لا يحتاج الروائي السوري الكبير إلى تقديم، وقد فاز بجدارة هذا العام بجائزة سلطان العويس في الرواية. لأن روايته ستقتنص القارئ في أحبولتها منذ الصفحات الأولى بسردها الصافي ولغتها الساخرة وتناصاتها الثرية، وتدفق الأحداث فيها من الرقة الضائعة إلى اللواء السليب وهي ترد البشر إلى أصلهم الحميري.

تحولات الإنسان الذهبي (رواية)

نبيل سليمان

 

لقاء سري في النهر

على صفحة النهر تتراقص أضواء شرفاتٍ وغرفٍ مطلةٍ عليه، وتندغم أضواء في سطوع الساحة والمسبح والضفة الترابية العريضة.

شرحت آواز التي تولت أمرنا منذ تجاوزنا العتبة الكبيرة المكللة بالورود: أزماك نهر قصير، بالكاد 2 كيلو متر من نبعه إلى البحر، لكنه عميق ومياهه باردة. مياهه مالحة أيضاً، ولكن ليس بمثل ملوحة البحر.

وقالت آواز بينما كانت خصلتها الشقراء الطويلة تنسدل على عينها اليسرى:

  • نحن نسميه: قادين أزماك، لكي نميزه عن أنهار أخرى تحمل الاسم نفسه.

همس أصلان لي:

  • قادين تعني المرأة المرحة.

نظرت إلى آواز وتمتمت:

  • قادين آواز.

لكن تمتمتي بلغت مسمعها، فالتفتتْ إليّ ضاحكة، وسألتني إن كنت أتكلم التركية، فالتفتُّ إلى أصلان مستنجداً.

ضاعفتْ تولاي ضوء الشرفة الفسيحة، وأعلنتْ أنّ هذا كل شيء: صحن كبير يتوسط الترابيزة تكاد تضيع فيه حبات الخوخ الحمراء الفواحة وخصلات العنب، صحنان فارغان، صحن صغير يضيق بحبات الكاجو واللوز والبندق، كأسان من زجاجة الويسكي التي أحضرتها لها: جاك دانيال.

كانت تولاي قد وصلت بعدنا بساعات، ارتويت خلالها من النوم والسباحة والبيرة، بينما ظل أصلان يشخر حتى فاته موعد الغداء.

عانقتني تولاي وأسرعتْ إلى واحدة من موظفي الاستقبال، ثم أسرعت إلى المسبح، وعندما أطلّت أخيراً تعلقت بها عيناي وهي تنتقل من طاولة إلى طاولة مرحبةً بالضيوف، لا يفتر لسانها ولا تفتر ضحكتها.

كنت أحاول أن أتقرى ما لعله تبدل فيها خلال الشهور الماضية. تراءى لي أنها قد ازدادت طولاً وامتلاءً عنها في الرقة. شعرها أيضاً ازداد طولاً وسواداً. خفتُ من أنها إن ظلت طوال أيام هذا الملتقى الثلاثة تنتقل من ضيف إلى ضيف، فلن يكون لي منها أكثر من أي واحد منهم، وسيكون سفري من نيبالين إلى آكياكا قد ضاع هباءً. وتمكن هذا الهاجس مني أثناء العشاء، بعد أن تأخرتْ عنه، فلما حضرتْ مضتْ إلى طاولة بعيدة وهناك اختفت. عافت نفسي الطعام.

لكن تولاي ظهرت فجأة، وهمست في أذني:

  • أنتظرك في العاشرة، لا، في العاشرة والنصف. تعال وحدك. الجناح 1001.

واختفت. حاولتُ أن أستعيد همستها. أخفقت. تلفّتُّ خوف أن يكون أصلان قد ضبطنا، ورددتُ خلف تولاي: تعال وحدك، لذلك أسرعت إلى أصلان مودعاً وادعيت الرهق والنعاس، فقهقه وقال:

  • كذاب.

وخبطتْ قبضته على كتفي قائلاً:

  • سهرة سعيدة.

وهو إذن على دراية بموعد تولاي: فكرتُ، وأنكرتُ، وتمنيتُ. وساءني أن الأمر قد لا يكون كذلك البتّة، وإنْ هو إلّا أن أصلان يعلم من تولاي ما لا أعلم، ولابد أنها قد واعدته بمثل ما واعدتني، ربما في دورة ما من دورات مهرجان الرقة، أو في دورة ما من دورات مهرجان آكياكا، بل ربما في أكثر من دورة وفي غير مهرجان.

عندما أغلقتْ خلفي باب الجناح نسيت ظنوني، وترنّم في سمعي صوت أصلان وصوت غالي معاً بمعانٍ لاسم تولاي. نظرت إلى السماء وأبهجني أن القمر يدنو من البحر، وأنه في أيامه الأولى. اختفى الصوتان، فأقبلتُ على تولاي متهجّداً ومشيراً إلى البحر:

  • انظري: تولاي القمر المنير، تولاي الهالة التي تزنّر القمر.

غرغرت بضحكة ودهشة، وبالسؤال عمن شرح لي معنى اسمها، فتابعت:

  • تولاي، حلوة، مغامرة، كريمة، حالمة، رقيقة، مستقلة، محظوظة، وفيّة، خيال تولاي خصيب، تولاي تحب السفر، تحب الغناء.

وأسكرني وجهها يكاد يلامس وجهي، وأصابعها تداعب شعري، وبهرتني شمسٌ ورفرفتْ أجفاني. لما نأتْ رجوتها أن تخفف من ضوء الشرفة.

لم أكد أستعيد عينيّ حتى أغشي على بصري وهي تعود إلى كرسيّها. لكن الأمر كان أهون هذه المرة، كما لو أن القمر بهرني. وبينما تصافحت كأسانا فكرت بأن وجه تولاي هو الشمس وهو القمر. أقبلتْ عليها عيناي تتشربان مَلَسَ بشرتها. رأيت أصابعها تطوف بخدها فاشرأبت أصابعي، وربما كانت ستعبر ما بين كرسيينا، فوق الطاولة، لتطوف بالخد الآخر، لولا أني لجمتها في منتصف الطريق، فانلجمتْ حتى سَرَتْ ضحكة قصيرة خافتة لتولاي، ثم سرى صوتها وهي تنظر إلى أصابعي:

  • لماذا أوقفتها؟

اندفعت الأصابع لهفى إلى الخد الذي يكاد ينفطر، وطال طوافها قبل أن تنحدر إلى الذقن التي تكاد أن تنفطر أيضاً. وقبل أن ترتوي الأصابع التي بلغت من العطش حدّ اللـهبة، بل لمّا بدا أنها لن ترتوي، نأى وجه تولاي، وعادت إليّ أصابعي تسألني عما إذا كانت بشرة تولاي في الرقة بمثل نعومتها الآن، فسألت:

  • ماذا تبدل في وجهك بعد الرقة؟
  • قل: ماذا تبدل في جلدي كله.

قالت وهي تمسح على ذراعيها، ثم على فخذيها – يغطي الشورت نصفهما – ثم على ساقيها. ضاع منّي السمع والبصر ردحاً قبل أن أتبين أنها ما تركت نوعاً من الصابون لم تجربه، وفي تركيا ما لا يخطر على بال من الصابون:

  • سمعت بصابون القرفة؟ صابون الخزامى؟

هي تسأل وأنا أنفي.

  • طيب وصابون المشمش؟ صابون حبة البركة السوداء، لا رأيت ولا سمعت؟

 تمتمتُ وأنا أبلع الدهشة:

  • لم أر ولم أسمع إلا بالصابون الحلبي وصابون كسب، صابون زيت الزيتون وصابون زيت الغار.

وهمّتْ بالمتابعة فقاطعتها:

  •  أعرف صابون كامي وصابون لوكس. على رف المغسلة في بيت أصلان رأيت صابون الورد.

قالت تولاي:

  • صابون الورد لأسيل، بشرتها جافة وهذا الصابون يليّن البشرة ويرطّبها. أنا أرسلته هدية لها مع أصلان، فتعودتْ عليه.

ثم أدارت على مهل نتف الثلج في كأسها، ثم أتت على ما فيها، فقلدتها، وعادت عيناي مفزوعتين إلى الخدين اللذين تأرّجا فجأة، وفاح عطرهما، فهممتُ بالسؤال عنه، إلا أنها أشارت إلى الكأسين الفارغتين. تناولتُ الزجاجة وهي تسأل:

  • والصابون الأسود أيضاً، لا رأيت ولا سمعت؟
  • صابون أسود؟

دمدمتُ مثل تلميذ غبي وخائف، بينما اندفعت هي تخلط الصندل بعسل النحل بزبدة الشيا بزيت النخيل، ورسمتْ أخيراً على قطعة الصابون رأس حمار أو حمارة، لم أستطع أن أميز بينهما. عندئذٍ تيقنت من أنها تسخر مني طوال الوقت، وخفت من أن أكون ما عدت أفهم حديثها بالفرنسية. خفت من أن تكون قد سكرتْ منذ الجرعة الأولى، فتركتُ لصوتها أذنيّ، ولخديها وذقنها عينيّ، وإذا بشفتيّ تنمّلان. دعكتهما، فراودتاني عن الشفتين العنّابيتين، وفكرت في أنهما لو كانتا لعساوين لكانتا أشهى. ولبثت أنتظر أن تنطبق الشفتان لأتبيّن قوس الشفة العليا، وكم هي الشفة الدنيا أكبر، ثم انشغلت بامتلائهما عن انطباقهما، وإذا بتولاي تذكر صابون الحمير. ولعلي شهقت، أو كتمت شهقتي، أو استجرت بالكأس، ولما عدت إلى تولاي كان قد فاتني من كلامها ما فات، وكانت تقول:

  • بدأت بعد عودتي من الرقة مباشرة باستخدام هذا الصابون، لوجهي وذراعيّ أولاً، وبعد أسبوعين لجسمي كله. أنت تعرف فوائد حليب الحمارة، لا تقل لا، ما دامت الحمير في رأس اهتماماتك.
  • أعرف أن هذا الحليب مفيد لآلام المفاصل، لمعالجة التسمم، لمعالجة الربو...
  • وأنا من كنت أعتقد أنك خبير بكل ما يتصل بالحمير! هل يعقل أنك لا تعرف مثلاً أنه يجعل البشرة طرية وأكثر بياضاً؟

قالت بينما كانت أناملها تمسح على عنقها، فقلت وأنا أغالب ما حسبته من استفزازها:

  • لا يا عزيزتي. لا أعرف إلا أن بول الحمير كان في طفولتنا هو السبيرتو. وعندما كانت عيوننا ترمد، كان روث الحمير هو الدواء، أي كانت نيبالين مثل باريس قبل خمسمائة سنة. ولكن قولي أنت: هل تعرفين كم يرفع حليب الحمارة من مستوى الذكاء عند الأطفال؟ هل يكفي هذا؟

قالت وقد أسندت ظهرها على مسند الكرسي، ووضعت ساقاً عارية فوق ساق عارية، لكأنها تنأى عني:

  • لا، لا يكفي.

حيّرني صوتها: لِمَ هو بارد؟ هل هي جادة أم تسخر؟ أم مازالت تستفزّني؟ وقلت متراجعاً ومتردداً:

  • أنتِ أدرى مني بأن هذا الحليب علاج لتجاعيد الوجه، مضاد للشيخوخة، وأنت وجهك مرآة. لا أظنك بلغت الخمسين.
  • أنت أيضاً لا تعرف كيف تغازل. أنا قفزت فوق الأربعين، ولكن لا تظن أني في أزمة منتصف العمر. أنا لست في منتصف العمر لأني لن أعيش حتى الثمانين، ولست في أزمة. هل تريد أن تعرف لماذا؟

قلت في خروسي: نعم، وقلت: لا، فضحكتْ وهجمتْ بكأسها على كأسي، وقالت وهي تعيد كأسها فارغة:

  • أظن أنك تساءلت عن دعوتي لك سراً، وهنا، على شرفتي.

ماذا سيكون إلا أنك أردت أن تنفردي بي: فكرت، وأرسلت نظرة من خلف ظهرها إلى ما يظهر من السرير العريض عبر الباب العريض، ثم عدت إليها، وإذا بها تبتسم كمن ضبطت طفلها يسرق.

تطامن رأسي مُقِرّاً بالذنب الذي ستحدده، وراضياً بالعقاب الذي ستأمر به. ولما طال صمتها استعدتُ ابتسامتها، وأَنِسْتُ لما فيها من حنان وغفران، ورفعتُ رأسي ممتناً، فلاقتني بابتسامة أعرض قائلة:

  • أنا زوجة، وأم، وبلا زوج، لكني لست أرملة، ولا مطلقة، وكان لي صديق حتى وقت قريب. هل حدثك أصلان عن ذلك؟
  • أنا سألته وهو أجابني.
  • لماذا سألته؟ لماذا لم تسألني؟

أحسست بالحصار، فاستعنت عليها بالكأس، وقررت ألاّ أجيب. وأخذ هذا اللقاء (السري) يبدو لي بلا معنى! وطال الصمت حتى رفعتُ رأسي إليها، ورأيت كفيها تحضنان الكأس، وقالت بصوت لم أسمعه منها من قبل:

  • في الرقة راودني الميل إليك، وأنت تلقيت ذلك. أنت أيضاً راودك الميل لي. لا تتغاب. ما لك اليوم؟ أنت الآن لا تشبه كارم في الرقة. لا تجعلني أندم. أنا أدّعي أنني صرت أعرفك جيداً على الرغم من أنها خلوتنا الأولى، على الرغم من أننا لم نقض معاً وقتاً طويلاً. لماذا لم تتصل بي طوال الشهور الماضية؟ لا تتساخفْ وتسأل: لماذا لم تتصلي أنت؟ لم أعطك رقم هاتفي عامدة، ولم آخذ رقم هاتفك عامدة. حتى من أصلان لم أطلب رقمك. تركته هو ينقل لك الدعوة إلى آكياكا. لا تقلّد عشاق السينما في زمن الأسود والأبيض: كنت أفكر فيك ليل نهار، أخاف أن أصارحك فترفضين. وبما أني ذكرت السينما: هل شاهدت أليزابيث تايلور في فيلم كليوباطرة؟
  • شاهدته زمن المراهقة.
  • ما الذي تتذكره منه؟

نزلت عيناي على مهل إلى صدرها الذي عرّاه تيشرت أبيض هفهاف. وبين ثدييها راحت العينان تتمرغان. حاولت أن أنتزعهما مرة بعد مرة فلم تأبها. حتى أجفاني ما عادت ترفرف، ومن بعيد جاء صوت تولاي:

  • أنت إذن لم تنس كليوباطرة عندما هتفتْ: انظر إليّ، وكشفت عما بين ثدييها.

كانت أصابع تولاي أكبر جرأة من أصابع كليوباطرة أو أصابع أليزابيث تايلور. وعادت عيناي إليّ ترتجفان خوفاً والتذاذاً. وربما فاتني من كلام تولاي كثيرٌ قبل أن أسمعها تقول:

  •  يُقال: كانت كليوباطرة تستحم بحليب سبعماية حمارة مرضعة. قدّرْ إذن حجم الحوض الذي كانت الإمبراطورة تستحم فيه. أما أنا فالحوض الذي أستحم فيه ليس أكبر من البانيو الذي في غرفتك. عندنا في إزمير انتشرت خدمة الاستحمام في حوض حليب الحمارة، قل في بانيو حليب الحمارة، في أكثر من منتجع، وفي أكثر من صالون للتجميل. طبعاً: الأسعار مرتفعة، قل: مرتفعة جداً، ولكن انظر النتيجة.

لم أتجرأ على أن أملأ عينيّ من حيث أشارت إلى وجهها وصدرها وفخذيها وساقيها. تشاغلتُ بالتساؤل عما إذا كان راتب الأستاذة الجامعية يكفي لمثل هذه الأعباء، أم إن لجيب تولاي مصادر أخرى؟ تنبهت فجأة إلى أن الضوء صار شاحباً. التفتُّ إلى جهة النهر، فإذا الأضواء على صفحته ما عادت تتراقص، بل ها هي تتخافت. فاستأذنت تولاي في أن أضاعف إضاءة الشرفة، ولم أنتظر الإذن. ولما عدت إلى جلستي حدقت في وجهها، وافتقدتُ بهرةَ الشمس وبهرةَ القمر. لكن ابتسامةً غامضة رفرفتْ على وجهها الذي بدا كأنه يعلن عن قول عظيم لصاحبته، فلبثتُ متشوفاً حتى سمعتها تسأل عما إذا كنت أعرف سبب دعوتها لي إلى آكياكا.

اغتظت، وكتمت غيظي متيقناً من أن تولاي قد سكرت، وإلا ما كانت لتقفز من أنواع الصابون إلى كليوباطرة، ومن صابون الحمارة إلى سرّ دعوتها لي، ولكن إلى أين؟ إلى هذه الشرفة أم إلى مهرجان آكياكا؟

هربت إلى النهر. أزماك. قادين أزماك الذي لم يكن عرضه في هذا المساء يبلغ عشرين متراً. ها هو يترامى بصمت يميناً ويساراً. صار عرضه خمسين متراً، مئة. صار الأوتيل جزيرة في النهر. يا رب.

 

تغمس قدميها في الفرات:
في بهو دار الثقافة، قبيل افتتاح الدورة الأولى، رأيت شابة تقتحم المكان اقتحاماً. لا، لم أر في مثل شقرتها السمراء وسمرتها الشقراء. أنا أعرف هذه الشابة. واللـه أعرفها. هاتان الوجنتان الحائرتان بين أن تكونا مدورتين أو مروّستين، واللـه أعرفهما. هذا العنق الأعبل كنت سأقسم على أنني أعرفه لولا أن صوت الشابة اقتحمني اقتحاماً:

  • مرحباً أستاذ. أنا أريام. نسيتني أكيد. أنا أريام الصغيرة. أمي أريام الكبيرة، اللـه يرحمها.

احتضنتُ كفيها وحاولت أن أتكلم. عجزت. وجف قلبي. عادت أريام بنت خمس سنوات أو ست. ضمتها ذراعاي. لبدتْ في حضني مثل القطة. لو كان يمكن أن أكون أباً لقبلتها وقلت لها: أنا أبوك أيضاً. لك يا أريام أب هرب إلى العراق، وأنا. لكنني حمار. لا يمكن أن أكون أباً لأريام الصغيرة، أريام الثانية، كما لا يمكن أن أكون زوجاً لأريام الكبيرة، أريام الأولى.

اختفت أريام بعد حفل الافتتاح. وبعد حفل افتتاح الدورة الثانية من المهرجان عرّفني أصلان إلى تولاي: أفضل أساتذة تاريخ الفنون في جامعة إيجة في إزمير. وعندما قدمني أصلان لها، أبهجها أن لي كتابات حمارية.

أثناء الدورة الأولى لمهرجان عبد السلام العجيلي للرواية العربية، وعلى ضفة الفرات في مدينة الرقة، عرفت ذلك الرجل الذي يباريني في القِصر والشقرة وزرقة العيون، وفي سُمنة من غطس في الأربعينات من عمره، إن لم يكن تجاوزها: أصلان علي.

من دورة إلى دورة من المهرجان تعمقت صداقتنا. كان أصلان ضيفاً رسمياً مرافقاً ومترجماً لمن يكون من الأدباء الأتراك مدعواً إلى المهرجان، بينما كنت ضيفاً غير رسمي، أكرمتْ وفادتي إدارة المهرجان كقادم من خارج الرقة، وكاتب نصف نكرة وربع معرفة.

أطاشتني تولاي بفرادة صوتها. وفي لحظة كاشفة قاطعتُ أصلان وهتفتُ: هيام حموي، هذا هو صوت هيام حموي. ومن حسن حظي أن أصلان كان مفتوناً هو الآخر بصوت هيام حموي: مذيعة قديمة في مونت كارلو، في إذاعة الشرق: قال وهو يترجم لتولاي التي ضحكت واقتربت من أذني توشوش وعيناها تحثان أصلان على الترجمة: أنا تولاي، لا صوت مثل صوتي ولا امرأة مثلي. أنهى أصلان الترجمة بكلمة: مجنونة. ومن جديد أطاشتني، ولكن بملاعبة نسائم الفرات المسائية لشعرها، هذه المرة. فكرت في أنها لو لم تكن إنسانة لكانت حمارة قلّ نظيرها، وأوشك لساني أن يجهر بذلك، لكنني لجمته. ربما كانت مثل أغلب البشر الذين يسيئ واحدهم أن تشبهه بحمار. ولم يفتها أنني حبست كلاماً يخصها، فأمرتْ أصلان وهي تحدق بي متنمرةً بأن يترجم. وترجم أصلان أمرها بأن أُطْلِقَ ما حبست. أطلقت اشتهائي ملء عينيّ وصوتي، وخاطبتُ أصلان دون أن أنظر إليه:

  • تولاي مهرة، فرس. ترجمْ.

لاقيت ضحكتها وأنا أفكر بحمار يراود فرساً، ونفضت رأسي لأطرد الفكرة. وعلى العشاء تعمدت أن أجلس بجوار تولاي. وبما أن أصلان كان بعيداً، لجأت إلى الفرنسية، وإذا بالفرنسية لغتها الأجنبية الأولى، والإنكليزية الثانية.

بمبادرة من تولاي كانت خلوتنا الوحيدة: مشوار مسائي في الفسحة بين نهاية الجلسة المسائية والعشاء. قالت إنها متلهفة على أن تغمس قدميها في الفرات.

قلت: غير ممكن الآن. لكنها انعطفت قبيل الجسر العتيق، فانعطفتُ، وشبك المنحدر ذراعينا. تباطأتْ خطانا وتبدل صوت النهر. بدت عضادة الجسر هائلة. بدا الجسر خرافياً. وأخذ الخوف يلاقينا. فجأة لحست حذائينا ذوائب موجة، بالأحرى مويجة. شهقنا وتسمّرنا ولفّتها ذراعي ولفّتني ذراعها. نظرتْ في وجهي ونظرتُ في وجهها. المجنونة تتركني، تنحني بحذر، تنزع حذاءها، تقرفص، تداعب أصابعها ما يتلاشى من المويجة، تقف، تمسك بي، تمد قدمها اليمنى إلى الماء، تعيد القدم المبللة إلى الحذاء، تمد القدم اليسرى إلى الماء، تعيد القدم المبللة إلى الحذاء، تتراجع بحذر، أتراجع معها، خطوتان إلى الوراء، طارت يسبقها صياحها وضحكها، طرت خلفها وأنا أكذّب نجاتنا.

كانت أضواء الرقة مثل التماعات النجوم تنعكس على صفحة النهر المترامية، لكأنها تائهة في كبد السماء. تعانقت أصابعنا وسرنا جنباً إلى جنب صامتين. ولما اقتربنا من ساحة الساعة سألتني:

  • لماذا تكتب عن الحمار؟

هل أقول: لأنني حمار؟ هل أقول: لأسباب شخصية لا أستطيع كشفها؟ قلت:

  • ليس من سبب واضح أو محدد. افرضي أنها لعبة.
  • لدينا في تركيا من لعبها. في فرنسا قرأت القصة التي كتبتها الكونتيسّة دي سيجور[i] عن الحمار كديشون. هل قرأتها؟
  • لا.
  • هي ما يرويه الحمار عما كان في شبابه، أشبه بالمذكرات أو الخواطر في الفلسفة والأخلاق على لسان حمار. القصة تتوجه إلى الفتيان والفتيات لكنها سحرتني. لا يمكن أن أنسى الحمار العالِم فيها.
  • الحمار العالِم؟ ما هذا؟
  • حمار نحيف وضعيف. وفي الحفل يقدمه صاحبه: هذا الحمار العالِم هو أمير الحمير. ويأمره بأن يقدم باقة الزهر إلى أجمل سيدة، فمدت النساء أيديهن. لكن أمير الحمير قدم الباقة إلى زوجة صاحب الملعب، فانتزع الحمار كديشون الباقة من المرأة السمينة وقدمها إلى طفلة، وصفق الجمهور، وغضب صاحب الحمار العالِم، وأمره بأن يضع القبعة المزركشة بأجراس وشرائط ملونة على رأس من هو أكبر حماقة. اتجه أمير الحمير إلى فتى سمين، لكن كديشون خطف القبعة وحاول أن يضعها على رأس صاحب الأمير، فقاومه كديشون والجمهور يصفّق. ما رأيك؟
  • عزيزتي: كلهم يجعلون من الحمار قناعاً ليقولوا قولهم. هذا، على الأقل، غير كاف. أنا لا أفعل ذلك، ولن أفعل.

غادر الوفد التركي ومعه أصلان صباح اليوم الأخير من المهرجان. لفّني إحساس بالغربة إلى أن عدت إلى نيبالين. وعلى العكس مما سبق، لا أنا تواصلت مع أصلان، ولا هو تواصل معي، طوال سبعة أشهر.

 

أهل العاصي
1
كان الصيف قد بكّر، وكنت سعيداً بما زيّن حاكورة الخضراوات. أضفت إلى الأصناف هذه السنة كثيراً من السبانخ والملوخية، وضاعفت مساحة الرشاد والفجل. يبدو أن البذور والشتول كانت ممتازة، إذ سرعان ما تمطت مثل صبية صغيرة تراها خجلى في النهار، لعوباً في الليل، وفي كل صباح تراها قد كبرت حتى لتكاد أن تنكرها. وبينما كنت منهمكاً في تعشيب ونكش الحاكورة، ناداني أصلان.

تلوّث الهاتف بما على أصابعي من التراب الرطب، وأجفلني صياح أصلان:

  • أين اختفيت كل هذه الشهور؟ أنت لست وفياً. واللـه لولا تولاي لكنت أعاملك بالمثل.

أنساني ذِكْر تولاي ما كان يتهيأ بي من هجوم رداً على هجومه. سرى بي الشوق لها وله، ورقّ صوتي وأنا أرد بما دار على لساني، وعيناي تنهبان الضحى الساجي وتعانقان البحر البعيد القريب. وانتبهت مما اعتراني على أصلان ينقل دعوة تولاي لي إلى المشاركة في المهرجان الأدبي الذي ترأس هي لجنته المنظمة.

  • أين يا أصلان؟
  • في آكياكا.
  • متى يا أصلان؟
  • في الأول من الشهر القادم.
  • بأية صفة سأشارك؟
  • كما كنت في الرقة. لماذا كل هذه الاسئلة الغليظة مثل صاحبها؟ تعال قبل يومين نقضيهما معاً هنا في أنطاكية، ثم نسافر إلى آكياكا عشية المهرجان.

وقبل أن ينهي المكالمة سألته:

  • ما معنى كلمة تولاي؟
  • ماذا سيكون معناها؟ اسم. اسم تركي. القمر المنير يسمونه تولاي. الهالة التي تزنّر القمر في الليل يسمونها تولاي. هل يكفيك هذا؟

ولأن ذلك لم يكفني سألت صديقي غالي لبلابي الذي ألمّ بالتركية بفضل صحبته أثناء سنوات اعتقاله لمعتقل تركي من أصل سوري – هكذا كان أصلان يقدم نفسه أيضاً – كان عضواً في حزب العمال التركي، ومتطوعاً في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.

تشربت كلمات غالي، وأعدت صياغتها على هواي، لتكون من تحمل اسم تولاي امرأة حلوة، مغامرِة ولا تنافق، كريمة ووفية، حالمة ورقيقة، خيالها خصب ومستقلة ومحظوظة، تحب السفر والغناء.

تولاي: أين كنت تخبئين كل هذا في الرقة؟

صدقتُ ما قاله غالي، حفظته وزوقته لأهديه لتولاي مع زجاجتين من الويسكي. لم أكن أستطيع أن أجاريها في عشاءات الرقة. كنت أشك في أنها لا ترتوي مما يُقدَّم إليها: ويسكي، فودكا، جين، عرق، ماء، ولم يكن يظهر عليها أثر للسكر. كانت وجنتاها تتقدان، وكنت أحسب أن نظراتها تتقد أحياناً، وأهرب منها كلما ضبطتْ عينيّ متعلقتين بها.

2

واجهني العلم التركي خفّاقاً فوق نقطة الحدود. توقفت، ووقع جواز السفر من يدي. تناولت الجواز وأنا أخشى أن يغطيني العلم ويحبس أنفاسي. ظللت منقبضاً حتى انتهت إجراءات الدخول، وفجأة نبقت بلدة بايلاداغ. التفتُّ خلفاً لأرى بلدة كسب التي كنت أرى منها بايلاداغ بعيدة، وإذا ما بين البلدتين أشبار.

جبل الأقرع قفاه لي الآن مثلما كان لي وجهه من كسب أمس، أي منذ ثلاثين سنة على الأقل، حين غافلت مع غالي لبلابي مخفر الجيش ومخفر الأحراج، ورحنا نخبط من أجمة إلى أجمة إلى العراء الذي أخفانا: الوزّال والعجرم والغار، الحجل والسناجب والأرانب، وما من أثر للإله بعل، ما من أثر للضبع السوري، ما من أثر تركي.

كنت وحيداً في السيارة إلى جانب السائق الشاب الذي لاحظ ارتباكي أو فضولي، فسألني:

  • أول مرة أستاذ؟
  • أول مرة.

قلت وأنا أتهجى حروف هاتاي على لافتة معلقة بين شرفتين في الشارع الذي يبدو أن الصيانة لم تقترب منه منذ سنوات.

عَبْرَ النافذة راحت عيناي تنهبان واجهات الدكاكين والوجوه القليلة التي تقطع الشارع أو تمشي فيه بمحاذاة الرصيف الفارغ، تماماً كما لو أنني في كسب أو في اللاذقية.

لا. هذه ليست تركيا. هؤلاء ليسوا أتراكاً.

هذه سورية وهؤلاء سوريون.

خفتُ من حماستي فأغمضت عيني، لكن السائق أجفلهما وهو يؤكد:

  • أنطاكية قريبة: قبل أن تغفو نكون قد وصلنا. هل تريد أن آخذك إلى أوتيل؟ أنا أعرف أنطاكية مثل راحة يدي. في قلب أنطاكية أوتيل أونيمون، 4 نجوم يا أستاذ. بجانبك متحف أنقرة، بجانبك كنيسة القديس بول الأرثوذكسية، 34 دولار في الليلة. تريد بسعر أقل؟ أوتيل ديوان أنطاكية 3 نجوم، تريد الأوتيل في قلب أنطاكية أم حولها؟ إذا كنت تفضل شقة على الأوتيل، حاضر. في الشقة على راحتك يا أستاذ، لو أردت بنات تركيات.

قاطعته مستفَزاً:

  • بنات أنطاكية سوريات.

قال متراجعاً:

  • كما تريد.

وبحماسة أقل سألني:

  • ما رأيك بجولة سريعة في المدينة قبل أن تختار الأوتيل؟

ولم ينتظر جوابي، إذ عادت إليه حماسته:

  • سآخذك إلى شارع أتاتورك، فيه مطعم ييني باهار، الطاولات بين الشجر يا أستاذ، كأنك في البرية. اطلب لحمة بالجرة، لن تنساها مدى حياتك. لا تنس التبولة الأنطاكلية، غير تبّولتنا، لا تنس أيضاً الكبة النية الأنطاكلية، إذا كنت تشرب اطلب كاساً من العرق.

تركته يكمل جولته، قدّرت أنه جائع مع أن أذان الظهر لم يحن بعد. ولما سكت تنهدت كأنني أنزلت حملاً عن ظهري. واندفعت عيناي تعانقان ما بدأ يظهر من أنطاكية. ولما تنبهت إلى سكوته سرقت نظرة منه، فبدا لي محبطاً، ولعله حانق أيضاً، لذلك ملت إليه قائلاً:

  • شكراً لاهتمامك. سأنزل عند صديق ينتظرني في الكراج.

تناول بطاقة من كومة على التابلو، وناولني دون أن ينظر نحوي:

  • وصلنا. هذا رقمي. عندما تعود كلمني. حتى لو كنت في اللاذقية تراني أمامك خلال ساعة. سترجع معي بإذن اللـه.

تمتمت بما لم يسمع ولم أسمع، وكان أصلان يلوّح في مدخل الكراج، وبجانبه سيدة تحمل وردة بيضاء بساق طويلة، وبمثل بياض لون غطاء رأسها.

 

3

عكّرتْ أضواء مطار هاتاي ألوان الفجر، بالأحرى، ضيّعتْها، فضاع ما وعدت به نفسي من الخلوة التي سأعيد فيها تنضيد زمن أنطاكية الخاطف، والذي لم تخفف صحبة أصلان من ربكته، بل ووجعه.

*   *   *

كان لقاء أم أصلان ذروة ما أربكني وأوجعني. كنت قد نسيت وجه أمي، ولكن هذا وجهها. الفرق الوحيد هو أثر الشق في ذقن أمي. هذا صوتها، النقاط الثلاث الموشومة على ذقنها، عصبة رأسها بالمنديل البيج الحريري، العروق الخضر في ظاهر كفها، عيناها العميقتان السوداوان، الخصلة الموشاة بالشيب والهاربة من العصبة فوق أذنها اليسرى دائماً. ناديت أم أصلان طوال العصر الذي قضيناه بزيارتها: يا أمي، لهجتك تترجّع من أعماق خمسين سنة، ستين، سبعين، لهجتك ما عدت تسمعينها في نيبالين إلا ممن هم في مثل سنك أو أكبر.

أما السيدة التي استقبلتني بالوردة البيضاء: أسيل، زوجتي: قال أصلان باعتزاز. قلت في سري: سبحان اللـه! أم أصلان هي أمي، وأسيل هي أختي ندوة رحمها اللـه، سوى أن أختي ماتت مع التوائم الثلاثة التي وضعتها، بينما نجت أسيل ومات توءماها.

أفرد لي أصلان غرفة مكتبه التي تطل نافذتها العريضة على نهر العاصي. لم أغف في ليلتي الأولى حتى ارتوت عيناي من رفرفة الأضواء على ضفتيّ النهر.

في الصباح، أفقت على ما لا بد أنه كان وشوشته، على الرغم من أن النافذة كانت مغلقة، وظللت لابداً في السرير حتى ارتوت أذناي.

لم تفلح محاولتي النزول في أوتيل. أسيل كانت أكبر إصراراً من أصلان. أنت من أهل البيت، أهل العاصي، أنت لست غريباً ولا ضيفاً: قالت أسيل وهي تقود السيارة من الكراج إلى حارة العاصي. وكررت أم أصلان ما قالت أسيل بالحرف، وهي تشير إلى النهر.

ضحك النهر، وحمدت اللـه على أن مجراه ينخفض أمتاراً عن مستوى المصطبة، حيث جلسنا على كراسي القش الخفيضة. أمي لا تتخلى عن شيء عتيق: قال أصلان، فهمستْ هي: كل شيء يحمل رائحة المرحوم والدك يا أصلان، كل شيء يحمل رائحة يوم ما كانت أنطاكية من سورية. قلت: كانت يا أمي، وما زالت. ترقرق الدمع ملء عينيها وسكتت.

في البيت تخلت أسيل عن غطاء رأسها الأبيض. وأثناء العشاء، حين أشرت إلى ذلك، قالت ضاحكة وهي تغمز ناحية أصلان:

  • اسأل صاحبك اليساري.

 

قلت:

  • كلنا سواء. واحدنا يساري، وربما ملحد، لكن على زوجته أن تتحجب، وربما تتنقب، ولا تظهر على غريب، وأنا غريب، وأصلان على كل حال معتدل، يبدو أنه لم يطلب إلا غطاء شفافاً خارج البيت.

ورفعت كأس العرق، فرفع أصلان كأسه – أسيل لا تشرب الكحول – وتصافحت الكأسان وهو يقول:

  • غداً ستكون أسيل دليلك من الصباح حتى العصر. تستطيعان أن تستغيباني حتى تشبعا. الآن ستعزف أسيل على البزق، على الأقل لأنجو من لسانيكما.

وخرج بينما كان موبايله يردد أغنية تركية، وفجأة أجفلتنا صيحته: تولاي. حدقت أذني بباب الغرفة، فلم تسمع شيئاً. نظرت إلى أسيل فبدت كأنها تغالب جهامةً. وحين عاد أصلان حاملاً البزق، كانت أسيل تسألني عما إذا كنت أعرف من هم اليزيديون، فقلت:

  • وأعرف ديارهم في سورية وفي العراق.
  • إذن تعرف حكاية البزق اليزيدية.
  •  أعرف أنهم يقدسون البزق، ولكن لا أعرف لماذا.
  • تقول الحكاية إن اللـه كلف الملائكة، وعلى رأسهم طاووس ملك، بتحويل الأرض التي كانت مغمورة بالمياه إلى يابسة. نفذت الملائكة المهمة، وأرادت أن تنصب خيمة عند معبد لالش، ولكن لم يكن لديهم وتد واحد.

أخرج قاضي شلو البزق، وبدأ هذا العازف المبارك يعزف، مدت الأسماك رؤوسها من تحت الماء، وتحولت إلى أوتاد، فربط الملائكة حبال الخيمة، وسكنوا لالش.

قال أصلان وهو يناولها البزق:

  • تفضلي حضرة القاضي شلو.

*   *   *

وبينما كانت أسيل تتناول البزق منه أجفلتني خبطة قبضته على كتفي وهو يبربر:

  • طارت الطيارة وأنت في سابع نومة.

وركض فركضت، ولما بلغنا باب الطائرة دفعته أمامي بقوة ثأراً من خبطته، وسألته عن نومه العميق هو أيضاً، ولعنت من كان السبب في سهرنا حتى تأخرنا عن الحضور إلى المطار، رغم السرعة التي قادت بها أسيل السيارة. وخرس أصلان فخرست حتى أقلعت الطائرة وسمحت لنا بفك الحزام، وإذا بأصلان يرخي مسند مقعده قائلاً:

  • أمامك ساعة إلى استنبول. اشبع نوماً.

 

4

ما كدت أغمض عيني حتى بدأ أصلان يشخر. حاصت أذناي وهما تتّقيان الشخير، وخُيّل لي أنهما تحاولان الاستطالة أيضاً، ربما ليسهل عليهما أن تنغلقا فتصمّان عن قرقعة أصلان. وسرّني أن أذنيّ بذلك تؤكدان أصلي وفصلي كحمار.

طار النعاسُ مني مُضاعِفاً رهق السهر وكؤوس العرق. وخُيّل لي أن أسيل تهوّن عليّ، وتذكّرني بما روت في الضحى أمس وهي تقود السيارة، دون أن تنسى دور المرشدة السياحية.

كنت قد شكوت من أنني لم أشبع النوم، فقالت:

  • ماذا أقول أنا إذن؟ ماذا تقول من لم تشبع النوم منذ تزوجتْ؟

في الثواني التي انتظرتْ فيها جوابي، لم أصدق أن يكون أصلان فحلاً إلى هذا الحد، فلا يفوّت يوماً من دون أن يضاجع أسيل، ولا تترك لها مضاجعته من الليل والنوم ما يكفيها. أصلان وأخرستُ ابتسامةً بدأت تلاعب وجنتيّ. يبدو أن أسيل تنبهت إلى ذلك من دون أن تنظر إليّ، فقالت على عجل:

  • شخير لا يُصدق. ألم تسمعه؟ حتى لو كنت أغلقت الباب، لن تنجو منه.

قلت وقد عادت شبهة المضاجعة اليومية تلوّن صوتي:

  • لماذا تنامان في غرفة واحدة؟

ورحت أتفيهق وأنا أحدثها بما حدثتني به منصورة([ii]) منذ سنوات، حين لاحظتُ أنها وغالي ينامان كلٌّ في غرفة، وليس بسبب الشخير. لماذا إذن؟ سألتْ أسيل، فتردد صدى صوت منصورة في سمعي: من أجل السعادة الزوجية. انظر أيها العازب الذي بدأ يشيب: يبدأ الزواج بسرير واحد للعروسين، ثم: سريران متلاصقان، ثم سريران متباعدان، ثم كلٌّ في غرفة، والويل لمن لا يسمح بيته بذلك. وضحكت أسيل، وقالت إنها لا تشكو في حياتها الزوجية إلا من الشخير، فأصلان أخ، بل أب، بل صديق، وبخاصة بعدما نجت أسيل من الموت بأعجوبة وهي تضع التوأمين. ولم يزد أصلان حرمانُها من الإنجاب إثر تلك الولادة إلا حباً وأخوّةً وأبوةً وصداقة، ولكن أنت يا كارم: لماذا لم تتزوج حتى الآن؟

*    *    *

لماذا لم أتزوج حتى الآن؟

لأنني حمار.

بينكم من يعتبر من يتزوج حماراً، لأن الحمار عندكم غبي، بلا عقل، مضروب على يافوخه. أنا لم أتزوج لأنني حقاً حمار. حمار من صُلْب ابن آدم، وليس من صُلْب حمار. لو قلت لك إنني كنت في جيلٍ مضى حماراً ابن حمار، هل تصدقين؟ ليس شرطاً أن تؤمني بالتقمص حتى تصدقيني. أما أنا فيكفيني أنني أصدّق نفسي. أنا لا أكذب على نفسي كما تفعلون. والحمار لا يتزوج يا أسيل. أقصد لا يتزوج مثل زيجاتكم: رجل يطوّب امرأة، امرأة تستعبد رجلاً. امرأة ورجل يتحابان؟ هذا رائع. والجنس؟ رائع أيضاً وأيضاً. وينجبان؟ غاية الروعة. ولكن لماذا كل هذه القيود مرة باسم الدين، ومرات باسم المال واسم السلطة واسم التقاليد و... وها أنت لا تشبعين النوم كرمى لشخير أصلان. حتى لو كنت تحبينه لماذا لا تنفصلين عنه؟ بالطلاق؟ نعم بالطلاق، أو على الأقل كما فعل صديقاي غالي ومنصورة.

وحياتك يا أسيل لو التقيت بحمارة مثلي، أقصد بلبوس الإنس، لتزوجتها. أما حمارة بلبوس الحمير فلا يمكنني أن أتزوجها ما دمت بلبوسكم هذا.

*   *   *

لماذا لم تتزوج حتى الآن؟

لست متيقناً من أن أسيل سألت، ولا أذكر الآن بماذا أجبت. بل ربما لم أجب. كل شيء يختلط عليّ الآن. ليس هدير الطائرة، ولا أصواتاً خفيتة تتناهى من بعيد، من بعيد جداً، ربما من المقعد الخلفي، من المقعد الأمامي، من حفيف الصفصاف على ضفة العاصي، من سيارة أسيل قبل أن تقف قرب الضفة وتنزل، فأتبعها، وتسير على مهل إلى الضفة المبلطة، فأتبعها، وفجأة تناديني تولاي إلى ضفة الفرات فأتبعها، ويضيق صدري بانفعالي وأنا أرى نهر العاصي معافى لأول مرة منذ سنوات طويلة، يملأ المجرى العريض وأمواجه تسطع وتصفق، بل تلعب وتغني، بينما يتضاعف تيهي بين نحول العاصي وضحالته وأشلاء الزبالة الطافية أو العالقة على الضفتين، أين؟ في جسر الشغور. أين أيضاً؟ في دركوش، وإن يكن العاصي فيها أقل سوءاً. وفي حماة؟ لماذا يتعافى العاصي كلما أسرع صُعُداً، شمالاً، حتى ليختلط عليك كل شيء، فلا تفرق بين الميماس في حمص وحارة العاصي في أنطاكية، ولا بين سوق الطويل في أنطاكية وسوق الطويل في الشام وسوق الطويل في حماة، ولا بين سوق الميدان في أنطاكية وسوق الميدان في الشام، وبهارات وجلديات وحلويات وذهب يلمع وعربيات الخضرة وحمام السقا وحمام الميدان والكنيس اليهودي في مدينة اللـه: أنطاكية يا حبيبتي، وأسيل تعيدك إلى أصلان.

كانت الشمس ترخي ذوائبها الشعشاعة على العاصي وأنتما تعبران الجسر. تباطأت خطاك. سبقك أصلان وتوقفت قدماك. ارتمت يداك على حاجز الجسر. غرقت عيناك في النهر. عاد إليك أصلان، وحكت الحكاية أن حمارين وقفا على هذا الجسر كما يقف عليه الآن أصلان علي وكارم أسعد. كانت تتوسط الجسر لوحة حجرية كبيرة، قرأ عليها الحمار الفتى، وهو حفيد الحمار العجوز: هذا ما بناه الملك الروماني.. فقال الحمار الجد: أنا وأصحابي بنينا هذا الجسر في شبابنا. سأل الحمار الحفيد: لماذا لم يكتبوا على اللوحة: هذا ما بناه حمير أنطاكية؟ وسألتَ أصلان: لماذا لم يكتبوا؟ قال أصلان: لأنهم حمير، لا وعي لهم ولا إرادة، يسيرون بمشيئة من يقودهم.

وخبطت قبضته على كتفك وأمر ضاحكاً: اتبعني، فتبعته وأنت تستعيد قراءتك الأولى والأخيرة لهذه القصة، وتستعيد حزنك على أن يكون الحمار عند جبران خليل جبران كما هو عند باقي البشر. وهمس في أذنك اليمنى صوت: إذا ارتدى الحمار قناع الأسد ليرتفع إلى مجلس الأسود، ويحضر مجلسهم، بقي حماراً يكشف عنه صوت نهيقه عندما يحاول الزئير، وهمس في أذنك اليسرى صوت: كان ذاك جبران أيضاً، فأرجفتَ أذنيك كما يليق بحمار، وظلتا ترجفان حتى تجاوزتَ الجسر. وبالكاد قطعتَ أمتاراً في الساحة يتقدمك أصلان، حين سمّرك صهيل هذا الحصان الرابض على هذه القاعدة الصلدة. والتفت أصلان إليك ضاحكاً وقال:

  • أتاتورك يحييك، لماذا لا ترد التحية؟ أينما أدرت وجهك في تركيا ستجد لأتاتورك تمثالاً.

لماذا يا أصلان؟ لماذا يا كمال باشا أتاتورك؟ لماذا أيها الحصان؟ لماذا أيها الفنانون الذين تصبّون تماثيل القادة العظام وتنحتون تماثيل القادة غير العظام؟ لماذا أيها القادة المهزومون المنتصرون المحبوبون المكروهون المتألهون الحالمون الغلاظ المتوحشون الفانون؟ لماذا أيها البشر الثوار العبيد الأحرار القطيع المؤمنون الملحدون الحالمون المتوحشون الفانون؟ أصلان: صديقي: متى يصير عالم البشر مثل عالم الحمير؟ لا تمثال يا بشر، لا صنم، لا تماثيل يا بشر لا، أصنام.

أسرعتْ عيناك إلى من يصلبهما على القمة المقابلة التي قطعوا عليها رأس حبيب النجار. والآن، تعوّذْ من الشيطان يا كارم، أيها الحمار الإنسان، وسمّ باسم اللـه، واتلُ: "وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى قال يا قوم اتبعوا المرسلين"، وما هذا الرجل إلا حبيب النجار الذي تدحرجت رأسه من هذه القمة إلى هذه الحفرة. وقطع عليّ أصلان ما أرى، وأمر: اتبعني، فتبعته، ولم يتوقف حتى بلغ الكنيسة التي أرخت ظهرها على الصخرة الشاهقة، وخاطبني كما يخاطب أبونا جبارة رجلاً ضلّيلاً: ها هنا أول كنيسة في العالم. طافت عيناي سريعاً بالأبواب الثلاثة أمام المصطبة الحجرية التي تشبه ما كان المصطبة أمام بيتنا في نيبالين، وامتلأتُ عزماً على أن أصلي في هذه الكنيسة مثلما امتلأت عزماً على أن أصلي في جامع حبيب النجار. لكن أصلان عطّلني هنا كما عطلتني أسيل هناك، وأنا أناشدهما أن يدعاني أغفو قليلاً، لكنهما يضحكان، ويتغامزان، كما لو كانا يسخران مني أو يشمتان بي، ثم يظهر البزق فجأة في يد أصلان، ثم يخاطب أسيل:

  • تفضلي حضرة القاضي شلو.

وبينما كانت أسيل تتناول البزق أجفلتني خبطة قبضة أصلان على كتفي وهو يبربر:

  • اربط الحزام. الطيارة تهبط. أنت لا تشبع من النوم؟

 

5
أنعم عليّ مطار صبيحة بالنوم ساعة وبعض الساعة، بانتظار الطائرة التي ستقلّنا إلى مطار دالامان.

باعدت مقاعد المطار شبه الخالي بيني وبين أصلان، فنجوت من شخيره. وحين سمعت صوتاً يحث المسافرين إلى دالامان على التقدم إلى البوابة رقم.... شببت أبحث عن أسيل، فهذا الصوت لا يشبه صوت أسيل، بل هو صوتها، وأسرعت إلى أصلان، لا لأوقظه، بل لأسأله عما إذا كانت أسيل قد لحقت بنا. ولما رأيت أصلان يتمطّى، استدرت لألحق بالمرأة، وإذا بصوت أسيل يتوحد بصوت البزق، فعدت إلى غفوتي ويقظتي على المقعد الوثير، وكانت أسيل تغني كأنها تركية من أصل تركي، وليست من أصل سوري، وشرع أصلان يهمس مترجماً:

     آه!

     لستَ من نصيبي.

     ذبل شبابي مع هذا الحب.

وأمضّني أنني قد أكون ذبلت، بل ذبلت حقاً، وأنا رهن هذا الحب، ولكن عن أيّ حب تغني أسيل التي طوت أغنية ورمتني بأغنية، وأصلان يترجم:

      سمعت أنه أصبح لكَ حبيبة أخرى.

      لا تقل لها: يا عمري

أوشكت الكآبة أن تطمرني لولا أنني هربت ووقفت أتمطى، وعيناي تجولان أرجاء المطار، بينما كان أصلان يقترب. ومثل مطار صبيحة في اسطنبول أنعمت عليّ هذه الطائرة العملاقة شبه الفارغة، لساعةٍ أيضاً وبعض الساعة. لكن الإنعام هذه المرة لم يكن بالنوم، بل – ابتداءً– بأن كانت لكل راكب تقريباً واحدة من نوافذ الطائرة؛ ثم جاء الإفطار الشهي، ثم جاءت الكأس الطافحة بالقهوة التركية، ولم أكن قد ذقت القهوة منذ غادرت نيبالين. فأسيل لا تسألك عما تفضل أن تشرب، بل تأتيك بنوع من الشاي يسبقها مديحها له.

فور وصولي إلى البيت: خذ يا كارم، كأس شاي أخضر، هذا ضروري لك، قال لي أصلان إنك خضعت لجراحة، بالشفاء. ألم ينصحك أحد بالشاي الأخضر؟

بعد الغداء أو بعد العشاء أو بعد الإفطار، خذ يا كارم: هذا شاي أسود صيني، هل تفضل أن يكون أكثر سواداً؟ خذ إذن. قال لي أصلان إنهم يفضلون في الرقة الشاي الأسود جداً لأنه مخمّر جيداً. في العراق أيضاً يفضلونه هكذا. لكنني أفضل شاي الماساه، خذ يا كارم: هذا هو، نعم من الشاي الأسود أيضاً، لكني أضفت إليه من القرنفل والقرفة والزنجبيل والحليب والسكر، هكذا يفضلونه في الهند. كان بودي أن تذوق الشاي الأبيض. هل تعلم لماذا هو كذلك؟ لأنهم يقطفون أوراقه مبكراً.

هنا تدخّل أصلان للمرة الأولى والأخيرة وعيناه تتغامزان معاً:

- الشاي الأبيض ينعّم البشرة، وأنتَ بشرتكَ ناعمة ما شاء اللـه، لا حاجة لكَ به.

سرقتُ من وجه أسيل نظرة، ومن يديها نظرات، وأذهل نظراتي وهي تتمسح بالوجه وباليدين كم هي ناعمة هذه البشرة!

*   *   *

أخذت الشمس المذهّبة تلاعبني، فتختبئ إلى أن أهمّ بالبحث عنها، فترخي كمشة من خصلاتها ثوانٍ ثم تختبئ، ثم تملأ نافذة الطائرة مغرغرةً بالضحك، تماماً كما كانت تفعل البارحة، ولكن ليس في مثل هذا الوقت المبكر.

كانت سيارة أسيل قد مضت إلى أوتيل هاربي في الوادي: هنا سنشرب الشاي في حديقة الشاي، كرسيكَ ستكون في الماء. سترتجف من البرد كأنك لست في الصيف، وهذا فنجانك، ليس من أي صنف من الشاي حدثتك عنه البارحة. احزر إذن من أي صنف هو؟

رفعت يدي معلناً عجزي ومستسلماً، فقالت وهي تخرج لفافة من حقيبتها:

  • ستشرب شاي زهر الياسمين. هذا الشاي من الدروس اليابانية الثمينة، وأنا أحضّره بنفسي.

ناولتني اللفافة، وكانت الشمس المذهبّة ترخي خصلاتها على وجه أسيل ثوانٍ ثم تختبئ ريثما تبعد النسائمُ الأغصانَ التي تظللنا. كانت عيناي تخضلّان بالبشرة الناعمة التي تكاد تنفطر على أو من أو في وجنتي أسيل. لذلك لم أر ما في اللفافة وإن أكن قد فتحتها. ولم أسمع ما كانت تقول حتى التقت عيناي بشفتيها تتكلمان. تنبهت وأغضيت خجلان، وسمعتها تشكو من أن أصلان يتغيب كثيراً في الشهور الأخيرة. وبينما كنت أفكر في أن أسيل مثل أي زوجة في بلادنا، يكثر غياب زوجها فيلعب الفأر في عبها. إلا أن أسيل قطعت عليّ ما كنت أفكر فيه ودنت لتهمس بخوفها من أن أصلان الآن في اجتماع مع الأكراد، خارج أنطاكية. وبخوف أكبر تابعتْ أنه يتورط مع الأكراد أكثر فأكثر.

  • ألم يحدثك عن شيء من هذا؟

سألتني فنفيتُ فتابعتْ:

  • أصلان مثل كثيرين من المعارضين للحكومة التركية، يؤيدون الأكراد. منهم من يؤيد المتطرفين، ومنهم من يؤيد المعتدلين.
  • وأصلان من أي فئة؟
  • من الأولى، من الأخطر، وعيون المخابرات لا تنام.
  • وأنتِ؟
  • في قلبي، أنا مع أصلان، ولكن لابد من الحذر. ما عدنا شباباً.

فكرتُ في أنها محقة، فأصلان لم يعد شاباً، أما هي؟ وتركت لعينيّ أن تتأكدا، فصدتهما أسيل وهي تحبس ضحكة وتقول:

– ما كان ينقضي شهر من دون أن يطلبنا المخفر أو تطلبنا المخابرات. في النظارة تعرفنا على بعض. كنا ما نزال طلاباً، وصرنا نلتقي ونشرب الشاي في حديقة أنطاكية. إذا توفّر الوقت سنشرب الشاي فيها. ستكون فرصة أيضاً لتزور متحف الفسيفساء خلف الحديقة. لكنهم اعتقلوا أصلان قبل أن يتخرج من الجامعة، واعتقلوه بعد ما تخرّج، وكنا قد تزوجنا. ليتك تطلب منه أن يهدأ، أن لا يتورط.

  • كيف لي أن أطلب منه إذا لم يحدثني بشيء من ذلك؟
  • سوف يحدثك. أنا أعرف أصلان جيداً. أصلان وجد فيك ما صار يفتقده هنا. لولا ذلك ما كان ليستضيفك في البيت. بل ما كان ليكلفني بمرافقتك. الأصدقاء تفرقوا. مالت بهم الدنيا عن بعضهم.

دخلت الطائرة في الغيوم البيض. اختفت الشمس كما اختفت أمس. غادرت السيارة الوادي وأنا أفكر في أن أسيل وأصلان دخلا حياتي، ولن يغادراها. والسيارة الآن تقبل على البحر. لست أدري من منهما يقودها، وتفتح السويدية ذراعيها، السويدية السورية وليس سامان داغ التركية: الحجارة السود، كروم الزيتون والعنب، خوابي الدبس، براميل العرق، كنيسة رقاد السيدة، سوق السمك، نهر العاصي يعانق البحر، قرية خضرلك، مقام سيدنا الخضر الذي التقى هنا بالنبي موسى عليه السلام، الآن يصعدان إلى الجبل، عصا موسى تنغرز في الأرض فيتفجر النبع، العصا تتحول إلى هذه الشجرة المعمرة العملاقة، النبع يتحول إلى نهر الحياة تحفّ به مقاهٍ ومطاعم، بينما يعلن صوت أننا قد بدأنا بالهبوط، وإذا بالطائرة تهوي دفعة واحدة عشرات الأمتار، فمئات الأمتار، ورأيت رأي العين، وليس فيما يرى النائم، العاصي المقدس يطير فوق ضفتيه ويترامى صخّاباً يميناً وشمالاً، صار بحراً غاضباً، يا رب.

 

مثل صبية تغنج
أمام باب القاعة كانت آواز واقفة ترحب بالضيوف. تأملتُ البطاقة التي تزين صدرها باسم الأوتيل: فيلّا مارين. هامستها: قادين آواز. ابتسمت وأومأت برأسها ممتنة وهمستْ: قادين أزماك. تجاوزتها وأنا عازم على المراهنة: صدرها ضامر، لماذا؟ لأن البطاقة مستوية على الثدي. لو كان ثديها فقط بحجم تفاحة لاختلف وضع البطاقة.

كان أصلان قد سبقني بخطوات. منذ التقينا في المطعم وامتناني له يتجدد. كان قد تناول فطوره عندما دخلت متوجساً من أن أصادفه أو أصادف تولاي، ولولا ذلك ما تأخرت حتى كاد موعد الفطور أن يفوتني. هلّل لحضوري وأحضر فنجاناً جديداً من القهوة وجلس مقابلي. كان المطعم شبه خال. كلما انفرجت شفتاه كنت أتوقع أن يسألني عن السهرة مع تولاي، وكنت أهيىء رداً سرعان ما ينبتر أو أضيعه. بعد الإفطار افترقنا حتى جمعنا الغداء مع الشاعرة آيتين موطلو والروائي أوزجان قره بولوط. قدمني لهما جاداً وساخراً في آن: الكاتب المتخصص بالحمير. وسرّني أن آيتين تتحدث الفرنسية، وبضعف أكبر يتحدث أوزجان العربية، وسرني أن آيتين سألت أصلان عن اختفاء تولاي، فأجابها، ثم ترجم لي: متطلبات افتتاح المهرجان، لا تنس، تولاي رئيسة اللجنة المنظمة. الآن لو سألني عن السهرة السرية، سأكون قادراً على أن أقول: كانت ممتعة، وكانت طويلة، و... ولكن هل سأعترف له بعودتي خائباً إلى غرفتي؟ هل سأعترف له بأنها ضيعتني بين غزلها واشتهائها ورفضها وغموضها؟

*   *   *

قلّبت النظر في القاعة والوجوه وأنا أخطو إلى مقعدي بين أصلان وآيتين. لم أر تولاي. صباحاً، لمحتها من بعيد في غابة الصنوبر. كنت عائداً من المشي مبللاً بالعرق، وكانت ذاهبة وبجانبها امرأة أقصر منها وأنحف، شعرها معقود فوق رأسها. وخُيّل لي أن فخذيها العاريين يتلونان كذراعيها العاريين بما ترسم شمس الصباح والأغصان والوضَحَات. تمنيت لو أن بوسعي أن أنتظر حتى تعود فأحدثها عن غابة نيبالين وعن الساجور وعن صنوبرات بيتي، وأرشف حبيبات العرق على البشرة التي سحرها حليب الحمارة.

من بعيدٍ أيضاً لمحتها تتجاوز أوتيل باجا بلباس البحر. أنا عائد من السباحة وهي ذاهبة وبجانبها امرأة أقصر منها وأنحف. ربما كانت المرأة نفسها التي لمحتها في غابة الصنوبر. أطلتُ طريق العودة إلى فيللا مارين. لهوت بالفرجة على الواجهات والإعلانات: أوتيل آياكا غاطس بالورود التي تسربل الحجر والخشب، ميرفيان ريزندس: حديقة هي أوتيل وأوتيل هو حديقة، فيللا فالي: عرائس الجهنمية المضرّجة. سأقول لتولاي عندما أصادفها في عودتها من البحر: آكياكا غابة من الأوتيلات والحدائق. لكن تولاي لم تظهر إلا في هذه اللحظة التي أصابت فيها بهرةُ الشمس وبهرةُ القمر، معاً، عينيّ، فدعكتهما، ثم أطلقتهما إلى المنصة التي توسطتها تولاي. وخُيَّل لي أن عينيها تبتسمان، وأن حاجبيها يومئان، وهي تحييني إذن، أي: ليست غاضبة مني. ولكن ماذا لو لم أكن من تقصده الابتسامة أو الإيماءة؟

شوّش السؤال عليّ، فلم أتابع إلا القليل من همس أصلان لي بترجمة خطاب تولاي. وفجأة سمعتها تلفظ اسمي، ورأيت كفّيها تشيران إلي، وحاجبيها يومئان، وسمعت تصفيقاً بينما كان أصلان يلكزني ويحثني على أن أنهض وأرد التحية. ودوّى تصفيق أعلى لآيتين التي دعتها تولاي إلى المنصة. وناولتني آيتين نسخة من كتاب وهي تهمس:

  • هدية لك، هذه ترجمة فرنسية لديوان (مرايا حجر)، سأقرأ بالتركية منه قصيدتين، طويت صفحاتهما لتتابع إنْ شئت.

وقفت وصافحتها بحرارة، وإذا بها تعانقني بحرارة لسعت خدي، وجلست مأخوذاً بنعومة خدها. وتساءلت عما إذا كانت آيتين أيضاً تستخدم صابون الحمارة، أو تستحم في بانيو حليب الحمارة. وعزمت على أن أدقق في بشرة أية امرأة أصادفها، لأقارن مع بشرة تولاي التي حلّت محل آيتين إلى يساري.

عندما قرأتْ آيتين: "اصغ إلى ذلك الشلال العميق في روحك" أحسست بالغصة، وأغمضت عيني، ولم أفتحهما إلا عندما رددت آيتين بالفرنسية بعد التركية "نحن هنا لنرتكب خطأً كبيراً جديداً".

أغلقتُ الديوان وتلصصت على تولاي. فكرت في أن أسألها عما إذا كنا سنرتكب خطأ؟ ما هو؟ ومتى؟ لكن تولاي ظلت تنظر إلى آيتين. ومرّت دقائق عجلى كانت قد عادت فيها آيتين إلى مطرحها، وكانت تولاي قد قدمت أوزجان وجلستْ مكانه إلى يمين أصلان. انطلق أوزجان يتكلم بسرعة وانفعال، وأصلان يلاحقه بالترجمة لي، وأذناي أصابهما الطرش.

بعد ساعة ودقائق خرجنا من القاعة وسرنا نحو طرف الساحة المحاذي للنهر، حيث انتصبت لوحات على حوامل متفاوتة. قرأت في زاوية لوحة: موسى سيليك، ورأيت اللوحة تحتضن طفلةً يتقد الأحمر البهيج على تطريز ياقتها العريضة، وتتدلى جديلةٌ على كتفٍ كأنها تبحث عن أختها. تلفّتُ بحثاً عن أصلان فرأيته غارقاً في ثرثرةٍ وضحكٍ مع تولاي ومع المرأة القصيرة النحيفة التي لمحتها في غابة الصنوبر وحول أوتيل باجا.

عدت إلى اللوحات، وسمّرتني أمامها لوحةٌ للخطاط يلماز توران. حاولت أن أقرأ الكلمات، فعجزت. أجفلتني ضحكة أصلان بجانبي، وبجانبه امرأة. تلفّت أبحث عن تولاي. اختفتْ. لكزني أصلان وقال بينما كانت المرأة تبتعد:

  • كل ما يتعلق بالحياة يمكن أن يبدأ بلوحة.
  • ما شاء اللـه! صرت فناناً تشكيلياً؟

قلت كاتماً إعجابي بعبارته، فأشار إلى اللوحات قائلاً:

  • تلك كلمات نورتين أركان، سمعتها منها في معرض لها منذ سنوات، فصارت تحضرني في كل معرض. صارت دليلي في كل معرض.

عصراً حملنا قاربٌ صغير وتهادى صعداً إلى منبع نهر أزماك. ثم تهادى عائداً إلى قبيل الجسر المقوس. وفي الذهاب كما في الإياب، من ضفة إلى ضفة، كان يتمايل الجرجير والكرفس والوز والبط وشرفات المطاعم وأصابعنا وصفحة النهر الناعمة الوضيئة، كأنها هي الأخرى تشرب حليب الحمارة.

لم ترافقنا تولاي في الرحلة النهرية، ولم تظهر حتى كانت حافلة الأوتيل قد نقلتنا إلى مطعم بعيد غائر في حديقة لفّاء. في أقصى يسار الطاولة المقابل جلست المرأة القصيرة النحيفة إلى يسار تولاي: شعر قصير أكرد، سمرة يزيدها خفوت الضوء سمرة، عينان سوداوان تقدحان. حدقت في تولاي. كانت عيناها تبتسمان، وحاجباها يومئان، وهي تحييني إذن، وليست غاضبة مني. ولكن ماذا لو لم أكن من تقصده الابتسامة والإيماءة؟

سيظل السؤال ينغّص عليّ حتى أراها تنتقل إلى المصطبة المجاورة، إلى يمين شاب يحتضن البزق. ولما بدأ يعزف رأيت أسيل تحلّ محلّه. وما إن بدأت تولاي تغني حتى رأيت أسيل تحل محلها. لكنّ عينيّ تولاي ما عادتا تغادراني، فما عدت أرى لا الشاب ولا أسيل. وفي لحظة خاطفة كان الليل قد انتصف، وكان صوت تولاي كصوت البزق ينشج. وألفتني خوفي عليها إلى أصلان فهمس:

– هذه أغنية قديمة عن حرب اليمن. ما الذي ذكّر تولاي بها؟

عدت إلى تولاي، ورأيت دمعة حبيسة في المؤق، ودمعة تتسلل فوق البشرة التي أبدع لها الضوء من أعلى الصنوبرات لوناً فريداً. وهمس أصلان مترجماً: آه ما أقسى اليمن!/ آه من هذه اليمن!/ وردها عشب أخضر/ من يذهب إليها لا يعود.

بانتهاء الأغنية وقفنا وصفقنا. فكرت بأن تولاي قد لا تكون تركيةً فقط، بل عثمانية، ولولا ذلك لما ختمت السهرة بهذه الأغنية الفجائعية. ورحت أجرّ خَطاي نحو الحافلة، وقبل أن أبلغها رأيت تولاي تقترب من سيارتها متأبطة ذراع القصيرة النحيفة.

دعوت أصلان في الأوتيل إلى كأس في البار. كنا وحيدين، وقبل أن يبلل شفتيه سألته عن المرأة التي يبدو أنها لا تفارق تولاي اليوم. قال:

  • إيسون كمال. صديقة قديمة لتولاي. بيزنس وومان شهيرة في إزمير. لديها صالات عرض، وتنظم معارض فنية داخل وخارج تركيا. المعرض المرافق للمهرجان فكرة تولاي، تنظيم وتنفيذ إحدى شركات إيسون.

أومضتْ لي مكتبتي وقد تضاعف حجمها، وملأت صور اللوحات الحميرية جداراً منها بطوله وعرضه. وفكرت أن المعرض الحماري الدائم في ذلك الجدار سيكون أفضل وأهم من المعرض الذي نظمته إيسون في هذا المهرجان. ونويت أن أحدّث أصلان عن ذلك، لكنني وجدت لساني يتلعثم:

  • لمحت تولاي وإيسون صباحاً في غابة الصنوبر.

قال:

  • حين تظهر إيسون تنسى تولاي الجميع.

ارتبت في أنه لاحظ إهمال تولاي لي، فتشاغلت بالكأس، ثم أردت أن أتأكد من ظني، فقلت:

  • كأنك تريد أن تقول شيئاً آخر.
  • أين فراستك يا صديقي؟ تولاي وإيسون حبيبتان قديمتان. فهمت أم أشرح لك؟
  • تولاي مثلية؟
  • تولاي مزدوجة، ثنائية الجنس، فهمت أم أشرح لك؟
  • فهمت. ولكن حدثني عن تولاي التي لا أعرفها.
  • تولاي غامضة بقدر ما هي واضحة. لم تخفِ ميلها لك في الرقة. صحيح؟  أمس اختطفتك إلى جناحها، وحدسي يقول: خطأ ما وقع بينكما، ثم ظهرت إيسون اليوم. هل لديك ما تضيفه أم أتابع؟

بدلاً من أن أجيب رحت أتخيل تولاي وإيسون في عناق حميم. ولما طال صمتي تابع أصلان:

  • أنت شبهت تولاي بالفرس، بالمهرة، صحيح؟

فكرت بتولاي الحمارة رافضاً تولاي الفرس. فكرت بتولاي الإنسانة، وما دام أصلك يا سيد كارم حماراً، فلا جدوى. انسَ تولاي. ولكن أنت يا أصلان، من أين لك هذا كله: سألت وغمزت، وأضفت:

  • هل ضاجعتها؟
  • تولاي هي التي تضاجع، لا أنا ولا أنت. أخطأتُ معها وحاولت مرة، مرتين. لا تكرر خطأي.

نظرت عبر نافذة البار التي حلّت محل الجدار الغربي كله تقريباً، ورأيت النهر مثل صبية تغنج. أحسست بالامتنان لأصلان الذي جدد أملي بتولاي، وفجأة تبيّنت للنهر ضفة، وتولاي وإيسون تسيران متباعدتين وبأناة عليها.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

نشوار المحاضرة[iii].
كما تقتضي اللياقة، وجرياً على العادة، بدأتُ بشكر من دعتني إلى هذا المهرجان: العزيزة الدكتورة تولاي سيرجين.

حين لفظتُ اسمها أسرعتْ بالعودة إليها عيناي اللتان كانتا تطوفان بالوجوه، فزوّغتْهما بهرةُ الشمس وبهرةُ القمر وهما تتمرغان على خدي تولاي، وهمس هامس في سمعي: بسم اللـه الرحمن الرحـيم: ما زاغ البصر وما طغى، وهمس: بسم اللـه الرحمن الرحـيم: لهم قلوب لا يفقهون بها، ولهم أعين لا يبصرون بها. ثم تراءى لي القاضي أبو علي التنوخي وهو يترنّم: وإذا أتت عينٌ لتسرق نظرةً/ قال الشعاع لها اذهبي، لا تذهبي/ فردّدتُ على أصلان البيت بلا ترنيم وختمتُ: ترجمْ.

نظر إليّ متشككاً، فكررت وأنا أنظر إلى وجه تولاي، وأضفت: ترجمْ أيضاً: هذا بيت من الشعر قاله شاعر منذ أكثر من ألف سنة في وجه تولاي.

أطال أصلان النظر إلى تولاي، وكانت عيناها تتقافزان بيني وبينه. ثم جاء صوته خافتاً ومنفعلاً، وأعقبه صمت قصير قبل أن ينفجر تصفيق القاعة، بينما اختلجت وجنتا تولاي، وارتجفت شفتاها، وامتلأت عيناها بالدموع.

ثم بدأت بما كان يحدثني به عن الحمار صديقي موليير تركيا وأيقونة الكوميديا السوداء: هل عرفتم من هو؟ سألت، وتابعت دون أن أنتظر جواباً: كان يحدثني معجباً عن الحمار الأول الذي اكتشف أبجدية النهيق. وفي لقائنا الأخير قال إننا، هو وأنا وغيرنا كثيرون وكثيرات، كنا نتحدث بلغتنا الحميرية، لكن الخوف أنسانا لغتنا. وحكى لي حكاية الحمار العجوز الذي كان يتبختر في الغابة، فلما وخزتْ أنفه رائحةُ الذئب، تمتم: لا لا، هذه ليست رائحة ذئب. ولما ظهر الذئب، كذّب عجوزنا عينيه وركض، لكن قواه سرعان ما خانته. ولما صار الذئب فوقه قال: أنا متأكد أنك لست ذئباً، حتى إذا بدأ الذئب ينهشه قرقش صوته: إنه ذئب يا هوه. وختم صديقي الحكاية بأننا لولا خداع ذاك العجوز لنفسه، لكنا اليوم نجيد الحديث بلغتنا.

قاطعتني سيدة تجلس وحيدة في الصف الأخير:

  • هذه قصة (آه منا معشر الحمير) لعزيز نيسن.

قلت مبتهجاً:

  • هذا صحيح.

قالت المرأة:

  • كان رحمه اللـه صديق أبي. وقد أهداني نسخةً من قصة (الحمار الميت).

قلت:

  • أما أنا فقد عشت معه كتابة هذه القصة رسالةً رسالة.

وعدت إلى الآخرين محدّثاً عن الذبابة التي كتب لها الحمار رسائله من المقبرة، فروى لها كيف كان ينوء بحمله عندما رفع رأسه ورأى على شرفةٍ حماراً يشرب الويسكي المثلج، وإذا بسيارة تصدمه، فأسعفته سيارة الإسعاف، لكن السيارة اصطدمت بشجرة. ووقفت السيدة الوحيدة في الصف الأخير، وقاطعتني غاضبة بصوت متهدج:

  • يبدو أن ذاكرتك تخونك. في الرسالة الثامنة يحكي الحمار سبب موته، وليس كما تفضلت. وفي الرسالة الحادية عشرة يعد حبيبته الذبابة بأن يحكي لها في الرسالة القادمة عن أسباب موت الآخرين، لكنه بدلاً من ذلك حكى عن البحث عن قبرٍ فاخرٍ يليق بمقام عائلته.

هنا استجاب أصلان لإشارات تولاي، وقاطع السيدة بما لا أعلم، فتضاعف غضبها وانسحبت من القاعة وهي تسلقني بنظراتها وبما لا أعلم من الكلمات. وسرى في القاعة لغطٌ وضحكٌ وإذا بأوزجان يسألني ضاحكاً، وأصلان يترجم ضاحكاً:

  • لم يكن عزيز نيسن يعرف العربية، ولا أنت تعرف التركية. بأية لغة كنتما تتحادثان؟

قلت جاداً:

  • باللغة الحميرية.

ضحكت القاعة، وسرتْ فيها همهمات، ووقف رجل في مثل عمري وطولي، لكنه بالغ السمنة، وقال:

  • أثناء زيارتي لصديق في أرتوقولو، قرب ماردين، صادفت احتفالاً أقامته البلدية تكريماً لثلاثة من الحمير، أحيلوا إلى التقاعد بعد خدمة طويلة وشاقة في نقل الزبالة من الأزقة الضيقة والأزقة التي ليس فيها غير الدرج. بدأ الاحتفال بمعزوفات كلاسيكية قصيرة لموزارت وبيتهوفن أدّتها فرقة من شباب وشابات أرتوقولو. واختُتِم الاحتفال بتقديم فواكه وخضار للمكرمين أمام الخان الذي احتشد فيه أربعون حماراً موظفين في البلدية لنقل الزبالة.

قلت:

  • الحمار في أرتوقولو يعمل ثماني ساعات يومياً، منها ساعتان للاستراحة، ويتقاعد بعد ثماني سنوات. صحيح؟
  • صحيح، هل كنت هناك؟ عشت هناك؟

قال الرجل، وصفقت بعض الأكف، وخاطبت تولاي أصلان وهي تنظر إليّ، فأمرني متجهماً:

  •  تابع محاضرتك قبل أن تضيع الطاسة.

قلت وأنا أهرش صدغي:

  • ضاعت الطاسة هنا يا صديقي. ماذا تريدني أن أفعل؟

وقبل أن يجيبني وقفت شابة بالغة الشقرة وتكلمت طويلاً، ثم هامسني أصلان:

  • باختصار تسأل عن اللغة الحميرية. تسخر. ورّطت نفسك.

قلت وعيناي تتشرّبان الشقرة:

  • يقسم العلماء لغة الحمير إلى قسم إشاري وقسم صوتي. في الصوتي عددي: الهمهمة، وهي كما لو أنك تدوزنين العود. بعد الهمهمة يأتي الصعود مع القوس. في منتصف القوس يأتي النهيق الحر. المرحلة الأولى من هذا النهيق هي الأطول، وهي التي يصعب تنويطها. بعد ذلك يأتي التراخي. وفي النهاية تأتي أصوات متباعدة مثل النشيج. يكفيكِ هذا الآن. أما القسم الإشاري فهو من أسرار لغتنا الخاصة بأمتنا الحميرية.

قهقهت الشابة وقذفت بذراعيها سماء القاعة ثم قذفتني بقبلة، وإذا برجل وامرأة يخرجان وهما ينظران إليّ باحتقار، وهمس أصلان:

  • يقولان: ضيف من سورية، ومحاضرة، ما هذا المستوى المنحط! تصرفْ يا كارم.

وأشار بيديه طالباً الهدوء، وقال بصوت حاسم وغاضب:

  • عنوان محاضرة ضيفنا العزيز هو: كلما قرأت كتاباً صرت فيه ومنه وله حماراً.

 بلعت ريقي لأبلع فشلي، وسرقت من تولاي نظرة. ولأمرٍ ما استفزتني بشرتها، فلولاها ما كانت الأمور لتختلط علي، وما كان لي أن أخفق. وقلّبتْ أصابعي الصفحات التي أمامي، ثم مسحتْ ملياً على الصفحة الأولى قبل أن أبدأ القراءة خائفاً([iv]):

 

1
أطلت عليّ حمارة حورية باريسية آخر شخلعة وآخر دعدعة، عيونها فناجين شاي والخصر مخنوق ومزنوق، حمارة متكركرة متشنكرة قطقوطة غندورة، أنيابها تؤكد أنها من أكلة البرسيم.

أنا الوحيد الباقي من العصر الحميري، حين كان الإنسان والحمار سواء بسواء. وأمرتني الحمارة:

  • انهض أيها الحمار الخالد، أيها الحمار العبقري، واتبعني.

كرجتُ خلفها ألعق أذيالها وأمنّي النفس إلى أن أمرتْ:

  • اجلس.

وإذا بي في صالون أرحب من هذا الصالون وأثرى، ولكن أمام طاولة عارية. وأمرتْ:

  • احك لي أيها الحمار عن مشاكلكم الفقهية وقضاياكم اللغوية.

تنحنحت، وفغرتُ عينيّ لكأنهما ستأكلانها، وقلت:

  • من ألقابنا الحميرية: الزعيم الأوحد، المجاهد الأكبر، الملهم، الأخ القائد .. ونحن يا أجمل الحمارات مولعون بأفعل التفضيل. لدينا ثورات بعدد شعور رؤوسنا. نرفع شعار التحرير ونوقع معاهدات سرية مع من يحتل أرضنا. نتكلم عن الكفاح المسلح ونجعله كفاحْ مشلّحْ. عندنا معارضة براتب، ومعارضة بمكافأة، وحكوميون معاونون للمعارضة، وقادة منظمات مسلحة دفاتر شيكاتهم أطول من الشريط الحدودي مع إسرائيل. كتّابنا ملتزمون بالاتجاه السائد ودعاة للخليفة الموجود. المواطن الحمار منا متهم حتى تثبت إدانته، وكل مواطن خائن حتى يثبت العكس. الحمورية وقْفٌ علينا. بلغنا أعلى مراحل الاستحمار. أنتم اخترعتم الكومبيوتر ونحن اخترعنا الكذبيوتر والتزويريوتر. حكومتنا عكومتنا مهمتها عكم كل حمار ينهق في وجهها أو يرفس في ظهرها. في تاريخنا الحميري كان حمير فزارة إذا غضبوا من حمير تميم أغاروا على مضاربهم ليلاً، وسَبَوا حماراتهم وقتلوا حميرهم، واستولوا على معالفهم وأهراءات أعلافهم. هاه هاه. نسيت أن أحدثك يا ست الستات عن إبداعنا في النظرية الحميرية، أين منها يا بنت المدبوبة نظرية فيثاغورث أو نظرية آينشتاين أو نظرية داروين أو أي نظرية شئت من نظريات ما بعد الحداثة أو نظريات نشوء الكون.

هنا نشف ريقي فامتدت يدي إلى كأس الماء. لكن يد الحمارة اللـهلوبة سبقت، وباللطف الذي ليس مثله لطف (بنت حمار) أو (بنت آدم) في بلادنا ناولتني الكأس فتفحصتها جيداً كما يليق بحمار أصيل. ولما أعدتها فارغةً، ثم فرقعت جَشْأة تبيّض الوجه – وأنا، والحق يقال، حمار جُشأة –  أقول: عندئذٍ قالت الحمارة، كأنها منا وفينا، وليست حمارة فرنسية:

  • بالهنا والشفا.

 وبعد أن تعنكشت وبرطمت وتعزرنت وتمشكحت سألتْ:

  •  وما هي نظريتكم يا حماري العزيز؟

انتظرتُ أن تشبع عينيّ من الحلقات البيض حول أنفها وعينيها وفوق كاحليها، ثم لهثتْ كلماتي:

  • تقول نظريتنا في جملة ما تقول: يا بخت مين نفّعْ واستنفعْ. وتتفرع من هذه النظرية نُظَيْرية تقول: تراعيني قيراط أراعيك قيراطين. وتقول نظريتنا في الحكم الحميري: هَبْر على وِدْنه.

قالت حمارة الحمارات:

  • أنتم عجيبة العجائب يا حماري العزيز.

ومسحت أناملها على وجهي، وتدفق نبعها الفوار – أي فمها الشهيّ – بكلام كله كلضمة وهلضمة وبغبغة[v]

 

2
انتزعني صاحبي عن بزّ أمي وساقني أمامه بلا رحمة ولا شفقة. نهقت أمي، ونهقت، وقاومت، وتعمدت أن أقع، فشحطني شحطاً وكسر قضيبه على ظهري، فاستسلمت.

في الشارع النظيف العريض وقف ونادى من يشتري هذا اليحمور الأبيض الكركور الذي لم يُفطم بعد. تحلّق حولي وحول صاحبي كثيرون، بينهم رجل مسنّ ومهندم يعتمر طربوشا وبيده عصا تلمع. أُعجب بي هذا الذي ينادونه أستاذ، وبعد مساومة قصيرة اشتراني، وساقني برفق إلى الأوتيل القريب حيث ينزل. لاقاه غاضباً الخادم الغارق في جلبابه الأبيض وعمامته الطويلة البيضاء وصاح:

  • حمار يا أستاذ! أنت رجل محترم وهذا أوتيل محترم. حمار يا أستاذ؟

دسّ الأستاذ في كف الخادم ما دسّ، وأمره بأن يأخذني إلى غرفته ويضعني في الحمام. نفذ الخادم وعاد إلى الأستاذ. وبعد قليل عاد إليّ الخادم مع كأس من الحليب. رفضت الحليب. أريد حليب أمي. نهقت وبكيت وما من مجيب. خرجت من الحمام. خرجت من الغرفة. مشيت في الممر. هذا باب غرفة مفتوح. توقفت. هذه امرأة شقراء وشبه عارية، أسرعتْ إليّ متعجبة وضاحكة. مسحتْ على رقبتي وباستني بين عيوني. بوستها أحلى من بوسة أمي. ربّتت على كتفي وهي تدفعني بلين ونعومة نحو غرفتها. دخلت ووقفت أمام السرير العريض. التفتّ وإذا بحمار مثلي يقابلني في المرآة الكبيرة. وقبل أن أملأ عينيّ منه سمعت صوت الأستاذ يتعجب مما جاء بي، ويعتذر للمرأة التي كانت تضحك وتحلف بالله أنها سعيدة بي. وسمعت الأستاذ يوشوشها:

  • هذا الحمار أحمق مثل أكثر الفلاسفة، لذلك يبحث عن نفسه في المرآة ولا يلتفت إلى هذا الجمال.

ثم اقترب مني، ورأيته يحمل رضّاعة كبيرة ملأى بالحليب. قرّب الرضاعة من فمي فرفضتها، فأخذتها الشقراء منه ووضعتها في فمي. طبعاً رضعت[vi].

 

3
اليحمور الأبيض الكركور كبر. صرت الحمار المحترم ولكن العانس. طالت عزوبيتي لأن كل من عرفت من الحمارات لم يرقن لي. طفشت أبحث عن حلالي. طالت بي الطريق وهي تقذفني من مدينة إلى مدينة حتى بلغت مدينة الجسور المعلقة، مدينة العلم والعلماء، قسنطينة الجزائرية التي ملكت فؤادي من أول نظرة.

في اليوم الثاني لوصولي كنت أعبر جسر سيدي مسيد بين السيارات وبني آدم. كنت الحيوان الوحيد على الجسر الذي أخذ يتراقص عندما صفعتنا هبات الهواء. صرت كأني معلق في الهواء. نظرت إلى الأسفل. وادٍ سحيق: وقع قلبي على الأرض. سرت مغمض العينين، وبعد خطوات سمعت صوتاً رقيقاً يسألني:

  • أنت يا محترم، أنت يا حمار: ألست حمار توفيق الحكيم؟

فتحت عيني مذهولاً:

  • نعم يا أخي، أنا هو. من أنت؟

قال الرجل:

  • أنا الكاتب أحمد رضا حوحو. ماذا لك في بلادنا؟

قلت:

  • سئمت من العزوبية وصاحبي الحكيم لا يراني إلا حماراً، فهمت؟
  • فهمت، ولكن ليس لدينا نساء.
  • من أين جئتم إذن؟
  • نساؤنا آلة تفريخ، ثم: أنت حمار، والحمار لا يليق به الزواج.
  • هذا زعمكم يا بني آدم، فلا ترى منكم مخلوقات الله غير الاستكبار والاحتقار. لا تنس أني لست كبقية الحمير. أنا حمار مثقف.
  • فاسلك إذن سلوك المثقفين.
  • ماذا تعني؟
  • أعني أن تتزوج بحمارة أجنبية، فالشائع في هذه الأيام هو زواج المثقفين بأجنبيات.

هل أُصبت في عقلك؟ أما يكفي ما جرّه زواج بعض رجالكم من الأجنبيات من الانحلال، حتى أضيف إليه انحلال آخر فينا نحن معشر الحمير؟

  • قلت غاضباً ورحت أخبط يمنةً ويسرةً لا ألوي على شيء[vii].

 

4
كنا في فرنسا، في سان تروبيز على الشاطئ اللازوردي. البروفسور على ظهري وأنا أرمح بين هذه الأذرع والأفخاذ والظهور والصدور والخدود التي زوّقتها الشمس.

فجأة لمحتها، فنهقتُ وطرتُ: حمارة فرنسية ساحرة وعلى ظهرها ب.ب. عندما حاذيتها وقفت وشمشمت وهمهمت، وهمس البروفسور يسألني عن المرأة:

  • هل تعرف من هي هذه يا حمار؟

قلت وأنا أغمز الحمارة:

  • بريجيت باردو يا بروفسور.

ومشينا: الحمارة وأنا مثل عاشقين، وسمعت ب.ب. تسأل البروفسور بغنج:

  • هل تحب الحمير؟

أجاب بحرارة:

  • وي وي. ولدت في بلدة مشهورة بالحمير شهرة بوردو بالنبيذ وشهرة نيس بالورود وشهرة فرنسا عموماً بالثوم. حمير بلدتنا يا شقراء أضخم حمير في العالم، وأوسم حمير في العالم، وأفحل حمير في العالم.

نظرت إلى الحمارة متشاوفاً، وابتسمت لي، بينما تابع البروفسور:

  • بلدتنا تنتج جميع أنواع الحمير: حمار العائلة، حمار السباق، حمار النكاح، الحمار الإسبورت، الحمار الكونفرتابل، الحمار أبو بابين، الحمار اتنعشر سلندر.

همزت ب.ب حمارتها وقالت:

  • الحقْ بي.

همزني البروفسور. واندفعنا كأننا في سباق إلى أن بلغنا حديقة بيت ب.ب. أكثر من خمسماية حمار وحمارة في الحديقة. نزل البروفسور عن ظهري فتحلقت الحمير حوله: هذا يلمسه، هذا يقبله، هذا ينشده شعراً، وأخيراً هذا يرفسه.

اختفت الحمارة، ومن خيبتي نهقت ضاحكاً وشامتاً بالبروفسور الذي خاطبني مغتاظاً:

  • مثلي مثلك، أنت لم تنل من الحمارة شيئاً، وأنا لم أنل من صاحبتها شيئاً[viii].
     

5
أنا أحب صاحبي سعيد وأفديه بنفسي. نحن عشرة عمر، وهو – أشهد – وفيّ وشهم.

أتذكر الآن كيف كان يتشامخ على ظهري في عصر يوم من أيام 1948، بعد قيام دولة إسرائيل. كان أبو سعيد وجد سعيد قد قُتلا في تلك الحرب. أما هو...

في ذلك العصر ما كدنا نخرج من الناصرة حتى فوجئنا بحاجز عسكري من الحواجز الطيارة والبواريد مُشْهَرة. توقفت. همزني سعيد. لم أستجب. كرر الهمزة أقوى. حرنت. ضربني. حرنت. كنت على ثقة عمياء قاطعة بأنني لو تابعت فسيقتلونه وربما يقتلونني أيضاً. استدرت عائداً وهو يضربني ويصرخ بي. لاحقنا الرصاص لكننا نجونا، ومن يومها صار سعيد يقول: أنا أول إنسان ينقذني حمار محرن.

رجعنا إلى البيت، وجدنا صوت المذيع في محطة الإذاعة الإسرائيلية يخترق الراديو وهو يأمر برفع الرايات البيض قبل أن يدخل الجيش إلى أي قرية أو حارة.

انتزع سعيد شرشف فراشه وكتب عليه (حياتي في إسرائيل فضلة حمار)، ورفع الشرشف على عصا المكنسة، وأسرع إلى سطح البيت، لكن جاره اليهودي المعلم يعقوب صاح:

  • نزّل الشرشف يا حمار.

نهقت احتجاجاً على المعلم يعقوب وسخريةً منه، وقال سعيد:

  • أنا أنفذ أمر المذيع.

صاح المعلم بصوت أعلى:

  • حمار، حمار.

سأل سعيد وهو يغمزني:

  • ما شأني إذا كان المذيع حماراً؟ لماذا لا تستخدمون مذيعين إلا من الحمير؟

ضاعف المعلم يعقوب من صراخه:

  • أنت الحمار. نزّل الشرشف. أنت وحمارك هنا في أمان معي. الرايات البيض لبيوت الفلسطينية. فهمت يا حمار؟

نهقت مطولاً، وعندما سكتّ سأل سعيد:

  • صحيح يا معلم يعقوب أن لحم الحمير مكوم في مطاعم تل أبيب؟ صحيح أن أشهر مقانق لكم هي من لحم الحمير؟

نهقت وعنطزت ورفست، وسعيد غارق في الضحك[ix].

 

6
سماني صاحبي سمارة. لا أنا أعرف لماذا، ولا أظنه هو يعرف. وكما في كل صباح ينظفني ويسقيني ويطعمني، ويضع على ظهري البردعة الجلدية الزاهية التي تتدلى منها شراشف حمراء وزرقاء، ثم يتوكل على الله، وامرأته تدعو له بالتوفيق، وأمشي أمامه إلى محطة القطار، فأقف عند الموقف الخاص بنا، حيث نحتشد.

غاب صاحبي قليلاً ليصطاد زبوناً مدسماً كعادته. وها هو يقترب مع رجلٍ ذي هيبة. وسمعت صاحبي يقول:

  • لولاي ما علّقوا هذه اللافتة.

وسمعت الزبون يقرأ:

  • حمار المحطة للإيجار.

ونادى صاحبي:

  • سمارة.

 فنهقت، وقال صاحبي:

  • هذا حماري. أفهم من ابن آدم. رأيت كيف يحفظ اسمه؟

قال الرجل:

  • لم أر كالحمار حيواناً تحسّ أنه أدرك أُسقِط في يده، تحسّ أنه لم يقبل قدره عن عمى وغفلة أو تدليس عليه، بل عن بصيرة وفهم بعد أن وازن بين حيلته وقدرة ظالمة. وقاده ذكاؤه العملي إلى الاقتناع بأن كل أمل قد مات، وأن لا فائدة تُرجى من الثورة أو اللجاجة أو العناد، وأحنى رأسه وأذنيه وسبل ظهره، واستسلم بلا قيد أو شرط.

تأثرت وحمحمت وحصت، وسأل صاحبي:

  • لا مؤاخذة يا باشا. ماذا تعمل حضرتك؟

قال الرجل بفخر:

  • أنا كاتب.

قال صاحبي:

  • تشرفنا يا باشا. تفضل اركب، والأجرة مقدماً.

دفع الكاتب الأجرة، لكنه لم يركب، بل مشى فمشى صاحبي، وتبعتهما حتى اقترابنا من مدخل المحطة، حيث رأيت فلاحاً خلف حمار عظامه ناتئة وقذرة، ينفطر له القلب. وعلى الرصيف كان رجلان في مثل هيبة الزبون الكاتب يقفان وينظران إليّ. وسمعت أحدهما يقول:

  • هذا حمار أرستقراطي.

 ثم يشير إلى مدخل المحطة ويقول:

  • وهذا حمار السبخ، الحمير درجات يا عم مثل البني آدم.

 فتوقفت، وفشّكت لهما مع أن التفشيك هنا ممنوع، وهو يزعج صاحبي الذي سيكون عليه أن يزيل الفشك بنفسه أو يستأجر من يزيلها. وسرّني أن تفشيكي أضحك الزبون الكاتب، فجاراه صاحبي بالضحك[x].

 

7
آن يتخذ سيافٌ الغيب كمالاً ككمال الظلام، وتركع الرياح الأسيرة، تغرورق عيناك، يا هادئاً ترى الذي ترى، ويكفيك من اليد قضمة واحدة، فلماذا تأسى للوقت؟ ولماذا تضرب بحافرك على رخام بطشنا؟

  • يا حمار، يا جدال الكسل المربك: تلفتْ بعينيك الناعستين إلينا، وأطبقهما، فإنك لن تظفر برؤىً مثلنا قط، رؤىً تمضي على زحافة تجرها ديكة الثلج.
  •  يا حمار، يا شظايا كأسٍ ارتخت يد النديم عليها فهوتْ في الفراغ مائة عام قبل أن تتشظى، اضربْ بحافرك، اضربْ بأذنيك، اضربْ بالكسل المربك هذه اليقظة السارحة تحت خوذاتنا، واغف، فقد أغفى الوقت – ترجمانك الغاضب. وديع أنت، وتغرورق عيناك[xi].

 

8
كان الجفاف قد ضرب البلاد في سنوات الوحدة السورية المصرية، سنوات الجمهورية العربية المتحدة بإقليمها الشمالي (سوريا) وإقليمها الجنوبي (مصر)، والتي لم تعش إلا ثلاث سنوات من 1958 إلى 1961. وفي أخيولتي الأولى([xii]) أعود إلى تلك الأيام في قرية السماقيات في ريف السويداء من جبل العرب أو جبل حوران، كما يحب بعضكم أن يسمّي. عجز الناس عن إطعامنا نحن معشر الحمير فأفلتونا. شردنا في البراري، وفي يوم من الأيام كنت مع ستة أو سبعة من أقراني، وعصفت بنا بالذكريات. اقتربنا من السماقيات نتشمم عبق الماضي، لكننا لمحنا قامة بشرية تقترب. تراجعنا نحو الوعر. لحقت بنا القامة إلى الممر الضيق الإجباري، تضاعف ذعرنا وفرارنا، وبقدرة قادر نجونا. لكنهم عادوا وعُدْنا، وكان ذلك الحمار الرمادي قدام ابن مالك. نهق وليته ما نهق. كان يستغيث فلبت الذئاب النداء، وأصابت ابن مالك لَقْوة وانلجم لسانه.

سرحنا نبحث عن عشبة، حتى عن شوكة يابسة، وجاءت الذئاب تحوم حولنا. من حين إلى حين يثور غبار فاتر، ويُسمَع نهيق تافه. وتتصاعد رعشات القتيل منا لحظة، ثم ينتهي كل شيء، وتحشرنا الذئاب في وهدة، تسد علينا سُبُل الفرار.

وحده الحمار القبرصي الأبيض مات ميتة أخرى. وحده رفض الهجرة بعدما هجر الناس القرية، وظل فيها حتى مات.

أنا كنت هذا الحمار، ثم عشت من جديد في هذا القميص البشري.

 

9
أنا من ضُرب به المثل: حمار بين الأغاني، وبهذا كان أهل نابولي يصفونني، كما قالت ابنتي صوفيا لورين لألبرتو مورافيا. ولست الحمار بين الأغاني([xiii]) الذي لا يعرف ما يجري حوله، وشُبّه بي أهل حارة الحلقوم في عاصمة اليمن السعيد الذي حفر رسمي منذ آلاف السنين على صخور صعدة إبّان قدومي من مسقط رأسي الأول: صوماليا، صوماليا يا حبيبتي على وزن سوريا يا حبيبتي/ أعدت لي كرامتي.

 

10
 وأنا ذلك الحمار الذي فرّ مع أمه من صاحبهما، وحين صدحت أمي: لقد تحررنا من العبودية، فلتفعلْ ما تشاء، صفقت لها، وزغرطتُ وهَرْنطتُ. ومضينا إلى المدينة حيث ضيعت أمي، وقبض عليّ العيساوي، وعلمني كيف أقلد هتلر وشارلي شابلن وإسماعيل ياسين ونيكسون، حتى صرت أتساءل: هل كنا نحن الحمير أناساً في عهود سابقة، وتحولنا إلى حمير، بينما كان الآدميون حميراً؟([xiv])

 

11
لم أعد حماراً. صرت حمارة، وصاحبي، حبيبي، ابني، صبيٌّ أخرس، وأنا لا أطيع أحداً سواه، مهما كلفني ذلك.

مرغماً التحق الأخرس بالمدرسة، لكنه اشترط أن نكون معاً. وفي الاجتماع الصباحي، حين تبدأ هتافات التلاميذ وزعيق الزاعقين، يدوّي نهيقي وأعجز عن لجمه أو ضبطه. لكن المرابطين لكل كائن يخرج عليهم انتزعوني من ابني حبيبي، واغتصبوني وقتلوني، وما كان ذلك إلا لأن الأخرس عجز عن الهتاف، فبعق، وما كان لي أن أتفرج عليه، فنهقت، وكان ما كان، إلى أن عشت من جديد في هذا القميص البشري([xv]).

 

12
أنا الحمار الأبيض، رأتني الجثة في يوم ربيعي ساحر من أيام الحرب اللبنانية أصعد إلى سطح البناية المقابلة للحفرة التي رمت الجثة منها سيارةُ البلدية. كنت أقفز كل درجتين أو ثلاثاً معاً إلى آخر طابق حتى بلغت السطح. اقتربت من الحافة ونظرت إلى الأسفل. تلاقت نظراتي بنظرة الجثة، ثم بدأت انهق كما لم أنهق طوال عمري، وفكرت في هذه الحرب العبثية التي تمنعني من أن أكون حماراً حراً كما أريد. حرب في واحد من البلدان الحميرية، تسقط فيها قذائف الحمير على بيوت الحمير، والحمير قتلى وجرحى وأسرى على طرفي الجبهة. ملعون من كتب هذا الكلام. لا، هذه أفعال البشر وليست أفعالنا، لذلك سأنهي حياتي بيدي، بدلاً من أن تنهيها قذيفة طائشة تشعرني كم أنا تافه وكم أنا رخيص([xvi]).

 

13
أنا واحد من هؤلاء الثلاثة، بل أنا كل واحد من هؤلاء الثلاثة الذين شكلوا جماعة لنصرة الحمير: نصار، غفار، زهار: والأول هو الأمير.

من سلوك الحمير وأخلاقها حاولنا أن نستخلص فلسفة جديدة، ربما تُصْلِح ما فسد من أخلاق البشر. وقد اهتدينا بعدد من أكبر كبراء وأنبل نبلاء الحمير، مثل حمار سيدنا المسيح، وحمار سيدنا محمـد، وحمار القديس توما، وحمار خيمينيث..

كانت ثمة ثلاث جمهوريات تمارس سياسة إبادة الحمير.  وواحدنا هو هذا الكائن الصديق للأطفال، الذي لا يأكل نبتة الدخان. واحدنا ضد التدخين بالفطرة، ولا نعرف الاغتصاب، فالبوصلة الأنفية الحميرية هي التي تقود واحدنا إلى أنثاه، لتكون المؤانثة التي يسميها البشر الفعل الجنسي. وواحدنا مسالم بالفطرة، لا يعتدي، بل يكتفي برد الاعتداء الفادح.

من الوصايا التي اتفقنا على أن نوصي بها أعضاء جماعتنا: كن كالحمار: اعمل بصمت، لا تكن خبيثاً ولا أنانياً ولا عدوانياً، انبذ التمييز وارفع شعار: الحمار أخو الحمار، واصفنْ، ثم اصفنْ، ثم اصفنْ، فالحمار يجدد بالصفن طاقته الذهنية والجسدية. وعملاً بهذه الصفة الحمارية الجلّى رسمت لوحة العشاء الرئاسي الأخير، فاقتضت مني اثنتي عشرة صفنة.

ثمة رئيس لإحدى الدول شاع عنه أنه يمارس الصفن والحمرنة، ويقود الدولة عبر هاتين الميزتين، فإذا زعل مضى إلى الصحراء مصحوباً بالمقرات الرئاسية التي لها شكل خيمة مجهزة بالمستلزمات الصفنوية. ولها عدد محدود من المرافقات والحارسات، كيلا يجرؤ أحد على تعكير سكينة هذا الرئيس الصفنوية. وقد خرج من صفناته الصحراوية بالنظرية الخضراء، واللون الأخضر هو المفضل للحمير ولغيرها من الكائنات.

شعارنا الذهبي: متْ حماراً متحمرناً، ولا تمتْ خروفاً مستسلماً. وشعارنا البلاتيني: اعتصمْ بالحمرنة، ولا سلطة لأحد على الحمار المتحمرن عندما يطفح الأذى.

في جمهوريات الإبادة الحميرية، وهي الموسومة بالجمهوريات الفوتوغرافية، ما يذكّرك بما في رواية (ما لذة السلطة)، فللتصوير وزارة خاصة، ولكل مواطن كاميرا، ومختبرات التصوير جرى تأميمها، وفُرض علم التصوير، واستُحدِث الدبلوم الرئاسي للتصوير، كما ازدهر فن نحت التماثيل، وفن الجداريات، وصدر قانون الجداريات، وأُطلقت الحملة الجدارية، وكل ذلك للوفاء بحق الصور الرئاسية، حتى أبدع المبدعون فن الترتيش وفن الرسم بالصورة، وأُنشئت شرطة الفوتوغراف. وتحت شعار (سنجعله حريقاً حتى النصر) أُقيمت فعاليات الحرق الجماهيري لصور الأعداء.

 مع ظهور المعارضة الفوتوغرافية ظهرت الصورة المزدوجة التي يكون على وجهها صورة الرئيس، بينما على القفا صورة رئيس المعارضة أو صورة رئيس الجمهورية المعادية.

في الجمهوريات الفوتوغرافية تفجرت الجهادية، ومن ذلك أنهم ربطوا الحمار أبو الوشم بعربة مفخخة ومحملة بالبنزين، وحمّلوا على ظهره عدة قذائف صاروخية موجّهة عن بعد، وتركوا أخي أبو الوشم وحيداً في شارع مزدحم ينتهي بموقع عسكري للاحتلال. لكن الحمار توقف في الجزيرة بعيداً عن الناس، وهكذا أخطأت القذائف أهدافها، ولم يتحرك أبو الوشم، بينما كانت الخطة تفترض أن صوت القذائف سيهيجه فينطلق بين الناس، فيفجرونه، لكنه احتفظ بالهدوء الحميري، فترك المتربصون مكانهم، وهربوا لاعنين جنسنا الحميري. ووصمت الجماعة المقاتلة أبو الوشم بالحمار الخائف والمرتد، وأحلّت قطع رأسه، واختلفت فيه المواقف بين من عدّه عميلاً للاحتلال، وبين من قال: حمار وطني، إذ نفذ إطلاق القذائف ولم ينفذ الباقي. وقد رد فقيه تليفزيوني وسطي على من دعوا إلى ذبح أبو الوشم بأن التهديد بالذبح خطأ، لأن الشرع يأمر بالقتل نَحْراً للكفرة من خارج الملة، وللمرتدين من داخلها على أن يكونوا من ذرية آدم، والحمار ليس من ذرية آدم باتفاق العلماء، واللـه أعلم. وقد دعا كاتب تحمس للجماعة المقاتلة إلى تشكيل حزب الرفس والنهيق لحمل القنابل والدقيق.

للمرة الأولى أشعر بالإنصاف، فأنا الآن الحمار السرّاد، أنا الآن الحمار الروائي، ومن يدري، فقد يكون لي مطرح في حظائر تاريخ الرواية.

بالعودة إلى الجمهوريات الفوتوغرافية، حوّر رسام مشاكس ملامح الرئيس في صورة من الهيئة الذئبية إلى رأس حمار، فأُعلنتْ حالة الطوارئ، واستعرت حملات التطهير في أجهزة الدولة. وبالمقابل قامت مظاهرات تتقدمها صورة الرسام المشاكس وصورة الرأس الحماري. لكن الرسام اختفى حيناً، ثم ظهرت جثته بلا رأس، وتكاثرت الجثث بلا رؤوس على المزابل.

في هذه الثورة المهزومة كان المتظاهرون يطلقونني وزملائي كل يوم في الشوارع، بعدما يُلْبسون الواحد منا ثوباً من صور الرئيس. كان واحدنا هو من يقود الحشود، فإذا ظهرت شرطة الفوتوغراف تفرق الناس في الأزقة، وكنا الضحية، إلا من دعت له أمه الحمارة بالنجاة. وقد أدى ذلك إلى ارتفاع أسعارنا، وظهر مرض سمّوه حمّى الحمار الوردي، واللون الوردي ليس في الجينات اللونية للحمار منا.

من الحامض النووي لكل حمار صريع صارت الأجهزة تستدل على صاحبه. وبدأت حملة ضارية لتشويه تاريخ وسمعة الحمير، فتحولنا لأول مرة في التاريخ من كائن مهمش إلى كائن مخيف. وصدر قرار كأنه سُعار: لا حمار بعد اليوم في الجمهورية. وبدأت مرحلة حَيْونة العمل الساسي على الجهتين الحكومية والمعارضة، واستغرق سُعارُ الضحك الجميع، وظهرت ملايين الصور المخزنة لرؤساء محتملين، فماذا يمكن للحمار أن يفعل في عالم منفلت فقد عقله ونسقه[xvii]؟

 

14
وأنا هذه المرة حمار أبو اليزيد. وأبو اليزيد هو قائد الثورة التي عرفت بثورة صاحب الحمار قبل مئة سنة ويزيد.

كان لنا في قريتنا مربط الحمير، سوق لا نظير له في ليبيا بين أسواق بيع وشراء الحمير.

لم يركب أبو اليزيد إلا على ظهري، وأتباعه لم يركبوا إلا الحمير. كانوا يضعون العصابة على عيوننا، ويشعلون ذيولنا ويدفعوننا إلى خيام العدو. كان الثوار من الخمّاسين والأجراء والفقراء الذين توافدو إلى هذا الرباط فصار اسمه مربط الحمير، والعدو كان الملاكين.

لو لم يكن للتقمص من برهان غيري، لكفى، فأنا أيضاً في هذه الأخيولة حمار عبد النبي، وعبد النبي هذا حطّاب، كان يحمّلني ما يحتطب من الحطب كل نهار، ونمضي به إلى السوق.

جاءت الكهرباء وجاء الغاز وبارت تجارة حبيبي وصاحبي، لذلك باعني في السوق، ومشى بي الشاري أظن خمسين كيلو متراً، بل مئة.

لكنني عدت في الليل إلى عبد النبي. وصلت فجراً منهكاً فحضنني وقبّلني وقبّلته. وما كدت أرتاح عندما جاء بعلبة دهان أبيض وفرشاة، ورسم على جبهتي بقعة مدورة، ثم ساقني إلى السوق، وباعني من جديد. انزعجت جداً وكتمت انزعاجي وقررت ألا أعود إليه. لكن الحنين اشتد بي في الليل فرجعت، ولم تكن المسافة بعيدة هذه المرة. حضنني عبد النبي وقبلني، فشمشمته وسامحته. لكنه فاجأني في الصباح بأن أزال البقعة البيضاء عن جبهتي ووضع على فخذي الأيسر بدلاً منها، ومسح على كتفي ووجهي، وخاطبتني عيناه بسرّه، ففهمت حيلته، وسررت به، وانطلقنا إلى السوق، وباعني، ورجعت، ونقل البقعة، وباعني، ولما لم يبق في جسمي مطرح لم يتبقع، حرنت، وقلت له: كفى. وأفهمته أنني لن أعود هذه المرة، فلا تكن طمّاعاً.

مضت بنا الأيام حتى قررت الحكومة أن تشق الطريق إلى قريتنا، فاعترض الناس، لكن الحكومة أصرّت. وكان كثيرون منا نحن معشر حمير القرية قد تدربوا على القفز عالياً لأن أصحابنا كانوا يشغلوننا أحياناً في السيرك. ولما جاءت الجرافات يحرسها رجال الشرطة، أعطانا عبد النبي الإشارة، وكنت أول من تصدى للجرافة، إذ قفزتُ على السائق ففرّ، وجاء غيره، وجاء غيري، وهكذا مضى النهار بين كرّ وفرّ، فاستسلمت الحكومة للهزيمة، وانتصرنا نحن معشر الحمير بقيادة حبيبي وصاحبي عبد النبي([xviii]).

 

15
السرد كما تعلمون، زادكم الله علماً، أشكال ألوان، وفيه ما قد يأتي في ثوب الخاطرة، بل والمقالة، كما في الأخيولة السابقة، وفي هذه الأخيولة([xix]) أنا حمار أبو شريفة الفلسطيني. لسوء حظي وحظ صاحبي، فشّكت عندما مرت في قريتنا دورية لجيش الاحتلال الإسرائيلي. كتبوا صاحبي مخالفة. كارثة، 130 شاقل، وسمعته يقول وقلبي يتقطع معه: لا أعلم إن كان فشْك الحمار يشكل قنبلة موقوتة تهدد أمن المحتلين، تماماً كما لا أعلم إن كانت هناك قوانين خاصة بنا نحن الحمير، تحدد الأماكن التي يسمح لنا فيها بالبول أو التفشيك، أم إن قضاء الحمار منا لحاجته في الشارع العام يشكل خرقاً للأخلاق العامة؟ لماذا يتبول الكلب ويتبرز كما يحلو له في شوارع باريس، وأنا هنا لا؟

صاحبي، بعد هذه الحادثة الكارثة، أراد أن يعلمني كيف أقضي الحاجة، فراح يبحث عن مدرسة تعلمني الحمرنة الإنسانية، وقد فاته رغم ذكائه أنني عندما أخاطبه: يا بني آدم، فإنني أكيل له شتيمة حمارية وازنة.

في أخيولة أخرى([xx])، من نِعَم الخاطرة، اشترى صاحبي موبايل، وأراد أن يتشاوف فيه، فعلّقه برقبتي، لكنني رفضت رفضاً قاطعاً أن أتخلى عن عالمي الحميري وأتشبه به أو بأي بشري، مقابل رنّة موبايل أو أي مظهر بشري سخيف، وهل من مظهر بشري غير سخيف؟

ذات نهار حارّ مشيت أمام صاحبي على الطريق الشاقة من أبوديس إلى بيت لحم. وبعدما اجتزنا مخاطر الاحتلال على طريق وادي النار، انتحى صاحبي تحت ظل شجرة، وفتح علبة سردين، بينما رحت أقضم أغصاناً طرية من طرف شجرة اللوز التي تظللت بها. المسكين، بعد أول لقمة رآني فنطّ وصاح حتى يبعدني عن لقمتي. ولما عاد إلى علبته كان كلب فالت قد ابتلع ثلاثة أرباع العلبة. المسكين راح يلعن حظه ويلعن الكلاب، وأخذت عيناه تأكلان العلبة وهو يتقلب بين الجوع وبين نجاسة الكلب، وإذا به يقرأ تاريخ انتهاء صلاحية علبة السردين قبل سنة، فرمى العلبة. وسمعنا، هو وأنا، أنين الكلب الذي يتلوى. وهكذا أصبحت حياة صاحبي كما ردد عليّ مراراً: فضلة حياة كلب، فضحكت حتى كدت أنقلب، وعندما تذكرت السلطة الوطنية الفلسطينية سألته بنهقة مدوية: ألا يوجد سلطة تراقب الأطعمة الفاسدة؟([xxi]).

 

أجنحة تولاي
كان يا ما كان، وغير اللـه ما كان، كان في مدينة مانيسا امرأة اسمها نيوبي، تعتز بأنها أمّ لست بنات وستة أولاد. وكان في المدينة امرأة غيورة وشريرة اسمها ليتو، لها طفلان، وقد أمرت الطفلين بذبح أطفال نيوبي، فحوّل الرب نيوبي إلى صخرة رحمةً بها من البكاء والتفجّع. لكن الصخرة التي تطل على مانيسا من رأس جبل سپيلوس، تبكي، وستظل تبكي إلى أبد الآبدين ودهر الداهرين. أما الرجل الذي يدّعي أن أصله حمار: كارم أسعد فهو بصحبة المرأة التي تصدق كارم وتكذبه في آنٍ معاً: تولاي سيرجين، يقفان ويعانقان الصخرة الباكية نيوبي: رأس امرأة، أنف امرأة، شفتا امرأة، ذقن امرأة، وعنق غاطس في عَبَل الجسد الأَمَوي الذي أنجب وأرضع ستة أولاد وست بنات.

انسحبت عينا كارم من الجبل إلى سيارة تولاي الرابضة بعيداً في مدخل الساحة. وحكى لتولاي حكاية مانيسا بنت سيدنا يوسف. كان عليه السلام إذا رآها نسي أحزانه وما فعل به إخوته. فحكت تولاي أن مانيسا هي زهرة مسحورة. من يرها تغمره الفرحة مهما كان فيه من الغمّ.

وتابعت السيارة سيرها وسط كروم الكرز التي ترش بحمرة حباتها أشعة الشمس، وقالت تولاي: هذا هو اللؤلؤ الأحمر. وأبرقت لكارم كروم اللؤلؤ الأحمر في السويداء وفي إدلب. ومن بين تلك الكروم وكروم مانيسا تسامقت شجرة أمام بيته في نيبالين، حباتها مضرجة مثل خدي تولاي. وكانت السيارة قد بدأت منذ حين تحوص وتجوس وتسأل وتتباطأ في حي أكبينار حتى بلغت المرام: تفضل يا كارم، هذه مزرعة توركان إيفريبويون التي تبدو أكبر شباباً من تولاي، مع أنها في مثل عمرها، والفضل لمن؟

هنا تولت توركان الحكاية، فحكت أنها أقامت هذه المزرعة للحمير منذ عدة سنوات، وكان سعر الحمار زهيداً، ليس أكثر من مائتي ليرة، الآن صار ألف ليرة، يعني صار أربعماية دولار.

سألت تولاي:

  • لماذا يا توركان؟
  • لأن الناس تنبهوا إلى حليب الحمير.
  • بكم تبيعين ليتر الحليب؟
  • بخمسين، ستين ليرة. في السنة الماضية بعته بثلاثين، أربعين. تضاعف الطلب أضعافاً. هل أنتما صحافيان؟ هل..

وسكتت توركان فجأة، وراحت تدقق في وجه تولاي، ثم قالت ضاحكة:

  • أنت تستخدمين صابون حليبنا.

ومسحت بأطراف أصابعها على خدي تولاي، ثم تابعت:

  • ما شاء اللـه! أنت تشربين من حليبنا أيضاً. والآن، ماذا ستشترين مني؟

التفتت تولاي إلى كارم وسألته:

  • ما رأيك بكأس؟ هل ذقت هذا الحليب من قبل؟

قالت توركان:

  • الكأس بخمسة يورو.

ولم تنتظر رده، لا تولاي ولا توركان التي اختفت فجأة، بينما كان كارم يزدرد لعابه سعيداً لأنه سيذوق حليب الحمارة لأول مرة، فهو الحمار الذي رضع حليب البشر: فكّر، وخاف من أن ينكر أمه. وأحسّ بالامتنان العميق لتولاي، فلولاها من أين كان له أن يعرف صابون الحمارة أو يشرب حليب الحمارة، أو يزور مزرعة توركان؟ وتشهّت عيناه خدي تولاي، وأقسم في سره على أنه يراهما لأول مرة منذ غادرا آكياكا أول أمس.

*  *   *

كان قد انزوى في غرفته منذ انفضّ السامر وانتهت محاضرته بفوضى. وقبل أن تغيب شمس آكياكا تسلل إلى البحر، وظل يسبح وحيداً وسط جمع غفير من الصبايا والأطفال وزوجين أو ثلاثة في مثل سنه. ولما أخذت أضواء أوتيلات الشاطئ تضيء البحر، تسلل إلى غرفته، وطلب العشاء إليها، وأخذ يكرع من الميني بار ما فيه من أقداح لا تروي غليلاً.

كانت خلطة الويسكي والفودكا والبيرة قد أخذت تسري خدراً في رأس كارم حين هتفت تولاي، ومن دون تحية، قالت:

  • خلِّ أصلان يرجع وحده. تعال معي إلى إزمير، يوماً أو يومين.

ولما طال صمته وطال انتظارها قالت:

  • إذن أنت موافق. سننطلق بعد الفطور. لنقلْ في العاشرة.

واختفى صوتها، فصحا كارم، وقذف الشرفة والنهر والنجوم والبحر بما تفجر في صدره: لماذا تهينك تولاي؟ لماذا هذا الخنوع؟ لا، لن تذهب معها حتى إلى جنة رضوان. وعاد إلى الهاتف، ولكن ليتصل بأصلان، ويبلغه بأنه سيلحق به إلى أنطاكية بعد يومين أو ثلاثة.

منوَّماً سهر حتى نامت الشرفة والنهر والنجوم والبحر، بعد ما طلب زجاجة كاملة من العرق. ومنوّماً عانق أصلان مودعاً، ولاقى تولاي، وودع آيتين وأوزجان وقادين آواز التي رافقته حتى سيارة تولاي.

ما كادت السيارة تنطلق على طريق مرمريس حتى جاء صوت تولاي حنوناً معاتباً، ولكن كأنه مقهور وقاسٍ أيضاً:

  • لماذا لم تتهيأ جيداً للمحاضرة؟ بدوتَ مشتتاً. أعطيت انطباعاً سيئاً.

قال كارم كأنما ينتزع الكلمات واحدة واحدة.

  • اتفقنا على لقاء، لقاء مفتوح، وليس على محاضرة. أنا لا أجيد فن المحاضرة، ولا أحبه. أظن أن أغلب من حضروا لا يحملون على محمل الجد الحديث عن الحمار. وعلى كل حال، لا هم ولا أنا سبب الفشل.
  • ما هو إذن؟ ترجمة أصلان؟ إدارته للقاء؟
  • لا، ليس أصلان.
  • من إذن؟ ماذا إذن؟

أنتِ، أنت يا تولاي، أراد أن يقول، لكن الكلمات احتبست في حلقه. وبعد حينٍ عزم على أن يسألها عن هذه الدعوة إلى إزمير: هل ستكون مثل دعوتها له إلى اللقاء السري في جناحها في ليلته الأولى في آكياكا؟

أنسته مرمريس تصميمه: مدى يبرق من الخضرة والزرقة، تلال الصنوبر، وها هنا يلتقي بحرنا ببحركم: قالت تولاي باسمة. وتابعت وقد اندفع صدر كارم ليسبق عينيه: هنا يتعانق بحر إيجه والبحر المتوسط. وجاء صوت كارم يهزج:

  • مَرَجَ البحرين يلتقيان، بينهما برزخ لا يبغيان، فبأي آلاء ربكما تكذبان.

وحاول أن يترجم إلى الفرنسية ما قرأ، فتلعثم. وسألت تولاي وقد سرّها انفعال كارم:

  • تحفظ القرآن؟

تمتم كارم:

  • وجعل بين البحرين حاجزاً.

وترجم بلا لعثمة، وأحسّ أن البحرين يندغمان في أعماقه، وأن الطبيعة في تركيا ساحرة، وأكبر كرماً منها في سورية. وودّ أن يقول لتولاي: أحب هذه الطبيعة، أحببت تركيا يا تولاي. لكن أنطاكية أومضت له، ففكر في أن حبه سيظل ناقصاً، ولعن الأطماع والحروب التي تقيم الحدود وتخرب الحدود، وكانت سيارة تولاي تتهادى على الكورنيش.

مرمريس مدينة الحب: قالت تولاي وقد سرها أن كارم أخذ يخرج مما تلبّسه البارحة.

وانطلقتْ به مشياً، وعيناه تنهبان الحانات والمطاعم والشوارع الضيقة واليخوت والقلعة والجلود والبُسُط وبريق الذهب والصنادل و.... وكارم مهووس بالصنادل، لا حذاء له سواها من أول الصيف من أيار إلى الخريف إلى تشرين، لذلك اشترى له واحداً ولغالي واحد، وأصرت تولاي على أن تدفع ثمنهما: هدية لك ولصديقك.

*   *   *

أنهت تولاي كأس الحليب بسرعة، بينما شرب كارم بأناة ألفتت توركان، وكان يتلذذ ويتلمظ كأنه يستعيد طفولة ضائعة. وقبل أن ينهي الكأس ترجمت تولاي رغبته برؤية الحمارات. رحبت توركان ودارت بهما خلف البناء وهي تشكو أنها صارت مضطرة للذهاب بعيداً إلى شرق الأناضول كي تشتري حمارة. رأى كارم الحمارة البيضاء فهفا لها وهفت له. مسح على عنقها وظهرها فرأسها وهي تلاعب أذنيها وتحمحم. وترددَ في أذني كارم صدى بعيد لصوت أبيه يهمس رقيقاً: يا أم كارم: كم دعوتك إلى أن تراقبي كارم عندما يلاقي حمارة، كيف يمسح على وجهها، كيف يتكلم معها، كيف تنهق له وكيف ترقّص له ذيلها. تبسّم كارم والحنين يجتاحه، ورأى الزريبة قد صارت مصطبة مظللة بدالية تتدافر عناقيدها السود. وسرعان ما توسطت الشمس قبة السماء، ورأى حمارةً بيضاء تتبختر في ساحة نيبالين الأقدم والأكبر، فارتد مجفلاً، وأسرع بالخروج بعد أن دسّ في كف توركان اثني عشر يورو.

*   *   *

حين غادرا مرمريس تحرر لسانه فما عاد يلحق به لسان تولاي، لكأنهما على الجسر العتيق فوق نهر الفرات في مشوار مسائي، وليسا على الطريق السريع إلى إزمير. وبيسرٍ أدهشه، سأل:

  • لماذا دعوتني؟

وبمكر لذَّ له قالت:

  • من أجل الحمار، ولأنني استملحتك قليلاً.
  • ثم؟

 ثم اشتبكت الكلمات:

  • أنت لا تعرف كيف تغازل امرأة.
  • نسيت. منذ سنوات بعيدة لم أغازل امرأة.
  • أليس لك صديقة؟
  • لا.
  • وحياتك الجنسية؟
  • بسيطة، محدودة، وربما مخجلة.
  • لكنك لا تخجل مني؟
  • وأنتِ؟
  • لا أخجل منكَ ولا من غيرك.

كارم يغص يا تولاي. امرأة من نيبالين تُعنى ببيته يوماً أو يومين في الأسبوع، ومرة أو مرتين في الأسبوع يتضاجعان.

  • هل هذا نوع من العهر أم هو العهر الشريف؟
  • لماذا يا تولاي؟ المرأة تعمل مقابل مرتب شهري، أما الجسدان فلهما شأن آخر.
  • وماذا تعمل هذه المرأة أيضاً؟
  • هل أقص عليك قصة حياتها([xxii])؟
  • لا، ليس الآن.
  • وأنتِ يا تولاي؟ قلت إنك زوجة ولك صديق وليس لك صديق وبلا زوج ولست مطلقة ولا أرملة... من أنت يا تولاي؟
  • دعك مني وحدثني عن حمارك.
  • ألم تري كيف أنني لا أستطيع الحديث عنه؟
  • ربما، أمام جمع، لكننا الآن وحدنا. لولا الفوضى أمس ماذا كنت تنوي أن تقول؟

صمت طويلاً كما لو أنه يفكر، ثم قال كما لو كان يعابث:

  • كنت سأحدثكم عن عيد الحب الحميري. كنت سأدعوكم إلى الاحتفال بعيد الحب الحميري.
  • عيد الحب الحميري يا كارم؟
  • نعم يا تولاي. آخرون سبقوكم.
  • مَن؟ أين؟
  • في مصر سخرت فنانة من عيد الحب، فماذا فعلت؟ طبعاً: ليس أمامها إلا الحمار. نشرت صورة حمار مزيّن بالأحمر، والقلوب الحمراء تطوق عنقه. ولكن في الأردن احتفلوا حقاً بعيد الحب الحميري. في مدينة إربد زيّن شباب وصبايا حماراً بوشاح أحمر وبالونات حمراء، وساروا به في شارع جامعة اليرموك، وأطلقت السيارات ألحان أبواقها. في السنة التالية أحضر شباب وصبايا حماراً وحمارة، زينوهما، رشوهما بالعطر، وساروا في زفافهما.
  • الحمد لله، انفكّت عقدة لسانك. وماذا أيضاً؟
  • كنت سأتحدث عن أعياد الحمير.
  • للحمير أعياد؟
  • جمعية الحمير في مصر كرست يا عزيزتي عيد النهيق. يجتمع الأعضاء في يوم محدد وينهقون. لا أدري لماذا سموه عيد النهيق. سأقترح عليهم أن يسموه عيد الموسيقى الحميرية. في يوم آخر يجتمعون ويضربون أنفسهم ليشعروا بألم الحمار. هذا عيد الضرب. وللبردعة أيضاً عيد.

سألت:

  • وغير مصر؟

قال:

  • عيد الحمار المكسيكي، يصادف مع عيد العمال في الأول من أيار. تقام في العيد مسابقة ملكة جمال الحمير: مس دونكي. عيد البركة اليهودي أيضاً ما هو إلا عيد الحمار.

قالت:

  • شاهدت هذا العيد على التيلفزيون. كاهن يحمل حماراً ملوناً صغيراً ويدور به، وخلفه يهتفون. على الحمار بردعة زرقاء مزينة بالأبيض والأصفر حتى لتظن أنها مزينة بالذهب واللؤلؤ. رأيت أيضاً أطفالاً كأنهم بلباس العيد، وكل طفل يحمل لعبة هي حمار ملّون ومزيّن. في أسفل الشاشة قرأت بالإنكليزية أن الاحتفال في حي ميئاه شعاريم في القدس. هل هذا هو عيد الحمار اليهودي؟
  • عيد الحمار اليهودي، عيد البركة اليهودي، عيد حمار النبي بلعام، مهرجان تحرير الحمار، بديتون بيترحمّور... كله واحد.
  • ولماذا كل هذا؟

*    *   *

أبطأت السيارة سرعتها على الطريق من مانيسا إلى أزمير. وضعت تولاي قرصاً من مختاراتها: مقاطع من السيمفونية 40، ودندن كارم بأغنية فيروز: يا أنا يا أنا أنا ويّاك صرنا القصص الغريبة/ يا أنا يا أنا أنا وياك وانسرقت مكاتيبي/ وعرفوا إنك حبيبي. وترجم كلمات الأغنية ثم عاد إلى الدندنة. وأخذت أصابع تولاي تنقر على مقود السيارة، وأخذت كتفاها ترقصان. وحكى كارم لها حكاية الأخوين رحباني مع موزارت في تلحين هذه الأغنية. وقالت إنها تعلمت من الرقة الاستماع أحياناً إلى فيروز في الصباح.

أعقبت مقاطعَ موزارت مقاطعُ من بحيرة البجع، وأغمض كارم عينيه لتصير تولاي الأميرة التي سُحِرت فتحولت إلى بجعة كما تحول هو من حمار إلى إنسان. لكنك كارم أسعد ولست الأمير. والبجعة المسحورة التي يتلألأ التاج على رأسها تتحول في ظلام العينين المغمضتين إلى شابة ساحرة، تهمس في أذن صاحب العينين: أنا ملكة البجعات، فانتفض صاحب العينين: أنت تولاي، وهتف هاتفٌ من التشيللو وهاتفٌ من الهاربْ وهاتفٌ من الكلارينيت وهاتفٌ من القلب: روح تولاي وروحك ستصعدان إلى السماء فوق بحيرة البجع. ومرت لحظات من الصمت كي يبرأ كارم من السحر، وأعقبت مقاطع تشايكوفسكي مقاطعَ من السيمفونية التاسعة، حتى إذا هدر طبلٌ وصنج قالت تولاي باعتزاز: كأنها الفرقة العسكرية العثمانية. أراد كارم أن يسألها: أين سمعت الفرقة العسكرية العثمانية؟ لكنه خاف من السؤال فكتمه، ومضى مع السيمفونية التاسعة إلى أن تنغّم صوت تولاي: وهذه قبلة أُرسلها إلى الناس أجمعين، فسوّلت لكارم نفسه: القبلة لك يا حمار، لكن بيتهوفن كان قد أشار إلى الفرقة بالختام، وكانت تولاي تقول جذلى وهي توقف سيارتها أمام أوتيل بيلان:

  • إزمير ترحب بكم. أمامك من الوقت ما يكفي. لا تلزقْ بالسرير والتيلفزيون. اخرجْ. سأعود في الثامنة، نتعشى ونسهر معاً. أعددت لك مفاجأة.

وانتظر أن تودعه بقبلة، أو أن تعانقه على الأقل، لكنها لم تفعل. ولمّا غيّبها نهر السيارات رمحت عيناه عالياً إلى السماء الزرقاء القريبة، وسمع صوتاً يشبه صوت هيام حموي، لكنه ليس صوت تولاي: إزمير ترحب بكم.

هذا فضاء آخر تخفق فيه أجنحة تولاي.

*  *   *

كان الأوتيل قريباً من محطة المترو. كان قريباً أيضاً من البحر، وغرفة كارم مطلة على البحر، وكارم لا يرتوي من هذا البحر، لماذا؟ لماذا تعود إلى أنطاكية بالطائرة؟

تساءل وهو ينحرف عن مدخل الأوتيل نحو المحطة، وقرر أن يعود إلى أنطاكية بالحافلات. الطريق كما رآها في إحدى الخرائط السياحية الصغيرة المتربعة على صدر المكتبة في فيللا مارين، لا تكاد تفارق البحر من إزمير إلى أنطاكية. ثلاث عشرة ساعة زمن الرحلة. فليكن. قد لا تتوفر مثل هذه الرحلة، من يعلم إلى متى. والآن إلى الميترو. سوف ينزل في محطة، يسير مستطلعاً إلى أن تكتفي عيناه أو قدماه، ينتقل إلى المحطة التالية، تغيب الشمس أو لا تغيب، سيّان، ليل إزمير مثل نهارها.  والميترو أوفى رحلته ذهاباً وإياباً، وما زالت أمام كارم فسحة من الوقت، لذلك ترك لقدميه أن تقوداه إلى برج الساعة وسط ساحة كوناك، نخلتان تحضنان البرج من يمين ومن يسار، نوافير تحضن قاعدة البرج، ساعة معمرة في رأس البرج تنهض من رقاد وتنذر كارم باقتراب الموعد مع تولاي. لكن القدمين ضيعتا الأوتيل مثلما ستضيعانه بعد افتراقهما في منتصف الليل، فراحتا تخبطان كيفما اتفق لهما إلى أن صدهما تمثالٌ لأتاتورك، فطأطأ وتمتم: أينما توليتم فثمة وجهٌ لزعيمٍ متألّه. وعادت قدماه تخبطان إلى أن بلغتا مسجد حصار، فتوقفتا، وخلعتا نعليهما، وتركتا كارم يتملّى المئذنة الحجرية المدورة، وتركتاه يتملى خشب المنبر المطعّم باللؤلؤ، وتركتاه يتأمل القبة الأم وبناتها السبع، وتركتاه يحاول أن يتذكر متى دخل مسجداً آخر مرة، ومتى صلّى أول مرة. ولما أعجزه النسيان تركته قدماه يسائل إيمانه وإسلامه وإلحاده، وعادتا إلى الأوتيل.

كانت تولاي جالسة في البهو ساهمة. وعندما رأت كارم يجتاز البوابة أسرعت إليه وفركت أذنه قائلة:

  • عقوبة على التأخّر.

فأدار أذنه الأخرى طامعاً في مسّ أصابعها مثلما فعل في الاستراحة الأولى على الطريق إلى إزمير.

*   *   *

كانت محطة الوقود مثل مدينة صغيرة. أسرع كارم إلى الحمام، وأطال الغيبة. ولما ظهر أطال البحث عن تولاي. ولما ظهرت حيّرته إشاراتها من بعيد، حتى إذا وقفت قبالته ضحكت، وبترت ضحكتها، وفركت أذنه آمرة:

  • أغلقْ فتحة بنطلونك.

وأشارت إلى عضوه. سحب السحّاب وأدار أذنه الأخرى، ولم يفق من خجله ومن طعم أصابع تولاي إلا عندما سمعها تسأله: ما الحب يا كارم؟

ارتجّ، وهبّت عليه عاصفة من تعريفات الحب. وفكّر لأول مرة أنْ ليس فيها تعريف واحد للحب عند الحمار، وأنّ عليه أن يجيب تولاي كحمار، وليس كإنسان. ولما طال صمته كررت تولاي السؤال، لكنْ كأنما تسأل نفسها. وربما كان ذلك ما جعله قادراً على أن ينطلق كمن أقدم على أمر ويخشى أن يتراجع عنه:

  • الحب أعمى، أخرس، أطرش.

التفتت تولاي إليه ورمته بنظرة مستنكرة، فأسرع يقول:

  • ليس هذا التعريف لي. حفظته عن أحدهم، ولكن فكّري فيه.
  • فكّر أنت.

قالت باستخفاف. وفكّر، وأطال التفكير وهي شاردة، وفجأة اندفع:

  • الحب يُسمع الأصمّ، ويُنطِق الأبكم، ويخاطب الأعمى.

وعلى الرغم من أنها التفتت إليه باستخفاف أكبر، تابع اندفاعته:

  • هذا الكلام ليس لي أيضاً. لكن كل ما أجبتك به أشعر أنه لي. اعتبريه لي. لابد أنك حضرت فيلم أحدب نوتردام أو قرأت الرواية. متى عشق كوازيمودو أزميرالدا؟ أليس بعد ما أصابه الصمم والخرس؟ والآن يا تولاي قولي: بماذا يختلف كوازيمودو عن الحمار؟ الحمار أصمّ وأخرس. الحمار ليس أعمى وكوازيمودو ليس أعمى. كوازيمودو يحب، والحمار يحب أم لا يحب؟
  • أجب أنت.

ردد في سره: أنا أحب، أنا حمار، الحمار يحب. وابتسم معجباً بالجواب، وإذا بتولاي تسأل:

  • كم امرأة أحببت؟

أجاب في سره: لا أعرف، امرأة واحدة، كثيرات، ولا واحدة. وحاصرته أطياف للوزية. لماذا أنكرت علاقتك بها؟ لماذا تحدثت عن خادمة في منزلك فقط؟ اهرب. اهرب من لوزية ومن خسّتك، ولكن إلى أين؟ إلى من؟ وحاصرته أطياف لزلفى: في غابة الساجور، خلف حمارتها، حاملة لجرتها، فهفا إليها وناداها، لكن الأطياف انبهمت، فالتفت إلى تولاي مستجيراً كأنما ينشد حباً. والتفتت إليه تولاي كأنها نسيت سؤالها، ووضعت قرصاً من مختاراتها.

تنفّس كارم الصعداء، وأقبل على ما راح يصدح في السيارة: ضربات بيانو كأنها خيول تشبّ شبّاً، ثم تجري بعيداً فأبعد، ولابد أنها تجري في سهل، وذاكرة كارم تحرن فتنجده تولاي باعتزاز:

  • المارش التركي، موزارت، سوناتا البيانو 11.

بعد صمت قصير تحدثت تولاي باعتزاز أكبر عن الأتراك في النمسا. وقال كارم كأنه يصحح:

  • العثمانيون في النمسا.

قالت ضاحكة:

  • أجدادنا.

 فأوشك أن يقول: الاستعمار التركي للنمسا، لكنه لجم لسانه، بينما تابعت تولاي:

  • الموسيقى التركية أثرت في موزات عميقاً. هل رأيت فيلمه في تركيا؟
  • لا.

أجاب ببرود. وتمنت تولاي أن يرى الفيلم. وصمتا حتى انتهت السوناتا.

كان الأتوستراد محفوفاً بأشجار الصنوبر التي تتسابق إلى السماء. وكانت السيارة كأنما تهمس همساً على فراهة الطريق وبالسرعة العالية.

أعقبت مقاطعَ موزارت مقاطعُ من (خراب أثينا). وبعد قليل تحدثت تولاي باعتزاز عن هذا المارش التركي أيضاً، ولكن لبيتهوفن. حاولت أذنا كارم أن تتفاعلا مع ما تسمعان، بينما أقلقه السؤال عما إذا كانت تولاي متعصبة لقوميتها التركية، وعما إذا كان ذلك سوف يشوش على علاقتهما، ما دامت أنطاكية السورية ما عادت سوريةً منذ عام 1939. ومن أمسٍ بعيد، حين دخل الراديو لأول مرة إلى بيت أبو كارم، تردد ملء سيارة تولاي صخبٌ يتوعد خمسة آلاف جندي تركي احتشدوا على الحدود السورية، ويهدد الطائرات التركية التي تخترق سماء سورية، ويهلل لمصر التي أرسلت جنودها المظليين إلى اللاذقية نجدةً للشقيقة سورية قبل أن تتوحدا في الجمهورية العربية المتحدة عام 1958. وبينما بدأ الصخب يخفت أعلنت مذيعة باللهجة المصرية العجيبة عن أغنية وطنية جديدة، وسرعان ما تعالت الأغنية حتى صارت صخباً فاق ما سبقه: تركي بَجَمْ./ سِكِرْ انسجمْ/ لاظْ شقلباظْ/ اتْغاظْ هجمْ/ أمان أمان.

انتظر كارم حتى تلاشت الضحكة في سره. وبدلاً من أن يعود إلى أذنيه وإلى خراب أثينا أخذ يفكر في تناقضات تولاي التي غنّت لقتلى أجدادها في اليمن في تلك السهرة، وها هي سكرى بموسيقى موزارت وبيتهوفن، واللـه أعلم بماذا أيضاً من الموسيقى الكلاسيكية الغربية أو الكلاسيكية التركية. وداهمه في سرحانه السؤال عن ولعه هو بالعتابا والموشحات والقدود والفيروزيات وعبد الحليم حافظ والشيخ إمام وناس الغيوان والشيخ عبد الباسط عبد الصمد، فالتفت إلى تولاي ليحدثها عن تناقضاته الغنائية والموسيقية، لكن السؤال داهمه: الغنائية والموسيقية فقط يا كارم أسعد، يا حمار؟

 

إيسون
لا يذكر كارم من الأحلام إلا أشتاتاً أوضحها: هو وتولاي وإيسون في ثياب بيضاء سابغة، يدٌ تلاعب شعراً، يدٌ تمسح على كفل، يدٌ تقرص خداً، يدٌ تهصر صدراً، وأنفاس ساخنة ولاهثة، وأقدام تتدافر.

قبل ذلك أو بعده كان وتولاي في نقار: أنتَ متخلف، أنتِ منحلّة، أنتَ ذكوري، أنتِ معلولة نفسياً، ليتكَ كنتَ حماراً، الحمار أفضل منكَ، ليتكِ كنتِ حمارة، الحمارة أفضل منكِ. وقبل ذلك أو بعده اقتحمت إيسون خلوة كارم وتولاي، واندست بينهما، لكن تولاي اختفت، واحتضنت إيسون كارم، ولعقت أذنيه وذقنه، وراحت تكبر كأنها تغادر طفولتها.

لم يغف كارم حتى تلاشت أصداء الأذان في فجر إزمير. ومثل الملدوغ نهض بعد ثلاث ساعات إلا قليلاً. وكمن في سباق: حلاقة الذقن، الدوش، توضيب الحقيبة، الفطور، اهربْ قبل أن تحضر إيسون.

لكن إيسون كانت رابضة في اللوبي قبل موعدها بنصف ساعة، وها هي تهزج كمن ظفر بصيد:

  • لا أدري لماذا خطر لي أنك ستهرب، لذلك بكّرت.

صعقت العبارة كارم، وردد في سره: إيسون امرأة خطيرة، أنت خطيرة يا إيسون. وانقاد إليها مغالباً الغيظ الذي يناوشه منذ تخلت تولاي عنه إلى إيسون في ختام سهرة البارحة.

*    *    *

كانت نسائم الليل الرطبة قد لفحته وتولاي أمام باب الأوتيل. فوجئ بشعرها يتطاير، كأنه يراه طويلاً لأول مرة. بعد خطوات سرق منها نظرة، فخيّل إليه أنه يرى الشعر قصيراً، بل قصيراً جداً ويتطاير كما يتطاير الشعر الطويل، ولكن ليس أمام أوتيل بيلان، بل أمام ركن من الرقة، ربما كان أوتيل الأرجوان، بل هو النادي اليوناني، بل مضافة بوزان، بل ضريح سيدنا أويس القرني، أما الفرات فقد اختبأ في حضن بنت صغيرة، في الخامسة أو السادسة، أفاقت على آهات غريبة لأمها، صدى يقترب وينأى، فقفزت أريام الصغرى من سريرها وجرت إلى غرفة أريام الكبرى. خبطت الكف اللدنة على الباب الموصد وصاحت أريام الصغرى: ماما. انقطعت الآهات ومرّ صمت طويل يخرّشه بكاء. انفتح الباب وانغلق وطارت أريام الصغرى في حضن أريام الكبرى، وكانت قد رأت من لن تنساه. ولما جمعهما بعد ثلاثين سنة مهرجان عبد السلام العجيلي في بهو دار الثقافة، رفرفت نحو الأستاذ كارم أسعد الذي احترق حنيناً وفرحاً وخوفاً. لذلك التصق بتولاي راجياً أن يسهرا قرب البحر، فقالت وهي تداري هياج شعرها:

  • ستسهر في البحر، وليس قربه. وستكون معنا صديقة حميمة.

*    *    *

هذه هي المفاجأة إذن: همهم كارم، وخرس حتى انطلقت السيارة، فسأل وقد تلوّن صوته بالتعالم والسخرية والاستفزاز:

  • إيسون؟

بعد صمت قصير قالت تولاي:

  • لا ينقصك الذكاء. إيسون، نعم. إذن حدثك أصلان عنها.

قال كارم وقد طاب له أن يتصاعد سجالهما:

  • وأنتِ لا ينقصك الذكاء. أصلان، نعم، لكنه حدثني عنكما معاً، أنت وأيسون، وليس عنها وحدها.

قالت تولاي كأنها تنسحب مؤثرةً السلامة:

  • أصلان لا يؤتمن على سر، لكنه يبقى أعزّ صديق.

وتشاغلت بالراديو، وبعد أن استقرت على أغنية قالت:

  • يعجبني جداً صوت هذا المطرب. مصطفى جيجلي. سأترجم لك بعد أن ينتهي.

قدّر كارم أنها تهرب من الحديث عن إيسون، وحاول أن يتفاعل مع الأغنية، لكنه ظل مشوشاً إلى أن أغلقت تولاي الراديو، وقالت وهي توقف السيارة وتحدق في كارم:

  • حبيبتي... ليتني أمشّط شعرك.. ليتني أتلمس وجنتيك وأغني لك.. لتنامي على ركبتي.. هل أعجبتك الأغنية؟ تعلّمْ يا أستاذ. هكذا يكون الغزل. تفضّل انزلْ. وصلنا.
  • لم أكن أعرف أنك رومانسية إلى هذه الدرجة.

قال وهما يصعدان الدرج إلى قاعة فسيحة مفتوحة على البحر.

  • أنت لا تعرف عني يا كارم، ولا يبدو أنك تريد أن تعرف.

قالت بعدما تجاوزا القاعة وأخذا يسيران فيما يشبه لساناً ضارباً في البحر. وأردفت وهي تشير إلى طاولة:

  • قلت لك ستسهر في البحر. ما رأيك بهذه الطاولة؟ انظر كيف يلفّك البحر.

آه.. هذا أنت يا حبيبي: خاطب البحر، وحبست شفتاه الكلمات، والزرقة حبست عينيه، والنسائم حبست أنفاسه، وغمرته أمواج البحر حتى قمة رأسه، ولما أفاق من سحرها تلفّت في الأنحاء، وقرأ على لوحة كبرى تبدو معلقة في السماء: مطعم أدابيي. ثم أدار ظهره وجلس حيث أشارت تولاي التي فتحت ذراعيها وهي تنظر باتجاه القاعة. إنها إيسون إذن، إيسون أخيراً، إيسون كمال ضرّتي وغريمتي: دمدمتْ أعماقُ كارم وهو يصافح إيسون بحرارةٍ. ووحّد اللـه وهو يجلس قبالتها متسائلاً: من أين لكَ يا حمار هذا المكر كله؟ هذا النفاق والزيف من أين يا كارم؟

تتحدث إيسون الفرنسية أفضل من كارم. ولما امتدح ذلك منها قالت:

  • أتحدث الإنكليزية ولكن علمتني تولاي الفرنسية، وكرمى لتولاي تعلمتها.

هو الحب إذن ما جاء باللغة: فكّر كارم. وقدّر لنفسه عالياً أنه لا يشعر بالغيرة، وأنّ أقصى ما به هو الفضول، وتمنى لو أن تولاي جلست إلى جانب إيسون ليراهما معاً.

كل ما في إيسون صغير، بل دقيق، بل طفولي: شفتاها، ذقنها، أذناها، أصابعها، وبحّة صوتها. وحين تتحدث أو تضحك تهتز مثل طفلة تتدفق حيوية. وحين أعلنت أنه قد آن الأوان لاختيار العشاء، قالت تولاي وهي تميل إلى كارم:

  • هذا المطعم متخصص بالبحريات. هل أختار لك؟
  • ستختار لي إيسون.

أجاب كارم، فبوغتت تولاي، وبوغت هو مثلها. رحبت إيسون ضاحكة، وأعلنت أنها ستختار للجميع ما يشربونه الآن وما سيشربون مع الحبّار والروبيان المقشر والسلمون المدخن والسلمون. امتدح كارم خبرة إيسون، وغلب القِصَرُ على جمل تولاي المتباعدة. استزاد كارم من الفلفل الأبيض، واستغنت إيسون عن شوربة ثمار البحر. لاعب كارم حلقات الكالاماري، وتنازل لإيسون عن مكعبات الجزر وحبات البطاطا وأعواد إكليل الجبل. تنازلت له عن الجرجير وعن قطع من الأخطبوط، فنقل القطع إلى صحن تولاي قائلاً:

  • إن لم تخني الذاكرة فهذه أيضاً تبعد الشيخوخة وتنفع البشرة.
  • شكراً عزيزي. كأنك ترى عليّ ملامح الشيخوخة أو عيباً على بشرتي.

قالت تولاي بصوت ملتوت بغيظ وبالسخرية. غصّ كارم بلقمته، وأدرك أنه ذهب بعيداً في استفزاز تولاي وفي ملاطفة إيسون. وهمس متأثراً وهو ينظر في الكأس التي احتضنتها كفّاه:

  • تولاي لا تشيخ. وجه تولاي هو الشمس، وجه تولاي هو القمر.

وتابع وهو يضع الكأس وينظر إلى إيسون:

  • ليس مهماً أن يكون هذا وصفاً أو غزلاً، المهم أنه من القلب.

هللت إيسون ولاقتها تولاي جذلى، وقالت كأنها لم تكن للتوّ في عَكَر:

  • كارم لا يعرف كيف يغازل.

أكبّت إيسون على الطاولة وقالت وهي تجيل عينيها بين عيون تولاي وكارم، وقالت:

  • كارم عاشق لك يا عزيزتي.

كان كارم سارحاً بين أسنان إيسون الدقيقة والزغب النامي فوق شفتيها. وعندما عادت بظهرها إلى مسند الكرسي تمعّن في صدرها، ولم يصدق أنها بلا صدر، وفكّر في أن ثدييه هو أكبر من ثدييها، وأنكر أن يكون في جسدها ما يثير رجلاً أو امرأة، فلماذا يا تولاي؟ سألت عيناه وهو يلتفت إليها، وتنبه إلى أن صمتهم ثلاثتهم قد طال. وفوجئ بكف تولاي تعانق كفه، ثم تتمسّح بها وهي تقول ضاحكة:

  • من لا يعرف كيف يغازل، هل يعرف كيف يعشق؟
  • طبعاً.

أجابت إيسون متحمسة، وأشارت إلى مكبر الصوت منتصباً على خطوات إلى اليمين، وينساب منه صوت أنثوي كأنه يتضرع. وهمست تولاي في أذن كارم:

  • أرماك أريجي تغني: كن مطري هذه الليلة... لو لمس الثلج قلبك صار جمرة..

لكن كارم ملص من الهمس ومن الأغنية، ولبد في حضن موجة لاعبته ثم أسلمته إلى حضن موجة هدهدته ثم أعادته إلى الطاولة، وإذا بتولاي تسحب كفها من كفه قائلة:

  • للأسف لن أراك غداً. من آكياكا إلى اليوم، أسبوع، وأنا غائبة عن البيت وعن الجامعة. إيسون ستعتني بك إلى أن تسافر. حاولْ ألّا تتأخر حتى تستمتع بالطريق نهاراً. ما رأيك في أن تبيت في أنطاليا ثم تتابع إلى أنطاكية؟ من إزمير إلى أنطاكية دفعة واحدة ستكون رحلة مرهقة.

حمحم كارم:

  • إذا كنت سأبيت فليس إلا في اسكندرون.
  • اسكندرون؟!

سألت تولاي وهي تقف. ثم سألت إيسون وهي تقف:

  • لماذا اسكندرون؟

وقف كارم وهو يبلع لسانه كيلا يقول: لأنها سورية، ولم أرها من قبل.

وانطوى ليل وطلع نهار يبكّر على كارم بصحبة إيسون. السيارة أبطأ من الأقدام. الأقدام أسرع من السيارة، نمشي: قالت. إزمير لوحة: سيقول في المقهى/ المطعم في رأس برج أسانسور. فنجان قهوة لا ينتهي ولا يبرد. والآن إلى السيارة حتى جبل بوزداغ كاباك المكلل بالشيب وبالصلع معاً. التيلفريك. عُدْ في شباط أو آذار لتتمرغ على الثلج ما دمت لا تعرف كيف تتزلج. إيسون وتولاي تتزلجان كل شتاء مرتين أو ثلاثاً بين رأس السنة وأول الربيع. إزمير لوحة: سيقول في المقهى/ المطعم في رأس الجبل. والآن إلى السيارة حتى حديقة الحيوان. أين الحمار؟ كارم لم ير حماراً في تركيا. إليك الحمار العتابي، قل: الحمار الوحشي، قل: الحمار المخطط، قل حمار الزرد. تعددت الأسماء والحمار واحد. والآن سيشتري كارم الهدايا.

سياحة صاروخية: قالت إيسون وهي تقود السيارة بأقصى سرعة ممكنة. وقالت: لِمَ العجلة؟ لا تسافرْ اليوم. ماذا رأيت من إزمير؟ هذه هي جامعة إيجة. تولاي الآن في هذه الغابة. بيت تولاي مقابل هذه البوابة.

لماذا تحاشت تولاي أن أقترب من بيتها أو عملها؟

كارم لا يحب المولات، يفضل الأسواق الشعبية. أهلاً بك في كيميرالتي. قطعتان من صابون الورد لأسيل. قطعة من صابون الخزامى وقطعة من صابون المشمش لمنصورة. وفجأة ضربت كفه على جبينه عقاباً على الغفلة والنسيان: قطعة من الصابون الأسود لمنصورة وقطعة لأسيل. ولوزية، ماذا ستهديها؟

هداياك إذن في مول إزمير أجورا. أسرعْ. موعد رحلتك بعد ساعة. تولاي حجزت لك V.I.P لتكون لك كرسيك المستقلة. صُحبتك عزيزي كارم أمتع مما كنت أتوقع. وعدتني تولاي أن تصطحبني معها عندما تزورك. تعال الآن لأشتري لك هدية. زجاجة من حليب مزرعة تيري.

مثل طفل تلقف الهدية، وتأمل شكلها وبياض الحليب. وقرأت له إيسون ما على الزجاجة: حليب الحمير لحياة صحية، فقال: كان عليهم أن يكتبوا حليب الحمارة، فامتدحت إيسون فيه مساواته بين الجنسين عند الحمير. وسوف تقول أمام الأوتوبيس وهي تودعه: أنت مساواتيٌّ بين الجنسين من البشر أيضاً، وليس فقط من الحمير، ثم تعانقه بحرارة مرددة: عزيزي كن بخير.

 

[i]  – كاتبة فرنسية من أصل روسي (1799– 1874)

[ii] -الدكتورة منصورة علوان زوجة صديق العمر الدكتور غالي لبلابي. التقيا أثناء دراسة غالي في جامعة عين شمس في القاهرة. كانت منصورة تتأهب لنيل الدكتوراه في الصيدلية، وغالي يتأهب لنيل الدكتوراه في آداب اللغة العربية. كان لقاؤهما الأول في مهرجان طلابي هتفا فيه ضد قمع الحريات وضد الفساد. هاجمت المهرجان مجموعة من الطلاب بينهم عناصر من الأمن والحرس الجامعي. أثناء التصدي لهم والفرار منهم خلّص غالي منصورة من يدي أحدهم. وبينما لاذت بالفرار تضافر عليه هو شابان واقتاداه إلى البوكس المرابط أمام باب الجامعة. بعد ثلاثة أيام خرج من السجن يتهدده القرار بفصله من الجامعة، لكن أستاذه الدكتور حسين نصار أقام الجامعة ولم يقعدها حتى اكتُفي بتوجيه إنذار لغالي. مضت أيام وهو يبحث عن منصورة، ومنصورة تبحث عنه. وكان اليأس منها قد ملكه حين رأى شابة تقترب منه بخطى مترددة أمام مطعم كشري السلطان، ثم تقف أمامه وتحدق فيه، وفجأة تصيح: هوّ انتَ؟ فلاقتها ذراعاه وصيحته: هوّ انتِ؟ وغرقا في العناق.

[iii]- النِشوار في العربية هو الأحاديث الطيبة. وجاء في معجم (لسان العرب) لابن منظور أن النِشوار كلمة فارسية معرّبة، وتعني ما تبقيه الدابة من العلف. والدابة هنا هي (الحمار)، والحمار هو أنا كارم أسعد. سوى أنّ ما أُبقيه من العلف ليس تبناً ولا حشائش ولا ... بل هو مما حفظت أو نقلت أو أضفت أو – ربما – أبدعت. وفي رأس من اقتديت بهم في كل ذلك هو القاضي أبو علي المحسن بن علي التنوخي صاحب الموسوعة الشاملة لأحوال عصره، وعنوانها (نشوار المحاضرة وأخبار المذاكرة)، طامحاً إلى أن أكتب موسوعة حمارية تنظر إلى هذا العصر بعيني حمار، سواء أتحوّل إلى إنسان مثلي أم لا. لقد ألزم التنوخي (الذي عاش بين سنتي 939 – 994 ميلادية) نفسه بألّا يضمّن كتابه شيئاً نقله من كتاب. وهذا ما خالفته فيه كثيراً. وكنت منذ عهدي بالجامعة قد حفظت من شعره: قل للمليحة في الخمار المذهب/ أفسدتِ نُسْكَ أخي التقى المترهّبِ/ نور الخمار ونور خدك تحته/ عجباً لوجهك كيف لم يتلهّب/ وإذا أتت عين لتسرق نظرةً/ قال الشعاع لها اذهبي، لا تذهبي.لكن المطرب صباح فخري أنساني ما حفظت من التنوخي بما غنّى من شعر مسكين الدارمي قبل التنوخي بأكثر من مئتي وخمسين سنة: قل للمليحة في الخمار الأسود/ ماذا فعلت بزاهدٍ متعبد/ قد كان شمّر للصلاة إزاره/ حتى قعدت له بباب المسجد/ ردي عليه صلاته وصيامه/ لا تقتليه بحق دين محمـد.

[iv] لن أقرأ الهوامش، بل سأكتفي في الختام بالإشارة إلى أن ما قرأته مسبوك من كتب عديدة، كان الحمار عمادها.

-[v] انظر كتاب (حمار من الشرق) لمحمود السعدني (1927-2010)، بتصرف.

[vi] - انظر رواية (حمار الحكيم) لتوفيق الحكيم (1898 - 1987). وقد صدرت هذه الرواية عام 1940، بتصرف.

[vii]- انظر كتاب (مع حمار حكيم) للكاتب الجزائري الذي أعدمه الفرنسيون أحمد رضا حوحو (1910-1956)، بتصرف.

[viii] - انظر رواية (العصفورية) لغازي القصيبي (1940 – 2010)، بتصرف.

[ix] - انظر رواية (الوقائع الغريبة) لإميل حبيبي (1921 - 1996)، بتصرف.

[x] - انظر الكتاب السيري (خلّيها على اللـه - 1991) ليحيى حقي (1905 - 1972)، بتصرف.

[xi] - للشاعر سليم بركات من ديوان (بالشباك ذاتها، بالثعالب التي تقود الريح) – 1987.

[xii] - انظر رواية ممدوح عزام (أرض الكلام).

-[xiii]  انظر رواية وجدي الأهدل (الحمار بين الأغاني).

[xiv] - انظر رواية شعيب حليفي (مجازفات البيزنطي).

-[xv]  انظر رواية محمـد حاج صالح (شهادة أتان).

[xvi] - انظر رواية مروان طه مدور (جنون البقر).

[xvii] - انظر رواية كريم كطافة (حمار وثلاث جمهوريات).

[xviii] - انظر كتاب أحمد إبراهيم الفقيه (في هجاء البشر ومديح البهائم والحشرات).

[xix] - انظر كتاب جميل السلحوت (أنا وحماري).

-[xx]  انظر كتاب جميل السلحوت (حمار الشيخ).

-[xxi]  كنت أنوي أن أضيف أخيولة أخرى على الأقل من أخيولات الخواطر، مما في مجلدات إبراهيم عبد القادر المازني، لكنني تراجعت لما تنضح به كتاباته من ازدراء لنا معشر الحمير، فإذا ذكر حمار جده، مثلاً، قال: أعزّك اللـه، وإذا تعجب من هيام امرأة به كتب لها: حرام عليك أن تلقي بجمالك بين يدي حمار مثلي لا يعجبه إلا البرسيم. وحين أراد أن يحلق ذقنه في القرية استنكر أن يأتيه الحلاق بمقص الحمير وبأدوات حلاقتنا. 

[xxii] - كانت لوزية في الثامنة عشرة، تتأهب لامتحان الشهادة الثانوية – الفرع الأدبي، عندما حملت كتاب التاريخ، واختارت لهذا اليوم أن تقرأ فيه وهي تمشي على ضفة النهر. وقعت لوزية في الغواية، مدفوعة بشمس أيار العمودية: قرفصت، رمت الكتاب خلفاً، داعبت أصابعها الماء البارد، مسحت وجهها، وقفت ورفعت البنطال عن ساقيها حتى الركبتين، بللت قدميها، وحوحت، وتجرأت على أن تتقدم حتى تبللَ البنطال. همّت بالرجوع، لكنها انزلقت وغطست، رفعت رأسها، وبحثت قدماها عما تستندان عليه. هالها الفراغ، وجعلها الرعب تتخبط وتبلع الماء، والنهر يميل بها إلى لّجته ويدفعها قدماً.

وكما في الحكايات انشقت الضفة عن شاب يحمل بارودة لصيد السمك. رأى مبارك الصبية تغرق. رمى البارودة وانقذف إلى النهر، وفي غمضة عين كانت أصابعه قد جرّت الغريقة من شعرها. وعلى الضفة ساعدها على أن تقذف الماء الذي ملأ جوفها، ونظر إلى الكتاب، ثم إلى لوزية فسحرته. نظرت لوزية إليه فسحرها. وبلا كلام تباعدا، وظلا مصلوبين في الشمس حتى جفت ثيابهما. وقبل أن تظهر نتائج الامتحان صارت لوزية عروساً لمبارك الذي يعمل في صيد السمك في اللاذقية. وفي ليلة ظهور النتائج وفوز لوزية بتفوق غرق مبارك.