يسلط الكاتب الضوء على الكيفية التي صاغ بها الشاعر السوري المرموق شعريته المفردة، حيث ينسرب الشعر من تعدد اللغة الجمالية، ويعلن عن نفسه وهو يستند على الرسم والسرد والعبارة في عمارة النص. دون أن يفوته ترك المجال أمام القارئ للمتعة وبناء نصه الخاص من خلال تمثُلِه لما يعتمل في دواخله من سعي دائم نحو الاكتمال شعرا.

التزاوج المدهش بين الشعر والرسم والرواية

في مجموعة الشاعر السوري منذر مصري «تجارب ناقصة»

المثنى الشيخ عطية

 

من ضمن أوجه إبداعها العديدة، تُبرز مجموعةُ الشاعر السوري منذر مصري “تجارب ناقصة”، بقوة، بَوَاطِنَ الإبداع في تفاعل الأعمال الفنية، الذي يَعرف المهتمون بالفن أحد أبرز وجوهه فيما فعل بيكاسو على صعيد تفاعل الفن التشكيلي مع جنسه، بأعمال شهيرة صاغها بأسلوبه وتم جمعها في كتاب شهير يعكس أحد جوانب إبداع بيكاسو. ويعرف المهتمّون بالشعر كذلك إبداع تفاعل الشعر مع الموسيقى، كما فعل الشاعر البحريني قاسم حداد كمثال مع موسيقى الحجرة، ويعرف جميع القراء تفاعل جميع الأعمال الفنية الناجحة مع مكونات الثقافة الإنسانية، بما يضفي تداخل الرؤى لإمتاع الإنسان وإغناء روحه بما تتوق إليه من معرفة تزيل الخوف، ومن تنويرٍ يفتح فضاءات الرؤى للإنسان.

تجارب منذر مصري “الناقصة” على صعيد تفاعل الشعر مع أعمال شهيرة في الفن التشكيلي بصورة خاصة، إضافة إلى تفاعله مع عمل روائي شهير، هي إحدى إبداعات التفاعل الخلّاق بين الأجناس الفنية، الجديرة بالقراءة والاهتمام وعيش متعة إبداعها.

متعةٌ مضاعفة، غيرِ كاملةٍ لأنّ متعة عيش الفن هي هكذا مثلما الفنّ الذي يُطْلقها لكي يتجنّب العدم؛ ومتعةٌ مضاعفةٌ فيّاضةٌ بمُتَعٍ تتوالد عنها من أسرار قصيدة النثر المدهشة في تخلّقها للوجود. ومتعةٌ مضاعفةٌ متقادحةٌ بشررَ نبضات العروق في تزاوج الشعر والفنّ التشكيليّ والأعمال الروائية، كما انتقال غبار الطلع بين مياسم وكؤوس الورود. متعة مضاعفةٌ فيّاضةٌ متوالدةٌ بالخيال، ويدرك شاعرها ما يفعل من تفاعلٍ حين يُكوّن ويُجَمّع قصائدها في باقاتٍ تحت عنوان “تجارب ناقصة”، ويُكملُه بـ: لم يُفسدْها الكمال.

وربما كان هذا ولا شرط إن كان هذا مدرَكاً هو سببُ اختيارِ منذر مصري تخصيصَ الفصل السادس الأخير من المجموعة، وإنْ بغير الشعر، لتجارب الحبّ الناقصة التي عاشَها أساطينُ الموسيقى كتجارب “عاطفية مزرية” أودت بسلام حياة أبطالها للفوضى، لكنّها ربما بهذا أودت برأس مسجّلة الشاعر إلى أن يحترقَ وهو يستمع لبيتهوفن، كما يقسم.

وحيث أن الشعر المعتّق كالنبيذ المعتّق، يعكس عيش القارئ متعةَ قراءة صفحات دواخله، أكثر مما يعكس برودة نرجسية وجه ذاته، تفعل قصائد منذر مصري في هذه المجموعة فعل مرآة الذات أمام القارئ الذي يمكنه أن يرى نفسه في القصيدة، مثلما رأى الشاعر نفسه على سبيل المثال، في تفاعله مع رواية “القزم” للسويدي بار لاغاركفيست، الصبيّ الجائع بين غلمان حملة المشاعل، في القصيدتين اللتين شكّلتا فصل “وليمة الأمير ليّو”: (أحد أولئك الغلمان أنا، وجثث تزحف في العتمة). وربما انعكس في مخيلة القارئ واقعه، فرأى في وليمة الأمير ليو، بتحريض ترجمة الاسم إلى الأسد، مزرعة الأسد الصغير التي كان اسمها سوريا، وعاش مع الشاعر حالة الصبيّ الجائع أمام أنهار البذخ في الوليمة، وما يفعل الباذخون من جَزْرٍ لبعضهم خلال جَزْرهم لشعبهم، في الوليمة الدموية:

“كنتُ أجري عائداً من معسكر الجنود

عندما اصطدمتُ بفارسٍ يرتدي سترةً من الشبك المعدنيّ

ويضع على رأسه خوذةً مذهبةً

رسم عليها وجهَ امرأةٍ تحيط به

الثعابين

وهكذا وجدتُ نفسي للمرّة الأولى

ولم أكن قد تجاوزت العاشرةَ

داخل قصر أميرنا (ليّو)

الذائع الصيت

... زمناً طويلاً مكثتُ واقفاً

رافعاً بيديَّ مشعلاً ثقيلاً

أراقبُ أطباقَ الطيور المحشوّة

والخنازير المشويّة المحمَّرة

وتلال الفاكهة والحلويّات

تنهشُها براثنُ أيدٍ لامعةٍ

كنت أستطيعُ بعد خُفوت شعلةِ مصباحي

أن أثْنيَ ساعدي قليلاً

دون أن يُحرق وهجُها وجهي

حين حلَّ فجأةً

هرجٌ شديدٌ

تعالت به الصّرخاتُ والحشرجاتُ

فلم أدركْ ما إذا كان هذا الذي يجري أمامي

حلماً أم حقيقةً

حين رأيتُ جماعةً من جنود الأمير

ومن بينهم صاحبُ الخوذة المذهّبةِ

الذي حملني إلى هنا

وهم يقتحمون القاعةَ

ويَعملونَ بسيوفهم ضرْباً وتقطيعاً

على الرؤوس والأجساد

... عمَّ الهلعُ الجميعَ

وراح أقراني من الخدم والغلمان

يلوذون بالفرار

بعد أن ألقوا أرضاً ما بأيديهم من المشاعل والمصابيح

وكان عليَّ أن أحذو حَذوهمْ

غير مبالٍ

بما كان يسيلُ له لعابي من طعام الوليمة

الذي بات لدهشتي

لا يبالي به أحدٌ

فركضتُ أدوس بقدميَّ الحافيتين

جثثاً

زحفتْ في العتمة

وانتشرتْ

في كلّ مكان”.

في بنيتها الظاهرة الناقصة لكي يكون الفنّ مفتوحاً، يشكّل منذر مصري مجموعتَه بخمس باقاتٍ من قصائد النثر هي:

1: “نزهة في أروقة متحف الفن الغربي”، وتضمّ ثلاثاً وعشرين قصيدةً، تتفاعل مع أعمال فنية لـ: مايكل أنجلو، ليوناردو دافينشي، بيتر بروغل، رمبرانت، غوستاف كوربييه، بول سيزان، فنسنت فان غوخ، أوغست رودان، جوزيف سنيلر، موريس دي فلامينك، وإدوارد مونش. مع مقدّمةٍ عن علاقة الشاعر كرسّام بهذه الأعمال.

2: “كتاب الهند الصغير”، وتضمّ أربعة عشر قصيدة، تتفاعل مع أعمالٍ من الفن الهندي الموزّع في المتاحف العالمية.

3: “أسمع قرع أجراسكَ”، وتضمّ قصائد تتفاعل مع ذات الشاعر، مكتوبةً في كفرفو، سوريا.

4: “وليمة الأمير ليّو”، وتضمّ قصيدتين تتفاعلان مع رواية “القزم”.

5: “كيس قمامةٍ وحمامةٌ نافقةٌ ويومٌ مفقوعٌ آخر”، وتضمّ ثلاث قصائد عن مجازر الثمانينات في سوريا، والإحساس بها، دون تسميةٍ مباشرةٍ.

ويضيف الشاعر باقةً سادسةً هي: “الحياة العاطفية المزرية لأساطين الموسيقى”، وتضمّ تسع مقالاتٍ عن تسعةِ موسيقيين هم: لودفيغ فان بيتهوفن، كارل ماريا فون فيبر، فرانز شوبرت، هيكتور برليوز، فريدريك شوبان، شومان، فييلكس مندلسون، فاغنر، وأنطون بروكنر.

ويبدو جليّاً من خلال أهمية الأعمال الفنية والأسماء مدى ما تحفل به المجموعة من ثراءٍ ثقافي مستقل بذاته، وثراءٍ فنّي متفاعلٍ ومحرّض للرؤى في تفاعل الشعر مع هذه الأعمال والأسماء.

في بنيتها العميقة، لا تتجلّى رؤى الشاعر حول الفنّ والأدب فحسب، وإنما كذلك حول الإنسان وإنْ بثياب الظّلال التي تفتحُ فضاءاتِ تساؤله عن الوجود والخلق والحبّ والتطوّر والحلول، كما المجازر التي يرتكبُها في ظلّ الخوف والأطماع والرغائب.

وفي هذه البنية العميقة يتجلّى أسلوب منذر مصري بكتابة قصيدة النثر، في تميّز لافت باستخدام السخرية العميقة، سواءٌ مع الخالق والمخلوق أيهما هو؟ في ثني مايكل أنجلو ركبةَ الرِّجل اليسرى لآدم بقسوة، كي تستند إليها يده، لتصلَ إليها سبّابة الربّ، وتهبَه نعمة الحياة، وسواءٌ في ملامح وجه آدم وهو يتلقّى هبة الحياة لأول مرّة، والتي “على سذاجتها حين ذاك، لا تنبئ من أيّة زاوية نظرنا إليها/ عن عرفاننا بالجميل”. وسواءٌ كذلك في حيرة آدم مشدوداً بين الإله والشيطان ومتسائلاً إن كان اللذان يشدّانه نحوهما أخوان أو ربّما كانا توأمين؟ وسواءٌ في مجازر الإنسان التي تتْبعُ مراكمته الثروات والمباذخ التي لا يبالي بها أحدٌ لحظة حدوث تبادل المجازر.

ويساعد في بلوغ هذه السّخرية عمقها البليغ، أسلوبُ استخدام السّرد الذي يَحملُها كريشةٍ تتلاعب بها نسائم اللغة البسيطة غير المتراكبة في السّطر، والمعوّضة عن التراكب باستخدام الإدهاش في تراكب الأسطر، وقفلات القصائد، كما يبدو ذلك جلياًّ في الوليمة الدمويّة للأمير ليّو.

وفي الختام الناقص كذلك حيث يستعصي حجم القراءة، كي يفتح المجال للقارئ في الاستمتاع بما يرى من تفاعلات دواخله مباشرةً مع عيش النصوص الهاربة من سيف الاكتمال إلى الشعر، لا يسعُ القراءةَ إلا أن تضيف تعريفَها الناقص كذلك للشاعر منذر مصري في أنّه: شاعرٌ ورسّام سوريّ ولد في مدينة اللاذقية عام 1949، وأصدر نحو عشرين كتاباً في الشعر والمقالة والمسرح والسيرة. من مجموعاته الشعرية: “آمال شاقة” الأولى، عام 1978، في طبعة محدودة التوزيع، و“داكن”، المجموعة التي صدرت عن وزارة الثقافة السورية سنة 1989، وأعاد الشاعر طبعها بعد 15 سنة، ومجموعاتٍ أخرى بينها “بشر وتواريخ وأمكنة”، “مزهرية على هيئة قبضة يد”، “الشاي ليس بطيئاً”، “من الصعب أن أبتكر صيفاً”، و”حقل الفخار”.

* * *

منذر مصري: “تجارب ناقصة“

دار الأدهم للنشر والتوزيع، القاهرة 2019. 123 صفحة.

(عن القدس العربي)