لابد أن للموت وجه منحوت من تقاطع الزمان والمكان، فيأخذ من السماء زرقتها، ومن أشجار الكافور عبقها ورسوخها ومن الجلابيب البيضاء أجنحة ترفرف مذكرة بأرواح من رحلوا فهم أبدًا لا يغادرون حتى أن وجه الجار الطيب الذي كسرت نافذته الكرة ظل يطل على "الراوي" بحنو وعتب بليغ.

للموتى أجنحةٌ بيضاء

صفوت فوزي

 

وكنت، حين يأتيني نشيجُها المخنوق، في صباحاتٍ بعيدة. أرفس الغطاء، أتسلل خارجًا، أتعثر في طريقي، والدار من حولي ساكنة إلا من حركة خفيفة. ألمحها في ظل الجدار الخشن تجرد شعرها الفاحم الطويل بفلَّاية خشبية لها أسنان رفيعة حادة. تهمس بعديدها الذي لا أفهمه، وأنا أرتجف كعصفورٍ بردان. تُربِكني الحيرةُ والقلق. أتكوَّر في ركن بعيد، مُقَرفصًا دافنًا رأسي بين ركبتيَّ أطوقهما بذراعيَّ، وأنا أجترُّ كلماتها العصيَّة على الفهم. يهبط الحزنُ في قلبي ويهاجمني الخوف، وأنا أقف على حافة البكاء.

وفى نومي المتقطع القلق، تُهاجِمني الكوابيس وتمزِّقُ نومي. أرتجف بردًا ورعبًا، خائفًا على أمي التي خطفتها الجنّية، وتأتيني الآن متقمصةً شكلها. تخرج إليَّ، وأنا أحكم الغطاء حول جسدي الذي ينتفض، من ذؤابة ضوء اللمبة نمرة 10. يتماوج ظلُّها على الحائط الخشن. تمد إليَّ يدٌ ناعمةٌ ملساء كحيَّةٍ مرقطة، تظهر منها مخالبُها الحادة تنغرز في جسدي. تحز في اللحم الحي. قلبي يرفُّ كطائرٍ مذبوحٍ. أسقط في بئرٍ تعجُّ بالغيلان. أصرخ بكلِّ قوتي. لا تجيبني سوى الريح، والرمل الذي يغطي وجهي، وهذا الليل الطويل الذي لا يريد أن ينتهي.

اليوم، تفاجئُني جلستُها، والشمس تغزل خيوطَها الواهنة الرحيمة في صحن الدار. تفترش حصيرًا تهرأت أطرافُه ونُحِل نسيجُه الخشن، ملتحفةً بجلبابها باهت السواد، معصوبة الرأس بتربيعة سوداء تنسدل من خلفها ضفيرتا شعرها الناعم على الظهر. يسقط عليها الضوء من نافذةٍ قريبةٍ فيضيء جانبُ وجهها القمحي المدور، فيما تسبح آلاف من ذرات غبار نشطة في مخروط الضوء. تفرد ساقيها، يقبع بينهما حجرُ الرحى ثقيلًا شديد الوطأة، تضع بين شقيه حبات الذرة، تجرشها لفراخها الصغيرة التي أطلقتها لشمس الصباح، تلقط الحَبَّ وبقايا المأكولات، ولا تكف عن الصوصوة. تدير الحَجَرَ المكتوم، وتسكب عديدها بلوعةٍ تُشبه حزنَ الأبواب القديمة. يسري هسيسُه في الدار، ويتقطَّر الأسى من ملامح وجهها النحيل. عيناها العسليتان القبطيتان يخبو بريقُهما، وتظل تحدِّقُ ساهمةً شاردةً، فيما يأتيني هديلُ الحمام في أخنانه شفيفًا أسيانًا.

أسألها فتجيب: أصل افتكرت أبويا اللي مات – جدك -.

تأخذني في حضنها. راحتاها مفتوحتا الأصابع، مخضلتان بالدمع، تتخللان خصلات شعري المجعَّد. أزاحت عن جبهتي شعراتٍ نافرةً. تضمُّ رأسي بين يديها. رسمت علامة الصليب بكثير من التقى والورع. تُطيل النظرَ في عينيَّ وتهمس -ماسحة عينيها بطرف جلبابها-أني أشبهه.

أغادر حضنها الدافئ لأسألها: يعنى إيه مات؟

تنساب الدموع، تغسل الوجهَ الممرور، ولا أسمع ردًّا سوى نهنهة خافتة لا تبين. أمضي، وفي داخلي يعشِّشُ حزنٌ شفيفٌ وأسئلةٌ مراوغةٌ ليست لها إجابات.

***

ريحٌ عاصفةٌ جموح، كنست قعرَ الدار، طوحت بعيدانِ الحطب الجافة من فوق أسطح الدور. صنعت دواماتٍ من الغبار وبقايا الورق الجاف. هاص العيال وزاطوا مرددين: "فسية العفريت". نهق حمارٌ. أقعى كلبٌ أسود على قائمتيه الخلفيتين شاخصًا نحو السماء، وعوى عواءً ممطوطًا مرتجفًا. جاوبته كلابٌ بعيدةٌ. السماء تبهت زرقتها وتكتسي لونًا رماديًّا. زحف الخوفُ من الزوايا والأركان المظلمة المسكونة بالأشباح وتحول في داخلي إلى انتظارٍ مفجعٍ، وأنا أدخل في الرعدة. تنطلق الصرخة الأولى من بيت الجار الطيب. صرخة مرعبة، تصدر عن قلب مفجوع. تسقط بغتةً كلصٍّ متربصٍّ خلف جدار. دوَّت في فضاء البيت، وارتفعت كدخان حريق فوق سطوح المنازل القريبة. تجاوزتها مرتفعة إلى عنان السماء. ارتجفت أطراف الحارة. فزعت حماماتُ الدار وطارت مبتعدةً. خوفٌ غامضٌ أمسك بعنقي. يهرول الجميع صوب المنزل.

امرأة الجار الطيب، محلولة الشعر، حافية القدمين، تخمش وجهها، تلطم خديها، تصرخ ملتاعةً تنادي على أمي أن "نجيب" مات. هي الكلمة ذاتها، تصك أذني فيرتجف جلد رأسي. تلقيني في دواماتها. تقلبني وتعدلني وتدور بي. مرارة في فمي، لساني ناشف، ولا بر لي لأرسو عليه.

***

في غدوه ورواحه كان يمر بنا ونحن نلهو ونلعب. منبسط القامة يمشى بشاربه الكث مبروم طرفاه ومرفوعان لأعلى. يرمقنا بعينين سوداوين متسعتين تنطقان بالشدة والحنو في آنٍ واحدٍ. يخب في جلبابه الواسع الكمين المكوي النظيف دائمًا. لم تنجب له امرأته الولد أو البنت، فاعتبر أولاد الحارة كلَّهم أبناءه، يقرِّبهم إليه، ويحنو عليهم. يهل علينا ونحن نلعب الكرة. أرجلنا العارية الصغيرة، كمسامير رفيعة، تثير الغبار في الحارة. يبادلنا ركلَ الكرة. نتحلق حوله، يهش لنا، ننسرب بين رجليه، نتعلق بأطراف جلبابه. من جيبه الكبير يُخرِج لنا قِطَعَ الحلوى الصغيرة وحبات الفول السوداني. نتخاطفها ونتقافز حوله صائحين فرحين. طاشت الكرة مرة فكسرت زجاجَ نافذته المطلة على الحارة. لذنا هاربين نتحصن ببيوتنا وأحضان أمهاتنا. لم يغضب. فقط أعاد لنا الكرة وعيناه تنضحان باللوم والعتاب. أتذكر أيامه الأخيرة حين كان يعبر الحارة وقد وهن جسدُه المُنتَهَك بأمراض الشيخوخة. زاد عمره عشر سنين، تقوس ظهره، كَلَّ البصر، وغزا الشيبُ شعرَه الأسود المُصفَّف بعناية. أمدُّ له يدي متأسيًا وقلبي متعلق بالمباهج القديمة.

***

الطريق الترابي الصاعد إلى المقابر يمتلئ بحشود المعزين. وجوه البيوت الطينية الخفيضة تتراجع، تفسحُ المجالَ لخضرةِ الغيطان الممتدةِ على مرمى البصر. الصندوق الذي يحوي جثمان الجار الطيب محمولٌ على أكتاف أقارب وأصدقاء. خلفهم أسير مُنكَّس الرأس حزينًا حاملًا صليبًا خشبيًّا. يتبعني صفٌّ من الشمامسة بملابس بيضاء منقوشة بالصلبان. تتعالى تراتيل وألحانٌ قبطيةٌ جنائزيةٌ في مهابةٍ وجلال. على جانبي الطريق، الفلاحون بسراويلهم البفتة على اللحم الأسمر الجاف، بقاماتهم النحيلةِ الصلبةِ، منحنين بفؤوسهم يفلّحون الأرض بصبرٍ عنيد. يقفون رافعين سباباتهم، وطيور أبو قردان تتناثر بينهم كبقع بيضاء. النخلات العجائز بجذوعها السامقة وسعفها في سكونٍ تام. حفيف الزرع وثغاء الحيوانات الرابضة في ظلال الأشجار العتيقة. رقرقة الماء في المساقي الصغيرة. همهمات الرجال الذاهلين السائرين في خشوع ورهبة ترتفع إلى سماء بعيدة. وأنا ذاهلًا أمضي. الشمس تغرب عند الأفق، هواء له رائحة البلل يضرب وجهي، وقبضة باردة تعتصر قلبي ببطء، ببطء وقسوة. أحملق في الصندوق المحمول على أكتاف الرجال. أدقِّق النظر. الجار الطيب، بجلبابه الأبيض المكوي النظيف يبتسم ملوِّحًا، ينبت له جناحان أبيضان، ينتصب فاردًا طوله. ينطلق بجناحيه محلِّقًا في السماء تحيط به جوقةٌ بهيَّةٌ من الملائكة، يسبِّحون مترنمين بأصواتٍ غاية في الرقة والعذوبة.  الأشجار تتطاول وتتشابك فوقهم، والشمس تسطع ببهاء من بين تلال الأفق البعيد. انبجست من عينيَّ دمعتان ظلتا معلقتين بأهدابي. تنثال ألحانهم البهيجة لتملأ الكون من حولي، فيما تتعالى خفقات أجنحتهم، تتجاوب معها دقات قلبي الذي يكاد يفر. أحاسيس غامضة غريبة تغرقني الآن كموجةٍ غامرةٍ، وأنا أصيخ السمع جامدًا جاهدًا علِّي أفهم ما يقولون.

كان الرجال واجمين، وهم يتلون صلاتهم الربانية، وأنا أراقب سحابةَ غبار تلقي بظلالها على أشجار الكافور القائمة، تحرس الموتى وتؤنس وحشة العابرين. تنبثق الأسئلة في رأسي دفعة واحدة؛ فأتساءل – بيني وبين نفسي – هل كان جدي الذي تبكيه أمي دائما، يمتلك جناحين أبيضين هو الآخر؟

***

بعد سنين لم أعد أحصي عددَها، متطلِّعًا من الشرفة صوب نافذة الجار الطيب، مكسور زجاجها لم يزل، كنت أراه، بابتسامته الودودة، يلوِّح لي، وما يلبث أن ينبت له جناحان أبيضان يحلِّق بهما في سماء بعيدة حليبية الزرقة.

 

*كاتب من مصر