ثمة علاقة قوية بين الفلسفة، كفكر نقدي ينشد بناء وعي الإنسان بطبيعة ذاته، وبين محيطه الطبيعي و المجتمعي، كعالم حسي خارجي، على المستوى واقع الوضع البشري. من هنا، واجهت ولا تزال تواجه الفلسفة بمعناها المحايث، مضايقات كبرى، من طرف أعداء تشكيل الوعي وصحوة الفكر، مثل حراس الميتافيزيقا، ونعني بهم مكرسي مظاهر التخلف، ومثبتي الواقع السائد، والمدافعين بشراسة عن فكر النكوص والارتكاس والعدمية، الذين غالبا ما تمثلهم رموز السلطة في المجتمع والتاريخ، كالدولة المتعصّبة، والبورجوازيين النفعيين، ورجال الدين المتواطئين، والتقليديين البسطاء ممن يتبعون السلطة بسذاجتهم، ولها يخضعون دون وعي وتفكير.
1- الفلسفة كصحوة الفكر
إن الفلسفة التي نعني بها هنا ضد الميتافيزيقا، فلسفة تفكر انطلاقا من طرح سؤال الإنسان في بعده الطبيعي الإنساني. أي، تدافع الفلسفة عن الإنسان الحالم بالممكن المتعدد، ضدّ الإنسان الأوحد العنيف الذي يستعمل كل الطرق لإخضاع الأول واختزاله ككائن - أداة، وليس كغاية.
1-1 التنوير ضد العدمية
من هنا يعتبر فعل التنوير في عمقه الأصيل، وظيفة الفلسفة عندنا، ليس فقط ذلك التنوير الذي يشمل الجانب الذهني والانفعالي الشعوري، ولكن أيضا التنوير المرتبط أساسا بدينامية العمل الميداني، في سياق الفعل التربوي والاجتماعي والثقافي.
1-2 البناء ضد التكرار
هذا يعني، أن مهمة الفلسفة هي هدم أصنام عادة التكرار بقوة الفكر، وتأسيس المعاني الجديدة، وبناء القيم الإيجابية التي تمجد الحياة. أي، تأسيس معنى الإنسان في وجوده ككائن طبيعي، له علاقة تفاعل بما قبله من الكائنات الطبيعية، وبما بعده من الموجودات المختلفة، التي يسعى هو إلى الوعي بقيمتها الممتدة في حياته، بجهده الفكري، لمَ .. التعلم منها، والتواصل معها قدر المستطاع.
2- الفلسفة فن الحياة
حين تفهم الفلسفة في انفصال عن الحياة العامة، يعني كمقولات، أو كمنطق صوري مُفارِق يقوده حارس الميتافيزيقا، تكون بذلك قد جُردت من معناها الواقعي، القريب من قيمتها الإنسانية، باعتبارها معرفة علمية لتنمية الذات وتطوير الموضوع المعيشي، وفن راق للتواصل الإيجابي مع مختلف أشكال الحياة.
2-1 المشترك
لهذا، يعتني الفيلسوف بمعناه المحايث، بالدرجة الأولى، بما هو مشترك في الحياة، أي يركز حين يفكر فلسفيا، حول التقاطعات المشتركة والعامة بينه، كإنسان مهتم بأخيه الإنسان، وبين محيطه الاجتماعي والطبيعي، كوضع بشري عام. أو بعبارة أخرى، إن أهم ما يبحث فيه ويطرحه الفيلسوف، من خلال منجزه الفلسفي، هو سؤال ما هو عام ومتعدد وكلي شمولي، عبر تفكيره المحض كذات فلسفية، أي كفاعل نقدي خاص وجزئي. ومن ثمّ، نلاحظ طرحه لمجموعة من الأفكار الهامة التي تشغل الحياة العامة للناس، كالحق ضد الباطل، والحرية ضد العبودية، والعدالة ضد الظلم، والمساواة ضد الميز، والاختلاف ضد التقليد والمطابقة، مدافعا عن إنسانية الإنسان، لا غير.
2-1-1 فلسفة الحق
ثمة علاقة جدلية بين الفلسفة والحق بكل تجلياته. أي، الحق بمعناه المشترك الذي يحيل على مجالات مختلفة، كالحق في الحياة، والحق في المعرفة، الحق في العلم، والحق في الفلسفة، وفي الفن والثقافة.. إلخ. لهذا فكل ما هو فلسفي لابد هنا أن يكون حقا، والعكس صحيح.
2-1-2 الفيلسوف الحر
لا تفلسف حقيقي بدون حرية. بل، لا إبداع يذكر في غياب التحرر من قيود التقليد والاجترار والجمود. لهذا، نعتبر الحق في الحرية ضرورة، ليس فقط للفيلسوف الذي يفكر، ويعيش تحقيقا للإبداع الفلسفي، بل وكذلك سعيا لصنع هوية الوطن والمواطن، في أجواء مطلب تحولات المجتمع الديمقراطي الحداثي الجاري.
2-1-3 الفيلسوف والعدالة
كل الفلاسفة، قديما وحديثا، فكروا، ولا يزالون يفكرون، انطلاقا من مبدأ طموح هو العدالة، الذي جعلهم أحيانا يقدمون تضحيات جسيمة من صلب ذواتهم، وقد وصلت إلى حد الاعتقال التعسفي ونفي الحياة. أي الاغتيال. هنا، نستحضر أن الفلسفة، كانت دوما وأبدا مع الحياة، ضد القمع وصناع الموت. لدينا العديد من النماذج الفلسفية في تاريخ الفلسفة، يمكننا الاستشهاد بها في هذا الصدد، أبلغها ما حدث مع شيخ الفلاسفة سقراط، الذي كان ضحية موقفه الفلسفي، ضد منتهكي العدالة في مدينته أثينا. لكن الفيلسوف ديوجين الكلبي، رد الاعتبار للفلسفة بطريقته، في زمنه الإغريقي التاريخي، منتصرا لقيمة محبة الحكمة والحياة، حين رفض الاستجابة للحاكم الاسكندر الذي توسل إليه، بمعية موكبه العسكري ذات صباح مشرق، أن يطلب منه ما تشتهيه نفسه من أحلام، ليحققها إليه الحاكم، فكانت المفاجأة كالصدمة على نفس الاسكندر، لما رد عليه الحكيم ديوجين، بأنه يريد منه أن يتنحّى قليلا لتدخل أشعة الشمس إلى مغارته .. فغادر الاسكندر المكان، يعني الوسط الفلسفي، في الحين، حاملا معه صدمة جدلية الحكمة والسياسة عند ديوجين العظيم.
2-1-4 المساواة
كانت الفلسفة دائما وأبدا ضد الميز، وإلى جانب حقيقة الانصاف والمساواة بين الناس، بل حتى بين النوع البشري وباقي الأنواع الحية الموجودة معه في الفضاء الطبيعي المشترك، الذي هو عالم الحياة على هذه الأرض.
2-2 الاختلاف
كلما انفتح الفيلسوف على فكر الاختلاف، زاد تنويره، واقترب من الواقع العملي للناس البسطاء، وتعالى عن ثقافة الفساد والرداءة، منتصرا لما هو إنساني في الإنسان، مثل قوة العقل، ومبدأ الفضيلة باعتبارها سلوك عملي.
2-2-1 الطبيعة
إن الفلسفة باعتبارها إحدى تجليات فكر الاختلاف، تعمل من جهة أخرى، لصالح الطبيعة، كأصل ومنتهى لكل كائن حي. أي، أن ثمة علاقة تكامل بين الطبيعة ككائن فلسفي مُهادِن، والفلسفة ككائن طبيعي مشاكس. بمعنى، أنه كلما اقترب الإنسان بالتأمل الفلسفي، كمعرفة علمية إلى الطبيعة، زاد اقترابه أكثر من الحياة، كحقيقة عملية مركبة، ومؤسسة على جوهر الفكر الذي يمتد إلى الطبيعة.
2-2-2 اللغة
نعتبر اللغة كابتكار بشري، عنوانا كبيرا لأخلاق الاختلاف عند الإنسان السيد. لهذا، فالفرد أو الشعب الذي لا يطور لغته، لابد أن يبقى رهين عبودية التفكير التقليدي الجامد، ويعجز كنتيجة لذلك، عن تطوير ذاته، وفكره النقدي، ومن تمّ، الدفع بحقه في الوجود كإنسان بعيد المنال، وبالتالي، انحصاره كفرد في جماعة منفعلة، بدل أن تكون فاعلة، في زمن معاصر يعيش تحولات سريعة، لا ترحم العاجز عن الفعل في اتجاه تحقق الحياة.
إن الحضارة الإنسانية في أمس الحاجة، اليوم قبل الغد، إلى من يقدر مجهودات علوم الإنسان ككائن لغوي، وينفتح على قدرها الفلسفي الممكن، ونعني به قدر يقين العقل، وبراءة الطبيعة.
2-2-3 الفقيه المرتزق
لابد أن تجد الفلسفة نفسها في موقع ضد الفيلسوف المهادِن، لأنه بمثابة فقيه مرتزق، أو سياسي مطبوع، بالنظر إلى طبيعة منجزه الفلسفي، ليس فقط بالمعنى الديني أو السياسي، ولكن أيضا بالمعنى المفارق لكلمة الفكر. هذا يعني أن الفلسفة هنا، يمكن أن تتحول إلى قناع لما هو ديني وسياسي، ومن ثمّ، يلعب الفيلسوف المهادِن مثل، أفلاطون وباسكال وغيرهما من فلاسفة اللاهوت في تاريخ الفلسفة، دور الفقيه المرتزق، بدل دور الفيلسوف.
الخاتمة
هكذا، يبدو لنا معنى الفلسفة وقيمتها باعتبارها نضالا في الحياة، هنا والآن، بل مقاومة دائمة لرداءة الفكر وسقوط الواقع، وانتصارا، في المقابل، لقيم الإنسان والجمال، ضد العمل التاريخي والدعم السياسي لحراس الميتافيزيقا.