يضعنا الروائي السوري خليل صويلح مباشرةً في قلب مختبره الإبداعي، مكملاً ما بدأه في كتابيه النقديين السابقين "نزهة الغراب" و"ضد المكتبة" في التنقيب عن عطب المخيلة الجماعية، ومورداً عديد من الملاحظات والوصايا والمقترحات في كتابه الجديد "حفرة الأعمى" الصادر حديثاً عن منشورات المتوسط – إيطاليا. يعلن الكاتب والروائي منذ صفحات الكتاب الأولى أن الإرشادات والبنود والأوهام الواردة فيه يوجهها إلى نفسه قبل أن يوجهها إلى القارئ، معتبراً أن هذه الإرشادات ما هي سوى خريطة طريق سردية للنجاة من "حفرة الأعمى" مستقبلاً.
يهتدي الكاتب إلى وصفة غرائبية لمعت في ذهنه فجأةً حول كتابة رواية متعافية من الشطح والاستطالة، بقصد التخلص مما يسميه "الدهون الضارة في الكتابة السردية" فيقول: "لماذا لا نستفيد من الطريقة التي نتبعها بمكر سردي في الإجابة عن بيانات الاستمارة الأمنية؟". بالطبع، لا يخلو السجل الشخصي لكل شخص من تعبئة استمارة أمنية يوماً ما، سواء في الانتساب إلى وظيفة أو إلى حزب ما، أو إلى جمعية للبيئة، أو في الاستدعاء إلى فرع تحقيق بتهمة ما.
لحظة الانزلاق إلى الكارثة السردية كما يصفها صويلح، تكمن في الإجابة الكاملة عن البنود المطلوبة في الاستمارة. عدا لمحة عن سيرتك الذاتية، والمدارس التي انتسبت إليها، والأحزاب والمدن التي عبرتها، تجد أفخاخاً أشد فتكاً في البنود اللاحقة، وهي أسماء شجرة العائلة. الأمر هنا لا يتعلق باسم الأب والأم والأشقاء، إنما يمتد إلى سلالة الشخص أفقياً وعمودياً. وفي حال كنت غشيماً في السرد، تقع في الحفرة باكراً، إذ عليك أن تورد أسماء الأشقاء والأعمام والخالات والعمات وأزواجهن جميعاً، واتجاهاتهم الأيديولوجية، وعلاقاتهم بالتنظيمات الإرهابية، وهل لديك سجناء سابقاً أو حالياً؟
حكمة التخلي:
الحنكة الروائية كما يسميها صاحب رواية "دع عنك لومي"، تتطلب من الكاتب التخلي عن ثلاثة أرباع العائلة عمداً، وكأنك لا تعرفهم إطلاقاً. فالمرء قد لا يعلم ما هو الاتجاه السياسي لزوج خالته الثالثة التي بالكاد تتذكر سحنته، وهل هو صاحب بقالة أم موظف جمارك، أم قاطع طريق، أم معقب معاملات مُرتشٍ؟ وينصح صويلح أثناء الكتابة وفقاً لوصفة تعبئة بنود الاستمارة الأمنية بدفن ثلاثة من الأعمام على الأقل بميتات طبيعية، أو أمراض سارية، ومحو أسماء ثلاثة من الأشقاء، كي لا تدفع فاتورة الأسماء المنسية لأبنائهم.
يخبرنا ابن مدينة الحسكة السورية، أن مطحنة الرواية اليوم، تمزج القمح والزؤان في وعاء واحد. فالوليمة لا تحتاج إلى تحضير وحطب للموقد، إذ يكفي أن تلتقط حكاية ما كي ترويها، كما لو أنك تحتسي القهوة المرة في مضافة، وتتذكر حكايات الأسلاف. إن معظم الروائيين العرب يقعون اليوم في الحشو والوصف الفائض عن الحاجة، والاستطرادات المجانية، وذلك بالذهاب عمداً إلى كتابة "الرواية البدينة"، وفقاً لتعبير سعيد يقطين في هجاء تلك الروايات الثقيلة الوزن.
لن يكترث أصحاب "الروايات المتورمة" بشحوم الإنشاء بمثل هذه النصيحة الثمينة، فهناك عشرات الأمثلة المضادة التي تساعدهم على تدوين مئات الصفحات ببسالة، متوسلين ما أنجزه نجيب محفوظ في ثلاثيته المعروفة، أو مارسيل بروست في "البحث عن الزمن المفقود". فرحلة الاكتشاف الحقيقية لا تتمثل في البحث عن مناظر طبيعية جديدة، ولكن، في الحصول على عيون جديدة.
الرواية الكاسحة:
يخبرنا صاحب "سارة وزهور وناريمان" أن الموجة الكاسحة في كتابة الرواية اليوم، أفرزت جيلاً بشعار موحد هو: "اكتب مباشرة ولا تنظر إلى الوراء بغضب"، فكل ما حولك هباء، وذلك من باب "عشت لأروي". فليس بالضرورة أن تكون قد قرأت مذكرات غابرييل غارسيا ماركيز، فما تملكه من حكايات شخصية كما يتهيأ لك، يغنيك عن قراءة الآخرين، متسلحاً بيقين الفوضى العمومية في اقتناص لقب روائي، إذ يكفي أن تتسلل إلى شبكة الإنترنت، وتقرأ "اقتباسات المشاهير وأقوالهم "، فتصطاد على عجل عبارة من كافكا، وأخرى من نيتشه، وثالثة من جلال الدين الرومي، وترصعها على صفحتك في "فيسبوك" حتى تنتسب إلى نادي الكتاب بجدارة.
يفتش الكاتب الحائز "جائزة الشيخ زايد للكتاب"عام 2018 عن وصفة ناجعة في كيفية التخلص من الوهن السردي الذي اجتاح إلى حمى الكتابة الروائية العربية اليوم. فليست المشكلة في البدانة أو الهزال فقط، كما يخبرنا، إنما في "الخفة التي لا تحتمل" إذ ستصادفك رواية ما أو روايات منذ صفحاتها الأولى، بمشية عرجاء وبعكاكيز غير مرئية، تستند إليها اللغة، وستفضحها الأخطاء النحوية باكراً. ويستشهد صويلح بقول إدواردو غاليانو: "أنا لا أطلب منك أن تصف سقوط المطر، بل أطلب منك أن تجعلني أتبلل، فكر بالأمر أيها الكاتب". وفي مقطع آخر من الكتاب يورد حكاية "الحمامة المطوقة" التي يسردها ابن المقفع في كتاب "كليلة ودمنة" إذ ينتبه إلى كيفية الخروج من مآزق السرد بمهارة، عبر استلهام هذه القصة.
حماقة اختراع المخطوطات:
ارتكب صويلح "هذه الحماقة" في رواية "وراق الحب"، لكنه يتعهد في الكتاب بعدم تكرارها، وهي رغبة استخدام مخطوط ما، وقع عليه الراوي بمصادفة ما، وها هو يقلب أوراقه البائسة على الملأ بقصد فك ألغازه. روايات بالجملة وقع مؤلفوها اليوم على مخطوطات وهمية، يعدها مفتاحاً ذهبياً في تبرير كتابة رواياتهم، والدخول إلى الغرف المغلقة. في حكايات "ألف ليلة وليلة" وبعض الحكايات التراثية الأخرى، نقع على تحذيرات صارمة من محاولة الدخول إلى غرفة محددة في القصر، لكن معظم روائيي اليوم لا يترددون في اقتحام موقع الكنز، وخلع أقفال الصندوق، واستلال المخطوطات بخفة يد يحسدون عليها، وبتكرار بات مضجراً لفرط استخدامه بالطريقة نفسها.
يذكر الكاتب السوري دون أن يسمي؛ أن أحدهم دس مخطوطاً من القرن التاسع عشر لكاتب مجهول في متن روايته، معنوناً إياه بأنه رواية، متجاهلاً أن مصطلح رواية لم يكن شائعاً في الأصل في ذلك العصر. كان أمين معلوف قد خاض باكراً تجربة جذابة في روايته "سمرقند" عندما أحضر شخصية أميركية من أصول فرنسية، تحمل اسم بنجامين لوساج عمر إلى فرنسا، بقصد العثور على مخطوط نادر لـ"رباعيات" عمر الخيام بعد أن علم بوجود المخطوط هناك، لكن تقلبات القرن التاسع عشر واضطراباته قادت خطواته إلى بلاد فارس، مقتفياً أثر المخطوط، وحين يحصل عليه بمساعدة امرأة فارسية تدعى شيرين، يقرر العودة برفقتها على سفينة تايتانيك في الرحلة المشؤومة التي انتهت بغرق السفينة واختفاء المخطوط.
من الضفة الأخرى يذكر الكتاب أن أنطونيو غالا وقع في هذا الشرك في روايته "المخطوط القرمزي" التي كتبها على لسان أبي عبد الله الصغير، آخر ملوك غرناطة، وذلك بعد مرور خمسة قرون على فردوس الأندلس المفقود، محاولاً إعادة الاعتبار إلى هذا الملك الذي غادر غرناطة باكياً. في المخطوط الوصية يخاطب أبو عبد الله الصغير ولديه أمين وأمينة: "اكتب على الأوراق القرمزية الأخيرة من كل ما أخرجته من أمانة الدولة بالحمراء. ربما كان دافعاً مناسباً، كي لا أكتب أكثر (...)، أقرأ جيداً هذه الأوراق، كي تعرفا كيف، ولكن إذا لم تأخذكما الرغبة، فألقيا بها إلى البحر أو النار، فالأمر سيان".
يشير الكاتب أننا بحاجة إلى استخدام وصية أبي عبد الله الصغير الأخيرة بطمأنينة وراحة بال، ليس بقصد هجاء رواية "المخطوط القرمزي" الممتعة حقاً كما ينوه الكاتب، وإنما لتلبية طلبه حيال عشرات الروايات العربية الرديئة والركيكة التي اتكأت في عمارتها على اكتشاف مخطوط، خصوصاً أنه أتاح لنا خيارين: البحر أو النار!
خديعة المؤرخ:
يرى صويلح أن الرواية هي تاريخ اللا يقين، أو لعلها عملية تنكيل أوتحرش سردي بالتاريخ، وانتهاك للواقع باستثمار التخييل الذاتي. فالروائي بهذا المعنى هو الخيميائي الذي يسعى عن طريق اللغة والخيال والتجربة، للوقوع على الوصفة السحرية لذهب المخيلة، لكنه خلال عمله على الوهم، يتمكن من فضح فجوات التاريخ في المنطقة الفاصلة بين الخيال والحقيقة، متكئاً على أحابيل الكتابة الروائية لمراوغة الممنوعات في تصوير الواقع المعيش. وهو ما يحدث في كتابة السيرة، لجهة الكشف والنسيان، أو "الذاكرة الانتقائية" في تأثيث الوقائع بما لا يؤذي الذات ومحيطها في أول عملية تخييل لتزوير الحقائق.
وتالياً يشير صويلح إلى أن لا كتابة أصيلة من دون مكاشفة، فالكتابة فعل افتضاح وانتهاك. هذا ما فعله غابرييل غارسيا ماركيز في "الجنرال في متاهة" وفرانز كافكا في "المسخ"، وويليام فوكنر في "الصخب والعنف" وخوسيه ساراماغو في "الإنجيل يرويه المسيح"، وذلك بقصد ترميم الثغرات والفجوات والهوامش المنسية، والزوايا المعتمة التي تتجاهلها غالباً كتب التاريخ.
سرديات النزوح والهجرة:
يعتقد الكاتب أن سرديات الألفية الثالثة تتجه تدريجاً إلى أرشفة أوجاع الهجرة والنزوح والمنفى. مكابدات الهروب من جحيم الحروب والكوارث بأمل النجاة وتنفس هواء آخر. بلاد محكومة بالاستبداد، وبشر عالقون بين كابوس الوطن الأصلي، وحلم عبور الحدود نحو الفردوس الأوروبي. قوارب مطاط وغرقى بلا أسماء. ناجون يروون حكاياتهم المرعبة، وموتى منسيون، لكن صويلح يتساءل عندما تكشف الإحصاءات النقدية عن 400 رواية عن الزلزال السوري وحده: أين الرواية وسط هذا الصخب؟
يصاب القارئ بالدهشة ليس لجهة الأرقام فقط، إنما لهذا العدد المهول من الروائيين المجهولين، وكيف تمكنوا من طهو هذه المقادير كلها من دون خبرة سابقة. فثلاثة أرباع هؤلاء - كما يشير صويلح - أتوا حقل الكتابة فجأة، وذلك ليقينهم بأن الحكايات التي سيروونها عن مكابداتهم في النزوح تستحق التدوين، ومن دون أن يكونوا آبهين بالمهارة السردية المطلوبة، واللغة الموازية التي تواكب حجم الكارثة، أو اللغة القلقة تلك التي لا تركن إلى مستقر بلاغي واضح.
اندبندنت عربية