يسعى الروائي والناقد المصري هنا إلى بلورة ما يدعوه بفلسفة السرد والحكي، وهو يحلل رواية تتحلى في بنيتها تلك العلاقة الجدلية بينهما، من خلال شخصيات تبحث عن مسارات بين غوايات الفتنة وضرورات القمع الاجتماعي، وآليات كتابة المقموع والمسكوت عنه، كي تحقق وجودها الفلسفي وتحققها الحسي معا.

فلسفة السرد والحكي في «ممرات الفتنة»

محمد عطية محمود

 

تختلف الطرائق السردية في تقديم رؤية ناصعة لما تقوم به الرواية كعمل فني أو كمعادل رؤيوي للواقع، وما يدور فيه من توازيات وتقاطعات بين المرئي/ المشهدي المتحرك، والمسموع/ المحكي المنقول والمتوارث، والذي ينطبع في الذوات المتعددة المتوزعة على نسيج أي عمل روائي تستنطق به المكان المشحون بدلالات أنثربولوجيته، وميثولوجيته. تلك التي ربما طرحتها – وبإلحاح – العلاقات الإنسانية في تقابلاتها وتقاطعاته على حد السواء بين النماذج الخارجة من عتمة المعاناة النفسية والفلسفية الوجودية معًا في بقعة من بقع الوجود الإنساني – المتمايز – والغارق في سديمية المسكوت عنه والمستور – غالبًا – ليبرزه العمل الروائي من خلف غلالات الكُمون والعجز عن إيجاد مفاتيح التعامل مع النمط القاسي المطروح. متوازيًا مع قسوة الواقع الخارجي المحيط/ البيئة، وما تسقطه دلاليًا ونفسيًا على علاقات الشخوص التي ربما ارتدت/ هربت إلى ماضيها تستعذب اكتشافه أو تجتره لتربطه دائمًا بحاضرها، ومن ثم قد تحاول استشراف ما ستكون عليه، من خلال رموز ذلك المكان وتداعياته وظلاله.

ربما لاح لنا الكثير من تلك السمات والخيوط المتشابكة، حينما نتعرض لعمل روائي على درجة من التعقيد والتركيب والغموض الشفيف مثل "ممرات الفتنة"[1] للروائي مصطفى البلكي، حيث تأتي البنية السردية، بداية من العنوان كعتبة أولى مائزة للنص وموغلة في تلك المسحة من التركيب والغموض والالتباس..

بداية شائكة:
حيث يبدو المفتتح السردي للرواية صادمًا بطرحه لمواجهة يبدو فيها صراع خفي من أجل تثبيت قيمة وجود، بالرغم من عدم مشروعيتها ودخولها في الجانب الغرائبي المسكوت عنه، والذي يُعد ملمحًا خارجًا عن النمط المعتاد للحس الأنثروبولوجي، لكنه موغل في موروث الفتنة، واستمرارها مع استمرار هاجس الوجود المقلق في حياة يشوبها الكثير من الغموض والافتقار إلى حميمية لذة الوجود وشهوة الاستمرار. والتي يطرحها الراوي العليم المهيمن، وهو يفض بكارة النص الروائي، دافعا بتلك المواجهة الباكرة بين الشقيقين:

«حاول بكل ما لديه أن ينحِّي السؤال جانبًا، ولأنه يعرف أن الشجاعة التي جاءت بعد معاناة إن لم تعضد بثبات، فسوف يتبدد كل شيء، ولن يكون في مقدوره الإمساك بها مرة أخرى، من أجل كل هذا كرر طلبه: "لازم تحتل جسد رقية.» ص5

تلك المواجهة بين طرفين رئيسين من أطراف الصراع التي تلقى فيها كرة اللهب الحارقة لتكون مسألة جوهرية تفتح لها ممرات السؤال الجارح الضمني: "كيف يحتل جسد زوجة أخيه؟" إلى جوار تلك الممرات الأخرى العديدة التي أفلح النص في نصبها كشراك قد يتجلى من خلالها جزء من الحقيقة، لتبدو هنا ردة الفعل النفسية/ الانفعالية لدى تلك الشخصية الموضوعة تحت ضغط الاختبار، وتبعة هذا الطلب الغريب الملح، ما يخلق مسارًا تعتركه الرواية بروح تلك الشخصية، لتقصي تلك الحقائق الغائبة، كوظيفة من وظائف الرواية في منجزها الإبداعي بصفة عامة:

"لم يكن قد أدرك أنه لا يجب البقاء طويلًا تحت سيطرة كيان لا يعرف حقيقة ما يحمله، كيان يحاول أن يسلب منه كل شئ ويجعله حكرا على نفسه، ويريد أن يرى عقدة أوديب فيه" ص16

تلك المسافة النفسية التي يقطعها المأزوم بعيدًا ليفلسف حالته المنفصلة – برغم الاتصال المادي المرتبط بالعجز وعلاقة الاحتياج – عن شقيقه العاجز ولو على المستوى النفسي والتي تشغل في ضميره جانب البحث والتقصي في مواجهة صورته المتناقضة التي تحمل معنى الدناسة والبراءة معًا، والتي قد لا تمكنه من الانصياع لتلك الرغبة الشاذة من الشقيق العاجز وفلسفته هو الآخر للموقف/ الحالة، ومحاولة تحقيق الذات بطريقة عكسية، لتخلو تلك المساحة السردية التي يواجه فيها المروي عنه هنا/ صابر الذي يكشف الموقف المفاجئ شخصيته الإشكالية: "له حياة في الخفاء لا يعرف أحد عنها شيئا"

ليحفر للمسكوت عنه قناة جديدة تتنفس فيها حقائق جديدة لم تكن في الحسبان، وكوجه آخر للحقيقة المعلنة، يحتاج إلى المزيد من سبر الغور ومحاولات فك شيفرة النص الروائي الذي يلج في تلك التفاصيل اعتمادًا على التوثيق بتلك التداعيات المنسالة من خلال حركة الرواية والتقاطع السردي المشهدي المفتتح لفعالياتها، كما يستند إلى المروي/ المحكي الذي يخترق هذا النسيج للعمل على ملء الفراغات في المساحات الممتدة المختلطة بحس فلسفي يمنطق الحالة ويسيِّر الأمور إلى الدرجة التي ربما مهدت لكثير من التداعيات/ المتواليات.

ربما كانت هذه هي المعادلة الصعبة التي يناط بالروائي العمل على الوصول إليها وإدراك ثمرة هذا التواجد الإنساني من خلال تعدد الأصوات التي تتعاقب على جسد النص، ومن خلال هذا التتالي السردي/ الحلقة السردية التي ربما نزعت إلى وحدة من الوحدات المقتربة من مفهوم الحلقة القصصية المتوحدة بذاتها، ولكن بسمات ارتباط بالسياق العام الذي تقوم عليه البنية السردية الكبرى التي تجمع كل ذلك لتشكل العمل الروائي، والتي تقوم بصفة عامة على تقنية الاسترجاع الذي يتوقف عنده النمو السردي لصالح الحكي في أغلب مقاطع النص وفصوله المعنونة بصيغة الراوي أو الصوت السردي المنفرد..

التقاطعات بين السرد والحكي:
تلعب الأصوات الساردة - إلى جانب صوت الراوي العليم – دورًا مهمًّا في المزج بين عمليتي السرد والحكي وتقاطعهما، حيث يقوم البناء الروائي على هذه الخلخلة التي من شأنها إماطة اللثام عن تلك الحقائق وسلسلتها، ومحاولة عمل ما يشبه السواقي المتجاورة التي تغطي كل المساحات التي تشتعل بالسؤال، فتتداخل تلك الأصوات التي تبدو فيها مركزية وجود صوت الأم/ تهاني لكشف النقاب عن تلك البدايات/ الموروث حيث تلعب دور الوعاء الناقل/ الشاهد لكل أطراف الحكاية المتشعبة بين الابن/ صابر، وابن الزوج/ غصوب، وزوجته/ رقية "مكمن الفتنة"، وأطياف والدته/ سندس، ووالده/ الحناوي/ الموروث. وهي السلسلة المترابطة التي تتمحور حولها المسرودات والمرويات، ما تنعقد عليه الحالة التي فجَّرت الحدث الروائي من بداياته، وهي الوظيفة التي تقوم بها شخصية الأم لإحكام الحكاية المرتبطة بالمكان وبنوع آخر من المسكوت عنه، وبالقيمة الإنسانية والنفسية والفلسفية الضاربة في جذوره.

ومن ثم تحرص الرواية على تشابك وترابط الأضلاع التي تكون هندسة المتن الواقعي التي تتبنى الشكل الروائي وتحكم السيطرة على محاوره وخطوطه المتوازية والمتقاطعة على حد السواء، حيث يبدو التوازي الذي تعمل عليه الحالة السردية – كنموذج - في ربط ما يحدث في ذات الوقت على صعيدين يقعان في إطار الحكي: صعيد ولادة غصوب (الشقيق العاجز) وصعيد وجود الأب في الحرب، حيث يأتي الحكي بصوت الأم:

"الصغير كان ينام في عيني جدته ليس بوجهه، بل بوجه والده التائه في صحراء شاسعة يبحث عن مخبأ يلوذ إليه، هربا من موت محقق يلاحقه في كل لحظة، يثبت وجوده في أجساد رفقاء السلاح الذين يتساقطون على رمال ساخنة تلهبها عين شمس لا ترمد أبدا في مثل هذا الوقت من كل عام" ص 36/37

وهي النبذة التاريخية التي تعبر عن مدى الارتباط الضمني النفسي والمعنوي بالمكان، وتماهي حالات الأزمة والانكسار بين مولود يتيم الأم، وأب يلاقي الأهوال في حرب ترتبط بالجانب الآخر من المكان الذي يحمل الهوية المشتركة بينهما، حيث تنمحي هويتهما بفعل التوازي الإنساني والحكائي الذي يؤطر لحالة من الانهزام تطبع سماتها وتفاصيلها على كل من الواقع والذوات التي تدور في فلكه، في مفارقة عجيبة يسوقها حس التفلسف في السياق الحكائي للسيدة العجوز..

في حين ينتقل المشهد السردي إلى موضع آخر من المواضع الحسية الراصدة لفعاليات العلاقة الشائهة/ المشتهاة بين غصوب، ورقية التي تمثل أيقونة الغواية والفتنة على مستويي الواقع والرمز الذي ربما أحالتها إليها الرواية بحسها الضمني المتواطئ مع فلسفة الحالة التي يمثل فيها الرمز دورًا مؤثرًا ومجسدًا للمفهوم الأعلى للفتنة التي تعادل "فتنة الوجود" وحيازة الحياة بملذاتها وقيمتها الفطرية التي ينبني عليها الصراع البشري منذ قديم الأزل، وهو ما يشي به المشهد السردي بالغ التأثير والدلالة على التحول الناقص دائما والذي تعوزه القدرة، مما يبرز العجز في أوج صوره:

"يتعجب غصُّوب من تحوُّل عينيه إلى عيني صقر، كلما جلست رقية على كرسي التسريحة المذهب. تعوَّد أن تكون النظرة كاملة لها، فنصف نظرة لن تسجل شيئا، ولن تجعله في عالم متقن، ما لم يفتح له أبواب ما كان بمفرداته، تمتد عينه إلى حديث لا يسمعه غيره، فما أن تجلس إلا ويعانق تمدد مؤخرتها، تصبح مهروسة وفائضة عن جذعها تماما كعيش الغراب. قاعدة واسعة وعود ممتد، ومهما بسط الآن الخيال له رقعة تخصه، لكن لا يكون له إلا ما كان، فلن يضيف جديدا فكل شيء يريده لن يجربه" ص61

هنا تبدو فلسفة التفاصيل، وفلسفة التعامل معها لإبراز ملامح الفتنة والاستغراق فيها والضغط بها على وعي كل من الشخصية والمتلقي المتحفز لاستجلاء الحقيقة على وجه التحديد، واللعب على وتر الحواس المبتورة الذي يمثل استيعاضًا عن قوة غريزية مكبوتة ومنحبسة وإمعانًا في الإحساس بالفقد والقهر والانهزام في ذات الوقت، ليتجسد حس إيروسي مفعم بالضعف والتخاذل وعدم القدرة على الاكتمال والتبلور والوصول إلى حالة النشوة المرتجاة.

وهو الدور الفاعل القوي الذي يقوم به ضمير الغائب/ الصوت السردي الغالب القادر على الهيمنة على المشهد الروائي الدافع لحركة السرد إضافة إلى عنصر الحوار الذي يجد النص له دورًا مكملًا كي يضع الأمور على حافة الغليان:

  • في باب واحد بيدخل منه شعاع نور، فيكشف كل حاجة، وبقدر ما بيثير من رغبة في التعلق بالحياة، فهو في نفس الوقت يوجد الخوف من لحظات تأتي بعد غيابه، ويكون الواحد أسير للمكونات المنتشرة في مكان يصعب عليه التخلص من مكون واحد منه، رغبتك للخروج من الدوامة بتدفعك لأن توجد النور ده، وده مش سببه حب الوضوح، لأ ده بسبب الخوف." ص68

هكذا تنمو الحكاية/ المسرودة الرئيسة من خلال تضافر تلك العناصر التقنية التي ربما رصدت ولخصت في ذات الآن لتلك الأزمة ودواعيها، وتداعيات وجودها على السطح الخارجي لتلك الذوات المرتبط بمعادلات وجودها بفلسفة التعامل مع الأمور والأشياء والمحاولات المتعددة لتحويلها إلى منطق وواقع.

فلسفة الحالة الوجدانية:
تبدو تلك النزعة الإنسانية نحو خلق عالم مواز متخيل تتنفس فيه الذوات قدرتها على الفعل الموازي أو شبه الفعل، من خلال فلسفة الحالة الآنية التي تبدو مشتعلة هنا في نموذج صابر/ "ثورة" تلك الشخصية الإشكالية التي تطرأ على النص لتحول من مساره وتلقي بفلسفة وجودها، على شخصية النص الرئيسة/ صابر لتفجر لديه مكامن الوجود الموازي لشخصية الذكر المقهور بفعل الوصاية/ الإجبار/ الاستلاب، ربما ليصنع وجودها نصًا روائيًا موازيًا يلعب على الحواس ومحاولة إيجاد مخرج نفسي لما يدور على الجانب الرئيس للرواية، واشتعال الأحداث والتواريخ فيها، بل وترفده بكسر نمط التعامل مع حالة المكان الآسر المهيمن على الأحداث الرئيسة للرواية الواقعة في غرام الحكي، وهو اتجاه يعمِّق من المفهوم النفسي للشخوص ويجردها مما يسترها من أسمال ليعريها أمام ذاتها، ويضعها على محك جديد من محكات الإحساس بالألم بفلسفة مغايرة، ولننظر لما يسبغه ضمير الأنا المتكلم على حركة الكشف بالنص:

"أنا سيدة الأماكن والأزمنة، حين عرفت كلمة أنسب مرادفة للنور، تحوَّلت لعرَّافة تنبأت بأنك تريد كتابة حكايتك التي لا أعرفها، فأنا العرَّافة المتشحة بالسواد، به وله أتجمل، لا أملك كرة بللورية ولا أكلم الجان. أنا العرَّافة التي تملك الإنسانية والحاسة السابعة. أخبرني كيف وصلت للمستور لمخدعي، لغرفتي، لفوق رأسي." ص 101/102

يرسم النص هنا صورة مغايرة لنموذج المرأة التي تتشح بالفكر والفلسفة والفتنة والإثارة جميعها، بوقوعها في طيات حالة مسكوت عنها من علاقات جنسية تحاول تبريرها وتقنينها وفلسفتها وحصرها في زاوية الاكتمال واليوتوبيا والحكمة الزائدة التي ربما كانت مفتعلة إلى حد بعيد، يلازمها شعور بالتعالي والإقدام في ذات الوقت على تفريغ تلك الأعراض النفسية المكبوتة بداخلها في مواجهة هذا النموذج الذكوري المختلف، والذي يعاني على الطرف الآخر من حياته من متلازمة القهر والواجب، وربما كان الجنس في جانب مسكوت عنه خفي من حياته هو ما يقوم من خلاله بعملية التفريغ النفسي، مع ما يعترك بداخله من جمع بين الفكر والصوفية والشهوة معا.. تلك الشهوة/ الفتنة التي يرفضها على المستوى القيمي في حالة وجوده كبديل لشقيق عاجز!!

"حاولت الهروب من الفكرة، فكان وجه المهرج يجذبني، ثم يمارس سطوته عليّ وكنت أراه في أحلامي وهو يضحك، وفي الصباح أذهب بعيدا، أكون في مكان لا يراني فيه أحد، وفي كل مرة يقفز المدرس إلى السطح وهو يوصيني: "راجع نفسك".. ولأني أؤمن بأن الخوف في كثير من الأحيان يحرمنا من الحياة، صاحبت المهرج الذي يعيش بداخلي، هل ترين أني أنا من عمق وجوده؟.. أم كان عليّ أن أتبع نصيحة المدرس؟" ص 110/111

تأتي فكرة المهرج التي تواترت على مدار النص الروائي، كمخرج نفسي يستند إلى فكرة فلسفة التعامل مع الحالة، ومن ثم الهروب من الواقع، يحمل سمات التلون والتستر خلف المساحيق والألوان المبهرجة، محققة إلى حد بعيد هذا الزخم الشعوري بوطأة القهر الذي يمارسه الواقع/ البيئة المحيطة على تلك الشخصية ما يجعل تشظيها وتفتتها على المستوى النفسي والواقعي وانفلاتها عن المعايير الظاهرة لسلوكها، ومن ثم انغماسها في الملذات خفية. هو الناتج الحقيقي الذي يفرض تداعياته على كل ما يدور حوله، فهو المنفصل عن تلك البيئة نفسيًا ودلاليًا، وهي الصورة النفسية التي نجح النص إلى حد بعيد في تجسيدها وإيجاد مواز لها في شخصية (ثورة) الشبيهة به، عميقة الغور بالغة الهشاشة والضعف في ذات الآن.

ذلك الملمح الذي ربما عاد بنا مرة أخرى لعقد جدل العلاقة النفسية المرتبطة في نموذج غصوب/ رقية، ونمط تعامل كل منهما النفسي للوصول إلى عمق يفلسف تلك النزعة ما بين رغبة/ فتنة يعمل عدم تحقيقها على انتهاب الذات واستلابها ووجودها القسري في منطقة التهاب المشاعر والملذات والرغبات والدخول في نطاق "الفاكهة المحرمة"، وبالقناعات الظاهرة/ البادية التي تخفي أكثر مما تبطن، على العكس من حالة القناعة والرضوخ الزائفين واللذين يبدوان من خلال المشهدية الدالة على التورط الضمني والمحسوس الذي ينخر في النفس ويزيد من آلامها، ولكن بفلسفة أخرى موازية للنموذج السابق:

"النظرة الأخيرة بحذرها الزائد، جعلته يرتعش، ويسقط بعينيه على الظهر مرة ثانية في رحلة عودته، يعانقه بنظرة تجعله يخزن أدق التفاصيل، من أجل ذلك سحب وجهه متجنبًا الأسوأ، وعانق مكونات الغرفة بينما انشغلت هي بإعداد الطعام في المطبخ، فلما انتهت وفي اللحظة التي مدت فيها يدها، ورفعت الغطاء عن الحساء ارتفع البخار في دفقات راقبته في ارتفاعه، حينما لامس السقف تشكل وأخذ ملامح إنسان قدر لها رؤيته، فاجتاحتها مشاعر متباينة" ص121/122

هذا الزخم الشعوري الموازي والدال بتفاصيله ورموزه المجسدة لفلسفة تتشكل من رحم المعاناة من جانب شخصية غصوب وافتراس الاشتهاء له على المستويين: الجسدي والمعنوي، ومحاولة التخييل والتهويم من خلال رقية لخلق عالم آخر مواز، وتجاذب أطراف الحوار مع أشياء هلامية دلالة افتقاد الروح التي تريد تمزيق غلالات الجسد وتعبر عن طموحاته وشطحاته وفتنته الموارة.. يحققه النص الروائي في مشهدية بارعة تتحقق فيها الروح (المنهزمة) التي تعمل على الاستغراق في فلسفة الحالة والقدرة على النفاذ إلى أغوارها وتشكيل هذا العالم (المفتقد) الذي قد تتنفس فيه تلك الروح/ الذات حالة وجود للهرب من واقع صادم مستلب، أو على النقيض تثبيت الذات في ذلك الحيز المظلم.

هو ذلك الحس الفلسفي/ النمط، الذي يغلِّف كل ما آلت إليه الحكايات في "ممرات الفتنة" من حيث الوصول إلى تحقيق كلمة السر التي دفعت بها الرواية باب الغواية والفتنة "إشكالية احتلال الجسد" التي ربما تحققت على مستويي: الدناسة، والطهر على حد السواء - وكل بحسب منطقه – فقد تحققت أولًا في حكاية "ثورة" التي بلغت فلسفتها للأمور الوصول إلى حد المنطق، وحد الاستجابة، وحد الانغماس في بؤرة اللذة والغواية والتمكن منها، وتحويلها إلى النقيض الصوفي المتوحد؛ لتحقق حلمًا فلسفيًا خالصًا لذاتها مع "صابر" والتي تأتي من خلال هذا النموذج الحواري التقريري، في تبريرها للوصول إلى حالة التحقق من احتلال الجسد التي تعبر عن الوصول للذة الجنسية أو المعادلة المشتهى تحقيقها:

  • انت عرفت تحتل جسدي لأني ببساطة ما سمحتش للخوف يلمس قلبك وده لأنك عاشق، أو تريده طريقا لك، وأنا كنت زي المجذوب في حلقة ذكر، وكنت باطوف في الحلقة" ص132

على الجانب الآخر الرئيس تبدو النهاية الدالة على الاستسلام لتلك الفلسفة وذلك الوجود القسري الذي تحول إلى وجود حقيقي وفاعل ومحقق لمعادلة تلك الذوات في استنبات أرض جديدة تتغلب على قسوة المحاذير ورهبة التاريخ ورهبة الموروث ورهبة المكان ورهبة الفتنة، إضافة إلى رهبة الذات في مواجهة كل ذلك، لتكون نهاية النص الروائي نهاية بروح (المنطق) تنتصر للطبيعة والروح معًا في تقويم جديد من تقويماتها تتحقق به المعادلة والطلب المستحيل للشقيق العاجز:

"يوقن أنه لا بد أن يخرجها من بوابة الذكريات، ليعيش معها الحاضر ويغادر بوابات الألم ليغرقها في بحيرة اللذة، فيشدها إليه ويخرس كل ثقب يريد أن يعلن الثورة، ويغير من واقع اللحظات فيكون كحامل المسك يعلن عودة الريح من جديد، تستقبلها بكل شغف، وتسأل نفسها: "كيف سأكون في الصباح؟" ص218

وكأن (الثورة) - في هذا المقام وهذه الإحالة - التي تمثلت باسم الشخصية التي فتحت كل المغاليق هي المعادل للانتفاضة على المستويين النفسي والفلسفي اللذين قام عليهما بناء النص الروائي في مجمله، محركا لسلسلة من المتواليات والحكايات والأصوات السردية التي تعاقبت على الرواية لتصنع هذا المزيج المركب.

 

Mohammadattia68@gmail.com

 

 

[1] ممرات الفتنة – رواية – مصطفى البلكي – سلسلة الإبداع القصصي – الهيئة المصرية العامة للكتاب – طبعة أولى - 2017