يتحدث الشاعر المصري جرجس شكري في كتاب "كل المدن أحلام" (دار آفاق- القاهرة) عن المدن الأوروبية التي زارها، وبُهر بجمالها، ناساً وأبنية وطرق تفكير، وقد مضى على زيارته الأولى لأوروبا نحو عشرين عاماً. ومن ثم فهو يرى أن هذا الكتاب الذي يندرج في سياق أدب الرحلات، ليس سوى "محاولة لتفسير -وتعليل- الدهشة التي شاهدتُها في أوروبا، ومحاولة لاكتشاف الذات حين ذهبتْ إلى عالم مختلف تماماً". يقول جرجس "كنت أراقب الحياة بكل تفاصيلها وأراقبني أنا أيضاً في محاولة لتفسير دهشتي مما رأيت، فحين نبتعد نرى أنفسنا بشكل مختلف، تتجلى الحقيقة، نرى المشهد أكثر عمقاً. ثمة مشاعر وأفكار تطفو على السطح حين يجد الإنسان نفسه في مكان آخر".
كورونا والسفر:
تقوم حبكة الكتاب الأساسية حول الرحلات، والسفر، والتنقل بين المدن، ومخالطة أعداد كبيرة من البشر، في أماكن مختلفة. ويعتمد في بنيته الأساسية على التقارب الاجتماعي والثقافي "الذي حدث بيني وبين الآخرين على مدى سنوات"، على حد تعبير جرجس شكري، الذي لا تفوته ملاحظة أن كتابه هذا يظهر في وقت هو أبعد ما يكون عن تلك المنطلقات في ظل تفشي وباء كورونا. يقول "تكمن المفارقة هنا في أنني أقدم هذا الكتاب الذي تعتمد بنيته العميقة على الحركة في لحظة تاريخية نادرة، شعارها التباعد الاجتماعي! لحظة أغلق فيها العالم أبوابه للمرة الأولى، إذ فجأة توقفت الأقدام عن الحركة".
ويضيف شكري تحت عنوان "كلمة أولى" مستهلاً كتابه "هذا هو كل شيء: الإنسان الذي ظنَّ أنه سيطر على كل شيء، ويستطيع أن يفعل كل شيء، أصبح عاجزاً عن أي فعل سوى الخوف والقلق من المجهول ... لحظة تاريخية نادرة تعطلت فيها كل فنون الفرجة؛ المسارح، دور السينما، المقاهي، السيرك، حتى المناسبات الاجتماعية التي يحدث فيها التلاقي بين الناس، بما فيها اللقاء في المساجد والكنائس، فلم يعد الإنسان يتأمل الآخرين في الشارع، أو في المسرح، أو دور العبادة. لم يعد أمامه إلا أن يتأمل نفسه، أفعاله، سلوكه اليومي، تجاه نفسه، وعلى الأكثر نحو العائلة، يتأمل ملابسه، أحذيته، أثاث البيت، المطبخ، الحوائط، الجيران عن بُعد، النوافذ البعيدة" ص 6.
ولع قديم:
وفي ما يشبه المقدمة يلي الاستهلال نص تحت عنوان "أسافر أنا ومصر"، يتذكر شكري من خلالها أنه كان في سنوات المراهقة يبني المدن من الشعر والموسيقى، والفلسفة، والشخصيات التاريخية ... "أعرف شيئاً يسيراً عن الأشجار، والشوارع والمتاحف، والبحار والمحيطات، عن الموارد الاقتصادية، عن الزراعة والصناعة، ولكنها تظل مجرد صور، مجرد ظلال خافتة وبعيدة. أما البناء العميق لهذه المدن فقوامه الكلمات والموسيقى، الأفكار واللوحات الفنية، الشخصيات المسرحية، وأبطال السينما والأحداث التاريخية".
في سويسرا، للمرة الأولى، بحث بين الوجوه عن الكاتب المسرحي دورينمات، وكلما مرَّ بقرية بحث بين الغابات والمزارع عن جان جاك روسو هائماً على وجهه في الريف، بين جنيف ونيو شاتيل، وبيرن ولوزان في سنوات الصبا والتشرد يطلب طعاماً من الفلاحين، ويبحث عن الإنسان الخيِّر بفطرته. وبعد سنوات عرف مقهى الأوديون الذي كان يرتاده فريدريش دورينمات مع ماكس فريش في زيورخ ... "فكنتُ أذهب وأنظر إلى المقعد الخالي الذي يطل على الشارع، والنادل يرتاب في سلوكي، أسأله هل كان يجلس هنا؟ وكأنني أنتظره!".
وفي أمستردام، بحث عن الفيلسوف باروخ سبينوزا متشرداً في الشوارع بعد حرمانه من الكنيس اليهودي، واتهامه بالهرطقة، فعمل معلماً للأطفال، واحترف صناعة العدسات. "وتخيلتُ أنني سأجده يجلس في دكان صغير، يصقل العدسات، ويناقش الزبائن في طبيعة المادة ووحدة الوجود". وفي أمستردام أيضاً هالَه أن يرى لوحات فان غوخ في مبنى من الطراز الحديث، وتخيَّل أنه سيشاهد اللوحات وسط الفلاحين، ومتناثرة في الحقول والمقاهي الليلية. وفي شوارع المدن الألمانية كان يشاهد الفلاسفة والمفكرين يهرولون في الطرقات هرباً من ضجيج السيارات؛ "وأنا أعدو خلفهم". وفي برلين، تحديداً، عاش يوماً كاملاً بين بيت المسرحي بريشت ومسرحه ومقبرته، ولم يترك فايمر إلا بعد أن تجوَّل في بيت غوته، أين يكتب، أين ينام؟ "فكل المدن أحلام كنت أعيشها أثناء القراءة، ثم أصحو منها على الواقع الذي أحاول أن يكون قريباً من أحلامي. أحب الناس والشوارع وكأنني في عرض مسرحي، وكأن المدينة بكاملها تحولت إلى مسرحية وأنا جمهورها العريض".
علاقة الشرق بالغرب:
وإذا لم يكن كتاب جرجس شكري رواية إلا أنه يذكر بأعمال روائية عدة، عكست علاقة الشرق بالغرب، منها "الحي اللاتيني" لسهيل إدريس"، و"موسم الهجرة إلى الشمال" للطيب صالح، و"عصفور من الشرق" لتوفيق الحكيم. ولا يخلو كتاب "كل المدن أحلام" من النزوع الشعري والمسرحي تأثراً بخلفية صاحبه كشاعر وناقد مسرحي، المنعكسة بخصوص ما رآه وعاشه في مدن عدة في فرنسا وسويسرا وألمانيا وهولندا وغيرها.
يقول "عشتُ في أوروبا عابراً، أحياناً لبضعة أشهر، وفي أحيان أخرى أسابيع أو مجرد أيام، فغالباً ما كانت الرحلة لا تستغرق سوى أسبوع أو بضعة أيام، وفي الزيارات الأولى لم أكن أكتب شيئاً، فقط أعيش أنا والصمت، أتأمل، أشاهد ما يمر أمامي كشريط سينما، أشعر أن المدن أحلام، أجلس في الشوارع ضيفاً على المقاهي والمطاعم والحانات الصغيرة والأرصفة، أحاول أن أقيم علاقات مع البنايات والطرق والأنهار، فأنا أكره المتاحف، أزورها فقط من باب الفضول المعرفي. أشاهدها بدقة وأعود في اليوم التالي إليها لمشاهدة العرض مرة أخرى".
أدهشه أن مصر كانت تزخر بأشياء كثيرة مما أدهشه في أوروبا؛ "أشياء اختفت وولى زمانها، ليس فقط من خلال البنايات، والملابس، والنظام، ولكن الانتصار لدولة القانون. فحين أعود إلى توفيق الحكيم في روايته (يوميات نائب في الأرياف)، وأستعيد مشهد المحكمة والقاضي الذي يعاقب الفلاحين البسطاء على أشياء أصبحت في أيامنا هذه مصدراً للفخر، مثل الذبح خارج السلخانة، أو غسل الملابس في الترعة، أو التعدي على أملاك الدولة وغيرها، أفكر كيف كانت مصر مشروع دولة عظمى".
حال مصر:
كان الفرح صناعة محلية -يقول شكري عن مصر- نابعة من الوجدان الشعبي، وفي كل قرية أو مدينة ثمة تقاليد وأعراف. كان التراث القومي في ذهن الجميع، وكان الوجدان الشعبي عامراً وقوياً بالتاريخ. وفجأة اختفت هذه المظاهر وغيرها، ليصبح الوجدان الشعبي فارغاً، مهيئاً لاستقبال التقدم الزائف/ الوهمي. الغناء العشوائي استبدل به المجتمع مسخاً مشوهاً من الآلات الحديثة والأغاني الرخيصة، فتشابهت الأفراح، وأصبح القبح عمومياً "لدرجة أنني أشعر أحياناً أن أحدهم جاء وقرر مسح هوية الشعب المصري؛ عاداته وتقاليده، وثقافته، ووضع أشياء جديدة، فتمَّ تخريب الموسيقى والعمارة وكل تفاصيل الحياة".
وهنا يتذكر زيارته لمدينة بيرن عام 2013. يتذكر تحديداً ذلك الفرح السويسري "الذي أعادني إلى الأفراح المصرية قبل أن يتم تزييفها. ثمة جماليات لا بد من التوقف أمامها، عرس من دون ضجيج، فعلوا كل شيء يدعو إلى البهجة والفرح، الطعام والشراب بمختلف أنواعهما، جمال وبساطة من دون بذخ أو زيف أو ضجيج".
وأخيراً، عبر جرجس شكري عن شعوره وهو يكتب هذا الكتاب أنه يسافر مرة أخرى، يتذكر الشوارع والبيوت والشخوص ويسأل: ماذا تبقى من ذلك في ذاكرته؟ "كل المدن أحلام، أحلام أحاول أن أستعيدها في هذه الصفحات، وأنا أفكر: هل يحب الله أوروبا؟".
عن (اندبندت عربية)