يذكرنا النص أن أقدم تقنيات القصة القصيرة منذ "موباسان" و"تيشكوف" هي "المفارقة"، وأنها لازالت ممكنة، قابن الأخت الأنيق المدلل، العالة صاحب السيارة الفارهة، على النقيض من خاله الكادح الذي لم يرزق سوى ببنات لا يعملن، ويعمل على عربة يجرها بغل، تتحول العربة لفخ يسقط فيه ابن الأخت.

النفاج الذي أنطق البغل

عبد الله زروال

 

خرج من غرفته يتمطى ويتثاءب، دخل إلى المطبخ يتنشق ليتبين رائحة الطعام التي داعبت أنفه، كشف غطاء الطاجن، أبدى في بادئ الأمر تأففا من المطبوخ، إلا أنه سرعان ما جلس إلى المائدة مشمرا عن ساعدي الشراهة، أَرِمَ الطعام كالمنهوم دون أن يستبقي منه بقية، ثم طفق مسحا بالطاجن ولعقا للأصابع.

اغتسل مدندنا بأغنية من الأغاني الشبابية الكثيرة التي يحفظها، حلق لحيته، هذب شاربه الرفيع، ضمخ وجهه بعطر ما بعد الحلاقة، ارتدى ملابس متناسقة حديثة عهد بالكواء، مشط شعره الأشقر المنساب بمسحات من أنامله، رش على  قميصه رشات من قارورة طيب شديد الفوحان، لمع حذاءه الأسود ذا المقدمة الحادة، رفع علبة السجائر كي يطل من الجيب لونها الأحمر، وضع نظاراته الشمسية على ذروة ناصيته، أمسك بحامل المفاتيح مبرزا مفتاح سيارة، وقف أمام المرآة طويلا يتطلع ليتأكد أنه أنيق في كامل أناقته، ثم أخذ يذرع الفناء ذهابا وجيئة، ينتظر من أمه أن تناوله مصروفه اليومي. أخرجت أمه من نطاقها ورقة مطوية من فئة خمسين درهما، سلمتها له على مضض مقسمة بأنها هي ما تملكه؛ لأنها تعرف أنه لحوح لجوج، وأنه لن يبرح الدار إلا بعد أن يظفر بغنيمته.

وهو يتأهب للخروج تسبقه عجرفته الكاذبة، حضرت زوجة خاله، وما لبثت أن أجهشت بالبكاء، وشرعت تشكو عجزها وقلة حيلتها هي وبناتها الثلاث. لم يبد لحالها رقة؛ بل إنه لم يلق إليها في الأصل بالا؛ فلم تجد أمه حينئذ سوى أن تغمزه، وتستقبلها حفيّة بها، مستفهمة عن الذي جرى لها. كظمت زوجة خاله نشيجها ثم أنشأت تحكي الحكاية من بدايتها إلى السلام عليكم:

- كنت يا أخت زوجي الحبيبة، أنا والبنات في الدار منهمكات بعد الظهيرة في أشغالنا كالمعتاد، وإذا بالباب يطرق طرقا ثقيلا، هرعت لفتحه، فوجدت أخاك مقوس الظهر مثل المنجل، لا نقطة دم في وجهه، مصفرا كالكبريت، يتأوه من وجع شديد ألم به في ظهره، ومعه رجلان يسندانه، قال الأول، والحق أنه كان رجلا لطيفا، بأنه فاعل خير أوصله في سيارته استجابة لطلب جاره، ونبهنا الثاني بفظاظة واضحة إلى أن العربة متروكة  قرب داره، وحذرنا من مغبة التأخر في استعادتها؛ لأنه لا يأمن عليها ولا على البغل المسكين من شغب أطفال الحي العابثين، وأنه أدى أجرة النقل، ولن يتحمل أية مسؤولية. بمشقة تمدد أخوك على مفرشه، ناولته إحدى البنات مسكنا قويا دأب على استعماله لكل الأوجاع، ووضعت أنا على ظهره كمادة ساخنة، وبعد أن أحس بشيء من الراحة أخبرنا بالذي وقع، أخبرنا بأنه نقل أكياس إسمنت لرجل مهووس بالهدم والبناء، وهو يضع، متحاملا على نفسه، آخر كيس على الأرض أحس بقصمة في الفقار سمع لها طقطقة قوية، فعجز عن الانتصاب قائما، وبقي في مكانه مشلولا عن الحركة.

أمسكت بقميصه متوسلة تذكره بأن الله شاء أن يهبها الإناث ولم يشأ أن يهبها الذكور علها تحرك فيه ذرة من المروءة المفقودة، أو تبعث فيه شيئا من الشهامة الموؤودة، فيسارع لإحضار العربة إلى الدار، لكنه أخذ ينفض قميصه بأطراف أصابعه، ويسوي طوقه ناظرا إلى أعطافه في تكبر زائد، ثم انتفض شاهرا مفتاح سيارة وقد انتفخت أوداجه من العُجب:

- أنا أقود عربة يجرها بغل؟ ماذا لو رآني أصدقائي؟ أنا أصدقائي، يا "لالا" برجوازيون، كلهم من أبناء الوجهاء والأثرياء الذين يقطنون الفيلات في الأحياء الراقية؟ ستكون فضيحة الفضائح! لا، والله لن أفعل ذلك ولو نثرت بين يدي ألف درهم، لو كان الأمر يتعلق بحصان لربما فكرت في الأمر، ولكن أن أقود عربة يجرها بغل وأجوب بها الشوارع والأزقة فلا ومليون لا، هذا أمر لا يمكن تصوره.

قالت زوجة الخال وقد تملكها الغضب من تعاظمه الذي فاق الحدود:

- لم تحتقر البغال؟ البغال ذكرها الله في القرآن، هذا ما سمعته من خالك الله يشفيه، ألا تعلم بأن البغل خاله الحصان؟ ثم إن بغلنا ليس ككل البغال، بغلنا متين وجميل، وهو مصدر رزقنا، ورزقنا لا ذرة من الحرام فيه، رزقنا حلال فيه كثير من الخير والبركة؛ لقد ذهب بك التكبر بعيدا، ألم تبك عندما كنت صغيرا ليركبك خالك بغلنا القديم؟ لا زلت أذكر ذلك، لقد بكيت بكاء متواصلا حتى اختلطت دموعك بمخاط أنفك، سبحان الله مبدل الأحوال، كان المخاط الأخضر لا يفارق أنفك!  

حتى لا يشتط الخصام بين ابنها النفاج الغارق في أوهامه الكاذبة وزوجة خاله المعروفة بلسانها الحاد السليط، وربما يتطور الأمر إلى ما لا يحمد عقباه، تدخلت أمه لتفاوضه بطريقتها الخاصة:

- افعل ما طلبت زوجة خالك ولك مني مئة درهم.

فكر مليّا ثم قال:

- أفعل بمئتي وخمسين درهما.

ردت عليه أمه:

- هاك خمسين على سبيل التسبيق، والباقي تأخذه بعد إنجاز المطلوب.

أبدى موافقته على الاتفاق المبرم بهزة من رأسه، وخرج لإنجاز المهمة التي اعتبرها أول الأمر مهمة مستحيلة؛ بل من سابع المستحيلات، بينما بقيت أمه وزوجة خاله تتحدثان، أمه تحكي عن خيبتها في ابنها الوحيد الذي وقف في عقبة الباكالوريا كما وقف حمار الشيخ في العقبة، ورغب عن الاستفادة من أي تكوين، وحتى الأعمال التي اقترحها عليه أحد الأقارب، ترفع عنها، واستقلّ أجرتها، وآثر الرقاد والراحة، واستطاب العيش عالة؛ أما زوجة الخال فأخذت تشكو مصابها في زوجها المسكين الذي يكدح طوال النهار ليكفي عياله حاجتهم، ثم تعرج بعد ذلك لتثني على بناتها، وتطري على حذاقتهن في الطبخ، ومهارتهن في الخياطة، وتنتقل إلى وصيتها بتزويجه بامرأة قوية شرسة لعله يشعر بالمسؤولية، وينفض عن منكبيه غبار الخمول، ويستفيق من نخوته الخاوية.

لما وصل إلى المكان الذي دلته عليه زوجة خاله، رمق من بعيد العربة، فأمر السائق بالتوقف، وترجل، وسار على الأرض المتربة ممتعضا متمهلا متوقيا أن يتطاير الغبار، فيعلو حذاءه الشديد اللمعان، وأخذ يطوف بالعربة من بعيد متحاشيا الاقتراب أكثر من البغل. رآه صاحب الدار الذي نقل له خاله بضعة أكياس من الإسمنت، فأقبل يسأله عن بغيته، ولما أنبأه بأن العربة عربة خاله، وأنه جاء ليستردها، ذهل من حسن هندامه، وأخذ يصعد فيه الطرف من حذائه اللماع إلى شعره الأشقر الناعم، وطفق يحاوره مستغربا:

- أأنت الذي سيسوق هذه العربة؟

- نعم، سأحاول.

- عجيب والله عجيب!

- وما العجيب في ذلك؟

   - الصراحة لم أر في حياتي شابا في مثل شياكتك يسوق عربة يجرها بغل.

 - في الحقيقة لم يسبق لي قط أن ركبت عربة مثل هذه، لكن للضرورة أحكام، كما لا يخفى عليك خالي مرض، ولا ولد له، والخال والد، أليس كذلك؟ وجئت، في سبيل الله، لأعيد إليه مصدر رزقه ورزق عياله؛ أما أنا فلي سيارة فارهة، ألا تصدقني؟ انظر ها هو مفتاحها.

 - معاذ الله، شاب في تمام أناقته لا يمكن إلا أن يكون صاحب سيارة فخمة، حقا إنك شاب في قمة التواضع، ليس كشباب اليوم، كثر الله من أمثالك.

 - العظمة لله وحده، ومن تواضع لله رفعه.

انصرف صاحب الدار يحرك رأسه مستغربا؛ أما هو فتجرأ هذه المرة، ودنا أكثر ليفحص العربة، ويتفرس في  البغل، امتلأ غيضا؛ لأنه وجد البغل على غير الصورة التي رسمت زوجة خاله، وجده بغلا تقدمت به السن، ضامرا برزت عظامه من فرط الهزال، وتآكلت مواضع متفرقة في ظهره من شدة الاحتكاك، وقف ليغرق في بحر من التحير، وفجأة سمع البغل الأعجم ينطق ويتكلم كما يتكلم بنو البشر:

- ألا تعرف قيادة بغل؟ يا لك من حمار! الأمر ليس معقدا كما تظن، إنه لا يتطلب منك اجتياز امتحان الحصول على رخصة السياقة، سم الله، واصعد إلى موضع القيادة، وكل ما عليك أن تقوم به هو أن ترخي اللجام، وتصيح بأعلى صوتك "رّا"، وأنا سأتكلف بالباقي، لا تخف، الأمر في غاية البساطة.

تسمر في مكانه يحدق في فم البغل مصدوما لا يكاد يصدق مسمعيه؛ وهو كذلك إذا بالبغل يقذف شلالا من بوله أصاب سرواله برشاشه، فقفز مشمئزا ليمتطي صهوة العربة، جلس في موضع القيادة، وطبق حرفيا ما تناهى إلى أذنيه من التعليمات البغلية، أرخى سير اللجام، ورفع صوته صائحا "رّا"، فما كان من البغل إلا أن انطلق وديعا طائعا مكدودا. لوح بالسوط، وصاح من جديد رافعا صوته أكثر "را" ليحمل البغل على الإسراع لكنه البغل رد عليه محذرا إياه بشدة:

- إياك ثم إياك أن تضربني سوطا، ألم تسمع عن الرفق بالحيوان؟

لم يغير البغل من إيقاع سرعته، وظل يسير طوع العنان في رتابة وهدوء، والعربة المجرورة الممسوحة العجلات لا تكف عن الصرير.

حين بلغ شارعا رئيسا مزدحما اضطرب وأربكته وسائل النقل المتلاحقة، فلم يجد سوى أن يجذب اللجام تارة إلى اليمين وتارة إلى اليسار يريد أن يجد مسلكا للعبور إلى الأزقة الخلفية حتى لا يقع عليه نظر أحد ممن يعرفونه، فتخبطت قوائم البغل، وكادت سنابكه الصلبة تنزلق على الإسفلت، لولا أن الله قدر ولطف، فحرن في منتصف الطريق لا يتحرك ولا يتزحزح، ونطق غاضبا:

- دوختني، وكدت تتسبب لي في مكروه، لم يحدث لي هذا أبدا مع خالك، يا سيدي اثبت على رأي واحد، هل أنعطف يمينا أو يسارا؟

ظل مأخوذا يتساءل:

- هل نطق البغل فعلا أم هي مجرد أوهام؟

تعالت أبواق السيارات، وأطل السائقون غضابا برؤوسهم من النوافذ، ونزل سائق سيارة أجرة  يشير بيديه كلتيهما ويصرخ محتجا على عرقلة حركة السير والجولان، وتوقف أصحاب الدراجات النارية والهوائية، وأقبل الراجلون يستطلعون ما الذي يجري في المكان، ظانين في البداية أن الأمر يتعلق بحادثة سير. ثبت نظاراته على عينيه وحاول أن يواري وجهه براحة يده كي لا يتعرف عليه أحد، حينها رفع البغل ذيله الطويل، وقذف كرات متتابعة من روثه الساخن، انقبضت لهذا المنظر ملامح وجهه من شدة التقزز، وترجل.

تحولت الواقعة إلى فرجة وموضوع للحديث والتعليق. أطلق طفل في زيه المدرسي ضحكة متقدة أطفأتها نظرات استنكارية حادة من رجل وقور أو يتكلف الوقار، قال زميل الطفل معلقا:

- يا له من بغل!

قال أحدهم:

- موقف طريف، ذكرني هذا البغل ببغلة أبي دلامة.

سأله سائل إلى جانبه:

- من يكون أبو دلامة؟ وما قصة بغلته؟ احكها لي، تعجبني الطرائف والنوادر.

قال رجل تبدو على سمته سيماء البداوة:

- والله إنكم يا أهل المدينة، لا تقدرون قيمة ذلك الروث، روث الدواب، يا أسيادنا، سماد طبيعي، صحي، ليس كمثل المواد الكيماوية المضرة بالصحة.

وقال شاب أبانت ملامحه عن تبجح معرفي:

- وأكثر من ذلك هو ثروة، لا أذكر على وجه التحديد أين قرأت أن بعض الدول الصناعية الكبرى حولته إلى مصدر من مصادر الطاقة.

وقال رجل بنبرة واعظ هادئ مهيب:

- العيب ليس في البغل، البغل مجرد بهيمة عجماء لا تعقل، المسؤول هو صاحب البغل، العاقل المكلف.

تواصل نعيق أبواق السيارات، وتزايد عدد المتجمهرين من الفضوليين الذين لا يدعون فرص تشمم الأخبار تمر، وتعاظمت الدائرة، وتشعبت الأحاديث والسجالات، واختلطت أصوات المعلقين. أشهر الموهوم مفتاح سيارته المزعومة، وحاول أن يختلط بالمحتشدين باحثا عن منفذ للهروب بعد أن أفلت الزمام من يده، غير أن شابا في ملابس رياضية فطن لحيلته، وأمسك بتلابيبه، وأخذ يصيح:

- هذا هو الشاب الذي كان يسوق العربة، لقد رأيته يحاول أن يندس بين الناس، يريد الفرار والتخلي عن بغله.

اشرأبت الأعناق وتزاحم المتجمهرون الذين في الخلف ليروا صاحب البغل، وتناسلت التعليقات:

- هذا هو صاحب البغل؟

- هذا الشاب الوسيم الأنيق؟ لا يمكن، مستحيل.

- لا شك أن في الأمر خطأ ما.

- لا بد من حضور رجال الشرطة للقيام بما يلزم القيام به.

- والوقاية المدنية.

- ينبغي اقتياد العربة إلى المحجز.

- قل إلى المعلف، البغل المسكين من سيعلفه؟

   سمعت منبهات سيارة الشرطة قادمة من بعيد، وبدأ المتجمهرون في التفرق فاسحين الطريق.