نقدم هنا ترجمة لحوار أجرته مجلة الفلسفة الفرنسية مع بيير هادو يتحدث فيه عن الفلسفة باعتبارها استغراق في الذات واهتمام وجودي بالعالم في الأن نفسه. فلسفة يضنيها ما يدور في عالم اليوم من ضيق الأفق، وسيطرة النفاق والتعصب واستغلال الفرد، فتسعى لتدريب النفس على الارتقاء على هذا كله.

الفلسفة بوصفها تمرينات روحية

بيير هادو

ترجمة: يوسف اسحيردة

 

الأبيقورية، الرواقية، الشكاكية، الكلبية، المتعوية ... لماذا هذه التيارات الفكرية التي كانت سائدة عند القدماء تعني نمطا للعيش، موقفا أساسيا أمام الوجود، وليس فقط نظاما مفاهيميا؟ لأن الفكر عند القدماء، كما يُشير إلى ذلك بيير هادو، هو مكان نتعلم فيه كيف نعيش. بيير هادو الذي ولد في مدينة ريمس الفرنسية، كان باحثا في المركز الوطني للبحث العلمي (cnrs) وأستاذ في الكوليج دو فرانس. هذا بعد دراسات في الفلسفة وعلم اللاهوت (التيولوجيا)، وبعد مرور في الرتب الكهنوتية، قبل أن يفرض نفسه كواحد من المتخصصين في الفلسفة الهلنستية. نذكر من الفلاسفة القدماء الذين قام بالترجمة والتعليق عليهم: أفلوطين، ابيكتيتوس، ماركوس اوريليوس، ماريوس فكتورينوس، وغيرهم كثير.

في كتبه المتمكنة، الشخصية والمتاحة للجميع، يقوم بتسليط الضوء على "التمرينات الروحية" الخاصة بالفلاسفة القدماء (" الرؤية من أعلى"، "التركيز على الحاضر"، " التصور الكوني") والتي يكمن هدفها في تحويلنا من الداخل عن طريق تغيير نظرتنا للعالم. منذ سقراط حتى اليوم، المهة تبقى هي نفسها: "الوعي بالمشكل الحي الذي نشكله بالنسبة لأنفسنا."

-  مجلة فلسفة: في كتابك "الفلسفة كطريقة للعيش"، تحكي عن تلك الحادثة التي تعرضت لها وأنت مراهق، واكتشفت من خلالها، بطريقة ميتافيزيقية، إحساس الوجود. هل يمكن اعتبار أن ولعك بالفلسفة ابتدأ منذ هذه اللحظة؟

-  بيير هادو: نعم. كانت هذه أول تجربة فلسفية لي وسيطرت على كل حياتي. رغم أني لم أعي في الحال حجم الحادثة ومدى تأثيرها، فقد عشتها كاكتشاف جديد. قبل هذه الحادثة لم أكن أملك وعيا بذاتي. وفجأة، أمام السماء المتلألئة بالنجوم، وفي مرتين جربت - مازلت أحتفظ بالأمر في ذاكرتي - الشعور الطازج بوجودي. في نفس الوقت، كان الحال كما لو أنني أشعر بانتمائي إلى هذا العالم وانغماسي داخله، من تلك النبتة الضئيلة حتى النجوم المتناثرة. ميشال هولان ينعت هذا الأمر ب "التصوف الوحشي" .

إنها تجربة مرعبة ولذيذة في نفس الوقت، وقد قمت بإعادتها مرات بعد ذلك – مثلا وأنا أتأمل سلسلة جبال الألب من بحيرة ليمان أو أمام بحيرة ماجور في أسكونا السويسرية. كل هذا حدد مفهومي للفلسفة التي أنظر إليها كتحول في كيفية إدراك العالم. أو كما قال ميرلو بونتي، الفلسفة هي مجهود من أجل إعادة تعلم كيفية رؤية العالم. من جهة ، هناك الحياة اليومية التي نعيشها في حالة نصف وعي بسبب عاداتنا اليومية، ومن جهة أخرى، هناك هذه اللحظات والمواقف والتي من خلالها نعيش ونحس الأشياء بشكل حاد ومكثف.

-  مجلة فلسفة: إذن، الفلسفة، بالنسبة لك، ابتدأت عن طريق التجربة وليس القراءة...

-  بيير هادو: لكي أكون دقيقا معك، يجب القول بأن قراءة باسكال وضعتني بدون شك على أول الطريق، وهيأتني نفسيا لذلك. في خواطره، التي هي في الأساس عبارة عن تغن بفضائل المسيحية، يتكلم باسكال كثيرا بلسان الكافر، الذي يشعر بالقلق أمام "الصمت الأبدي لهذه الفضاءات اللامتناهية". يقول مثلا:

" لا أعرف من وضعني في العالم، ولا حتى ما العالم أو من أنا، أشاهد هذه الفضاءات الكونية المخيفة التي تحيطني من كل جانب وأجد نفسي معلقا بزاوية صغيرة من كل هذه المساحة الشاسعة، دون أن أدري سبب وجودي في هذا المكان بالذات دون آخر، ولماذا هذا الحيز الضئيل من الوقت المخصص للعيش ممنوح لي في هذه النقطة بالذات عوض نقطة أخرى من كل هذا الزمن الهائل الذي سبقني أو الذي سيجيء من بعدي. لا أرى إلا اللامتناهيات من كل جانب تسجنني مثل ذرة ومثل ظل لا يستمر إلا لحظة قصيرة قبل أن يختفي إلى الأبد ودون رجعة. كل ما أعرفه، هو أني سأموت قريبا، لكن ما أجهله أكثر هو هذا الموت الذي لا يمكنني تجنبه."

خواطر باسكال التي رسخت في ذاكرتي، جعلتني قادرا على فهم ما أحسسته أمام شساعة ولامحدودية النجوم السماوية.

-  مجلة فلسفة: عند أبناء جيلك من الوجوديين كسارتر أو هايدغر، إحساس الوجود متعلق بعرضية وعزلة الإنسان. تصورك للوجود يبدو أقرب إلى الانبهار منه إلى القلق.

-  بيير هادو: نعم، إحساس الوجود بالنسبة لي، كما بالنسبة لروسو، هو عبارة عن إحساس بالسلام الداخلي والطمأنينة. ما يهم هو اللقاء مع الطبيعة، حضور العالم، النجوم. لكنني لا أخدع نفسي: الصراع الذي تعج به الحياة، والذي هو بمعنى ما محرك للوجود، أمر فظيع من وجهة نظر إنسانية. في هذا الإطار، الأصح هو إضافة الرعب إلى الانبهار كمكون أساسي لإحساس الوجود.

-  مجلة فلسفة: اشتغالك على الفلسفة الهلينية أحدث ثورة في الفكرة التي كنا نكونها عنها قبل ذلك. كيف تشكلت عندك هذه النظرة الجديدة؟

-  بيير هادو: الأمر لم يأت كنزوة شخصية طبعا. لم أكن أملك أي فكرة مسبقة حول الفلسفة ودورها العلاجي. هذا الأمر جاء، أولا، كجواب على انشغال أدبي بسيط يتعلق بفهم سبب تهافت النصوص القديمة. في ذلك الوقت، كنت أشتغل على كاتب لاتيني، متأثر بالأفلاطونية الجديدة، ماريوس فيكتورينوس. وجدت عنده صفحات بأكملها لا تفيد ظاهريا الحجاج في شيء. يتعلق الأمر بعروض مجانية لا تفعل شيئا سوى إثقال كاهل الاستدلال. نجد هذا الحال عند كتاب آخرين كأفلوطين مثلا. من هنا الانتقاد الذي يوجهه المُفسرون الحداثيون المهوسون بالنسقية والنظام، إلى الفلاسفة القدماء متهمين إياهم بالتهافت والتناقض بالإضافة إلى التأليف السيئ.

بعد البحث فهمت أن هؤلاء الكتاب كانوا يؤلفون، ليس من أجل تقديم منظومة فلسفية ما أو أي نظرية متناسقة أخرى، بل كان كل هدفهم هو خلق مفعول لدى المتلقي. كان همهم هو تشغيل عقل المستمع أو القارئ حتى يضع نفسه في وضعية معينة. من هنا حشد كل الوسائل البلاغية والتخيلية بغية إحداث الأثر العميق في نفسية المتلقي. نجد مثل هذا الأمر في حوارات أفلاطون. وكما كان يقولها فيكتور غولدشميت، فهذه الحوارات تُكون (former) أكثر مما تُبلغ (informer). إذا تصرف القدماء على هذا المنوال، فلأن هدفهم كان تحويل التلامذة إلى أنماط جد محددة من العيش.

-  مجلة فلسفة: ومن هنا ربما فكرة الفلسفة ك "تمرين روحي"؟

-  بيير هادو: في الحقيقة، لم أكن مهتما بالجانب الأخلاقي أو حتى الديني للتمارين الروحية. كنت بصدد كتابة المقال السنوي للمدرسة التطبيقية للدراسات العليا التي كنت مديرا لها. كنت أريد وصف الطريقة التي كان من خلالها يتواصل الفلاسفة القدماء مع قرائهم ومستمعيهم. في آخر المقال قلت مع نفسي: في واقع الحال، الكثير من الناس يبحثون على أنماط حياتية في الروحانيات الأخرى كالبوذية مثلا. في حين أن هذه التمارين كانت موجودة عند الإغريق أنفسهم، والذين كانوا يختارون أسماء مدارسهم الفلسفية حسب أنماط العيش التي كانوا يقترحونها. الرواقيون والابيقوريون كانوا يقدمون تعاليما روحية حقيقية توجه كل حركاتهم وسكناتهم. تجرأت على كتابة هذا الامر. مقالي أثار انتباه ميشال فوكو الذي كان مهتما ب "الانهمام بالذات Le souci de soi"

بالنسبة لي، هذا الأمر يخترق كل الفلسفة الاغريقية. عند أفلاطون كما عند أرسطو، النمط الحياتي الذي يحتل الواجهة ليس أخلاقيا بل علميا، يتعلق الأمر بالتأمل اللامبالي للطبيعة. لكنها غاية توجه الوجود برمته. مثال سقراط، المستعد لتضحية بحياته باسم هذا الوفاء، هو خير برهان.

-  مجلة فلسفة: ما هو تعريفك للتمرين الروحي؟

-  بيير هادو: هو تمرين للذكاء، الإرادة أو التخيل هدفه الأساسي هو تغيير، سواء علاقتنا بالعالم، أو طريقة عيشنا، أي سلوكنا. هو ممارسة إرادية وشخصية تهدف إلى تحويلنا من الداخل. عمليا، يتعلق الأمر بالتركيز على الحاضر، بممارسة الرؤية من أعلى (أن تنظر إلى نفسك أو إلى أي شيء آخر كما لو أنك في السماء) أو بالخروج من الذات ... من أجل الوصول إلى وضعية روحية متميزة (الاستفادة أكثر من العالم أو الخروج منه). ميشال فوكو يتحدث عن "ممارسة الذات". هو تعبير غريب يعني الاشتغال على الذات. التعبير المستخدم ليس مهما. المهم هو أن نفهم أنه لا يعني تقنية بسيطة أو وصفة جاهزة، بقدر ما يعني البحث عن وضعية، عن موقف ما. في الواقع ، يتعلق الأمر بوضع الحرية في خدمة الحياة نفسها.

-  مجلة فلسفة: قبل الفلسفة، كنت قد اخترت الميدان الكهنوتي. هل هذا معناه أنك وجدت في الزهد الفلسفي ما لم تجده في الدين؟

-  بيير هادو: لم يخب أملي في الدين بقدر ما تحررت منه. الأمر الذي يعني التحرر من أم متغطرسة. عَنَّ لأمي أن تجعل من أبنائها رهبانا، فوجهت دراستنا في هذا الاتجاه. شيئا فشيئا انفصلنا عن الدين. كنت ابلغ الثلاثين من العمر، لم أكن حينها قد فقدت الإيمان بالكامل، لكني كنت مختلفا مع الرسالة الدورية التي أصدرها البابا بيوس الثاني عشر ويرفض من خلالها "نشوئية" الكاهن تيلحاد دو شاغدان الذي كان يسعى إلى مصالحة مبدأ الخلق مع نظرية التطور. فكرة أنه بالإمكان جمع كلا الموقفين هو ما جعلني أستمر في الكنيسة. وبما أنني تربيت بعيدا عن النساء، فقد سقطت في الحب، وتزوجت، لكن بسبب قلة تجربتي، كان زواجي الأول فشلا ذريعا. وبالتالي فالفلسفة لم تلعب أي دور في قطيعتي مع الكنيسة.

-  مجلة فلسفة: هل فقدت الإيمان؟

-  بيير هادو: اليوم، أُعرّف نفسي ك "لاأدري متصوف". أرفض فكرة الإله المهندس أو الصانع، وأيضا الإله الغاضب الذي يوجد في الكتاب المقدس. لكن القوة التي تسير الكون تبقى لغزا محيرا. تبقى سرا. من هذا المنظور، فانا لاأدري. لم أكن قط مؤمنا متحمسا. في أول قداس أحضره، قال لي جدي هذا أسعد يوم في حياتك. لم أكن متأكدا من ذلك الأمر.

-  مجلة فلسفة: كيف جاء اهتمامك بالرواقية والابيقورية؟

-  بيير هادو: بعد أطروحتي حول فيكتورينوس، وهو مؤلف ينتمي إلى الأفلاطونية المحدثة، كتبت كتابا حول أفلوطين ونظرية "الواحد". لمدة شهر، بدون توقف، وبدون الخروج من منزلي. عندما انتهيت، قصدت المخبزة بغية شراء الخبز، وأحسست حينها أن هذا العمل كان بعيدا عن الواقع. لكي أعالج الأمر، توجهت نحو الرواقية والابيقورية. بغض النظر عن المزحة، فقد كنت معجبا بصوفية أفلوطين، لكن شيئا فشيئا حب العالم أبعدني عن صوفية تقزم العالم وتختزله، في حين أن المفروض هو احتضان كل مكوناته مهما كانت صغيرة ومتواضعة، باعتبارها مؤشرا على لغز الوجود. النصوص الرواقية، بفضل نمط العيش الذي تقترحه، تبدو لي أقرب إلى فهم واستيعاب معاصرينا.

-  مجلة فلسفة: نضع غالبا زهد الرواقيين في مواجهة متعوية الأبيقوريين. بالنسبة لك، يتعلق الأمر بوجهين لعملة واحدة. كيف ذلك؟

-  بيير هادو: عادة ما يتم ربط الأبيقورية بالمتعة. لكن، يجب فهم أولا ماذا يعني الأبيقوريون بالمتعة، الأمر جدي للغاية. المتعة بالنسبة لهم هي نهاية كل ألم. إذا كانت الروح مريضة وحزينة، فلأنها لا تستطيع كبح رغباتها. بالنسبة للأبيقوريين، فهم يحصرون رغباتهم في تلك الرغبات الطبيعية والضرورية (الحاجات الأساسية)، وأحيانا، في الطبيعية فقط. لكنهم يديرون ظهورهم لكل متعة ليست لا طبيعية ولا ضرورية. يتعلق الأمر بزهد موغل في التقشف، هدفه تحرير الإنسان من مخاوفه واكراهاته. بالرجوع إلى كل من كانط وجوته، يمكن القول، بأنه في الحياة، توجد ظروف يجب على المرء أن يتصرف حيالها كأبيقوري يجيد فن الاسترخاء، وظروف متوترة، غالبا ما تكون مأساوية، يتعين على المرء أن يتحلى خلالها بالقوة والنشاط، ويؤدي واجبه بضمير حي كرواقي.

-  مجلة فلسفة: هل شكلت أحداث القرن الماضي، بالنسبة لك، مصدرا للتفكير؟

-  بيير هادو: في شبابي، لم يدر بخلدي قط أنني سأمارس، في يوم من الأيام، أي نشاط سياسي. لاحقا، انشغلت بمهنة التدريس والبحث، التي أعتبرها واجبي الأول. قمت بتوقيع عوارض. وحضرت مظاهرة مرة واحدة. كان ذلك أيام حرب الجزائر عندما كان هناك انقلاب عسكري للجنرال دوجول. قابلت خلالها زميلا في العمل قال لي بالحرف: "يجب أن يقع حدث جلل حتى تقبل الخروج إلى الشارع." اعتبرت نفسي دائما كيساري. في المجمل، يمكن القول بأنني لم أتفاعل بما يكفي، ومع ذلك أشعر بألم عميق لعجزي عن المشاركة بالقدر الكافي في التصدي لمآسي البشرية الفاضحة، والمترتبة عن وقاحة، نفاق و تصلب شرذمة من البشر.

-  مجلة فلسفة: هل يمكن اعتبار الفلاسفة كمصدر للسعادة؟

-  بيير هادو: قد يكون هذا صحيحا عند الأبيقوريين. عند الرواقيين، الأمر مختلف، فهم لا يبحثون عن السعادة بقدر ما يبحثون على العيش بتناغم مع العقل الكوني. يبحثون عن حياة معقولة مكرسة من أجل خدمة الآخرين. ميشال فوكو تكلم كثيرا على ما يسميه ب "الانهمام بالذات"، لكن الأهم ليس هو الانهمام بالذات، بل الانهمام بالآخرين والعالم.

-  مجلة فلسفة: ومع ذلك، فكتابك الأخير المخصص لجوتا يحمل عنوان "لا تنسَ أن تعيش." ويبتدئ بمقولة لفاوست: "إذا الوعي لا ينظر، لا إلى الأمام ولا إلى الخلف، الحاضر وحده يشكل مصدر سعادتنا."

-  بيير هادو: كل المشكل يكمن في معرفة معنى السعادة. بالالمانية، كما بالفرنسية، السعادة تعني أيضا الحظ أو الفرصة المناسبة « la bonne heure الساعة المناسبة». في الجوهر، يتعلق الامر بنفس الشيئي. ضرورة إيجاد الفرصة المناسبة، الساعة المناسبة. جوتا يقول عن الزمن الحاضر بأنه فرصتنا، ففي الحاضر وحده، وليس في ماض نتأسف عليه، أو في مستقبل ننتظره، يمكننا التصرف. إنه الفرصة الوحيدة الممنوحة لنا. فيما يخصني، أعتقد بأن دور الفلسفة، هو توفير الفطنة، وبالتالي وعي أكبر بشساعة الوجود.

- حوار نشر في مجلة Philosophie Magazine صيف سنة 2008، سنتين قبل وفاة الفيلسوف.