كل شيء يؤول في النهاية إلى الذاكرة باعتبارها نصًا خامًا، أو ينتهي إلى "نص" رسالة مكتوبة موجهة إلى آخر، كاستراحة أو تزجية للوقت، وتكشف عن تناص ملهم ما بين عالمين، قرية سودانية وبلد المهجر، بين »موسم الهجرة للشمال» و«ذئب البوادي»، بين "جانيت" مريضة السرطان و"ميادة" الحبيبة المهجورة.

غريبٌ في الذّاكرة

أمير حمد

 

لم يكنْ ثمّة شيء..  الغرفة كقاربٍ في يمٍّ عظيمٍ، لا أدري لماذا راودني هذا الإحساس، حين رأيتها، دلفت إليها وضحكة تصحبني بعد، تلك الضحكة الساخرة من وصفهِ لي بأنني.. لا أناسب عالمنا هذا..

 تذكّرت ما قاله لي وهو يميل برأسه الأشيب وأكتافه العريضة إلى الأمام.

 أين الأريكة؟!

 جلّ الناس لا تُسمي الأشياء بأسمائها، فقط تصفها.. أنت تجيد الوصف بصورةٍ رائعةٍ

غير أن هذا لا يكفي..

لم يكن شيء في غرفته المهجورة هذه قبل عام، وربّما ثلاثة أعوامٍ سلفت، لا أدري على وجه الدّقة، لا يهمني شيء فيها سوى رسالته التي تركها لي قبل أن يُهاجر مجدداً إلى ألمانيا، أخبرني جاره اليوناني، الثرثار في مسطّح الدَرَج، بأنّه رجلٌ غريبٌ لا يتحدّث كثيراً فهو يحيّي باقتضاب وينصرف لكيلا أحدّثه كأنّه مُنطوٍ على سرّ عظيم.

قلتُ لليوناني:

 إذاً تعرفهُ؟

 فأجابني بوجهٍ شاحبٍ وصوتٍ متقطع.

إذا كنت تصف ذلك بالمعرفة فهو كذلك، دعوتهُ مرّةً واحدةً إلى غرفتي، فقال لي بأنّه لا يحبّ الأماكن المُغلقة الضيّقة ويؤثر الفراغ، إذ ويزجي معظم وقته في المُنتزهات العامّة.

قال لي في آخر لقاء جمعني به في رأس السنة.

تبدو الحياة في هذ الوقت نقيّة من كلّ شائبة وكأنّها خلقت لتوّها، نعم، كضحكة طفلٍ بريء..

  هكذا أحسّ بأعياد الميلاد ورأس السنة..

هل يراودك مثل هذا الشعور؟!

حكّ رأسه الأشيب وركّز نظراته بعيداً، كما لو يحاول النأي عنّي.

 وواصل قائلاً له:

ربّما الأمر كذالك، لكنّي تعوّدت أن أربط الاحتفال ومضيّ الأيام والسنين بما أنجزته وأتألّم لكلّ يوم مضى دون نفع يُذكر.

حاولتُ أن أطيل الحديث معه أو أستدرجه إلى بؤرة الضوء لأتبيّن ملامحه جيداً

 قلت له:

هل هناك شيء لا ينفع، الأمر نسبيّ أليس كذلك؟

لم يردّ، وكأنّه أدرك لا اكتراثي بفلسفته العابرة هذه، تركت اليوناني على الدرج ودلفت إلى غرفته المسدولة الستائر المشبعة بأريج عطرٍ غريبٍ ...لفّني الليل طيّها، وقطار الذاكرة يجتاز بي المحطّات واحدةً تلو الأخرى، ليحطّ بي هنا لا قرأ ما كتبه.

جلست القرفصاء أتامل لوحةٍ لغروب، الشمس نديّة الألوان، لاشكّ أنّها لصديقه الرسام الشّاب الأيرلندي الذي حدّثني عنه، وعن حبّه لتغيير لون السماء عند الغروب وتقاطع سرب الطيور ونسجها دوائر مُتداخلة وتفرقها من ثم كقطع السحب المتناثرة..

 ها أنا الآن في غرفتهِ هذه لا لشيء يجذبني إليها، سوى رسالته التي أوصاني بقراءتها، وكان من الممكن أن يحدّثني صراحة بدلاً من تذيلها.

نعم إنه غريب الأطوار.

 هل هي حقاً رسالة تستحق التكتم والتأمل؟!

 بعيداً عن مقاطعته الحديث كما يحلو لي دائماً وفقا لرأيه؟ لا أدري...

 ظللت أدخّن والرسالة في كفّي، دون أن اقرأها حتى يصفو ذهني لها.

 أسئلة تترى، تشغل ذهني من أين هذا الرجل أصلاً؟

وماذا يعمل؟ ربما هو لصّ محترفٌ، أو شاعر أو طبيب مغمور؟!!

 كلّ ما أعرفه عنه لا يثير الفضول كما يقول هو نفسه، بأنه رجلٌ بسيطٌ لا يكتنفهُ سرّ البتة، فقط بحاجة إلى من يشاطره وحدته..

تذكّرت لقاءاً به يوم استوقفتني، وحدته وتسكّعه دون هدف في هذه البلدة الصغيرة التي تعجّ بالناس والنساء والأطفال.

لا شيء لديهم سوى تزجية الوقت بالأقاويل وتحريف ما يُذكر ويكتب، أيا كان والتدخل في شؤون الآخرين، رغم معرفتي السطحية به، إلاّ أنّه وثقَ بي كثيراً كما يبدو، لكأني أعرفه منذُ وقتٍ طويلٍ.

لا أدري ربما أعجبه شغفي بالتعرف على تجربته خارج السودان عندما أشار إلى مقارنة ما بين الأوربي والشرقي.

 سمعتُ شتم الجار اليونانيّ لقطّه الموّاء، وهو يحاولوا تهدئته ربما انتقلت إليه عدوى اللغط والتدخل في شؤون الآخرين ككل القاطنين هنا..

كان يودّ التحدث إليّ أكثر على مسطّح الدرج، لولا أنّي تركته وشأنه، كنت حقّاً أودّ أن أعرف ما يرويه هذا الرجل عن جاره، فخفت أن يلغط كثيراً ويضيف ويحذف كما يحلو له..

 جلتُ بناظري في غرفته وأنا استنشق عطراً غامضاً، ينساب كلمس نسمة، فواجهتني لوحة الغروب وضوء مصباح شاحب فوق طاولة شبه مهترئة.

لم يراودني التعرّف على محتويات الغرفة، لاسيما أننّي أحسّ بالتعب والفضول لقراءة الرسالة..

 بسطتها، فإذا هي مكتوبة بخطّ أنيقٍ وجمل متباعدة، كما لو أنّها افتراضات ما، أو فكرةٌ قائمةٌ بذاتها.

 نظرت إليها مرّة أخرى فوجدتها طويلة جداً، أكان يودّ أن يسطر كتاباً؟ أو أنها خلاصة مذكراته كتبها وانتهت بهذه الرسالة..

شعرت بالتعب مجدداً والحاجة إلى النوم أو إلى قهوةٍ خالصةٍ وسجائر لتسهرني وتشدّني لقراءتها أخذتها 

 طويتها وخرجت بعد أن أطفأتُ الضوء وأغلقت الباب بهدوء حتى لا يسمعني الجار اليوناني المتطفّل..

سرتُ في الطرقات المبتلّة بمطر الأمس، اشتريت سجائر مجدداً واتجهت وبي هوسٌ غامضٌ يراودني لمعرفة تفاصيل هذه الرسالة وكاتبها...

فكرتُ قليلاً قبل أن أقرأ الرسالة، أن أدوّن ملاحظاتي عن هذا اليوم الغريب..

استيقاظي مؤخراً على غير عادتي.. وضجر بائع القهوة وشتمه للمتسوّل في محطّة القطار وسؤاله لي عن دولتي رغم ترددي عليه أكثر من مرّة.

ماذا قال؟

أعربيّ أم إفريقيّ أنت؟!

لم أُجبهُ.. فسارع مستطرداً الأهم، أنت مُسلم وهذا يكفي.!

لا أدري لماذا انتابني شعورٌ بالاعتزاز والاشمئزاز في نفس الوقت.

 ثمّة أشياءَ عدّة طرأت في هذا اليوم تستحقّ أن تملأ فراغ مذكراتي كقصّة اليوناني ولوحة الغروب في شقّة هذا الرجل الشبيه ببطل رواية موسم الهجرة وذئب البوداي.

 وضعتُ القلم جانباً، مقنعاً نفسي بأنّي لن أنسى تدوين مجريات هذا اليوم..

نظرتُ إلى الرسالة والتي بدت لي كمشروع رواية وشرعت أقرؤها بشغفٍ وتريث.

 هذه رسالة لتزجّي بها وقتكَ ستجد فيها تجربة غربةٍ ما، ومشوار حياة قد يهمّك ولا يهمّك.

 لا أرى في رسالتي هذه، ما يستحقّ الاهتمام، أملي أن تجد فيها استراحة ما أو شيئاً مما تنشده.

 أنا لا أقدّم لك النّصح أو عِظة ما، لتصبح مِشكاة لحياتك، فأنت غيري، ولست صنواً لاحد كما قلت لك.

هي رسالة لا غير، وإن شئت احتفظ بها، أو أهملها، فالحياة ملأى بالتفاهات والخزعبلات.. لم أكتب لك هذه الرسالة كبيوغرافيا مُقتضبة وإنّما هو الاحساس الدفين.

بواقعية اكتشاف الحياة بأعين الآخرين..

عدتُ مع جانيت صديقتي الوديعة إلى قريتي، يُغالبني الحنين لرؤية عائلتي وأهل القرية.

قالت لي جانيت بأنّها قرية هادئة، في طور بدائيّ، وأشارت بكفّها إلى أحد بيوت الطين، وأغنام فيه شبه مُخدّرة، جرّاء لهيبِ الصيف.

لم يعد من الذين أحببتهم وأثروا ذاكرتي وطفولتي الباكرة على قيد الحياة.

قالت لي حليمة وهي تقدّم لنا قهوة زكيّة الرائحة.

هذا هو حال الحياة يا بني..

سألتني وأنا أتوسط أهلي عن جانيت التي سألتني بدورها عن فحوى سؤالها.

قلت: إن جانيت امرأة بسيطة ربّما تناسبُ طبعي.

عقّبت حليمة بجرأة، اضحكت أهلي.

 تكمل عليها بثلاث نساء!! هذا شرع الله..

نهضتُ لجلب حقيبتي الصغيرة، لأغيّر مجرى الحديث وتطفّل حليمة.

مكثتُ مع جانيت أسبوعاً كاملاً في قريتي، ويبدو أنها أغرمت بها، على نحو ما.

كانتْ ترافقُ شقيقتي النشطةِ المُلمّةِ بدورِ الثقافةِ والمسرح والنوادي الأجنبية..

لم تكنْ جانيت تتحدّثُ العربية أو تفهمها إلاّ بعد لأيٍ وتوضيح عبر حركات بالكفّ والعينين، غير أنّها في الأيام الأخيرة اكتسبت مهارةً كبيرةً، فكانت تتحدّث معي بجملٍ عربيةٍ مقتضبةٍ، مُدللة على سرعةِ إجادتها للغات أجنبية كالعربية.

أعجبت بالسماء الصافية وبالنادي الألماني وشارع النيل، الذي ظللت أمشّطه في بعض الأماسي مع صديق لي، زميل دراسة...

 لم يتغيّر في حياته شيء، بل وظلّ فقيراً كما كان.

 سألته عن اهتماماته الراهنة، وإن كان يُجيد الغناء بصوتٍ رخيمٍ كما كان من قبل

 قال لي وهو يسرّح النظر في نهرِ النيل

 يا أخوي شويّة، ولادي فلسوني.

وأمّهم علمتهم تعاين لي "جيوبي" قبل وجهي!

ضحكت، فقد طمع بي على ما يبدو.

 قلت له بأنّ ما لديّ زهيد لا يتجاوز مصروفنا أنا وجانيت، غير أنّي سأعينه قليلا ً..

سألته عن بعض الأصدقاء، ومواطني القرية، فلم يفاجئني ردّه، بأنّ معظمهم مُفلس، والبقيّة قضوا نحبهم، وأشار بكفّه إلى الجهة المُقابلة للنيل حيثُ المقبرة القديمة، تتوسّط قبّة وليّ صالحٍ.

قلت له:

كانوا رجالَ خيرٍ وبركة يستحقّون مقامات رحمهم الله

فرحت في البدء بلقائهم غير أنّ البهجة انطفأت سراعاً إثر حدّيثي معهم، إذ شعرتُ ببونٍ شاسعٍ بيننا، لانصرافهم واشتغالهم بمضارباتٍ وأمورٍ لا تعنيني، فآثرتُ الصمتَ والاستماع إليهم.

ففاجأني أحدهم قائلاً:

يا أخي "ما تتعالى علينا ليه ساكت"؟!

كلامنا ما عاجبك؟

ابتسمتُ وقلتُ له إن السفر أجهدني.

ظلّ البعض يمزح ويخدعني بأنّ فلان صديقي توفّي، فأحزنُ ولا تمضِ دقائق وإذ به قادم ليحييني.

هكذا انصرمت الأيام بين قلقٍ وفرح ومسؤولية.

لكزني بخفّة صديقٌ لي ونحن نمشّط شارع النيل في المساء، باتجاه بائعات الشاي.

قال يا أخي (ما تشوف لي ألمانية جميلة زي صاحبتك دي)

قلتُ له مازحاً:

 سأهّرب لك واحدة المرّة الجايَة..

كنتُ أحاول جاهداً أن أجد صِلة مع قريتي ومواطنيها غير أنّ تغيّرات كثيرة، حالتْ دون التواصل معهم.

دلفت إلى غرفتي لأستمع لقناة ال بي بي سي، فإذا ضجيج وشتم السكارى في الطرقات، ونباح الكلاب يمتزجان ويتعاليان، فلم أستطع التركيز للاستماع للبثّ الاذاعيّ الضعيف.

فتمنّيت أن يعلو صوت المؤذن، فيخيّم الهدوء مجدداً فوق هذه القرية المنتفضة.

 تذكّرت ما قاله لي إمام المسجد بأنّ الشيخوخة والفقر المدقع، وتفشّي الوباء أودى بحياة الكثيرين هنا حتى أنّه كان يصلّي الجنازة ثلاث مرّات في اليوم الواحد.

خيّم السكون على المقبرة، تحت سماء الليل الصّافية والشواهد والقبّة التليدة.

وقفت أترحّم على أرواح الموتى، ذرفتُ الدمع على صحبٍ رحلوا، ووجوههم وذكرياتهم تمرّ أمامي كشريطٍ سينمائي شدّتني ذكرى صديق رئيس تحرير صحيفة توفّي في حادثة سيارة على الجسر الجديد، الذي أنشئ، ليربط قريتنا بالمطار ويختصر المسافة بينهما..

هنا قبر أجدّادي ووالدي وجيران أعزاء لنا، هنا ضريحُ رجلٍ صالحٍ، قالوا بأنّ الغمام يتبعه يظلله في الهجير.

لا أدري كم من الوقت انصرم على هذا المشهد العظيم الصامت، الذي كان قبل أعوام يعجّ بالضحكات والنزهات والمصافحة والودّ وخصام لا يدوم طويلاً.

كنّا نتفادى المرور ليلاً قرب هذه المقبرة، لما أذاعه الناس عن بعض مجانين القرية الذين ينامون في الخرابات بأنّ قبيلة من الجنّ تسكن في المقبرة كانوا يصيحون ( يا ناس القرية، الجنّ جاييــــــكــــم شيلوا شيلتكم )

قالت لي جانيت عندما عدت بأنّ استقبال إذاعة البي بي سي سيئ جداً، رغم جودة مذياعها، وقرب قريتي من العاصمة ومركز البثّ الدولي.

ضحكتُ وقلت لها بأنّ ممثل مصريّ قدم إلى السودان ذات مرّة وطلب فور وصوله المطار بإرجاعه إلى مصر.

الحياة قاسية هنا غير أنّها نابضةٌ وسعيدةٌ على نمطٍ ما..

حاولتْ جانيت النوم.. لم تستطعْ، لعلوّ نباح الكلاب المسعورة وضجيج المارّة.

شرعتُ أحدّثها عن مواقف وروايات أثارتها، كجسر على نهر درينال- إيفور اندريش- قلت لها بأنّ هذا الجسر غيّر حياة القاطنين على طرفيه كوثلته، كما غير قريتنا الجسر الصغير هذا الرابض في النيل كهرمٍ تليد.

كم أغرمت برحلتنا معاً إلى آثار النوبة الفراعنة السود.

أذهلتها تلك الاثار، وحزنت لعدم تسليط العالم الضوء عليها.

أغرمت أيضاً بالنيل وأحبتهُ كنومها على ساعدي.

خفتُ أن أعكّر صورته الصافية الجميلة في مخيلتها إن ذكرتُ لها بأنّه يعجّ بجثث أبرياء وشهداء وطنين قُتلوا وقُذفوا فيه ليشبعوا أنياب الموت والتماسيح، لا لشيء، فقط لأنّهم انتفضوا متظاهرين ضدّ الحكم العسكريّ المُستبد ولأجل الحريّة والديمقراطية.

 ألقوا فيه بعد ربطهم بالحجارة الثقيلة كي لا يطفوا فتفضحهم جريمتهم النكراء هذه.

أعجبت جانيت بالنيل والآثار.. صوّرتُها بزيّ صيفيّ رائع، يتناسب مع بشرتها البرونزية التي لوحتها أشعة الشمس.

نظرت إليها بتمعّن، لكأني أراها أوّل مرّة. كم جميلة هي ومعجبة بنفسها تختار مواقع معيّنة لتصويرها تبرزها بين الظلّ والصحراء وأشجار النخيل المتناثرة هنا وهناك، صورة لها تحت نخلة، أخرى مستلقية على شاطئ النيل مُشرعة ساعديها وصور أخرى تمسح العرق المتفصّد من جبينها.

حدثتني قليلاً عن بعض الألمان الذين التقتهم في النادي الألمانيّ في الخرطوم، المهتمين بآثار النوبة والعجبين بالبرتقال والبهارات السودانيّة.

قالتْ إنّها لم تتذوّق فاكهةً طازجةً وبهارات لاذعة المذاق وشهيّة كالمزروعة هنا.

مضى وقتٌ طويلٌ وأنا أجوب معها شاطئ النيل.

كانت تتوقّف بين الفينةِ والأخرى، لتحدّث بائعات الشاي وتتذوّق المسليات.

 قلت لها بأنّ معظم أولاء النسوة يعملن من الفجر حتّى المساء ليكفلن أبناءهن.

سألتني مُقاطعة

وماذا يفعل أزواجهنّ؟

لم أجد جواباً فأقنعها بأنّ معظمهنّ مطلّقات أو متزوجات برجالٍ ذوي دخل متواضع.

قالتْ وقد شارفنا على جسر قريتنا ودويّ طائرة تشارف على الهبوط يصمّ الآذان

قالت هكذا هي المرأة عصاميّة ومسؤولة تكافح وتُظلَم وتضطهد...

قلتُ لها سيأتي عصر تنتصر فيه كما كانت ملكات النوبة قديماً وأكدت حقائق التاريخ وأثبتت المدونات 

لم أعد أنظر إلى مذكرة الأيام كعادتي دائماً كلما أحسست بطيّ انصرام الأيام.

ربما لقصر العطلة واصطحابي لجانيت وتجميلها لها..

تغيّر الحيّ القديم الذي عشتُ فيه طفولتي فلم يعد النيل قرب منزلنا لكثرة المباني الجديدة والشركات التي شيّدت على ضفته.

قلت لجانيت قد لا تصدقي بأنّي أخشى الابتعاد كثيراً عن منزلنا خيفة ألاّ اهتدي إلية ثانية.

ضحكت وقالت: إذاً تحوّلت قريتكم إلى مدينة يا عزيزي، إثر تشييد جسرٍ صغيرٍ كهذا.

أنا مثلك، أحبّ الهدوء والقرية لا تجذبني المدينة إلاّ قليلاً.

أحسّت جانيت بفرحة عظيمة وهي تجوب معي ضفاف النيل وتتعرف على الآثار شمال السودان والتنوع العرقي فيه، لا سيما حين رأت ثلّة نسوة منقّباتٍ ورجال من قبيلة الرشايدة العربيّة القحّة وهم يشترون البهارات والتمر من السوق العام، وجوارهم جنوبيون يأكلون فولاً وسلطةً وخبزاً طازجاً.

قالتْ: جميل أن تكون كلّ هذه الأعراق سودانيّة، كهؤلاء العرب الخُلص والجنوبيون الأفارقة.

 قلت لها مغازلاً هكذا هو الأمر يا حلوتي.

كانت جانيت مريضة مزمنة، تعاني من سرطان الكبد ومن كوابيس وأحلام تطاردها، بين الفينة والأخرى جراء تورط جدّها النازي في جرائم ومآسي النازيّة ووفاة والدها الرحيم في جبال الألب...

  كانت هوايته التزلج، وهمّه الشاغل آخر أيام حياته، لكأنه في سباق مع الموت.

ترددت في البدء من السفر إلى السودان معي، مع أن الطبيب نصحها بالسفر والانفتاح قدر الإمكان لتجاوز أزمتها النفسيّة المرتبطة بالأحلام والكوابيس المزعجة.

 ظلّت تتعاطى الأقراص المُهدئة ولا تسافر إلاّ إلى بلاد الجوار كسويسرا والنمسا.

قالت بأنّ أفريقيا قارة مثيرة حقاً، وأحسّتْ بتحسّن، وأنّ الكوابيس لم تداهمها سوى مرّة واحدة.

كنت جوارها أهدِّئها، وأمسح العرق المُتصبب من جبهتها، بدا مرضها كما يبدو بعد أن أخبرها والدها أنّ أباه هذا أحد جنود الغوستابو النازي الذي كان يطارد اليهود خارج ألمانيا وخاصّة في البرتغال قبل محاولة هروبهم من أوربا على ظهر السفن التجارية المتجهة إلى نيويورك...

وهكذا ظلّت تطاردها كوابيس مأساة النازيّة في المنام.

 حاول الطبيب المختصّ إقناعها بأنّها بريئة؛ بل ضحيّة! وما بوسعها تغييّر مجريات ما حدث.

حاولتُ أنا ووالدها الشفوق أيضاً..

قال لها يابنتي: العالم كلّه مليء بالمآسي، لن نستطيع تخليصه، وحده الله الخلاص.

كان وقد زجّ جدّها عائلة يهودية في قطار الموت المتجه إلى المحرقة، غرفة التسمم بالغاز، فطلبوا منه أن يتركوا طفلهم ليكبر ربّما يأتي زمن سلم وعدالة يكفيه شرّ شبح الموت.

 ضحك جدّها ونزع طفلهما من أحضانهما ورمى به في دار أيتام الحرب، ليقاسي حياة أخرى بعد أن اقتيد والديه، على مرأى من ناظريه، إلى قطار موت التسميم بالغاز..

ظلت جانيت تستيقظ في عتمة الليل مرتجفةً وتسأل لماذا؟ ما ذنب ذاك الطفل؟

 ومن ثم تبكي، فأشغل الضوء، وأهدئ من روعها وأعطيها قرصاً مهدئً، فتتكئ بكتفها على ساعدي.

لم تكن تعلم ما صنعه جدّها من قبل، إلى أنّ والدها أخبرها بذلك، في حتفه الأخير.

 قال لها، أدرك مدى تأثير ذلك عليكِ، إلاّ أنني أودّ أن تعرفي تفاصيله منّي، قبل أن يداهمك غريب بفاجعته.

لم تنبس جانيت بحرفٍ.. طوّقته وقبّلت جبينه.

همستْ لي مبتسمةً بأنّها أكرهتني على الرحلات الكثيرة معها، وتأسف على إرهاقي معها.

قالت أعلم أنّك لا تحبّ السفر.

قاطعتها بسرد طرفةٍ ما لأغيّر مجرى حديثها.

ضحكتْ حتى تورّدت وجنتاها.

 إنّها امرأة حلوة المبسم، قويّة الشخصيّة والإرادة، تتكيّف على قدرها بحكمة وقوّة.

امتثلت لوصيّة الطبيب فكانت تسافر وحدها، وتارةً معي، لأُخفف وطأتها.

ظللت ألاحظ ذبول جسدها في الفترات الأخيرة وعدم رغبتها في تناول الطعام وحبّها لأن أسمعها تفاصيل حياتي، لا سيما المرحة منها، فتضحك دون انقطاع، لتمثيل دور مهرج.

نعم تغيّر ايقاع حياتها، فكانتْ سعيدةً باكتشاف القرى والمدن الكثيرة النائية.

سألتني عن وطني؟

 فقلت لا ترهقي نفسك يا حلوتي، وطنك في الذاكرة لا غير.

يبدو أنّ زيارتنا إلى السودان أعجبتها، لدرجة أنّها لم تعد تسألني كعادتها عن مواعيد أوبة طائرتها إلى ألمانيا، وعمّا إذا كنتُ أعرف أوروبيين هنا يشاطرونها الحياة.

فرحت بمعرفه شقيقتي حليمة، الساخرة وبعض أصدقائي المُفلسين الذين ما إن رأتهم إلاّ وضحكت من أعماقها.

طمأنتهم بأنّها سعيدة بلقائهم، لا تضحك منهم، وإن بدا الأمر هكذا.

قال لي "حَسَبو" ما في مشكلة، خلّيها تساعدنا بي شوية ماركات...

قلت له لم يعد المارك متداولا.

كنّا نتبادل قراءة الروايات العالمية والأشعار ونتلو ما يحلو لنا منها لاسيما قبل أن تهدأ لتنام.

أحبت رواية "البحث عن الزمن المفقود" الطويلة لإميل بروست، وظلّت تجهد نفسها لتتعلق بالأمكنة التي ألفتها وترددت عليها مع والدها كتلك البيوت القروية على سفح الجبال في جنوب ألمانيا، إحدى ذكرياتها الباكرة.

كنت أقرأ لها كلّ ما يربطها ويثير أعماقها من قصائد سوريالية وصوفية...

ها هي قريتنا هادئة الآن أمام عيني لكنها لم تعد الموطن الذي ألفته في طفولتي وصباي

المكان هو المكان، ولكن لم أعد أحسّ به كما كان.

أحال الجسر فوق النيل قريتي إلى مدينة صغيرة، فتطاولت العمارات، وهدمت بيوت الطين الواسعة واستبدل بالآجر والإسمنت وكثر القاطنون الأجانب، وقلّ تعداد أهل القرية والأهل، فمنهم من مات ومنهم اغترب طويلاً ومن لم يعد أصلاً أو من ظلّ فيها فصبغت المدينة وحياة الغرباء بصبغتها..

 ترددت حليمة لزيارتنا وهي تحمل لنا كلّ مرّة سلّة خضار وفاكهة فتعاتبها شقيقتي وتقول لها

يكفي أن تأتي لزيارتنا، كثّر الله خيرك.

جمعتها جلسات نسائية بجانيت ونساء أخريات لا أدرى عمّاذا كان يدور الحديث، غير أنّى سمعت حليمة تقول:

الأوربيات نساء قويات، يعشنَ الحياة كما يحلو لهنّ.

أمّا نحن "فخدّم الرجال يطلّقون ويتزوجون أربعة ما في امرأة تقدر تقول لا"

يختنوها ويشلخوها ويدقّوا شفتها ويزوجوها رجل لا توده وربما تكون من نساء الحبس لا تغادر بيت زوجها إلاّ للقبر.

كنت على يقين بأنّ شقيقتي لن تترجم لجانيت كلّ هذه التفاصيل المؤلمة، بعد أن اكتسبت انطباعاً جيداً عن السودانيين.

خرجت بسرعة وهاجس يؤرقني.

 نعم أعرف ردّ شقيقتي الجريء!

لماذا تغطي هذه الحقائق عنها.

نعم جانيت مرهقة وقوية الإرادة، لم تهب الموت مبكراً جرّاء إصابتها بالسرطان.

لاحظت أنّها تركّز نظراتها فيّ وقد احمّر خداها حياءً، وأنا أنظر إلى ميادة حبّي القديم ...أيام الصبا.

لم تتغير ميادة كثيراً، بل ازدادت جمالاً بمرور السنين، ثمة نساء هكذا يكتسبن بهاءاً وجمالاً بتقدم سنهن.

لم تتزوج رغم أن كثيراً من الرجال الأثرياء تقدموا لها.

ابتسمت حليمة عندما خرجت ميّادة مودّعة، وقالت لي بجرأة الكلّ يعرف إخلاصها لك.

كنت أحسّ أنّ حبنا توارى مع الصبا ونثرته ريح النسيان.

 رسائل عشقي لها وردها المقتضب الجميل الذي دفعني لحبّها أكثر وأطول ما يكون.

 انصرم الوقت سريعاً كأننا قدمنا إلى السودان لتونا.

لم تصب جانبت نوبة الأحلام المزعجة ولو مرّة واحدة هنا وإلاّ فكنت إلى جوارها اطمئنها بأنّ كلّ شيء بخير.

بكت إذ تذكرت والدها الذي كان يطمئنها في صغرها قائلاً:

كلّ شيء بخير يابنتي كلّ شيء بخير

تعودت أن أذهب معها إلى قبره فتضع حزمة ورد وتشغل شموعاً في انحناء وتجلس وتحكي عنه.

 قالت لي إنه في السماء البعيدة يدعو لنا بالسعادة أليس كذلك؟!

كنت أجيبها بالإيجاب، رغم علمها أنّي مسلم، ولي رؤية أخرى عن عالم الموتى.

هكذا كان الأمر وجانيت تقاوم مرضها بالتنقل واحياء ذكريات جميلة ومراودة المحاكم لتشاهد الحكم واستجواب النازيين هكذا أوصاها والدها قبل وفاته عسى أن تجد في مواجهة المدعي العام لهم وحكم القضاة عليهم بالسجن راحة ما تخلصها من تركة جدّها اللعينة.

سحب جدّها النازيّ العنصريّ جانيت حفيدته من ورثته لارتباطها بي، لأنّي أسود ومسلم.

قال لها ألم تجدي آريّ أزرق العينين أشقر يناسبك؟!

سألتُ نفسي هل كان من المُمكن أن تعيش أفضل في موطنها؟ أم هناك كغريبة في السودان.

لكن يبدو أنّها منعّمة في سعادة ما وسط أهلي، رغم تنكّر البعض لها، وترديدهم كلام حليمة في محلّه، عرس ميادة منتظراك للآن أو واحدة من بنات البلد تربطك بالسودان.

قلتُ لجانيت إن الماضي بوجوه عدّة فلننظر إلى المضيء منها، فتضيء حياتنا الراهنة ويشدّنا المستقبل إليه.

 قمتُ وسرنا أحسّت برهق ما، مضت العطلة سراعاً، ورأيت جانبت تعانق المودعين بحرارة وتذرف الدمع.

ظلت متمسكة بالكاميرا الثمينة التي أهداها لها والدها.

 قالت لي لم أكن أعلم أنّ هذه الكاميرا ثمينة إلاّ بعد أن التقطت بها صوراً من السودان.

مرّت بذاكرتي صورة النيل وشعرها الذهبي تحت ضوء الشمس الجانحة للغروب، وأصدقائي وآثار النوبة في المصورات، وحليمة، وأهل الحيّ، والجسر الجديد، ذُهلت وقتها بما ذكره الدليل بأنّ كثير من الذهب والعقود الذهبية الثمينة لأميرات النوبة موجودة في المتحف النوبي في برلين وفي فرنسا.

 صور عدّة للمعابد والصحراء الذهبيّة المترامية تحت سماء خالصة الزرقة.

كم أغرمت بجمال وكرم أهل الصحراء هناك.

التفّ الصبية والفتيات حولها يتلمسون بشرتها وشعرها في استغراب 

فأومأت لي أن أصورها معهم، ومع شيخ قروي دعانا لتناول الطعام معه.

بعد فترة من عودتنا إلى ألمانيا ازدادت نحولاً وشحوباً.. قال لي الطبيب المُعالج بأن زيارة السودان حسنت كثيراً من نتائج التحاليل ومن وضعها النفسيّ.

 صمت وقال الأعمار بيد الله، إلاّ أن مرضها استفحل ومن الأفضل أن أعود بها إلى السودان، ربّ عمر ثانٍ هناك كما أوضح التحليل.

 أمسكت جانيت بكفّي.. سألتني ماذا قال الطبيب؟

 فكرت في تغيير اتجاه الحديث، إلاّ أن جانيت نبيهة تُدرك ما أرمي إليه.

شدّت كفّي وهي طريحه الفراش وركزت نظراتها فيّ.

سألتني فجأة هل ما زلت تحب ميادة؟!

إنّها أمرأه جميلة تناسبك، وتعود بك إلى موطنك! تزوجها وأحفظني ذكرى إن كنتَ تحبّني حقا!

طويت الرسالة، خرجتُ لأدخّن وأنا اجتاز طرقات برلين دونما هدف.

 كثيرٌ مثلُ هذا الرجل، يكتبون مذكراتهم ولا يجدون حلولاً لمشاكلهم.

مالي أنا وهذا؟

سمعت مواء قطّة، فتذكّرتُ جاره اليوناني الذي يعيش حياةً بسيطةً ولا يشكو همّه إلاّ لقطّه

لا أدرى لماذا أرادني أن اقرأ مذكراته هذه؟

ولماذا لا يقتني كلباً أو قطّة كما يفعل الأوربيون هنا لردم هوّة عزلتهم.

 

*برلين