نعثر في عدد من أعمال توكارتشوك على خليط من مواد سردية، وغير سردية، تجعل من روايتها بمثابة كشكول، أو دفتر ملاحظات وتأملات، لكاتب مرتحل، يتنقل في الجغرافيا، والتاريخ، وبين الموضوعات، ما يحوِّل الكتابة إلى نوع من الرُقَع الموصولة إلى بعضها البعض بصوت الشخصية الساردة، والبؤرة السيكولوجية التي تنطلق منها الكاتبة.

أولغا توكارتشوك.. حين تلتهم الرواية كل ما تصادفه بطريقها

فخري صالح

 

يأخذ الشكل الروائي في أعمال الكاتبة والروائية البولندية، أولغا توكارتشوك/Olga Tokarczuk  ولدت عام 1962) انعطافةً واضحة، بل إزاحةً للعناصر الشكلية، والبنائية، واستخدامًا لمواد سردية، وخبرية، ومعرفية، وتحليلية، وتأملية، وتاريخية، وحتى خرائط ورسومات تستعين بها الكاتبة من أجل تعضيد الحكايات التي يتضمنها عملها. ونعثر في عدد من أعمال توكارتشوك، التي حصلت على جائزة نوبل للآداب عام 2018، على خليط من مواد سردية، وغير سردية، تجعل من روايتها بمثابة كشكول، أو دفتر ملاحظات وتأملات، لكاتب مرتحل، يتنقل في الجغرافيا، والتاريخ، وبين الموضوعات، ما يحوِّل الكتابة إلى نوع من الرُقَع الموصولة إلى بعضها البعض بصوت الشخصية الساردة، والبؤرة السيكولوجية التي تنطلق منها الكاتبة. ولا شكَّ في أن دراسة توكارتشوك للتحليل والمعالجة النفسيين، وعملها كمحللة نفسية، قبل أن تتفرغ للكتابة، قد أثَّر على مفهومها للكتابة الروائية، وجعل نصها شبيهًا بوقائع جلسة التحليل النفسي، التي تضمُّ أشتاتًا من ذكريات الشخصية التي تخضع للعلاج النفسي، واللحظات المفصلية المؤثرة في سيرتها.
في روايتها "أسفار يعقوب" (2014)، وقد ظهرت ترجمتها الإنكليزية قبل بضعة أسابيع بعنوان "The Books of Jacob" في حوالي ألف صفحة، تستعيد توكارتشوك سيرة اليهودي البولندي جاكوب فرانك، الذي عاش في القرن الثامن عشر، ودعا إلى دين جديد هو خليط من الأديان الثلاثة: اليهودية والمسيحية والإسلام، كما حثَّ أتباعه على أن يتعمَّدوا حسب تعاليم الكنيسة الرومانية الكاثوليكية، وينتهكوا الأعراف الأخلاقية، ويقيموا حفلات قصف وعربدة، وينتهكوا كل المحرَّمات الجنسية، معلنًا في مرحلة من مراحل دعوته أنه المسيح المخلص. لكن الرواية لا تركز بصورة أساسية على حياة جاكوب فرانك، بل على حياة أتباعه عبر ثلاثة قرون من الزمن، تبدأ من منتصف القرن الثامن عشر، وعلى حدود سبع دول، ومن خلال خمس لغات.

ما يلفت الانتباه في هذه الرواية هو أنها تتشكَّل من مزيج من المشاهد والأصوات، واللوحات المشهدية، والشذرات، والصور والخرائط، والمواد الوثائقية، ما يذكرنا بروايتها السابقة "ترحال" (2007)، رغم أن الرواية الأخيرة مشروع أكبر طموحًا، وأكثر جرأة ورغبةً في فهم التاريخ الحديث، والأديان والفلسفات، ومصير الكائن والوجود.

في روايتها "ترحال/ Flights" (ظهرت في الإنكليزية عام 2018، بترجمة لافتة ومدهشة من جنيفر كروفت/ Jennifer Croft، وفازت بجائزة مان بوكر العالمية في العام نفسه)، نعثر على البذور الشكلية لعملها الكبير الأخير "أسفار يعقوب"؛ على البنية التي تعتمد على تجاور المواد، وتراصفها، وتنوعها، وعدم انتظامها في صيغة شكلية محددة. إن ما ينتظمها هو صوت الراوي، وتأملاته، وما يسعى إلى التشديد عليه، ونقلِه إلى القارئ، وإثارته من مشاعر ومعانٍ وأفكار. وتتخذ الرواية من الرحلة، والانتقال، وعدم الاستقرار في مكان، أو التموضع ضمن جغرافيا محددة، أو تاريخ معين، البنية الناظمة لمادتها المتنافرة، التي لا تتعاقب فيها الأحداث، أو تنمو الشخصيات، أو تؤول الحكايات إلى نهايات محددة. وتوفر بنية الترحال، والمغادرة، وإدارة الظهر لأمكنة حللنا فيها، وأشخاص صادفناهم، تعزيزًا لهذه الحكايات والمرويات المفتوحة، والتأملات الناقصة، لموضوعات وعوالم، تبدأ من فقد رجل لزوجته وطفله، وعلم التشريح، وتاريخ التحنيط، ولا تنتهي بسيكولوجيا الترحال، والمعرفة الموسوعية المتناثرة حول عدد متكاثر، وغير مترابط، من الموضوعات. وكأن توكارتشوك تريد أن تصور، في هذا العمل المدهش، عالمنا المعاصر، الذي تتجاور فيه المتناقضات، وتتذرر العلاقات.

نصادف في رواية "ترحال" رؤية سائلةً للزمن والتاريخ. إن الساردة تنسب هذه الرؤية إلى امرأة صادفتها في إحدى سفراتها، قائلة إن "السيولة، والحركة، والتوهُّم، هي بالضبط الخصائص التي تجعل منا بشرًا متحضرين. أما البرابرة فلا يرتحلون". وحسب تلك النظرية، فإن من يفضلون الإقامة، وعدم الرحيل، مثل المزارعين، "يفضلون الاستمتاع بزمن دائري، يعود فيه كل شيء، وكل حدث، إلى البداية، ويتحول إلى جنين، ويكرر عملية النضج ثم الموت". أما البدو، والتجار، الذين يرتحلون على الدوام، فإنهم يعيشون نوعًا آخر من الزمن، زمنٍ خطي، ذي طبيعة عملية، لأنه يقيس التقدم نحو الهدف والوجهة، حيث لا تكرر أية لحظة سابقتها (ص: 58- 59)، كما هو الحال في هذا الشكل من الكتابة الروائية التي تنطلق من الحديث عن والدي الراوية اللذين لم يستقرا في مكان، بل إنهما كانا في رحيل دائم، ساردة عددًا من الحكايات والأحداث غير المترابطة، ومناقشةً كل ما يعترض طريقها، أو يخطر على بالها من خواطر، مقترحةً هذه البنية الخليط، التي تتجاور فيها الرُقع، في كتابة روائية مختلفة، تستغني عن الشكل الذي يستدير على نفسه.

لكن هذه النظرية حول الزمن والتاريخ السائلين لا تصمد كثيرًا في عرف الساردة. ولعل هذا هو ما يجعلها تنسب تلك الفرضية النظرية إلى امرأة عابرة ركبت معها الحافلة في طريقهما إلى أحد المطارات. ففي سردها لحكاية فيليب، عالم التشريح الذي قُطعت رجله، فقام بتحنيطها، وتشريحها، ومناجاتها، ترى الساردة، نقلًا عن يوميات ذلك العالم، بأن الكلَّ حتى لو قُطِّع إلى أجزاء، يظل، بصورة غير منظورة، كلًّا واحدًا. فعندما يحسُّ فيليب بألم رجله المقطوعة، أو ما يسمى في الطب بالألم الوهمي/ phantom pain، يستنتج أننا في هذا الكون مفطورون على أن نكون كلًّا. وحتى لو جرى تقطيعنا إلى أجزاء، أو تحويلنا إلى ذرات، فإن ذلك هو مجرد تظاهر، مجرد خدعة، وما نراه بأعيننا يحدث على السطح، أما في الأعماق فلا شيء يتغير، لأن كل جزء، كل ذرة، ينتمي إلى الكلّ (ص: 218).

ترجِّع هذه النظرة من دون أي شك صدى الفيلسوف الهولندي باروخ سبينوزا (1632 ـ 1677)، ومن قبلِه رؤى المتصوفة المسلمين (كابن عربي، الذي سبق سبينوزا في نظرية وحدة الوجود)، حول وحدة العقل والجسد، واتحاد الروح بالطبيعة الكاملة، ووحدة الوجود. لكن كيف يمكن أن نعكس هذه الرؤية التي تتخلل رواية توكارتشوك على فهمها للشكل الروائي؟ كيف يمكن أن ننقل تأملات فيليب، ذلك العالم الذي ظل يناجي رجله المقطوعة بوصفها جزءًا لم يغادر الكل الذي يشكله، جسدًا وروحًا، إلى تعريف الشكل الروائي؟

في حديثها عن عالم الإغريقيات العجوز ورفيقته، تصف الساردة نوعًا من العقل المختلف، الذي لا يثق بالكلمات التي تحتشد بها الكتب والمراجع والموسوعات، والأوراق العلمية، فينطلق شارحًا ومفسرًا كل شيء، رابطًا كل شيء بكل شيء. فهذا "العقل يقوم بتوظيف الاقتباسات، والإحالات المرجعية، مثل الشوكة والسكين. إنه عقل منطقي، ذو طبيعة عقلانية، خِطابيٌّ، وحيدٌ وعقيم. عقلٌ يبدو أنه مدركٌ لكل شيء، حتى لتلك الأشياء التي لا يفهمها، على وجه الحقيقة. إنه يتحرك بسرعة، وذكاء، مثل نبضة كهربائية بلا حدود، رابطًا كل شيء بكل شيء، مقتنعًا أن المجموع لا بدَّ أن يعني شيئًا ما، حتى ولو كنا لا ندرك الآن ما هو" (ص: 387).
يبدو لي أن الفقرة السابقة، التي قمت بتعريبها عن الترجمة الإنكليزية، تعطي تفسيرًا، ولو مواربًا، لمنظور توكارتشوك لفن الرواية. فهي، وإن كانت تتحدث عن شخصية محددة تتمتع بعقل لامع الذكاء، وشخص ثاقب البصر والبصيرة، قاطع مثل سكين، تقوم بالتشديد، قريبًا من نهاية النص، على رؤيتها لمعنى الكلّ، والكلّية wholeness، التي تحدثت عنها الساردة مرارًا في بدايات النص. فرغم جمعها لهذا الكم الكبير من المواد المتنافرة، والمتعارضة، وربما المتضادة، في نسيج عملها الروائي، فإنها تؤمن بأن هناك كليّة، وحدةً، تجمع هذا النثار، وهذه الرقع المتعاقبة في النص. ثمة وحدة يضفيها الصوت السارد على هذه الحكايات المفتوحة، والتأملات، والاقتباسات، والعالم الإنسايكلوبيدي، الذي تتشكل منه رواية "ترحال". وهو ما يفتح الشكل الروائي على آفاق جديدة تُغني عالم الرواية، وطريقة فهمنا لنصوص العقود الأولى من القرن الواحد والعشرين: نص مفتوح، شذريّ، ورقع غير متجانسة من الحكايات والمرويات والنثر الوصفي، والصور، والخرائط، والرسوم البيانية، التي تشبه حياتنا الراهنة في هذا العصر المتسارع القلق، المجنون.

هنا تكمن جدَّة عمل كُتّاب مثل أولغا توكارتشوك، كتاب يضخون دماء جديدة في رواية ما بعد الحداثة.


هامش:
1
ـ اعتمدت في قراءتي لرواية "ترحال" على الترجمة الرائعة لجنيفر كروفت.
Olga Tokarczuk, Flights, translated by: Jennifer Croft, Fitzcarraldo, London, 2018. 
ومن الجدير بالذكر أن كروفت قامت بترجمة "أسفار يعقوب"، أيضًا.

 

الضفة الثالثة