يستخدم الباحث المصري في تناوله لرواية الباحثة والروائية السورية المرموقة شهلا العجيل المقاربة التداولية المشتقة من اجتهادات اللسانيات في تحليل مرامي اللغة للكشف عن العلاقات الداخلية بين شخصياتها وأزمانها وعوالمها السردية المتراكبة، في محاولة للتعرف على مدى أصالتها الإبداعية وقدرتها سبر أغوار تجربتها السردية.

الأصالة الإبداعية للمرجع

في رواية «سماء قريبة من بيتنا» لشهلا العجيلي: مقاربة تداولية

محمد سمير عبدالسلام

 

يحيلنا خطاب الساردة – في رواية سماء قريبة من بيتنا للروائية المبدعة شهلا العجيلي(1) – إلى تنويعات العلاقة الجمالية بين كل من الحضور المؤقت للمرجع المكاني، وحدس الأصالة الثقافية التي تقوم على الانحياز للفن، والغناء، والرقص بمدلوله الوجودي المقاوم للموت، والمرض، والتعاطف الروحي مع الآخر/ المختلف ثقافيا، ولغويا، واجتماعية، أو مع صيرورة الحيوان الكونية في العالم، وكذلك حب الصور العتيقة، ومقتنيات الفن، وعلامات الذاكرة التي تؤسس للهوية في مستوياتها الذاتية، والأنثوية، والثقافية، والسردية طبقا لتصور بول ريكور؛ فالماضي يحيا في تجدد الصور الكونية، وفي إعادة اكتشاف أصالة الماضي الجمالية في المراجع المكانية المؤقتة المتواترة في الخطاب السردي؛ مثل منزل بهجت بك الفني، وعلاقته بصراعات السياسة، ومنغصاتها، والطائرة، والبحر، والجزر، ومركز علاج السرطان، والغرفة المطلة على السماء، ونجومها القريبة؛ وكأن الساردة تعيد اكتشاف الحضور الإبداعي للذات عبر هذه العلاقة المتداخلة – المعقدة بين المراجع المؤقتة للوجود، وحدس الأصالة الثقافية الكامن في بنيتها، وفي أشكال التواصل بين الشخصيات المتباينة ثقافيا، أو بين الإنسان، والنجوم، أو الحيوان في المستوى الكوني الواسع.

لذا يمكننا – عبر المقاربة التداولية لبنى الخطاب، والمحادثة – أن نكشف عن دلالات علاقة المؤقت بالأصيل في نماذج التواصل بين السارد، والمروي عليه من جهة، والتواصل الإبداعي بين الشخصيات الفنية من جهة أخرى؛ ويولد مثل هذا التواصل – في خطاب شهلا العجيلي الروائي – نوعا من السلام الذي يقوم على الغناء، والتأمل، والتعاطف العابر للجسد، واللغة، والعادات الثقافية، وحدود العالم الفيزيقي، والصراعات السياسية التي تسهم في البنية المؤقتة للمرجع، وتحفز العودة لفكرة الأصالة الثقافية القائمة على نماذج اللاوعي الجمعي أحيانا، أو العلامات المتجددة المستعادة من تاريخ الفن، والأدب؛ فمؤقتية المرجع نفسها – لدى شهلا العجيلي – تذكرنا بمرجع السفينة، أو الجزيرة الغرائبية في العاصفة لشكسبير، أو ذكرى تسلق الجبل والهبوط منه لدى شخصية ماري في أرض الضياع لإليوت؛ ومن ثم نجد البطلة الأنثى / الدكتورة جمان بدران تحيا في حالة إدراكية – إبداعية بين المراجع المؤقتة، وتجدد مكونات هويتها الثقافية العربية – العالمية في الوقت نفسه، وتتواصل مع الآخر الدكتور ناصر العامري بصورة إبداعية تقوم على تجدد الماضي وعلامات الهوية ضمن المرجع المؤقت / الطائرة في بنية الحضور؛ ومن ثم يمكن تخييل الطائرة عبر التداوليات الإدراكية في سياق إبداعي موسع يمنح المرجع / الطائرة حضورا أصيلا آخر يكمن في دائرة الأخيلة القديمة، وتجسدها في طبقات المكان في لحظة الحضور التي تستنزف بنيتها الظاهرة في لعب أطياف الماضي بصورة جمالية جديدة، ومختلفة يكشف عنها الخطاب في قواعد اللغة، وعوامل التكرار، والتجانس، والانتخاب الدلالي لكلمات المعجم.

وإذا تأملنا نموذج الاتصال الأول في النص تداوليا من خلال العلاقة بين الذات/ المرسل، والآخر/ المستقبل، والمرجع، نجده يرتكز على العلاقة بين السارد، والمروي عليه، والإحالة إلى مجموعة من المراجع التي تتراوح بين الحضور المؤقت، وذكرى الأصالة؛ وإن بدأ النص بالارتكاز على منزل بهجت بك الآخر الذي جمع فيه أهل الفن، والغناء، ونشأت به شهيرة الحفار والدة ناصر، وجارة البطلة/ جمان قديما؛ ومن ثم يلمح الخطاب إلى أصالة الغناء، وتجدده في المراجع المؤقتة، والمراجع التي تمتعت نسبيا بالاستقرار؛ ليصل إلى تلميح آخر يتعلق بتجدد الغناء في المراجع المؤقتة ذات التحولات السريعة مثل مستشفيات السرطان، والطائرات، ومخيم اللاجئين الذي ينطوي على البهجة الأدائية الآلية، ومحاكاة الأصالة الجمالية الأولى للحضور المستقر في العالم.

تقوم الذات الساردة/ مرسلة الخطاب إذا بالتأسيس للحجاج السردية، وأفعال الكلام التي تنحاز للحضور الإبداعي الاحتمالي في المراجع المؤقتة، واتساع مدلول التواصل بين الذات، والآخر عبر علامات الفن، والأدب، والتراث الثقافي، ونماذج اللاوعي الجمعي، والتاريخ، وتقلبات السياسة التي تتبلور ضمن لامركزية قوى السرد؛ فالمخيم لا يحجب بهجة اللاجئين، والطائرة لا تمنع من تجدد الصور العتيقة المستقرة في اللاوعي، ومستشفى السرطان لا تؤدي إلى الموت في الثلاجات، وإنما إلى حالة فريدة من التجدد الأنثوي الوجودي في حالة سقوط الشعر نفسها بسبب مواد العلاج الكيميائية؛ أما ذات المستقبل/ المروي عليه فتتمثل في إعادة بناء هذه الحجاج، والأفعال الكلامية منطقيا، وإعادة تخييل حالة الحضور الإبداعي اللامركزي في العالم؛ والتي قد تتجسد في المزج بين الغرق، والحب، والنجاة، أو الموت المحتمل، والتعاطف فوق الجسدي، أو الثقافي، أو المزج بين نسبية نوافذ البيوت، واتساع السماء القريبة ونجومها، أو بين رحلة السلحفاة البطيئة إلى موطنها، وأطياف الصراع الصاخب الذي يقع في علاقة إدراكية تمثيلية مع صيرورة الشخصيات الإنسانية في مستوى الخطاب السردي.

وقد اختارت الساردة أن تكون علاقتها بالشخصيات عبر التبئير الداخلي المتنوع طبقا لتعبير جيرار جينيت؛ والذي يتمركز – في البداية على الساردة، ثم البطلة جمانة، وقد يجسد خطاب الشخصيات الأخرى؛ مثل سلمى، وناصر، وهانية، ووالدة صابرين في المخيم؛ ومن ثم تؤكد الساردة حالة التنوع الثقافي الواسع من خلال تنوع الخطابات، ووجهات النظر، والعادات الثقافية، والانطباعات، والأخيلة، والمصائر، والاستعارات الإدراكية في النص؛ فخطاب كورين زوجة ناصر السابقة هو المؤكد لتماثل حياة السلحفاة ببعض مصائر الوجود البشرية؛ ومن ثم تشترك الشخصيات في البحث الدائري عن أصالة المرجع، وصوره الوجودية العتيقة التي تؤسس للجمال المتجاوز للصراعات الصاخبة، والأمراض، وتقلبات علاقات القوة في السياق الحضاري.

تومئ الساردة إلى السهرات الموسيقية البهيجة بمنزل بهجت بك الحفار في أربعينيات القرن العشرين، والعزف على العود، والإشارة إلى رغبة العازفين في عزف مقام السيكا صافيا في زيارة للموسيقار محمد عبد الوهاب، وإلى إنشاد شهيرة الحفار/ الطفلة لموشح لابن زيدون لحنه عمر البطش صديق والدها في ذلك المنزل بعيدا عن التقلبات السياسية.(2)؛ وكأن الساردة تحيلنا – في تلميحات الخطاب – إلى ذلك التماثل بين البحث عن صفاء المقام الموسيقي النادر، والبحث عن فضاء فني يخلص فيه الغناء من التقلبات، والصراعات في علاقات القوى المهيمنة؛ كما تلمح – في بدايات الخطاب إذا – لذلك الفضاء المستقر نسبيا، والمملوء بالغناء الذي يؤكد الهوية الثقافية، وتجددها، ويعزز من الهوية الذاتية الأنثوية للفتاة/ شهيرة الحفار التي ستصير ملهمة للبطلة في سياق استعادة الغناء، والرقص بمدلوله الوجودي المقاوم للموت أمام المرآة، أو حين تتعلق بالصور العتيقة، والتحف، وتبحث عن استعادة تلك الهواية القديمة في سياقها الراهن الذي تتنازع فيه القوى بدرجة أكبر من الماضي.

ولم يكن فعل الغناء التراثي بعيدا عن حالة التداخل الثقافي العالمي المؤكد لنزعة الأصالة في عالم البطلة/ جمان؛ فقد تذكرت أنها اقتربت من صديقها سامي في الجامعة عبر قصيدة حب لبوشكين، وأشارت إلى البروفوسيرة النسوية مارغريت برانتي التي أحبت أميا يعمل بإصلاح قوارب الصيد.(3)؛ وكأن الذات – تشير – في تضمينات الخطاب – إلى أن الأصالة الثقافية، أو الأصالة الذاتية لخيالات الأنثي لا تنفصل عن الآخر/ المختلف؛ فبوشكين يقوم بدور وسيط الحب، والفيلسوفة النسوية تصير بطلة لسرد يقوم على إعادة قراءة الكينونة بصورة جمالية أدائية؛ وتتضمن هذه الصورة بنية المرجع المؤقت/ مراكب الصيد؛ فذلك العامل الأمي المحب يتعلق بالبحر كفضاء مؤقت عالمي يتوافق مع الأخيلة الأنثوية، وأحلام اليقظة لدى كل من الفيلسوفة، والبطلة/ الساردة؛ ومن ثم تتسع دائرة علامات الذاكرة، والتراث الثقافي باتجاه التداخل الثقافي العالمي في واقع البطلة، وحضورها الراهن في لحظة الحكي.

ونعاين ذلك التلميح إلى طيران الأصالة الإبداعية للماضي في بنية الحضور، وداخل المرجع المؤقت/ الطائرة في نموذج التواصل الثاني بين البطلة جمان بدران، وناصر العامري عالم المناخ، والبيئة؛ فهما يشتركان في الذاكرة، والفضاءات القديمة القابلة للحلول في بنية الطائرة المؤقتة؛ تقول الساردة/ البطلة:

"كان في ذلك البيت، بيت الحفار، شباب وسيمون، بشورتات بيضاء، وقمصان ملونة، ولابد أنه كان واحدا منهم. كنت أحب بيتهم، أحب أضواءه الصفراء المنبعثة من ثريات الكريستال المدلاة من السقوف العالية. أحب الصور العتيقة المصفوفة على الجدار المكشوف على الشارع، وأكثر ما أحب شجرة الكينا الكبيرة، بأغصانها المتسلقة نحو نوافذ الطابق الثاني ... امتد حديثنا لساعات، أحيينا فيها روح الماضي، ورائحة الياسمين، والعسلية، والزيزفون، والرطوبة ... ناصر يشاركني ممتلكات في غاية الأهمية، يشاركني في حلب، ذاكرتي الثانية، ونصف هويتي".(4)

نعاين هنا الاتصالية الخفية – في بنية الخطاب – بين ثيمات النوستالجيا المشتركة بين جمان، وناصر، وتجلي علامات الذاكرة بصورة محولة في الوعي، واللاوعي؛ فالشباب الوسيمون ذوي القمصان الملونة، والشورتات البيضاء، يستعادون ضمن لحظة التجلي الآني لناصر في زمن الخطاب؛ ومن ثم تحمل صورتهم المتجددة أثر التقارب، والتعاطف الذي لا ينفصل عن تفاعلات القوة فيما وراء بنية الطائرة، وتتصل تلك العلامات الداخلية المحولة أيضا بتجدد الأثر ضمن المراوحة التصويرية بين قوة الماضي، وحضوره الآخر الكثيف، والإبداعي في فضاء الطائرة؛ ولهذا اختارت الساردة العلامات التي يمكن أن تكون حاضرة، وعابرة للحدود الزمكانية؛ مثل الروائح، والأضواء الصفراء، والسقوف العالية، وشجرة الكينا التي تشير إلى الاتصال بين الذات، والآخر؛ وتشير هذه العلامات إلى إمكانية تحقق الأصالة ضمن المرجع المؤقت نفسه عبر فعل التواصل؛ وإعادة بناء الخبرات القديمة في سياق إدراكي تخيلي موسع؛ ولهذا تبدو علامات الماضي قابلة للتجدد في المستقبل عبر تطوير علاقة جمان بناصر في سياقات مغايرة تحمل أثر الماضي، وروائحه ضمن خبرات غير معلومة سلفا؛ وأبرزها خبرة الاتصال بين المرض، والرقص، والتصوير، والتمازج بين الجسد، وعبور خبرة الجسد باتجاه التواصل الاستعاري ضمن بنية الحقيقي.

ويبرز منزل الحفار – في بنية الخطاب – عبر تكرار الإشارة إليه بوصفه فضاء للفن، والغناء؛ يتمتع باستقرار نسبي، ويشير أيضا إلى دائرية التداخل بين الأصالة الثقافية الإبداعية، والحضور المؤقت للمرجع؛ فالفتاة التي أنشدت موشح ابن زيدون هي الأم التي غادرت الحياة، ويذهب ناصر لحضور جنازتها؛ ولكن علاقات القوة، وتحولات السياق، تؤكد فعل الاستعادة، وتجدد العلامات ضمن صيرورة المراجع المؤقتة في المستقبل؛ ولهذا تكثر إشارات البطلة إلى اتصال ناصر بهويتها، وأخيلتها الأنثوية، وموطنها الأول/ حلب في مستوى الضمائر؛ ومن ثم نقرأ الإشارات السياقية المتعلقة بالذات، والآخر ضمن هذا التداخل بين الذات، والآخر في كينونة الساردة الأنثوية؛ فهي تبدأ بالمؤشرات السياقية المتعلقة بموضوع البيت القديم، ثم الإشارة إلى الآخر؛ ولكن من موقع تتداخل فيه الذاكرة مع نوازع اللاوعي الآنية؛ ومن ثم فاشباب الوسيمون ينبعون من داخل كينونة الساردة، وتطورها الآني أيضا؛ فهي تؤكد تأويل الكينونة سرديا من خلال الآخر؛ وتذكرنا بمقاربة بول ريكور التداولية للضمائر في كتابه الذات عينها كآخر؛ كما تكرر الضمائر المستترة التي تؤكد حضور (هو) داخل (أنا) في حضوره اللساني ضمن ممتلكاتها، وهويتها، وذاكرتها؛ كما توحي المؤششرات السياقية الزمكانية – في بنية الخطاب – بامتداد لحظة الماضي بقوة في روائح لحظة الحضور نفسها، وبالقرب الداخلي من بيت بهجت بك الحفار، والانطباعات الأولى المحولة في نوازع اللاوعي بدرجة موازية للقرب من ناصر في فضاء الطائرة الآني.

يشير جورج يول، وغيليان براون – في كتابهما تحليل الخطاب – إلى أهمية الكلمات المنتقاة، وبنية القواعد النحوية، والمؤشرات السياقية في التأويل، وتجانس الخطاب؛ لأننا ببساطة نتجاوز التوصيف النحوي إلى الزيادة التفسيرية، والدلالية.(5) هكذا تسهم البنى النحوية في إنتاجية الدلالة في بنية الخطاب، وتحقيق الاتصالية في الجملة، والعبارة، والنص، والخطاب ككل طبقا ليول، وبراون؛ وقد كررت الساردة – في خطابها – أفعال المضارعة التي تعلقت بحبها للشجرة، أو التي تشير إلى مشاركة ناصر لها في الممتلكات، والهوية؛ وذلك لتؤسس لتوقعات بالزيادة في ذلك القرب الروحي في المستقل؛ ولتصله بالبعد الوجودي المتعلق بطرائق تأويل الكينونة انطلاقا من التجدد العلاماتي للروائح، والصور في المراجع المؤقتة التي تفرضها علاقات القوة في سياق الموقف الفعلي.

وانتقت الساردة – فيما يتعلق بألفاظ المعجم – أن تكون القمصان ملونة، وأن يكون الضوء أصفر، وأن يأتي السقف عاليا؛ لتؤسس لهارموني يشبه التناغم الموسيقي بين الأشياء بصورتها القديمة القابلة للانبعاث، والتحول السيميائي؛ فاللون الأصفر يؤكد أصالة الصحراء العربية، والسقف المرتفع يصل الوعي بالسماء والنجوم، والقمصان توحي ببهجة اللاوعي، ونوازع الهو في ارتقائها، وتحولها الجمالي في الموقف الفعلي.

وتتراوح أفعال الكلام – في رواية شهلا العجيلي – بين التأكيدات، والتعبيريات، والتوجيهات؛ فالساردة تعيد تمثيل الماضي، وحالات الذات، وعلاقتها بالآخر، وبالمرجع، وبصورها المحولة، وتجدد كينونتها، بينما تعلن حبها الذاتي – في فئة التعبيريات – لملامح الماضي وطرائق تجدده كظواهر جمالية في الوعي، بينما تظل الأسئلة والاحتمالات قائمة بصورة دائرية، توحي باحتمالية الجواب، ولا مركزية المدلول؛ ونعاين التمثيلات، والتأكيدات في خطاب الساردة حول ملامح بيت بهجت بك، واتصاله بالفن، والغناء، وتجانسه التكويني، واتحاده العاطفي بالآخر، وامتداده الذاتي الداخلي؛ ثم تنتقل إلى التعبيريات حين تقر بجمال الشباب الوسيمون في المكان، وبحبها للبيت، وللشجرة والصور العتيقة، واتحاد الروائح القديمة بهويتها الذاتية؛ وهو ما يؤكد تحقق قوة فعل الكلام في الأثر الذي تحدثه التمثيلات والتأكيدات في وعي البطلة بوجودها في العالم عبر الأصالة الثقافية الجمالية القابلة للتجدد الآني، بينما يتحقق لازم فعل الكلام حين تتصاعد نغمات علاقتها بناصر، وارتقائها الجمالي المتناقض إبداعيا أمام المرآة في حالة بينية تجمع بين نغمات الموت، والإيروس، وولوج عالم الصورة الطيفي في آن.

وتومئ البطلة/ الساردة – في تضمينات الخطاب، وتلميحاته – إلى تحقق الحضور الآخر للمكان في سياق الموقف الفعلي عبر علامات الأثر التي تمثلت في الروائح، والصور القابلة لإعادة التشكل في فعل التواصل، وفي بنية الخطاب، أو بنية المحادثة، أو تستنزف مركزية المرجع المؤقت/ الطائرة في أن.

ويمكننا استنتاج بنية المضمر في الخطاب حين نعود إلى نموذج الفضاء في اللاوعي الجمعي؛ فالساردة تبحث عن التوافقية الحلمية الموسيقية الأولى – في البنية الأسبق من الخطاب لحضور بيت بهجت بك الحفار – وتؤسس لمدلول المنزل بصورة وجودية تستنزف المنزل نفسه من خلال علامات المنزل نفسها؛ إنها تبحث عن منزل يتكون من الشجرة نفسها، والسقف العالي نفسه، الإضاءة الصفراء نفسها، وصورة ناصر الأولى بصورة تخيلية دائرية تقاوم التحولات السريعة في بنى علاقات القوة.

وقد تنوعت بنى الحجاج في الخطاب بين الحجاج الاستدلالية التي تقوم على مسلمة اتحاد عالم الساردة الداخلي الفطري بعلامات القدم، والأصالة الممزوجة بالتناغم الفني؛ ومن ثم تؤسس لاستدلالات تستند إلى تلك المسلمة التي تبدو منطقية في السرد، وهي تكرار حالات النوستالجيا، والتعلق بالأثر المتجدد، والآخر الذي يشاركها الذكريات، والهوية؛ أما الحجاج الاستقرائية – في بنية الخطاب – فقد تجسدت في إحالة الساردة المواقف النسبية التي تعلقت بتفاعل الذات مع الشيء أو العلامة الثقافية؛ فقد انشغل والدها بترميم سور حجري قديم في الرقة، بينما كانت هي تفضل العناية بالتحف، والسجاد(6)؛ ومن تلك الحالات النسبية التي يمكن أن تجتمع في النص؛ لتؤسس الحجة الاستقرائية التي تقوم على دلالة استمرارية تعلق الذات بالشيء في حضوره الجمالي القابل للتجدد، والانبعاث الحضاري في سياق تطور الكينونة، وعلاقتها بالآخر، والآخرين.

وتواصل الساردة – في خطابها - المزج بين دينامية المرجع المؤقت، وتحولاته الممكنة في السياق الفعلي الذي يبدو هنا قابلا للتوسع الإدراكي أو المفاهيمي؛ ومن ثم يذكرنا بدراسات التداوليات الإدراكية لدى دان سبيربر، وويلسون في نظرية الصلة التي توسع من إنتاجية السياق من داخل علاماته الأولى نفسها؛ تقول في سياق تحويلها لصورة السماء الأولى في طفولتها، وتحويرها الإبداعي لمرجع ناصر الشخصي:

"حينما يحط الليل على منطقة الرابية، تتحول الحديقة أمام سريري إلى مرتع للريح، أسمع أصواتا تشبه النعيق، وهرير قطط، وتتحول الأشجار إلى أشباح متعانقة، فأنطوي على نفسي في السرير، وأهرب بعيني إلى السماء، فأراها أكثر ألفة ... صرت أفكر فيه، آخذه ليتحول في عقلي بلا رقيب، أحوله إلى فكرة، أو أجسده فيتخذ شكل غار آوي إليه، أو وسادة".(7)

لقد قامت الساردة نفسها بتوسيع سياق الموقف الفعلي من الغرفة الأخرى، أو المنزل الآخر إلى غرفة الطفولة، وأخيلتها المتجددة، والسماء القريبة؛ ثم تعيد بناء المرجع المكاني بصورة إبداعية عبر تخييل الغرف، والنوافذ، واتصالها التصويري الجديد في حلم اليقظة، وتعيد تحويل المرجع الشخصي لناصر عبر تخييله في صيرورة بناء الكينونة بصورة إدراكية دينامية؛ فيمتزج حضور الشخص ببنية المكان الحلمي الأولى في استعارة الكهف القديم الذي يوحي بالاستدارة، والهارموني، ويذكرنا بالنماذج الروحية، والرؤيوية في تصور كل من كارل يونغ، ونورثروب فراي.

ويرى كل من دان سبيربر، وويلسون – في كتابهما المعنى والصلة – أن المقترب الإدراكي في نظرية الصلة يقوم على الفهم اللفظي كعملية سيكولوجية داخلية، وأن يزودنا النسق اللغوي بسياق دينامي مفتوح؛ يقوم على استنتاجات المخاطب عبر فعل التواصل مع المتكلم؛ وأن هذه الاستنتاجات تتواتر في الفكر الفلسفي، والحياة اليومية معا.(8)

هكذا يؤسس موقف التواصل الفعلي مجموعة من الدوائر التي توسع من السياق، دون أن تنفصل تلك الدوائر، والاستنتاجات عن موقف التواصل نفسه طبقا لسبيربر وويلسون؛ ومن ثم تمنحنا ساردة شهلة العجيلي – في سماء قريبة من بيتنا – إمكانية توسيع بنى المراجع المؤقتة، وحضور الآخر الداخلي وفق دينامية إدراكية جديدة تنبع من فعل التخييل كفعل أصلي في تشكيل الكينونة الأنثوية في المشهد؛ فالساردة تؤسس للمكان الذي يتسم بالهارموني في حضوره كنموذج يستنزف علاقات التباعد، أو علاقة الانفصال عن مكان النشأة الأصيل؛ ومن ثم يتصل المنزل الآخر في الموقف الفعلي بالسياق العالمي لصورة الكهف، أو ما وراء الكهف القديم نفسه من نماذج تدل على الفسحة، والغناء؛ والتي تذكرنا بطيران صوت أورفيوس عند إيهاب حسن، أو بعلاقات التقارب بين الإنسان والعناصر الكونية في لحظات التأمل الجمالي الأولى التي مهدت للإنتاجية في الفن، والأدب.

وتستمر الساردة في إحالتنا إلى استعارة إدراكية أو مفاهيمية أخرى تتعلق ببنية التشابه المنطقي بين رحلة السلحفاة إلى البحر، ورحلة الذات إلى البيت، أو المكان؛ ومن ثم تذكرنا أيضا بعودة أودسيوس في الأوديسا لهوميروس؛ وتوحي هذه المماثلات الاستعارية المعرفية في النص بدائرية العودة في تضمينات الخطاب، فضلا عن تجدد بنى الماضي الأولى في تجسد الذاكرة المجازي في المشهد؛ وقد أوردت الساردة تلك المماثة في الحكي عن كورين زوجة ناصر السابقة والمغرمة بالمسار البيولوجي للسلاحف؛ تقول ضمن حكيها لخطاب كورين عن السلحفاة:

"رحلتها الوحيدة التي تقوم بها خارج عالمها الحقيقي، البحر، هي من أجل أن تضع بيوضها المئة والخمسين، أو المئتين على جزيرة آمنة، تحفر في الرمل الدافئ، وتطمر، وترجع مرة أخرى إلى البحر ... فهي تحمل بيتها الأخضر، ذاكرتها ... والماء قريب جدا، وبعيد جدا".(9)

لقد ارتكز خطاب كورين – بدرجة رئيسية – على دينامية المرجع المؤقت/ البحر، وتكررت معه مفردات؛ مثل الذاكرة، والبيت، والعالم الحقيقي؛ ومن ثم تتجانس بنية الخطاب في غاية العودة، وتحققها الاحتمالي الذي تجلي في التناقض بين اجتماع كل من القرب، والبعد في آن بسبب تهديد الكائنات المعادية للسلحفاة في تلك الرحلة؛ ومن ثم يمكننا استعادة عودة أودسيوس، ونغمة الانتظار في صيرورة بينلوب الأنثوية، وتمثيلات العودة الاستعارية للمكان في غرف البطلة جمان، واستحضار قرب السماء في حلم اليقظة، أو التأملات الأنثوية الشاردة كما هي في تصور باشلار في شاعرية أحلام اليقظة؛ كما يتجسد الرجل/ ناصر في البنية الاستعارية للكهف، أو الوسادة؛ وهما علامتان تجريبيتان تجمعان بين الشخصي، والمكاني بصورة نموذجية سردية جديدة؛ وكأن الذات تحل في الفضاء في تضمينات الخطاب، أو يحل الفضاء المملوء بالذوات كصور أو كنغمات، أو كأطياف تتراوح بين المرئي، واللامرئي في بنية المضمر.

وتومئ الساردة إلى تصاعد البهجة الأدائية لشخصيات مخيم الزعتري لللاجئين؛ ومن ثم تفكك مركزية الحياة على هامش في مرجع مؤقت؛ إذ تتنازع فيه قوى البهجة، والفن، والخضوع الآلي للهيمنة في آن. تصف الساردة المخيم بأنه منبسط على أرض مستوية كإشارة وحيدة، ووهمية إلى إمكانية الثقة بالعالم؛ وتتناول حياة أم صابرين التي تمزج البهجة بالآلية، وأسماء بناتها التي تطابق أسماء الفنانات؛ مثل مرفت، وصابرين، ونعاين حب الفتاة  صابرين للإنشاد، والغناء.(10)

تومئ المؤشرات السياقية المكانية – في خطاب الساردة – بالتلميح إلى الانبساط أي إلى الوجود الشبحي في العالم قبل معرفة كيفية تثبيت الجذور في الأرض، بينما تؤكد تلك البهجة الصاخبة التي تبدو كتلميح إلى نزوع نحو التمرد على الحضور الآلي من داخله، ويذكرنا غناء صابرين بالإشارات الأولى في الخطاب لليالي الأنس في منزل بهجت بك الحفار؛ وكأن الغناء يمتد وحيدا؛ مثل صوت أورفيوس في أرض المخيم المنبسطة، والبكر، والتي تجمع بين الفراغ، والامتلاء الشبحي في تضمينات الخطاب أيضا.

وتتصاعد بنية المرجع المؤقت بوصفه تأويلا لبنية الحضور – في خطاب الساردة – في مرجع المستشفى الذي يحول الإنسان / الذات إلى رقم؛ ومن ثم اقترن تكرار الاسم – في بنية الخطاب – بالنفي، وبالتكرار؛ لإثبات حضور الهوية في قلب الفراغ العبثي؛ تقول: "قرأت الورقة التي تخولني الدخول إلى مركز العلاج، كتب فيها اسمي، والرقم الذي مُنحته، ووصف الحالة ... لم يكن اسمي لي، شعرت بغربة فظيعة تجاه حروفه، ومنذ اليوم لن أعود الدكتورة جمان بدران؛ أنا رقم في إحصائيات المرضى في مركز السرطان".(11)

هكذا تلمح الساردة إلى دائرية التناقض الإبداعي ما بعد الحداثي في دلالات المستشفى بوصفها الدرجة العليا من حضور المرجع الشبحي؛ فهي تشير إلى تواتر صور الجثث، وجلسات العلاج بصورة تتجاوز البنى السياسية، والفنية التي اقترنت بالمخيم، وبيت بهجت بك سابقا؛ فالمستشفى توحي بالأمل، ومحو الهوية، كما يوحي تأويل الكينونة بالرقم بدائرية الصوت، ودائرية الفراغ في آن داخل المرجع.

ومثلما أشار الخطاب إلى صخب البهجة الخفية في المخيم؛ فإنه يشير هنا إلى صخب الإيروس، والانفعالات الروحية، والتصورات الجمالية المتجاوزة للتجسد فيما وراء المرآة، وبنية المستشفى؛ وكأن هذه الحالة الإبداعية تؤسس لحجة أو لمقدمة منطقية توحي بلامركزية القوى في مرجع المستشفى؛ وتؤدي هذه المقدمة المنطقية لاستنتاج مصداقية البنية التفسيرية الاحتمالية للموقف الفعلى الذي قد يؤدي إلى الشفاء، أو الموت، أو امتداد التواصل الجمالي الصامت الذي يشبه الرقصة التعبيرية السينمائية، أو التصوير الفوتوغرافي السريالي؛ تقول:

"حاولت أن أتعرف إلى نفسي في المرآة، وكان خلفي يتأمل معي الصورة الجديدة؛ كل تفاصيلها باهتة وبيضاء مثل سماء تحجب زرقتها الغيوم، فيها فقط عيناي البنيتان تلمعان بضوء يجرح زجاج المرآة ... مسحت بكفي على رأسي الأصلع، فاعتراني شعور حلو، وخزات ناعمة ممتدة على باطن كفي، كرر ناصر حركتي، وهو يحدق في عيني من خلال المرآة، فاحتوت كفه الكبيرة كرة رأسي الذي تبين أنه صغير جدا".(12) تتواتر الانعكاسات، والتشبيهات، والعلامات الاستعارية – إذا – في ذلك الموقف الصامت الوجودي/ الأدائي في آن، وتفكك بنية الموت الكامنة، كما تفكك مركزية الجسد، والآلية من خلال حياة الصورة الأخرى في المرآة، والتي تبدو كمضمر يستنزف بنية الحقيقي، وقد تبدو هذه الصورة وحدها مثل تحف الماضي، وأغنياته البهيجة الممتدة فيما وراء دلالة الفراغ.

وأرى أنه لا يمكن قراءة المراجع المؤقتة بعيدا عن التأشير العائدي/ الأنافورا في الدراسات التداولية المعاصرة؛ وبخاصة تلك الدراسات التي تحدد التأشير العائدي انطلاقا من السياق، والاستدلالات الممكنة في بنية الخطاب ككل. يؤكد فرانسيس كورنش – في كتابه الأنافورا، والخطاب، والفهم -  دور السياق، والمؤشرات السياقية في تحديد العلاقات الدلالية للتأشير العائدي/ الأنافورا؛ إذ يتم تحديد المراجع عبر الخطاب، ويتفق مع تصور بوهلر في أن الربط يتم – عبر سياق الخطاب – من خلال وجهة النظر، والافتراضات المسبقة، والمؤشرات السياقية، وتطور الخطاب، وعودته لنقاط البدايات.(13)

هكذا يعمل التأشير العائدي ضمن بنية الخطاب الكلية، وسياقاته، واستنتاجاته؛ ومن ثم يمكننا قراءة المراجع المؤقتة في رواية سماء قريبة من بيتنا لشهلا العجيلي انطلاقا من وجود مرجع نماذجي أول يقع في المساحات الخفية الأولى من الخطاب؛ والتي تسبق جلسات الأنس، والغناء، وتقلبات الأحزاب السياسية في منزل بهجت بك الحفار؛ ويشبه هذا المكان البيت القديم، أو الكهف الاستعاري، أو يتركب من مجموعة من المراجع المستقرة، والمؤقتة بصورة جمالية تستعصي على التحول الآلي السريع، وتتسم بالمشابهة مع تاريخ الفن، والتجانس الداخلي الذي يمارس حالة إغواء العودة إلى الأصالة باتجاه الذات، والآخر؛ ومن ثم يصير البحر الذي أوشكت سلمى أن تغرق فيه موقعا مؤقتا متصلا بنيويا بالمرجع النماذجي المتخيل الأول؛ وقد تجلى بصورة خفية مثلا فيما وراء جزيرة القرصان من مشاعر السعادة التي تشبه اليوتوبيا أو اليوتوبيا المؤجلة، أو في مساحة المرآة التي جسدت قوة الساردة التصويرية خارج تجربة المرض.

وتتسع دائرة التواصل الثقافي مع الآخر في الرواية؛ وبخاصة في التواصل بين البطلة وهانيا التي تحيلنا إلى أصالة التعدد الثقافي في هويتها العربية، تأكيد خطابها للنزعة العالمية في إشاراتها لرقصة زوربا المتجاوزة للألم، وطقس دفن الموتى الآسيوي، والإشارة إلى تجدد شحصية بجماليون في شخصية الدكتور يعقوب / الطبيب المعالج لمرضى سرطان الغدد. أشارت الساردة / البطلة إلى هوية هانية الفلسطينية الآسيوية؛ وتؤكد هانية في خطابها المرح، وتجاوز الألم، وتحيلنا إلى رقصة زوربا – بمفهومها التمثيلي – الوجودي – حين رقص زوربا عقب وفاة ابنه ديمتري؛ لكي لا يموت من الألم.(14)

تعيد هانيا – في تضمينات خطابها إذا – تشكيل دائرية الألم، والأداء الفني الجمالي بوصفه فعلا لتأويل الكينونة الأنثوية، وتجاوزها للمرض، واتصالها بالموضوع الاستعاري داخل حالة الأداء التي تبدو منفصلة عن قوى الموقف الفعلي الحتمية؛ ومن ثم يتشكل المضمر في الخطاب في تحول حالة الأداء التمثيلي إلى استبدال الموقف الأول، أو حالة المرض، ويتسع السياق باتجاه اكتساب الموضوع الجمالي قوة مستمدة من الحقيقي في بنية الحضور الإشكالية، والمحتملة، والتي تعود إليها الساردة في النهاية.

وأرى أنه عند تحليل كل من محادثة البطلة جمان مع هانيا، أو تحليل محادثة سلمى مع القرصان إبراهيمو الذي يبدو وكأنه يحاكي القراصنة مجازيا؛ سنكتشف أن هاتين المحادثتين – في رواية سماء قريبة من بيتنا لشهلا العجيلي – تواكبان الدراسات التداولية الجديدة المتعلقة بنماذج التواصل العابرة للثقافات، أو تداوليات الإنترنت؛ وما تحويه من تعددية في الثقافات، واللغات، والوسائط التكنولوجية؛ ويرى روبرت كروشاو – في دراسته المسافة الحتمية وقوة التواصل بين الثقافات ضمن كتاب قضايا معاصرة في التداوليات العابرة للثقافات – أن الأبحاث التداولية الجديدة ترتكز على الدينامية الداخلية للسياق، وتوظيف الكلمات في السياق العابر للثقافات؛ وبخاصة تلك التي لا تفهم جيدا بين المتحاورين، ويشير إلى أهمية تصور كيكاس الذي يقوم على علاقة اللسانيات بحالات الإدراك، وطرائق التواصل بين أفراد من ثقافات، ولغات متباينة.(15) أما كيوكان زي، وفرانسيسكو ياس، وهارتموت هابرلاند فيرون – في دراستهم مقاربات في تداوليات الإنترنت – أن الاتصال عبر عالم الإنترنت يكون عبر وسائط لغوية، وعبر الصور، والميديا، وإنتاج المفاهيم، والتأويلات، والمضمرات عبر سياق سيبراني عابر للثقافات بصورة إلكترونية ضمن سلوك وسائطي جديد في عملية التفاعل.(16) ومن ثم يمكننا قراءة محادثتي الساردة مع هانية، وسلمى مع القرصان وفق هذه المبادئ التداولية الجديدة، ووفق المبدأ التعاوني طبقا ل بول غرايس؛ والمتضمن للكم، والجودة، والصلة، والأسلوب، مع إمكانية توسيع الصلة أحيانا طبقا لدان سبيربر وويلسون.

تبدأ المحادثة بتشبيه هانية للدكتور يعقوب ببجماليون في الأسطورة؛ وهو ما يؤكد الإحالة النصية لثقافة الآخر، وتجليها العالمي، ثم تقوم بنوع من المحاكاة للخطاب المعلوماتي الذي يوفره موقع البحث/ غوغول على جسد البطلة جمان؛ ومن ثم توحي بحجة حدوث التواصل الإلكتروني سواء أكان الكمبيوتر حاضرا في المشهد أم لا؛ تقول:

"-يحب فيك نفسه، قدرته مثل بجماليون.

-لا أعرفه.

-أسطورة.

-أحب الأساطير.

-اذهبي إلى غوغل.

ضغطت على شفتي بسبابتها؛ وكأنها تفعل زرا في لوحة المفاتيح، فتتصل بغوغل.

-بجماليون كان نحاتا يكره النساء، ومرة نحت امرأة جميلة من العاج، فعشقها.

وقد تجسد الاختلاف الثقافي في نقاش هانية مع البطلة حول رؤية جسد الميت، والاختلاف بين وضعه في كفن أبيض لدى العرب، والمسلمين، وتركه في مكان عال للجوارح في ثقافة والدتها الآسيوية.(17)

تتضمن المحادثة – إذا – المؤشرات السياقية التي تثري مدلول الآخر/ يعقوب من داخل الحالة الإدراكية لوعي هانية، والمؤشرات السياقية الذاتية الإيجابية نحو قبول الآخر، والحكايات الأساطير، ومعلوماتية الإنترنت، كما تتضمن نوعا من الغموض الذي ينبع من اختلاف الذات عن الآخر في طقوس دفن الموتى؛ فيتجلى اللون الأبيض للكفن بصورة ثقافية جديدة، وكذلك الفضاء المرتفغ في وعي المتحاورتين؛ وترتكز الأفعال الكلامية على التمثيلات، والتأكيدات التي تختص بيعقوب، وبجماليون، والتعبيريات التي تعزز من حب جمان لحكايات الأساطير، والتوجيهات التي بدت في الأمر بالذهاب إلى غوغل؛ وقد تجلت قوة فعل الكلام في تحقق المعرفة المعلوماتية التفسيرية في وعي جمان، كما تحقق التواصل الإلكتروني بصورة تشبه المحاكاة لأسلوب غوغل في عرض المعلومة التي توسعت إدراكيا وفق نظرية الصلة لسبيربر وويلسون.

وإذا أعدنا قراءة المحادثة وفق مبدأ بول غرايس التعاوني، سنلاحظ أن جمان وهانيا التزمتا بالكثافة/ الكم؛ وإن استطردت خانية بدرجة أكبر في تفسير أسطورة بجماليون؛ وهو أمر يستدعيه سياق المحادثة المعلوماتي/ التفسيري؛ أما الجودة فقد تحققت في تعلق سلوك الدكتور يعقوب بالفرضية المنطقية المسبقة من حبه للمرأة من خلال جهده الخاص في علاجها؛ ومن ثم تؤكد هانية تلك الفرضية المنطقية من خلال مشابهة سلوكه إزاء المرضى بسلوك بجماليون، وإثباته لدرجة تحقق الحب من خلال إنتاجية الذات للتجربة العلاجية؛ ومن ثم توسعت كل منهما إدراكيا فيما يتعلق بمبدأ الصلة – بصورة نسوية – توحي بتجلي الرجل كآخر له منظور نسبي مختلف إزاء رؤية المرأة للوجود، وللتجربة الجمالية الأدائية الأنثوية في مقاومة الألم؛ وقد بدا أسلوب جمان قريبا بدرجة أكبر من شعرية المنظور الأنثوي لعلامات العالم، بينما بدت هانية أقرب للسرد التفسيري، أو المعلوماتي؛ ومن ثم تثري المحادثة الاختلاف الثقافي، وتعددية الوسائط في التداوليات العابرة للثقافات، وتداوليات الإنترنت.

تؤكد البطلة/ الساردة أن أختها سلمى لم تكن تحب قراءة الروايات بسبب تفاعلها السلبي مع إحداها، بينما تشير إلى ولوجها لخبرة الأداء الإبداعي الكوني حين نجت من الغرق بسبب حركة الدولفين، وقارب القراصنة؛ وتومئ سلمى في خطابها إلى أن إبراهيمو / القرصان لم يجد شيئا يقدمه لها إلا لؤلؤة بيضاء على شكل أجنة مجهضة، وكانت هدية من حورية للبحر؛ وتسأله سلمى:

-هل علي أن أصدق حكايات الحوريات؟

-أنت حرة في ذلك.

بينما يؤكد القرصان إبراهيمو – في خطابه – بنية المرجع المؤقت حين سألته سلمى:

-أما من عنوان للسؤال؟

-القراصنة لا عناوين لهم."(18)

وتومئ محادثة سلمى، وإبراهيمو بإمكانية تحقق السياق الأدبي الموسع ضمن المرجع المؤقت/ السفينة، أو البحر، أو الجزيرة؛ فالقرصان يحوي بداخله أبطال الحكايات القديمة، أو نموذج الرجل في أحلام يقظة الأنثى، وتأملاتها الشاردة؛ وقد جاء مبدأ الكم طبقا لبول غرايس أقل مما تستلزمه إجابات الأسئلة بصورة مبررة منطقيا؛ فخطاب القرصان يبغي الحفاظ على الغموض، وشعرية وجوده في العالم من خلال إثبات فاعلية الأخيلة في الواقع؛ مثل شخصية  ألحورية أو من خلال إثبات دائرية الحضور المؤقت للمرجع دون أن يختلط به حلم العودة؛ فالمرجع هنا دينامي، وغامض دائما؛ ومن ثم يستلزم فعل الكلام المتعلق بالسؤال المتضمن في فئة التوجيهات، نوعا من تحوير الإدراك باتجاه الإجابات الاحتمالية دائما.

وتؤكد الساردة تلك الاحتمالية حين تقع الأشياء في خطاب الساردة – في النهاية – في حالة من التجاور اللامركزي، أو ما بعد الحداثي؛ فالنجوم القريبة حاضرة مع صورة مركز العلاج، وأشباح الموت، والحياة عقب وفاة هانية في حادث طائرة، بينما تظللها شجرة صفصاف.(19) هكذا يعود المكان بصورته الجمالية مرة أخرى، وتتداخل في بنيته الفضاءات الحلمية، والواقعية، والتاريخية؛ ليؤكد دائرية العودة إلى النموذج الحلمي في وعي البطلة، ولاوعيها.

*هوامش الدراسة:

(1) راجع، شهلا العجيلي، سماء قريبة من بيتنا، منشورات مجاز بعمان بالأردن، والاختلاف بالجزائر، وضفاف ببيروت، ط2، 2016.

(2) راجع، شهلا العجيلي، السابق، ص 13، 14، 15.

(3) راجع، السابق، ص-ص 28، 29.

(4) السابق، ص-ص 59، 60.

(5) Read, Gillian Brown and George Yule, Discourse Analysis, Cambridge University Press, 1983, p. 223.

(6) راجع، شهلا العجيلي، السابق، ص 75.

(7) السابق، ص-ص 88، 89.

(8) Read, Deirdre Wilson and Dan Sperber, Meaning and Relevance, Cambridge University Press, 2012, p.27.

 (9) شهلا العجيلي، السابق، ص 107.

(10) راجع، السابق، ص 122، 128.

(11) السابق، ص 153.

(12) السابق، ص-ص 190، 191.

(13) Read, Francis Cornish, Anaphora, Discourse and understanding, Oxford University Press, New York, 1999, p. 21. 22.

(14) راجع، شهلا العجيلي، السابق، ص 235.

(15) Read, Robert Crawshaw, Determinacy Distance and Intensity in Intercultural Communication in Current Issues in Intercultural Pragmatics, Edited by: Istvan Keckes, Stavors Assimakopoulos, John Benjamins Publishing Company, 2017, p. 9. 10.

(16) Read, Chaoqun Xie, Francisco Yus and Hartmut Haberland, Approaches to Internet Pragmatics, Theory and Practice, John Benjamins Publishing Company, 2021, p. 4. 5.

(17) راجع، شهلا العجيلي، السابق، ص 262، 263، 264.

(18) راجع، السابق، من 300: 303.

(19) راجع، السابق، ص-ص 341، 342.

 

msameerster@gmail.com