توطئة:
يرد في التّآليف النّقديّة الحديثة ذِكراً متواتراً حِيال موضوعة المكانة السّامقة التي غدت تتبوؤها شخصيّة النّاقد الجهبذ ابن رشيق القيروانيّ (ت463هـ) دونما سواها مِن شخصيّات النّقاد المغاربة الذين جايلوه، وليس مِن شكٍّ في أنّه ما مِن دارسٍ لمضامين الدّرسين النّقديّ والبلاغيّ العَربيين إلاّ ويستوقفه مُؤلّف "العُمدة في محاسن الشِّعر وآدابه ونقده"؛ نظراً لاتّساعه المَهِيع في كثيرٍ مِن القضايا البلاغيّة والنّقديّة، ولا ضَير أن يكون هذا المُؤلَّف بمثابة بوّابة الدّرس البلاغيّ للدّارسين العَرب، إذْ أنّ ابن رشيق قد عَمَد إلى تقسيم كتابه "العُمدة" إلى عددٍ مِن الأبواب، وتندرج تحتها عديد المسائل النّقديّة المستحدَثة أو المتداولة في عصْره.
إلاّ أنّ الأمر المستجَد الذي حمله ابن رشيق في كثيرٍ مِن تضاعيف مُؤلَّفاته هو اتّجاهه الواسع إلى إجرائيّة نقد النّقد، وذلك مِن خلال إيراده لكثيرٍ مِن القضايا النّقديّة التي كانت متداولةً في عصره بيْن النّقاد وِفق رؤيةٍ نقديّةٍ مُتفرِّدة، انطلاقاً مِن النّصوص المقدَّمة في كتاباته النّقديّة، ومنها مُؤلَّفه "العُمدة"، أو أنّ يضفي عليها ابن رشيق بصمته، إمّا في الطّرح، أو تجليّة لما جاء به قَبله أفذاذ النّقد العَربيّ وما ذَكروه في كثيرٍ مِن القضايا النّقديّة آنذاك.
دور الإشارة في تيسير عمليّة الفهم:
تعدَّدت مفاهيم مصطلح الإشارة "Signal" عند النُّقاد والبلاغيّين العرب منذ العصور الأولى إلى يومنا هذا. وعرفت بمسميات متباينة فمنهم من يطلِق عليها التَّلميح، ومنهم من يُوسِمها بالإيماء، وآخر يسمِّيها اسم ما يطلق على نوعٍ من أنواعها فيعرِّفها بالتَّلويح، وتُعرف الإشارة أيضاً بأنَّها ترميز، وتعريض، أو الحذف، وأمّا عن معناها الحديث فتُعرف عند النُّقاد المُحدَثين بمُصطلح العلامة، ومع كلِّ هذا التَّعدُّد المفهومي لمصطلح الإشارة إلاَّ أنَّها صارت مِن أهمِّ ما يتصل بالتَّوصيل والإبلاغ. بل ونلفها تمثِّل دور اللَّفظ في أحيانٍ كثيرة في عمليَّة التَّوصيل والإفهام، وهو ما يشير إليه الجاحظ في قوله: "والإشارة واللَّفظ شريكان، ونِعمَ العون هي له، ونِعمَ التُّرجمان هي عنه، وما أكثر ما تنُوب عن اللَّفظ، وما أكثر ما تُغنِي عن الخَطِّ"([1]).
فهذا ما يدلُّ دلالةً واضِحةً على الدَّور البارز الذي باتت تمثِّله الإشارة في تعويض ما كان يؤدِّيه اللَّفظ من دورٍ بالغ الأهميَّة في عمليَّة الإبلاغ، والإفهام أو التَّفهيم بين المتواصلين، فقول الجاحظ في هذا الموضع إنَّما جعل يَربِط غاية الإشارة في تحقيق الإبلاغ مقترنةً في كثيرٍ مِن الأحايين باللَّفظ، وحتَّى أنَّنا ما رأيناه مَحمولاً في التَّفكير البلاغيّ الجاحظيّ الذي أقرَّ في أكثر مِن موضع على أنَّ اللَّفظ والإشارة إنَّما هُما شريكان في عمليَّة الإبلاغ. وهذا ما نؤكِّد صحَّة مَنحاه، وفي نفس الوقت، وهو ما ليس يمكن أن يفنِّده أيّ ناقدٍ أو دارسٍ مهما كان مذهبه، ويتميز النقد عن الأدب من حيث أنّ "الأدب هو الأدب، ولكن النَّقد هو النَّقد، وإنَّ الأدب ينتمي إلى أشكال التَّبليغ في مستواها الأرقى، على حين أنَّ النَّقد ينتمي إلى الإيديولوجيَّات، والثَّقافات، والاتّجاهات الفكريَّة، والنَّظريَّات المعرفيَّة على اختلافها. فالكتابةُ أدبٌ قِوامه الخَيال، والنَّقدُ كتابةٌ قوامُها المعرفة."([2]) يخضع الأدب لاعتبارات نفسية وعواطف داخلية يتخصّب الخيال ويغدو وسيلة لتحديد مواطن الجمال فيه، أما النقد، فينحو منحى العقلانية والموضوعية التي تثبت شرعيته ومصداقيته.
وعطفاً على السِّياق ذاته، فنرى أنَّ ابن رشيق القيروانيّ إنَّما جَعل الإشارة مِن أهمِّ الآليَّات في صناعة الشِّعر، وعلَّة ذلك الشَّأن مَردُّها أساساً إلى الأثر البارز الذي غَدت تمثِّله هذه الأخيرة في رسم حدودٍ جماليَّة يُستحسَن بها الكلام، ويزدانُ بها سناءً وجمالاً، فتغدو الإشارة عند ابن رشيق "مِن غرائبِ الشِّعر ومِلَحِهِ، وبلاغة عجيبة تدلُّ على بُعدِ المرمى وفَرَطِ المَقدرة، وليس يأتي بها إلاَّ الشاعر المبرز وهي في كلِّ نوعٍ من الكلام لمحة دالَّة واختصار وتلويح يُعرف مجملاً، ومعناه بعيدٌ عن ظاهر لفظه."([3])
ولقد ألفينا ابن رشيق استرسل في تقديم الاستشهادات الشِّعريّة التي ساقها تبيِينا للدَّور الكبير الذي أضحت تتبوَّؤه الإشارة في إيصال وإبلاغ المعنى المراد، وممَّا أتى به مِن أشعار عربيّةٍ خالصةٍ، ما ذكره في دلالة الإشارة فقال([4]):
العَيْنُ تُبْدِي فِي نَفْسِ صَاحِبِهَا مِنَ المَحَبَّـةِ أَوِ الغَـضَبِ إِذْ كَانَا
وَالعَيْنُ تَنْطِقُ وَالأَفْوَاهُ صَامِتَةٌ حَتَّى تَرَى مِنْ ضَمِيرِ القَلْبِ تَبَايُنَا
يصِف الشّاعر وبتلميحٍ تامٍّ جوانيَّة الإنسان دون أن يتكلَّم ببنت شفَةٍ، إِنْ كانت نفسه فرحةً مغتبطةً تبديها مسرَّة العين حين اللِّقاء، وإنْ كانت مُكدَّرةً شقيَّةً تلقاه العين لُقيا ما خُفِي في القلب، لتبدِيه العين إشارةً وبياناً، ويعتبر فنّا إذ أن "فنّ تقويم الأعمال الأدبيَّة والفنِّيّة، وتحليلها تحليلاً قائماً على أساسٍ علميٍ، وهو الفحص العلميّ للنُّصوص الأدبيَّة من حيث مصادرها وصِحَّة نصِّها، وإنشاؤها، وصفاتها، وتاريخها."([5]) فابن رشيق إذ عمد في هذا الموضع لتوظيف هذا القول الشِّعريّ، ليس إلاَّ لبُعد دلالته في توضيح مفهوميّة الإشارة، على أن تكون أكثر ما تمثل إلى التّرميز والتّلميح، وكذا لمدى تقريبه مفهوم الإشارة للقارئ أو المتلقّي وفق رؤيةٍ نقديَّةٍ بيَّنةٍ.
لم يحصُر ابن رشيق مفهُوم الإشارة في مُصطلحٍ واحدٍ مُحدَّدٍ، فحسب، وإنَّما جَعَلَ يُعدِّد أنواع الإشارة على اختلاف مسمَّاها، متراوحةً ما بين مُسميَّاتٍ عِدَّةٍ، غير أنَّ الغايَّة واحدةٌ ثابتةٌ، فنذكُر ممَّا أطلَقه ابن رشيق على مُصطلح الإشارة مِن مُسميَّاتٍ، مِن شاكلة: التَّفخيم، الإيماء، التَّعريض، والتَّلويح، والرَّمز، واللُّغز وهو أخفى وأبعدُ أنواع الإشارة، والحذف، والتَّوريَّة، والتَّتبُع، وغيرها مِن المفاهيم المُصطلحيَّة الأُخرى، وما ذكرناه، ههنا، إنَّما على سبيل المثال لا الحصر. وقد كان ابن رشيق قد قدَّم لكلِّ نوعٍ مِن هذه الأنواع الإشاريَّة شواهدَ من كلام العرب مِن منظومٍ ومنثورٍ، وكثيراً ما ألفيناه يتقاطُع في تقديمه لأنواع الإشارة مع مَن سبقه مِن النُّقاد والبلاغيّين العرب، وهو أسلوبه الذي تميّز به في نقد الشعر. ولقد عدَّت "صُورة نقد النَّقد عند ابن رشيق القيروانيّ، مُرتكزاً رئيسيًّا في خطابه النَّقديّ، حيث يلحظ كلُّ من يقرأ المدوَّنة النَّقديَّة عنده هذه الرُّوح؛ القائمة على مُحاورة الآخر، مِن أجل الوصُول إلى المَعنى الكلِّي لكلِّ ما يتعلَّق بالقضيَّة النَّقديَّة المطرُوحة."([6]) وأمَّا عن ذكره في التَّعريض، وهو نوعٌ بارزٌ مِن أنواع الإشارة، فاستشهد بقولٍ شعريٍّ، وهو لكعب بن زهير لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم([7]):
فَفِي فِتْيَةٍ مِنْ قُرَيْش قَالَ قَائِلُهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ لَمَّا أَسْلَمُوا زولُوا
ففي هذا البيت الشّعريّ كان قد عرضَ كعب في قوله (قال قائلهم) إلى أحد صحابة رسول الله عليه الصَّلاة والسَّلام، عمر بن الخطاب أو أبو بكر الصَّديق رضي الله عنهما، أو إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فجعل هذا التَّعريض للبيت الشِّعريّ سمةً جماليَّةً بارزةً تلوَّن بها. وتكاد تكون الإشارة ضرباً من ألوان الغموض الشِّعريّ المُستحبب عند جلِّ الشُّعراء، على غرار البيت الشّعريّ الذي كنَّا قد كاشفنا ما حَملَه مِن تعريض.
ويرى ابن رشيق أنَّ اللُّغز وهو نوعٌ مِن أنواع الإشارة وهو مِن أبعد ضروب الإشارة، فيردُ عنده في صورة "أنْ يكون للكلام ظاهرٌ عجب لا يمكن، وباطنٌ مُمكن غير عجبٍ."([8]) ولقد أشار الجاحظ إلى هذا المُصطلح قبل ابن رشيق، وقد عقد له باباً خاصًّا تحت عنوان: (باب مِن اللُّغز في الجواب)، وقدَّم فيه أمثلة عِدَّة يستدلُّ بها على اللُّغز أو الإشارة. وممَّا ذكره الجاحظ: "كان الحطيئة يرعى غنماً له. وفي يده عصى. فمرَّ به رجلٌ فقال: يا راعي الغنم ما عندك؟ قال: عجراء مَن سلم. يعني عصاه. قال: إنِّي ضيف. فقال الحطيئة: للضّيفان أعددتها."([9]) وهذا ما يثبُت أنَّ مصطلح اللُّغز إنَّما هو معهودٌ عند البلاغيّين الذين قد سبقوا ابن رشيق، على غِرار الجاحظ، إلاَّ أنَّ معالجة مسألة الإشارة في الخطاب الأدبيِّ شعريّ أو نثريّ، إنَّما اتّسمت بالبُعد الإجرائيّ أكثرَ ما اتّصلت في تفكير ابن رشيق النَّقديّ، فجعل يضع مواطن الشٍّعر المُرمَّز، أو الشِّعر التَّلميحيّ، ويُحلِّلها ويفسِّرها.
ونخلصُ على ضوء ما ذكرناه، إلى أنَّه تبقى الإشارة أو الإيماء ركيزةً قارَّةً عند ابن رشيق في صناعة أساليب الشِّعر المُختلفة، ولقد تنوَّعت على أضربٍ عدَّةٍ، على غرار التَّلميح والتَّعريض، والتَّرميز، واللُّغز، والحذف، وكلّها تنطوي تحت غاية واحدةٍ، غاية بارزة تتمثَّل في تحقيق التَّأثير والوَقْعِ الحسن في نفسيَّة المتلقّي، وتلوين النَّص الشِّعريّ بشتَّى ألوان الجماليَّة والفنِّيَّة، وهو ما يولِّد قبولاً تامًّا في تلقّيه من لدن المُتلقّي أو السَّامع على السَّواء.
آليَّة التِّكرار وبعدها الاستيطقيّ في الخطاب الشّعريّ:
لقد سال كثيرٌ مِن الحبر حيال مسألة التِّكرار "Repetition" ومكانتها، ودورها في تفعيل الخطابات الأدبيَّة، بين أوساط النَّقاد والدَّارسين والباحثين المختصِّين، والمعلوم أنَّ هذه الإجرائيَّة التي يعتمد عليها كلُّ متكلِّمٍ بغيَة تحقيق غايات تكاد تكون مُختلفة حسب موضع استعمالها في الخطاب، إنَّما هي عتيدة الميلاد، بيد أنَّ تداولها من حيث هي ظاهرةٌ لغويّةٌ في كلام العرب إنَّما تعود إلى قصائد الشُّعراء الجاهليِّين بشكلٍ كثيبٍ، ولقد غدت ظاهرة التّكرار متداولة بشكل واسع بين أوساط الشّعراء المحدثين والمعاصرين على حدٍّ سواء، وصار التكرار من أبرز ما يتكئ عليه الشَّاعر الحديث/ المعاصر بغية توصيل فحوى رسالته إلى متلقّي خطابه، إذ لطالما لقيَ فيها الشَّاعر السَّبيل الأنجع لتحقيق ذلك المراد المَنشُود.
ورد مصطلح التِّكرار عند الجاحظ في كتاب البيان والتبيين بمصطلحٍ مقابل مرادف له، وهو التِّرداد، الذي يرى فيه "أنَّه ليس فيه حدٌّ ينتهي إليه، ولا يؤتى على وصفه، وإنَّما ذلك على قدر المُستمعين ومَن يحضره مِن العوام والخَواص"([10])، إذ جعل الجاحظ التِّكرار أو التِّرداد مردوداً إلى المتلقّي لا المرسِل، ولقد اختلفت أنواع التِّكرار فتارة نلفه في اللَّفظ الواحد، وتارة في الجملة وتارة أخرى في العبارة ككلّ، فأما عن تكرار اللّفظ والمعنى فيقول فيه ابن رشيق: "فإذا تكرّر اللّفظ والمعنى جميعاً فذلك خذلان بعينه."([11]) وهذا ضربٌ من مستقبح أنواع التكرار في كلام العرب.
تنوَّعت أنواع التِّكرار عند ابن رشيق، فجعلها تتموضَع على أنواع شتَّى، ومنها أنْ يوظِّف الشَّاعر التِّكرار للأغراض التَّالية، وفي المراتب التي يكن فيها التِّكرار مُستحباً لا مستهجناً مستقبحاً على غرار توظيفه بغية: التَّقرير، والتَّوبيخ، والتَّنويه، والإشادة، وكذا على سبيل التَّعظيم للمُحكى عنه، وكذا في التَّهكّم والتَّنقيص، والهجاء، فكلُّها تعدُّ مِن أهمِّ الدَّواعي الدَّاعيّة إلى استخدام الشَّاعر وسيلة التَّكرار، ومن الأمثلة الشِّعريّة التي استشهد بها ابن رشيق في حديثه عن التِّكرار ما قاله امرؤ القيس([12]):
دِيَارٌ لِسَلْمَى عَافِيَاتٌ بِذِي الخَالِ أَلَحَّ عَلَيْهَا كُلُّ إِسْـحَمَ هِــطَّالِ
وَتَحْسَبُ سَلْمَى لاَ تَزَالُ كَعَهْدِنَا بِوَادٍ رَامَى أَوْ عَلَى رَسَ أَوْ عَالِ
نوَّه ابن رشيق في خضَّم تحليله لهذا البيت الشِّعريّ الذي قدَّمه للتَّمثيل على مكانة التِّكرار المهمَّة في الخطاب الشِّعريّ، وجعله مِن الأبيات الشِّعريّة التي حسُن فيه التِّكرار اللَّفظيّ تكرار اسم سلمى في موضعين، ورأى ابن رشيق أنَّ غايته إنَّما هي في منزلةِ الاستعذاب، وهو ما تستحببه العرب، وليست تستهجنه أو تمجّه الأسماع.
جعل ابن رشيق آليَّة التِّكرار مِن أهمِّ الرَّكائز الواجب توفُّرها في صناعة أساليب الشِّعر العربيّ المُختلفة، وما ذلك إلاَّ للأثر البارز الذي قد تحدِثه في نفسية المُتلقّي، وكذا لما لها مِن أهمية قصوى في إضفاء بُعدٍ فنِّي على تركيبة الخطاب، لهذا ألفينا كثيراً مِن الشُّعراء العرب منذ العهود الزَّمنيَّة الأولى إلاَّ ويتَّخذون آليَّة التِّكرار مِن أهمِّ ما يتكئون عليه بغية إيصال فحوى رسالتهم إلى قلب أذن السَّامع، وكذا تحريك جوانيَّة وعواطف وأحاسيس المُتلقّي.
وهكذا، فإنَّ ابن رشيق القيروانيّ يكون قد نحا منحى غير الذي عهدناه عند سابقيه مِن النُّقاد العرب الأوائل فجعل يمثُّل اتّجاهاً جديداً مِن اتّجاهات النَّقد، وهو ما يُعرف بالنَّقد التَّطبيقيّ، ولعلَّ ما ذُكِر في خضَّم البحث ليدلُّ دلالةً واضحةً على المَنزع الإجرائيّ التَّطبيقيّ التي نهَض به ابن رشيق، مُغايراً ما ألفيناه متداولاً بشكلٍ واسعٍ بين أوساط النُّقاد العرب منذ العصر الجاهليّ في النَّقد العربيّ القديم. فلقد استفاض ابن رشيق في مواطن في عديد القضايا النَّقديَّة التي كانت مطروحةً في السَّاحة النَّقديَّة في العهود الهجريَّة الأولى، وأبرزها فيما حدَّده من مفهوم للشِّعر، وهذا حين وضع له أربعة أسسٍ تتمثَّل في الرَّغبة والرَّهبة والطَّرب والغضَب، وهو بهذا يأتي بالأمر المُستجدِّ عمَّا عهدناه عند سابقيه على غرار جعفر بن قدامة الذي جعل قواعد الشِّعر متمحورةً حول اللَّفظ، والوزن، والقافيَّة، والمعنى، فبهذا تكون رؤية ابن رشيق للشِّعر العربيّ أكثر إجراءً وتطبيقاً ومُلامسةً للشِّعر عمَّا كان مُتواتراً قبله مِن مفاهيم وأسس.
ولقد حدَّد ابن رشيق جملة مِن الآليَّات التي تساهم في صناعة أساليب الشِّعر العربيّ وتتمثَّل في الإيجاز، والاستعارة والتَّمثيل، والإشارة، وآليَّة التّكرار، وكلُّها نجدها أشدَّ قرباً وملامسةً للخطاب الشِّعريّ، وتبقى غاية كلِّ منها إبراز البُعد الفنِّيّ في الخطابات الشِّعريَّة العربيَّة، وحتَّى منها ما يتَّصل بمنثور العرب الجماليّ، وكذا لما لها مِن أثرٍ واسعٍ في تملُّك أحاسيس ونفسيَّة المتلقّي، واللَّعب على أوتار عواطفه وجوانيَّته، وهذا على غرار آليَّة الاستعارة والتَّمثيل وآليَّة التِّكرار، وما لهما مِن أثرٍ بالغٍ في تحقيق عمليَّة التَّفاعل والانصهار بين المنشئ والمُتلقّي إلى حدٍّ بعيدٍ.
وعليه يبقى ابن رشيق مِن أهمِّ النُّقاد العرب الأوائل الذين مثَّلوا منهج النَّقد التَّطبيقيّ على الخطابات الأدبيَّة العربيَّة مِن شعرٍ ونثرٍ، ليأتي بعده عددٌ مِن البلاغيّين والنَّقاد يتمثُّلون هذا المنهج مِن النَّقد على غرار عبد القاهر الجرجاني (ت471هـ) في القرن الخامس الهِجريّ، ولتبقى هذه الدِّراسات النَّقديَّة التَّطبيقيَّة على النُّصوص الأدبيَّة إلى يومنا هذا، وهذا في ضوء بروز عديد مناهج النَّقد الأدبيّ المعاصر، والتي تسعى إلى ملامسة النَّصوص ونفسيَّات كتَّابها عن قُربٍ تامٍّ، وهذا على غرار المنهج النَّقديّ الأكثر ذيوعاً اليوم بين أوساط النُّقاد والدَّارسين والباحثين، وهو ما يُعرف بالنَّقد الأسلوبيِّ.
جامعة الشلف الجزائر
مصادر البحث :
1 - الجاحظ، البيان والتبيين، ج1، الفكر للجميع، بيروت، 1968
2 - ابن رشيق القيرواني، العُمدة في محاسن الشِّعر ونقدِه. تحقيق: محمد عبد المنعم الخفاجي، (د.ط)، دار الكتب العلمية، بيروت.
3 - عبد الملك مرتاض، في نظريَّة النَّقد، "متابعة لأهمِّ المدارس النَّقديَّة المعاصرة ورصد لنظريَّاتها"، دار هومة للطِّباعة والنَّشر والتَّوزيع، الجزائر، 2010.
4 - إبراهيم محمود خليل، النَّقد الأدبي الحديث من المُحاكاة إلى التَّفكيك، ط1، دار المسيرة للنَّشر والتَّوزيع، عمان، 2003.
5 - أحمد ياسين العرود، نقد النَّقد عند اِبن رشيق القيرواني السَّرقات الشِّعرية نموذجاً، مجلة المشكاة للعلوم الإنسانيَّة والاجتماعيَّة، جامعة البلقاء التَّطبيقيَّة، المجلد الثَّاني، العدد 1، 2015.
6 - الجاحظ، البيان والتبيين، ج2، دار الفكر للجميع، بيروت، 1968.
هوامش البحث :
([1]) - الجاحظ، البيان والتبيين، ج1، ص 62.
([2]) - عبد الملك مرتاض، في نظريَّة النَّقد، (متابعة لأهمِّ المدارس النَّقديَّة المعاصرة ورصد لنظريَّاتها)، (د.ط)، دار هومة للطِّباعة والنَّشر والتَّوزيع، الجزائر، 2010، ص 30.
([3]) - ابن رشيق القيرواني، العُمدة في محاسن الشِّعر ونقدِه، ص 304.
([4]) - المصدر نفسه، ص 82.
([5]) - إبراهيم محمود خليل، النَّقد الأدبي الحديث من المُحاكاة إلى التَّفكيك، ط1، دار المسيرة للنَّشر والتَّوزيع، عمان، 2003، ص 11.
([6]) - أحمد ياسين العرود، نقد النَّقد عند اِبن رشيق القيرواني السَّرقات الشِّعرية نموذجاً، مجلة المشكاة للعلوم الإنسانيَّة والاجتماعيَّة، جامعة البلقاء التَّطبيقيَّة، المجلد الثَّاني، العدد 1، 2015، ص 13.
([7]) - المصدر السّابق، ص 306.
([8]) - ابن رشيق القيرواني، العُمدة في محاسن الشِّعر ونقدِه، ص 310.
([9]) - الجاحظ، البيان والتبيين، ج2، دار الفكر للجميع، بيروت، 1968، ص 127.
([10]) - الجاحظ، البيان والتبيين، ج1، ص 79.
([11]) - ابن رشيق القيرواني، العُمدة في محاسن الشِّعر ونقدِه، ج2، ص 25.
([12]) - المصدر السّابق، ص 25.