كثيرة هي الكتب المهمة عن تاريخ العلم، لا سيما بنسخته الغربية التي تصور تفاصيل اللحظة التاريخية اللامعة في وقت ما خلال العصور الوسطى عند اندلاع شرارة الانتقال المذهل للمعرفة من كنف الدين إلى رحاب العلم، ومن مبالغات الميتافيزيقيا إلى صرامة الرياضيات، ومن أشواق الخيمياء إلى معادلات الكيمياء، ومن ثم ذاك المسار التراكمي الذي اتخذته المناهج العلمية الحديثة انطلاقاً من تلك اللحظة المفصلية وصولاً إلى آخر مغامرات الفيزياء الكمية اليوم. لكن كتاب جون - جو ماكفادين، البروفسور البريطاني الإيرلندي الأصل وأستاذ الجزيئيات الجينية بجامعة سري، الصادر حديثاً «الحياة بسيطة» يقدم إضافة نوعية لتلك السردية عبر الإضاءة بشكل كثيف على الدور المحوري الذي كان لمبدأ اعتماد الأبسط في تفسير الأشياء - الشهير بـ«مشرط» أوكام – في التمكين لسيرة العلم الحديث بأن تتبع خطاها التي سلكت إلى وقتنا الراهن، معيداً الاعتبار إلى نهج، يصفه ماكفادين كما لو أنه «العلم بحد ذاته، وكل ممارسة بحثية لا يكون ديدنها ومرجعها قد تصبح أي شيء إلا العلم».
ولعله من اللافت أن «مشرط» أوكام، المبدأ الضامن من طغيان التعقيد على الفكر، غالباً ما يتم تناسيه أو يُساء فهمه على أساس أن أبسط إجابة عن كل مسألة هي أفضلها. ورغم واقعية هذا الأمر في ظروف ما، لكن الوصف الأدق ما زال ذاته كما صيغ لأول مرة باللاتينية عام 1285، أي «لا ينبغي تعدد التفسيرات للمسائل دون ضرورة»، وهو يحثنا عند النظر إلى الظواهر على الالتزام دوماً باختيار أقل التفسيرات تعقيداً أو أبسط النمذجات عند سعينا لتعليلها. فإذا رأينا مثلاً أضواء متحركة في سماء ليلة مظلمة، فالأصل - وفق مشرط أوكام دائما - التفكير في الكيانات المعروفة الموجودة كالطائرات أو الأقمار الصناعية أو الدرونات قبل التسرع واعتبارها صحوناً طائرة آتية من الفضاء! ومع ذلك، فمن المهم إدراك أن مشرط أوكام في النهاية مجرد أداة للتحليل وتوجيه الفكر أكثر منه قانوناً جازماً. فليس الغرض التبسيط المفرط؛ إذ إن نظرية أكثر تعقيداً تشرح الحقائق بشكل أفضل وفق الأدلة التجريبية والمعطيات المتوفرة أوْلى دائماً بالاتباع من نظرية أبسط وأقل كفاءة.
الأمر الأكثر إثارة للدهشة الذي يكشف عنه ماكفايدن هو تلك الأهمية الهائلة لمبدأ البساطة هذا في خلفية مختلف جوانب الحياة دون الاقتصار على مسائل العلم: من زعم ويليام شكسبير بأن «الإيجاز هو روح الطرافة»، إلى خلفية مشهد الحداثة برمته: موسيقى الحد الأدنى، الخطوط المعمارية الرشيقة، النثر الحديث وحتى تصميم الطائرات والقوارب.
تُرَدُّ أول صياغة لمشرط أوكام إلى راهب فرنسيسكاني عاش في أجواء نهاية القرن الثالث الميلادي يدعى ويليام المنسوب إلى ضيعة أوكهام الإنجليزية من ضواحي سري (جنوبي لندن). وفي تلك الأوقات كانت العلوم مجرد استكمال للبحوث اللاهوتية التي يقوم بها الأكليروس. وقد أظهر الراهب الشاب نباهة أهّلته للانتقال إلى أكسفورد، حيث كان رجال الدين يفسرون العالم مستندين إلى عدد كبير من المسلمات المتراكبة، فكان أن استل مشرطه مدعياً بأنها نمذجات متكلفة لا طائل من ورائها في إثبات وجود الله، مصرّاً على أن العلم والدين أقنومان منفصلان، لا ينبغي الخلط بينهما عند تفسير الظواهر، فأولهما يقوم على العقل المحض، والآخر مستمد من الإيمان. ويبدو بأنه أول مفكر - في العالم الغربي أقله -، يقطع وبمشرط حاد كل الحبال بين الأقنومين، في خطوة ثبُت لاحقاً مفصليتها لمسار التطور العلمي والفلسفي والتكنولوجي، ومنحت الأوروبيين بعد عصور ظلام طويلة مفتاحاً ساعدهم على كشف أسرار الكون وبناء التطبيقات الحديثة التي رافقت الثورة الصناعية ونشوء الرأسمالية.
طروحات ويليام لم تك لتمر بيُسر على المؤسسة الدينية المحافظة التي هيمنت على الحياة الثقافية لأوروبا حينها، فوجهت إليه تهمة تدريس الهرطقات، واستدعي للمحاكمة أمام البابا يوحنا الثاني والعشرين في أفينيون - فرنسا الحالية – حيث مقر الكرسي البابوي. استمرت المداولات بشأنه نحو أربع سنوات دون اكتمالها قط؛ مما أجبره على الفرار وفي أثره قوة من الحرس البابوي سعت للقبض عليه بتهمة اتهام قداسة البابا نفسه بالزندقة، لكنه نجا بروحه وقبِل حماية الإمبراطور الروماني المقدس لويس الرابع من بافاريا، ليمضي معظم حياته في تدبيج نصوص لاذعة السخرية عن بنية السلطات السياسية والدينية.
مطاردة ويليام وحظر تداول أفكاره بين المؤمنين وطمس أخباره، لم يمنع مشرط أوكام الذي صاغه من نيل قبول وتقدير مثقفين أوروبيين كثيرين في العقود التالية. نيكولاوس كوبرنيكوس كان أحد المُتبنين الأوائل، وفي مواجهة التعقيد الوحشي للفكرة السائدة بتعدد الهيئات الفلكية التي تدور حول كوكبنا، أعلن في تعليق له عام 1543 بأن الحركات الكوكبية «يمكن حلها بنماذج أقل وأبسط بكثير». وقد قاده وعيه لضرورة تجنب التعقيد غير اللازم إلى وضع نموذجه الشهير للكواكب التي تدور حول الشمس. وقد ميز يوهانس كيبلر فيما بعد تبسيطاً أكبر، حيث وجد ثلاثة قوانين رياضية للحركة الكوكبية تنطبق على جميع الأجسام المدارية - وتم تأكيدها لاحقاً من خلال قوانين إسحق نيوتن للحركة والجاذبية، والتي كانت صالحة على الأرض كما في السماوات. وهذا يؤكد تكهنات كتبها ويليام نفسه قبل نيوتن بنحو 350 عاماً، قال فيها «يبدو لي أن المسألة في السماء هي ذاتها على الأرض، فتعددية نظم التفسير لا ينبغي استدعاؤها دون ضرورة».
ماكفادين يورد في النصف الأول من «الحياة بسيطة» تفاصيل عميقة الإمتاع عن الإطار الثقافي والاجتماعي الذي نشأ فيه ويليام وشهد ولادة المبدأ التحليلي وراء مشرط أوكام ومن ثم توسع دائرة متقبليه، ملقياً في طريق سرده ظلالاً على تصور شائع بأن الفكر الحديث بدأ مع عصر التنوير - الحركة الفكرية والفلسفية التي هيمنت على عالم الأفكار في أوروبا خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر –، مشيراً إلى أن كثيراً من المبادئ الأساس للفكر العلمي صيغت في وقت مبكر قبل شروع رجالات التنوير لاحقاً في وضع نظرياتهم. ويخصص المؤلف النصف الثاني لوصف بعض التطورات الرئيسية في مجال العلوم من غاليليو إلى وقتنا، وإظهار الدور المحوري لمشرط أوكام في الوصول إليها بتوفيره أداة تفكير سمحت لأجيال متعاقبة من العلماء والمهندسين والفلاسفة من دفع المعارف البشرية قدماً.
لا يُنكر ماكفادين بأن الإضاءة على دور مشرط أوكام قد يؤخذ بوصفه احتكاراً غربياً لتاريخ العلم، لكنه يؤكد بأن الفكر الإنساني واحد، كما بحر شرب من أنهار كثيرة: حضارات العراق القديم، ومصر الفرعونية والصين والهند إلى الإغريق والرومان والأندلس وعلماء الإسلام، وأن المسار الأوروبي لم يكن إلا واحداً من تلك الأنهار، وإن وجب دائماً نسب الفضل لأهله - أو «المشرط» لصاحبه إن جاز التعبير -، وهو أمر لم تتوان عنه كل العقول الكبيرة في أي وقت.
عن (الشرق الأوسط)