتساءل بعد أن بلغ الخامسة والثلاثين من عمره، وصار موظفاً يستلم راتباً معلوماً من الدولة، وله مركزه الاداري في المؤسسة التي يعمل بها:
- (هل يمنع كل هذا طفل القرية الذي كنته من أن يعيش طقس العيد بما تيّسر له: صحيفة دهن نباتي فارغة بحجم كبير، طست فيه رغوة صابون متخثرة، أجمل الثياب بقلة فتقها ورتقها؟).
يبتسم وهو يُعيد سرد آخر ترتيب لحكاية الذكرى:
- ( لا ..لا يمنع ، حتى وإن جاء بعدها : نهوض مبكر عند كل فجر، افطار بلبن رائب، رعي الأبقار كل النهار، رجوع إلى الدار وتناول أكلات مكررة، ثم نوم ونهوض عند فجر اليوم التالي).
ساعي البريد
أيام السبعينيات حينما كانت تختلف التخصصات الدراسية بين طلبة الجامعات، وتبتعد أقسامهم عن بعضها، يتفق الأصدقاء، وأصحاب العلاقات الحميمية فيما بينهم، مرة بشكل سري بين البنت والولد منهم، ومرة بشكل علني إن كانت العلاقة لا تتعدى الزمالة وصداقاتها، يتفقوا على يشان يلتقي فيه الطرفين، قد يكون بناية قسم، أو كافيتريا، أو زاوية جدار منعزل، وفي حالة العلاقات الحميمية، دائما ما يغرد بلبل الصمت في تلك الأماكن، فتنزاح حجب الخجل، وتذري الريح قطع غيوم السماء لتشرق شمس العشق وهاجة تنير درب صباحهما، وفي هذه الأمكنة تحديداً يتبادلان ورد الجوري ليخبئاه بين صفحات الكتب، ليس لندرة هذا الورد، بل لشعور داخلي يصيب الاثنين أن ثمة شيئاً من الآخر مسكته يده، وفاح عطره وتلذذ به أنفه مثلما الآخر يتلذذ به قبل أن تتيبس زهرته، وتفقد أبعادها الثلاثة لتتحول بعد سنين إلى وجهين مسطحين، ويكشف هذا الشكل للاثنين أن لحقيقة العشق بينهما ظرفين يحكمانها، ظرف تقوده بيئة الولد، وظرف تقوده بيئة البنت.
وهما قد يتبادلان زجاجات العطر، ومداليات سلاسل المفاتيح، وبين هذا وذاك تكون للاثنين ثمة صورة عند كل واحد منهما للآخر، سيكتشفان مستقبلاً أنها صورة يتيمة تذكّر من يدقق النظر فيها، بكل دقيقة قضياها سوية، حزنا ًكانت أم فرحاً، ونجحت العلاقة أم صابها الفشل.
وهما اليوم يسري عليهما ما سرى، ويسري، وسيسري على كل علاقة حميمية بين طالبة وطالب جامعيين.
منذ أن نشأت بينها وبينه وردة الجوري، وقبل يباسها بين أوراق الكتب قالت له:
- في فسحات الدرس ستجدني أنتظرك عند شجرة السدر تلك.
ومنذ أن نشأت بينه وبينها وردة الجوري وقبل يباسها قال لها:
- في فسحات الدرس ستجديني أنتظرك عند شجرة السدر تلك.
كانت كلّما ضيّعته بين أروقة قسمه العلمي هربت إلى حيث شجرة السدر تتكئ علي جذعها، وفي يدها شيء توهم من يراها أنها مشغولة فيه، عيناها تستديران على جانبيها كأنها أنثى طائر تحتضن كوم بيضها وتراقب متأهبة من يريد سلبه منها.
وكان كلّما ضيّعها بين أروقة قسمها العلمي هرب إلى حيث شجرة السدر، يحاول أن يتشاغل بشي دائما ما يكون لعب فردة حذائه بالتراب قرب جذر شجرة السدر، يحاول بهذا الفعل أن يتحاشى الأصدقاء يشغلونه عنها، أو يلتمّون حوله، خائفاً أن يمتدَّ الحديث من المشاكسين فيهم وتصب منابعه عند عش الحمامة التي ينتظر أن تحط على بيضها وتدفؤه.
خرجت من قاعة الامتحان وفيها شعور أنها تفتقد شيئا قضّها الشوق لأن تتملاه جيداً وتشبع نظرها منه، وكان اختبار هذا اليوم صعباً عليها وعلى زملائها، فضاع وقت الثلاث ساعات في الاجابة على أسئلته دون أن تحس بالوقت، وما انتبهت إلّا وجفاف يصيب يباس لسانها، أرادت أن تطلب كوب ماء من مراقب قاعة الاختبار لكنها تذكّرت شجرة السدر القريبة من نادي الطلبة، فأحبت أن تروي عطش عينيها منه، ومن يديه في النادي تسقى عطش فمها.
كان جذع الشجرة يبكي وحدته قبل أن تصله، فأملّت النفس قائلة:
- (ربما اختبارهم صعب هذا اليوم مثل صعوبة اختبارنا).
تحت ظل الشجرة أجالت نظرها لتحتوي المكان وتستكشفه عمن سيملأ وحشته، فكانت أشباح الطلاب تمر على البعد منها مشغولة بمقارنة اجاباتهم فيما بينهم عن أسئلة الاختبار، الكل يمشي سريعاً على وجهته: هذا إلى زاوية فيها وردة جوري تنتظر أن ييبّسها بين أوراق الكتب، وتلك تحث الخطى لكافيتريا النادي لأنها هي الأخرى تنتظرها وردة جوري تريد اليباس بين أوراق كتبها.
شعرت أن الوقت يخذلها كلّما خيم السكون وقلّت حركة الطلبة الخارجين من أروقة الأقسام، فحسمت أمرها وتوجهت إلى قسمه سريعاً.
قال لها زميل له ومن منطقة سكناه بعد أن سألته عنه:
- اليوم فجراً نقل إلى المستشفى، وقيل لنا أنه ستجرى له عملية زائدة دودية...أو ربما أجريت له حسب ما قاله أخوه وهو يتصل بي صباحا من هاتفهم الأرضي.
أسعفتها سرعة البديهية وقالت تترجّى زميله:
- انتظرني قليلاً، فثمة مظروف فيه أشياء تخصه أريدك أن توصلها له.
رد الزميل وعيناه ترفان بريبة:
- المظروف مغلق أم مفتوح؟.
مسرعة أجابت:
- طبعا مغلق.
قال بسرعة ردها:
- أعتذر.
ثم أضاف:
- سأفتحه قبل أن أوصله.
أجابت بزعل:
- أسفي عليه أن تكون صديقه ... سأوصله له بنفسي.
كان قد أوصاها قبل يوم أن تُرجع له دفتر مذكراته بعد أن أخبرته أنها انتهت من قراءته، وقد أضافت له زجاجة عطر من ماركة (بروت) التي يعشقها، وصورة حديثة يتذكرها فيها خلال العطلة الصيفية وحسب طلبه.
في الرابعة عصراً كان قد سمح له الطبيب المعالج أن يتناول قليلاً من السوائل بعد أن استفاق من التخدير العام ظهراً، ومفاجأة ظهورها وأختها في باب الردهة، أفزعته وطشّرت ملعقة الشوربة على صدره.
قالت محرجة:
- آسفة، فساعي بريدك الذي قلت لي ذات يوم أنك لا تمانع أن يوصل لك مني أي شيء لو استجد أمر يستوجب تدخله قد اعتذر عن ايصال هذا المظروف إلّا إذا اطلع على محتوياته! وهو ما أجبرني أن افاجئك بزيارتي.
فابتسم قائلاً:
- كنت على علم أنك ستأتين لزيارتي.
سألته متعجبة وعينها ترقب أختها:
- من قال لك.
ردّ ضاحكاً هذه المرة:
- ساعي وريدي.
دهينة حسّون
حاصرت روائح الأركيلات صدري المعطوب فانتقلت لمقعد آخر، كان أقرب من سابقه إلى فتحة باب المقهى المغطاة بقطعة نايلون أُريد لها أن تحجب أشعة شمس حزيران عمّن هم في الداخل.
احتلّ سمعي لغط الجالسين واختلطت أصواتهم، وتداخل المتناقشون بزعيق كاد أن يتطور لعراك بالأيدي.
قال صاحب المقهى:
- وحدو الله يا جماعة.
تمتم من يجلس قربي خارج المقهى، كأن الدعوة وجهت له، رغم أن روّاد المقهى يعرفونه قليل الكلام وهو عادة ما يجلس صامتاً طوال الوقت :
- لا إله إلّا الله.
صاح صوت من بينهم متضايقاً:
- الديمقراطية والديمقراطية، دوّختنا بها!.
لفّ الداخل صمت قليل، ثم عاودت الأصوات تتداخل فيما بينها ثانية، وأكمل المتبرّم مضيفاً:
- طيب، طيب...أفهم من ذلك أن الديمقراطية عندك هي أن تفعل ما يحلو لك؟.
قاطعه صوت شاب يبان من نبرته كأنه يكاد ينفجر من الضحك:
- هذا تعريف الحرية.
فردّ عليه صوت لشاب آخر:
- لا...هذه حرية فوضوية.
قال المعرّف للديمقراطية هازئاً من الشابين:
- إذن. قولا لنا يا فهيمان : ما الديمقراطية؟.
أجاب أحد الشابين مسرعاً:
- كدتما أن تتعاركا على من هو أحق بتشكيل الحكومة المقبلة! ووفق نقاشكم يكون تعريف الديمقراطية: هو حكم الأغلبية والاحتكام لما تفرزه صناديق الانتخابات.
تساءل رجل كبير في السن يمتهن الاتجار بيعاً وشراءً في المواشي والأغنام، ذو صوت أجش تقطعه حشرجة تخرج من صدر أعطبه التدخين بشراهة، والذي يبدو عليه واضحاً من ملازمة السيجارة بين أصابعه دوماً:
- أتعرفون ما الديمقراطية التي دوختمونا بها؟.
صاح أكثر من صوت بين جاد ومستهزئ :
- ما الديمقراطية أبو علي؟.
- اسمعوا ديمقراطية أبو علي!.
- مثل ديمقراطية الأبقار.
قال أبو علي متأنياً بعد أن رمى عقب السيجارة المنتهية من بين أصابعه وأشعل غيرها:
- لا هذه ولا تلك.
أوشى الصمت الذي لفّهم أن الفضول يعصرهم ليسمعوا تعريف أبو علي لها، وأكمل هذا الأخير ضاحكاً:
- الديمقراطية باختصار هي دهينة حسّون التي أكلتها.
ضجّ الجالسون داخل المقهى وخارجه بضحك هستيري، وسُمعت أصوات أكف الجالسين تضرب على الراحات تعجباً، لكن الصمت عاود يلفّ أركان المقهى، والموجودون كلهم راحوا يصيغون الانتباه جيداً لديمقراطية الدهين التي سيحكي عنها أبو علي!.
قال أبو علي شارحاً:
- في السبعينيات سجلت في المدرسة، وكان بيت أهلي وقتها خارج المدينة...في الأرياف هناك...
قطع حديثه وسأل أحدهم:
- أنت كنت شاطراً بمادة الجغرافية!...كم تبعد قريتنا عن مكاننا هذا؟.
قال الآخر:
- ربما ثلاثة كيلومترات.
أكمل أبو علي قائلا:
- المهم...أن مصروفي كان عشرة فلوس وأجرة الخان الذي أربط فيه حماري خمسة عشر فلسا، بمعنى أن مصروف الحمار أكثر من مصروف راكبه، وفي سنتها تلك شاع في المدينة أن (حسّون أبو الداطلي) جاء بأكلة لم تعهدها الناس تصنع في مدينتنا من قبل، ولا يعرفها إلّا الرجال الذين يذهبون إلى النجف لدفن موتاهم أو موتى معارفهم، لأن هذا النوع من الحلويات لا يصنع وقتها إلّا بمدينة النجف، وسمعنا نحن أطفال المدارس أن حسّون يصنع دهينة النجف وبالدهن الحر مثلما تصنع هناك، وقد صار يبيع القطعة التي بحجم نصف علبة السجائر بخمسين فلسا، وهذه مصيبة بالنسبة لمن يكون مصروفه ومصروف حماره يساويان نصف قطعة الدهينة تلك! لكن منذ أن سمعت بخبر دهينة حسّون وأنا ذهني مشغول بها، وأسأل نفسي دوما كيف لي بجمع مبلغها؟ ولو تخليت عن ركوب الحمار يوما فسيعلم والدي وسيقتطع مبلغ الخمسة عشر فلسا من مصروف الحمار للأسبوع القادم، وربما ينشط عقله وسيقول لا داعي من الحمار وخسائره، مادام باستطاعتك السير للمدرسة مشياً على الأقدام، بينما ركوب الحمار يمثل لي متعة كبيرة، فهو مثلا يمثل لي فسحة لأن أجرب عليه سباقات الأحصنة والطفر على العوارض التي أشاهدها كل يوم ثلاثاء من خلال برنامج (الرياضة في أسبوع) الذي يقدمه مؤيد البدري من على شاشة القناة الاولى، ومن خلاله أستطيع أن أعيش شعور إن لي واسطة نقل مثل بقية الأولاد الذين لديهم عجلات هوائية، وركوبه لا يجعل حذائي البالي ينفتق أكثر، والنتيجة أنني ضيعت كل الحيل من أجل أن أقتطع من مصروف الحمار وأشتري تلك القطعة اللعينة من دهينة حسّون!.
إذن لم يبق لي غير أن أجمع المبلغ من مصروفي الشخصي وأشتري القطعة التي أضحت حلماً صعب التحقيق، لكن ثمة مشكلة أخرى ظهرت لي: فكيف لطفل يسيل لعابه كل فرصة بين درسين وهو يرى زملاءه يشترون الكيك والحلقوم والنستلة والببسي كولا ويكون مبلغ شراء إحداها في جيبه ويستطيع أن يصبر ولا يبذره؟ كان اغراء قطعة الدهين يساوي بداخلي اغراء شراء ما موجود بحانوت المدرسة! لكن القرار دُعِم عندي داخليا بإرادة صلبة، لابد لي تذوّق قطعة الدهين الملعونة تلك.
كانت فكة درهم شراء القطعة في ذلك الزمن تعني خمسة أيام كاملة من مصروفي، ولكي أداري رغبة الفضول على الشراء من حانوت المدرسة مع رغبة تذوق قطعة الدهين فقد لجأت إلى تقسيم مصروفي اليومي بين هذه وتلك، ما يعني أنني سأصرف خمسة فلوس( وهي أصغر قطعة نقد عراقية بقيمتها الشرائية في زمن السبعينيات) بحانوت المدرسة، وادخر الخمسة فلوس الأخرى لشراء قطعة الدهين، وهذا سيقودني لأن أؤجل حلم التذوق أكثر من عشرة أيام إذا حسبنا أيام الجمع والعطل الرسمية التي يحجب فيها المصروف عني.
وإن لم تخني الذاكرة فقد كانت معاناة الادخار تلك هي أول درس لي في الصبر والمجالدة، ويوم جمعت المبلغ كاملاً كان يوم انتصاري العظيم، فقد كان يجتاحني شعوران: الأول أنني سأفوز بقطعة الدهين، والثاني شعور مبهم في داخلي وفيه صوت يصرخ بي قائلاً:
- (يا ولد أنت بطل).
عندما كبرت وخاب الحظ في أن يكون لنا مستقبل بما درسناه، وقبل أن تجبرني البطالة لأن أمتهن مهنتي اليوم، كنت شابا والوقت فائضا عندي فكنت أزجيه بالمطالعة وفيها قرأت عما يصيب الآخرين وقت الفرح، وعرفت أن شعوري المبهم ذاك كان يعني فرحي بتطويع ذاتي وكبح جماحها بقوة الإرادة داخلي، وسيكون هذا السلوك مرافقاً لي طيلة حياتي وإرادتي تدفعني لأن أحقق رغبة بداخلي.
كنت يومها أجلس داخل الدرس وبالي يصور لي كيف أنني بعد ساعات سأخرج واستلم قطعة الدهين من يد حسون؟ قطعا سوف لن أستلمها بسرعة. ستمتد يدي بالدرهم بطيئاً، وحتما سأحتفظ بها قليلاً قبل أن أتركها ليد حسون. وسآخذ قطعة الدهين بذات البطء. سأفتح قطعة الورق التي تلفها وسأدقق النظر بها طويلاً، سأحدق فيها حتى تصل رائحة دهنها الحر إلى أنفي، وسأخبئ الرائحة بين أضلع صدري حتى أتشرب كل عطرها، وكنت أرى كل الأولاد حولي مجانين لأنهم يأخذون قطعهم ويولون هاربين بها، ولن أفعل فعلهم، سأتعامل معها ببطء شديد مثلما يجري حوار المسلسلات العراقية بذاك البطء الشديد الذي يجبر المشاهد على الملل والتذمر، فقطعة دهين ثمنها درهم... ثمنها أن أدخر نصف مصروفي لمدة تقارب الاسبوعين تستحق أن أتعامل معها ببطء شديد جدا جدا.
لكن الغريب في الأمر أنني لحظة أن استملت القطعة من حسّون نسيت كل ما قررته، واستلمتها سريعاً، ودون أن أفتح الورقة التي تلفّها خبأتها سريعاً داخل حقيبة الجنفاص التي خاطتها لي أمي أول العام.
أوه. نسيت أن أقول للشباب الموجودين حولنا الآن أن الدراسة كانت في زمننا ستة دروس، وفيها نكمل أربعة دروس منها قبل الظهر ثم نخرج ساعة لأهالينا ونعود لندرس الدرسين الآخرين، وأنا اشتريت قطعة الدهين ذلك اليوم بعد نهاية الدوام الصباحي.
وفي فيء أحد أركان البنايات العالية جلست وحقيبة الجنفاص بين أرجلي، مثل نائم يصحو منشرح النفس على حلم جميل عاشه وحيداً طيلة الليل. كنت جائعاً جداً، ورغيف الخبر والتمرات التي لفتها لي أمي بداخله مازالت ترقد بين كتبي، لكن داخلي كان مشغولاً بأمر آخر.
كنت أقول لنفسي:
- (يا إلهي. كيف أتناول القطعة؟. أسآكلها لوحدها؟...
لا. لا... فلو فعلت، ستنتهي سريعاً، و يا عالم متى سأستطيع شراء قطعة مثلها وأتلذذ بها ثانية!
إذن سألف منها أجزاء صغيرة داخل قطع من رغيف الخبر وآكلها على مهل.
لكن من يضمن لي أن رائحة الخبز سوف لن تغطي على رائحتها اللذيذة وتضيّع طعمها الحلو تحت لساني؟.
طيب. ماذا لو أكلت قطعة صغيرة منها على مهل، ثم آكل قطعة من رغيف الخبز ملفوفاً فيها تمرة؟.).
وهكذا استقرّ القرار: قطعة صغيرة منها تذكرني بما استجد من أكلة جديدة أتذوّقها حديثاً، وقطعة من رغيف الخبز ملفوفا بها تمرة تجعلني أتذكر أمسي الذي كنت أحنّ فيه لتذوق قطعة الدهين.
ورحت ألوك اللقم بين هذه وتلك على مهل ودون تعجل، حتى انتهت ساعة الراحة بين الدوام الصباحي والدوام المسائي، وكنت طيلة الدرس الأول من الدوام المسائي ألملم لعابي مبتسماً وأنا أحلم بقطعة دهين أخرى قررت أن أقتصد بمصروفي ثانية وأشتريها.
ومثلما عشت حلم تذوقي لها، عشت محنة مغص شديد ألم ببطني، وأكاد أحسها تتمزق بسببه أثناء فرصة الراحة بين الدرس الأول والدرس الثاني من الدوام المسائي، مما حدى بأحد المعلمين أن ينقلني على وجه السرعة إلى المستوصف القريب من المدرسة.
في المستوصف الصحي فحصني الطبيب واضعاً سماعته على بطني:
- ابني. هل تناولت غداءك؟.
كانت تلك الوعكة أول وعكة صحية أعاني منها في حياتي، ولم ألتق طبيباً قبلها، ولا أعرف كيف يخاطب المريض طبيبه؟ فقلت سريعا:
- نعم أستاذ...تغديت.
قال مستفسراً:
- عادة ماذا تأكل بغدائك؟
قلت:
- رغيف خبز وتمر.
سألني:
- واليوم ماذا أكلت؟.
قلت :
- خبز وتمر واشتريت قطعة دهين.
قال مبتسماً:
- وهل أكلت الدهين سابقاً؟.
قلت :
- لا.
ربّت على كتفي وقال ضاحكاً:
- انهض...انهض...هذا المغص بسبب قطعة الدهين، ولن يصيبك مستقبلاً إذا تعوّدت على أكل الدهين.
انتهى أبو علي من حكايته وركن صامتاً بعد أن رمى عقب سيجارة انتهت وأشعل أخرى.
فقال أحد المتخاصمين على الكتلة الاكبر والديمقراطية:
- وماذا بعد؟.
قال أبو علي هازئاً:
- حسبتك فهمت القصد! ومع ذلك اسمع مني سيما وعمرك قريب لعمري: ألا ترى أن الديمقراطية التي تتعارك عليها الآن هي حلمنا سابقاً مثل حلم قطعة الدهين عند أبو علي الصغير؟ فمثله كنا نتخيل طعم الديمقراطية وشكل مذاقها! ومثله كنا نريد أن نمتلكها! ومثله كنا حائرين بالسلوك إزاءها لو حصلنا عليها! وعراكنا عليها هو المغص الذي أصاب الطفل الصغير! وصدقني يا عزيزي سوف لن ينتهي عراكنا إلّا بعد سنين طوال، لأننا الآن نعاني من مغص الديمقراطية الذي هزّ عرش التقاليد والقيم والأعراف داخلنا حتى التوت منه أدمغتنا.
نهض أبو علي تاركاً المقهى، وانسل الآخرون من بعده تباعاً، لكنني بقيت ساعة أخرى حتى تزاحمت مقاعد المقهى ثانية وتجدد عراك زبائنها الجدد على الديمقراطية مرة أخرى، لكن هذه المرة من دون وجود أبو علي وقصة قطعة الدهين التي أكلها لأول مرة وأصابه منها مغص شديد.
سطو مسلّح
لا شيء غريب فيما يراه، مشاهد لسلوكيات من أبيه اعتاد أن يقف شاهداً على حصولها، منذ أن فهم العلاقة بينه وبين جسده الممدد أمامه الآن، وهو يرى ما حدث له اليوم يحدث بالطريقة نفسها منذ أن وعى تلك العلاقة.
كان في البداية تخنقه العبرة ويلوذ بذيال عباءة أمه إن حدث له ذلك في البيت، أما إن انتابته الرعشة وتصلّبت أطرافه وغطى شاربه زبد لعابه في مكان ما، كأن يكون سوق عام، طريق مزدحم فقد كان ينزوي على جانب ويترك من يمر قربهما تلك اللحظة يقوم بواجب الاسعاف وشد الأزر.
وكان أبوه كثيراً ما يصطحبه معه، وفي الآونة الأخيرة صار يستعطف الناس به، فصوته شجي ويثير الألم فيهم، وكان بعضهم لا يهتم لما يقوله لكن غالبية من يتركهما كان يمشي بضع خطوات إلى الامام ثم يعاود الرجوع وامارات الأسى توشّح قسمات وجهه ويدس في يده ورقة نقدية، وهي غالبا ما تكون من الفئات الصغيرة، والابن يعرف أن هذه الفئات الصغيرة تتحول بنهاية النهار إلى كيس أسود ممتلئ بالبطاطا، والباذنجان، والطماطم، وكلما تفنّن والده بنغمات الصوت وبثّ فيه حزمة شجاً قوية صار الكيس الأسود كيسين أو أكثر، وحوت الأكياس ما لذّ وطاب. وفي اليوم الذي يمرض فيه يلازم الفراش، ويفسح له المجال لأن يمارس عبث طفولته وشقاوتها، بين غرفة النوم حيث يرقد والده على فراش المرض وبين المطبخ حيث أمه تنبش في مخزونهم الغذائي، وما تُرك زائداً من جهد الأيام السابقة.
عندما خرج معه في أول يوم عمل ودع فيه طفولته، ولبس عدة المهنة نصحته أمه أن يترك شعر رأسه أشعثاً، ويلبس ثوباً مفتّقاً، ومنعه والده أن يغسل وجهه ويزيل آثار النوم عنه، وعند عتبة الدار شجعته أمه قائلة:
- أباك مريض وأنت كبرت، وعليك أن تتعلم كيف ترفع الحمل عنه.
وقتها فهم الحمل الذي تعنيه أمه: أنه سيساعد أباه في حمل الكيس الأسود نهاية النهار، فأمه تحرص على محتويات ذلك الكيس ولا تسمح له أن يكون ضمن دائرة عبثه الطفولي!.
والطفل يخونه الوصف لكنه يضمر بداخله شعوراً لا يستطيع التعبير عنه بالكلمات عن أن أجمل ما في العلاقة بينه وبين أبيه، أن الأخير كثيراً ما يقتصد شيئاً من عطايا الناس ليشتري له لعبة ما، عربة صغيرة، كرة قدم مطاطية، دبدوب على شكل قرد، مسدس يرش الماء لو ضغط زناده وهو موجه على الهدف، رشاش يصدر أصوات مختلفة فيها شيء من الموسيقى.
لكن يوم تنتابه حالة الصرع التي يعاني منها، وتقعده طريح الفراش لأيام، يضيع على الطفل أن يحصل على تلك الحاجيات، أما إذا نتج عن النوبة سقوط على جسم حاد وجُرح رأس أبيه فسوف لن تضيع عليه الألعاب التي يشتريها له فحسب، بل سيعزّ عليه تذوق أكلة شهية لشهر أو أكثر، ولهذا هو يكره تمدد والده بهذه الصورة التي ينكفئ بها على وجهه أمام باب مصرف المدينة، يكرهها ليس لأن والده سيمرض من بعدها وقد يلازم الفراش لأيام أو أسابيع فحسب، بل لأن انكفاء والده الآن وبهذا الشكل يولد في داخله منغصين: الأول أنه يذكّره بالحالة المشابهة التي يحرم فيها من لعبة جديدة وأكلة طيبة، والثاني أن انكفاء والده الآن على وجهه قد طال أكثر من المعتاد، ولم ير شخص ممن حوله، رغم كثرتهم، يتقدم لنجدته كما كانت الناس تفعل سابقاً!.
كانت الدهشة تحاصره من فعل الناس مثلما تزداد دائرتهم حول والده المنكفئ على وجهه وتحاصر جسده المسجى داخل دائرة الشرطة المحلية، التي راحت تحاول جاهدة أن تحكم طوقها حوله ولا تجعل به أية ثغرة ينفد من خلالها أحد، خاصة الأطفال الذين يكبرونه عمراً، وكان تدافع الأكتاف يدفعه بعيداً عن كل الدوائر تلك.
ضاع بين الأرجل وتراصت أجسام الناس تتدافع فيما بينها، وكل شخص فيهم يريد أن يرى الصورة من زاويته، ولا يقتنع بما يرويه الآخرون له.
سأل شاب شاباً آخر كان قريباً منه:
- كم عدد الارهابيين الذين هاجموا المصرف؟.
رد عليه الآخر :
- ارهابي واحد فقط.
اعترض رجل مسن مصححاً الخبر:
- العمل مجرد مزحة من مريض نفسي، تهيأ له أنه سيلعبها وينجو بفعلته.
قال الشاب الأول متعجباً:
- لعبة من مريض نفسي!.
استفاض الرجل المسن شارحاً:
- هو مريض نفسي تعود أن يدخل إلى المصرف مع طفله، يستعطف الناس، ويطلب مساعدتهم، وحرّاس المصرف تعودوا على دخوله تعاطفاً مع وضعه، واليوم أستغل الأمر وبلعبة مسدس أطفال شبيهة للمسدس الحقيقي أجبر مدير المصرف أن يملأ له كيساً بالنقود...
توقف يسترد أنفاسه قليلاً وامارات ضحكة ساخرة تذبل على شفتيه:
- نجحت خطته، ومن كل عقله خرج للشارع مشيراً لسيارة أجرة أن تقله إلى وجهته، فأرداه أحد الحرّاس صريعاً من خلفه...هذه كل القصة.
قبل أن تطفر الدموع من بين جفنيه تذكّر الطفل لعبة المسدس، التي أخذها والده من بين أشيائه، وخبأها صباحاً بكيس أسود تحت ثيابه.
احتجاج عجلة ثائرة
أنا العجلة. أُعدّ الثانية في تسلسل مطايا التحمل، بعد الحمار، فهذا المسكين منذ أن وجد على الأرض وهو الصابر المحتسب للأعباء الثقيلة، صحيح أن اختراعي كان قد رفع جزءً من مشقّاته الكثيرة، لكن هذا لم يأت بين ليلة وضحاها، فعلى ما يذكر أجدادي القدماء أن شكلي الحالي ما وجد على هيئته الحديثة هذه، بل تدرّج الإنسان بتحسين هندامي ورونقه، ليس حبا في تدويري بل حتى أكون مطية سهلة الاستخدام له.
مثلا: تذكر مؤلفات أجدادي في تتبع نشأتي أن الإنسان القديم صيّرني من قطعة خشب دائرية اقتطعها من جذع شجرة، وراح يزحلق عليها الأثقال التي لا يستطيع حملها، وتطور بعد سنين فركّبني كعجلة دائرية أكبر حجما من سابقتها تحت سطح من الخشب، وجعل الحمار المسكين يجرني فأدور على محيطي الخارجي كلّما سار الحمار إلى الأمام، وعند هذه المهمة ارتبطت حياتي قديما بالحمار، وتصادقت معه، مع بعض الحالات الاستثنائية التي يكون فيها من يجرني إنساناً آخر، وهذا لا يحدث إلّا إذا استأسد الإنسان على أخيه الإنسان واستعبده، وهي قديماً كانت تحدث كثيراً، وبسببها سرت بالأغنياء على ظهري وبالأباطرة والملوك وحملت بضائعهم، ومن يضيق فيه العيش وتتقطع السبل عليه لأن يمارس حياته الطبيعية في منطقة بعينها يعيش فيها، فهو أول فعل له، إن رام التغيير، يقوم بتحميل حاجيات بيته وأفراد اسرته على ظهري ويرحل إلى البقعة التي يطيب له العيش فيها.
وكلّما رغب الإنسان في قطع المسافات بوقت أسرع خفف وزني ودوّر شكلي أكثر، حتى جاء ما أسموه عصر البخار، وهنا اختلفت مهامي وتقاطع بعضها مع شراكتي للحمار في حمل الإنسان ونقل أغراضه، ولم يتبق من تلك الشراكة إلّا في حدود محصورة ببعض المناطق ولطبقة معيّنة من الناس، وكنت كلّما أوغل الناس في المدينة وترفهوا ابتعدوا عن شراكتي التاريخية مع الحمار، وكلّما تبسّطت حياتهم وصعبت ظروفهم الاقتصادية تذكروا تلك الشراكة ورجعوا لتقويتها، حتى أضحت شراكتي للحمار قرينة للفقراء من الناس وعنواناً لوسائطهم.
لكنني في الجهة الأخرى حيث المدن الكبيرة تنعمت مثل حياة الناس فيها، وصيروني من مادة المطاط الليّنة ليركّبوني على عرباتهم الملونة، وطائراتهم العملاقة، وفي شكل آخر تحوّلت إلى عجلة ثقيلة من مادة الحديد أجر ورائي عربات كثيرة تسمى القطارات، والحقيقة كنت مستأنسة بما صرت إليه وراضية بالمهام التي توكل إليّ، لكن الإنسان كائن مشاكس، لا يترك الأشياء كما وجدت، وهو تحت مبدأ التغيير يحاول دوماً أن يغيّر مهامها، ولأنه كثير الخلاف مع أبناء جنسه فقد أوجد آلة الحرب والقتل ضد من ينازعه الملك على ما يعدّه ملكا له، رغم الوجود المشاع للأشياء أول وجودها، وهنا ظهرت مشاكلي معه وابتدأ تذمري من استخداماته، وعليه فأقول التالي ما دمت في عصر يسميه الإنسان عصر الديمقراطية:
- أيها الإنسان، لتعلم أنني عجلة لا تسير كل وسائط نقلك من دون أن تركّبني لجرها، راضية بك منذ همجيتك الأولى، وقد واكبتك مذ لم يكن يستر عورتك غير أوراق الشجر، لعبت وتمرّنت على تطويع شكلي كما ترغب ولم تسمع لي صوتاً أبداً، بل قل أنني كنت مستأنسة بما تفعله بي، فمن الصعب على الأشياء أن ترفض من يطيّرها إلى عنان السماء جزءً من طائرته، ومن الصعب على نفس الأشياء أن ترفض من يجعلها تسير بسرعة فائقة، ولا يسعني هنا إلّا أن أشكرك منحنية لكل جهودك في تطويري وتمدّني.
ولو كان لإهرامات مصر، وجنائن بابل المعلقة، والقلاع الرومانية، وزقّورات سومر، والثيران المجنحة للآشورين ألسنة كما وصلت آثارها الآن لسردت لكم كم أنّت مفاصل الدواليب؟ وكم تحطّمت عجلات كثيرة منا نحن معشر العجلات تحت ثقل أطنان التراب والصخور التي جُرّت بواسطتنا حتى تبنى مثل هذه التحف المعمارية والنحتية؟.
لكنني وهنا المهم، وعندما أقول (وهنا المهم) عليك أن تنتبه جيداً أيها الإنسان لتسجل هذا الاعتراض وبشكل واضح لا لبس فيه:
(أرفض وبكل ما يجيده الأطفال من اصرار: أرفض أن أخرج على شاشات تلفزتك بهذه الصورة البشعة التي لا تناسب كل خدماتي لحضارتك، وابتسرت صورتي بعجلة مدفع أسير فيه لأقتل إنساناً آمناً في مكان آخر، وأرفض أن تجعلني عجلة بمركبة عسكرية لتدهس بي متظاهر مسالم رافض لنوع ممارستك وفساد حكمك).
عندما يلتوي عنقي
منذ أن قُدِحْت من يد الخالق فكرة في ذهن جدي وأنا أحلم، والحلم ليس بعيب! بل إن البعض يشكل على غيره إن لم يكن صاحب حلم، والكثير يزعم أن الحياة مستمرة بتطورها لأن فيها قلّة من الحالمين، وقولي بأن الحالمين قلّة لأنهم مرافقون دوماً للمعاناة، ولهذا ترى من يرافقون المعاناة قلّة، بل لنقل أن المعاناة ترافقهم، لأن المعاناة لا ترافق المترفين، ولكي نستسيغها فعلينا أن نحلم بزوالها، والزوال هو معاناة أخرى، صليب ينوء بحمله كتف الحالم.
العاشق حالم بيوم آخر يكون فيه أكثر قرباً من حبيبته، والجندي حالم بيوم لا يهدد خطر الموت حياته، وصاحب النظرية حالم بيوم البرهنة عليها، والحاكم حالم بصبيحة يوم لا يسمع فيه بيان رقم واحد على نعش زمنه، حتى الكائنات في الغابة والبحر ربما تحلم بيوم آخر لا تُفترس فيه، وأنا مثل غيري حالمة بيوم أحلق عالياً ولا تنطوي رقبتي إلى الأسفل وأخرّ ساجدة على الأرض. وعند بعض الأجناس من البشر يُعد كلامي هذا هرطقة وتخريف، ففي الديانات الموّحدة يُعد منتهى حلم الإنسان أن يخرّ ساجداً على الأرض تعبداً وخشوعاً لمن خلقه، لكنني ما خُلقت كما الإنسان ، هو يعد السجود كمالاً لخلقه، وأنا أعد السجود تفتتاً لوجودي، هو يعد السجود التفاتاً لخطاياه، وأنا أعد السجود منتهى الخطيئة لو أجبرني الظرف وفعلته، هو يعد السجود ركناً لصليبه على جانب، وإراحة لتعب كتفه من حمله، وأنا أعده صليباً سأعاني منه طويلاً.
الأسباب كثيرة وتعدادها يُورث الألم ويُرجعني لمفهوم المعاناة وتطوره بفلسفتي، يُرجعني لمنشئي يوم وجدت في الجبال القصيّة، يتفتت وجودي لأمنح البهجة لغيري، ولا يعنيني أمر هذا الغير إن كان على حق أم على باطل، لأن مفهوم الندم ملغى من مُخيّلتي، فهي دوماً مُخيّلة شريرة، مخيّلة ترى أن المفلس في القافلة هو الرابح، وأنا حتى مع هذه المقولة خاسرة، لأنني في النهاية يتفتت وجودي، ولا أخلف لغيري غير اللعنة وبحراً من دموع، وما دمت سأتفتت فما الداعي لتأسفي على ما سأخلفه من لعنة ودموع؟ وعلى من يريد الاعتراض على سوءتي هذه أن يعيش معاناة التفتت مثلما أعيشها أنا، فالسعادة لا توصف بالكاملة إن لم يتشاركها طرفان، فمثلا: هل يحق لنا أن نصف شعور زوج يرغب العيش مع زوجة أنه يعيش السعادة ولا تشاطره هي ذات الشعور؟ وما شعور الفريسة ومفترسها يعيش سعادة صيدها؟.
ملمسي ناعم حد الترافة، لكنني عندما ألمس جسماً حياً يرافق فعلي الخدر المصحوب بالإغفاءة، فقد جُبلت على جعل ملامستي فيها إغفاءة حالم، قد تكون مؤقتة وقد تستمر طويلاً، ولا تكون ملامستي حميمية إن لم تهتزّ لها شغاف قلب من ألامسه، ينسى بها الحاضر والمستقبل وتترا عليه صور الماضي سريعاً، صور الأحبة تتسابق الولوج إلى مُخيّلته، كأنه ما شبع من تفاصيل وجوههم يوماً! واللحظات بكل حزنها وفرحها تستبيح ذاكرته، وتحتل لحظته الحاضرة، تغيم الرؤيا أمام ناظريه وينشغل باحتلال الحاضر، يمسك الزمن فيندلق من بين يديه سريعاً، ويبقى شوق حميميتي لمن ألامسه شوقاً مكرراً مع كل حالة احتضان واضمامة لي، وهي حميمية من نوع خاص، نوع مُعذّب لا يعرفها إلّا المدخّن الذي يتلذذ بدخّان سيجارته وهو يعلم أن هذا الدخّان ينهش قفصه الصدري ببطء وروية.
كلّما انطلقت من مكمني فرحة بحريتي يزداد غضبي احمراراً، وكلّما ابتعدت تنازعني شعور أنني حرة طليقة، وكلّما اقتربت من أقصى ارتفاع لي نازعني شعور الخذلان، وافترت همتي، واقتربت من لحظة السكون التي تتوسط بين الارتفاع أكثر ولوي العنق أسفلاً.
ولا أدري ما هذا التناقض في المشاعر بين جنسي وجنس الكائنات الأخرى: فهي تحمرّ غضباً في لحظة الخذلان، وتهدأ ويزايلها التوهج لحظة الانشراح، وأنا أغضب محمرّة لحظة انطلاقي لنيل حريتي، وأهدأ منطفئة من حرائقي لحظة خذلان حلمي بالبقاء عالياً والتواء رقبتي؟.
ومنذ أن قُدحت من يد الخالق فكرة في ذهن جدي وأنا أحلم، أحلم أن أبقى طائرة دون أن يتعب جسدي، وتنهك قواي، ويلتوي عنقي، أحلم أن أبقى تلك الفكرة الجميلة في ذهن جدي نوبل لأُعين عمال المناجم بتفتيت الصخور واستخراج الذهب منها، أحلم أن لا يلتوي عنقي ومدفع يرميني قذيفة تجتاح بلداً وتهدم سلماً عالمياً!.
كاتب مثقف:
قرر أن يكتب عن هموم الناس، دخل غرفته وأغلق بابها!.
طبقية:
اعتصره الجوع، فحار! القمامة أي غني يذهب؟.
ماء آسن:
خرج من البئر الآسن، حاول أن يتذوق ماء بئر ثان، فأبصر وجهه في قاع البئر الأول!.
تكتيك:
منذ سنين وهو يمشي لعمله قرب حائط تعوّد كل صباح ومساء على المطبات فيه، لكنه أخيراً، عندما عرفته الناس يمشي مكشوفاً في الشارع، اكتشف أن المطبات أمامه ومن حوله أكثر مفاجأة له من تلك التي كان يعرفها!.
[1] - طرّة وكتبة: لعبة عراقية تعتمد على الحظ في تخمين وجه قطعة النقد التي يغطيها اللاعب تحت كفه، ولكسبها على الآخر أن يعرف وجهها الظاهر إلى الأعلى ما إذا كان: (طرّة: الوجه المرسوم عليه رمز العملة) أو (كتبة: وجه الكتابة)؟.