تأتي معرفتي بالصديق الكاتب والروائي والناشر والمسرحي الفلسطيني محمد عبد الله البيتاوي متأخرة، على الرغم من أنني أعرف دار الفاروق منذ نشأتها، عندما كانت تصدر مجلة نوافذ، حيث نشرت لنا نحن الأصدقاء الثلاثة لينا الشخشير ورمضان عمر وأنا مقابلة مع الشاعرة فدوى طوقان رحمها الله خلال زياراتنا لها في بيتها وإجراء لقاء معها. ثم تنشر لي في أحد أعدادها نصوصي الأولى التي كتبتها وأنا في مرحلة الماجستير، لقد نشرت لي المجلة دون أن يعرفني محرروها، وكنت آنذاك مجرد طالب يتلمس طريقه، باحثاً عمن يهديه سواء السبيل.
لم ألتق بأبي رأفت إلا في السنوات الأخيرة، عندما صرت أشارك في جلسات دار الفاروق الثقافية مع ثلة من مثقفي وكتاب محافظة نابلس بدعوة من الكاتب الصديق رائد الحواري، فأوسع لنا المحل، واستبشر بنا، نحن الجيل الجديد من الكتاب. فناقش كثيرا من أعمالنا، وكانت له نظرته الفنية الأدبية فيها. كان رحمه الله تاريخا زاخرا بالأحداث والمواقف، منذ أن عمل بالصحافة الفنية متنقلا بين عمان ونابلس والقاهرة، ثم عمله في صناعة السكاكر والحلقوم، وبعدها في تأسيس دار نشر الفاروق للثقافة والنشر في التسعينييات، ومساهمته في تأسيس اتحاد الناشرين الفلسطينيين.
بصفته ناشرا كان يهتم- رحمه الله- بأن تكون المادة جيدة من ناحية أدبية، ويحرص على أن تكون لغة النصوص سليمة، لذلك كان يقرأ تلك المخطوطات التي ترد إليه بعمق ويقدم رأيه فيها، وقد يضطر إلى إعادة صياغة بعض ما جاء فيها، عدا أنه كان يعرضها على مدققين لغويين، وكنت واحدا من هؤلاء الذين راجعوا بعض الكتب لغويا، وإعطاء رأي حولها وتوصية بالنشر أو عدمه، فلم ينشر تلك الأعمال الرديئة التي يوصي أصدقاؤه بأنها رديئة، ويحترم آراءنا، ولا يهتم بعدها بأي أمر آخر.
لقد كانت مواقف الرجل وإسهاماته كبيرة وذات تأثير كبير في أدباء كثيرين، صاروا اليوم أعلاما في سماء الأدب الفلسطيني، وكان وحدويا فلسطينيا عروبيا ملتزما، ذا صداقات ممتدة مع الكل الفلسطيني، فاحتضنت الدار أدباء فلسطينيين من كل بقاع فلسطين التاريخية. ولن أنسى اهتمامه بدعم الشباب بتخصيص جائزة "دار الفاروق للرواية" التي نظمتها الدار سنة واحدة وكرمت مجموعة من الكتاب وطبعت لهم رواياتهم.
ومن خلال تجربتي مع دار الفاروق حيث نشرت لي في السنتين الفائتتين كتبا متعددة، بدءا بكتاب: "لا شيء يعدل أن تكون حراً"، و"أسعدت صباحاً يا سيدتي"، و"من قتل مدرس التاريخ؟"، وتولى تنفيذ طباعة كتاب "استعادة غسان كنفاني" نيابة عن دار الرعاة في رام الله. من خلال هذه الخبرة وهذه العلاقة التي جعلتني قريبا من هذا الرجل الفاضل، فقد كان نعم الداعم، ونعم الأستاذ، ونعم الأديب، ونعم المثقف، لم يكن ليعجبه "الحال المايل" في أي شيء لا في الكتب ولا في الحديث ولا في السياسة ولا في العلاقات بين الناس.
عندما داهمه المرض العضال، سرطان العظم، لم يكن ليضعف، لم يكن إلا ذا عزيمة قوية، وأصر على أن يتحامل على نفسه، موزعا وقته بين المستشفى ومقر الدار، وعندما كانت تشتد عليه الحالة، كان يتابع العمل عن طريق الهاتف. لقد ظل مخلصا لرسالته حتى آخر لحظة. يتابعنا ونتابعه من المستشفى أو من البيت أو من خلال الموظفة المخلصة النشيطة الآنسة حنان.
كنا نحبه كلنا، ونتمنى أن ينتصر على المرض وعلى القدر، ولكن لا مفرّ مما هو أكبر من أمنياتنا، ومن تمنياتنا. رحل أبو رأفت وخلف في أرواحنا حسرة، وفي قلوبنا وجفة، وفي أقلام رجفة، وفي عيوننا دمعة حرّى تترك أثرها في عيوننا التي ستشتاق رؤيته. فلم يعد هذا الرجل الطيب بيننا، ستشتاق أفكارنا وأسماعنا حديثه المتتابع الناضح بنبرته القوية الواثقة. لقد ظل صلبا قويا حتى آخر مكالمة بيني وبينه وأنا أتابع شؤون كتاب "من قتل مدرس التاريخ؟"، فلم يغب عن العمل يوما واحداـ لقد ظل معنا ويشجعنا، حتى وهو في أشد الأوقات حاجة للراحة والاطمئنان والهدوء.
سيفتقدك أحبابك وذووك يا أبا رأفت، كما سنفتقدك، ستفتقد لمستك الكتب الجديدة التي أودعت في المطبعة فلن تراها ولن تفرح مع كتابها، ستكون فرحتهم ناقصة وأنت لست معهم. بغيابك يا صديقي سيحرم الكتاب الجدد من ناشر رحيم رؤوف بهم، وهم يروْن الناشرين كالمناشير بلا رحمة ولا أمان ولا تقوى ولا نظرة. وأنا على نحو خاص سأفتقدك صديقا عزيزا ونجيّا مقرّباً، فمن غيرك سيسمع الحديث ويقدّره أيها الرجل الجبل الذي لم يفلح المرض أن يهدمه في نفوسنا وإن رحل عن هذه الفانية، فالناس بمواقفها، والمثقفون بمبادئهم. ستبقى حيا بيننا بدرا لن تغيب بأفكارك وكتبك ودار الفاروق التي لها من اسمها نصيب، ستظلّ شامخة بعون الله تفرق بين جيد الأدب فتحتضنه وبين رديئه فتتخلص منه.
الرحمة والمغفرة والجنة يا أبا رأفت، وإنا لله وإنا إليه راجعون.