تتأمل الكاتبة التونسية هنا الخريطة الفرويدية للجهاز النفسي، وكيف أن تصورها ينهض على أسس مكانية، برغم اختلاف موضع كل من عناصرها الثلاثة. وتلاحظ غياب بعد الزمن من هذا التصور، وتتساءل عن تأثير ذلك على اكتمال التصور الفرويدي من ناحية وعن أثر غياب البعد الزمني عن حراكها الأساسي.

تغييب الزمن من خريطة فرويد للجهاز النفسي

كاهنة عباس

 

عندما بحث سيجموند فرويد في تركيبة النفس، مثلها بخريطة مقسمة إلى مناطق وحدود وجعل بعضها متصلا  ببعض لطرح نظريته حول ما سماه الجهاز النفسي. مثل هذا التصور يفترض أن تكون النفس فضاء، يتكون من عدة مساحات خاضعة لنظام، كل منها يقوم بوظيفة معينة.

في مرحلة أولى، وتحديدا في كتابة بعنوان (تأويل الأحلام) الصادر سنة  1900، قسم فرويد تلك المساحة، التي تمثل الجهاز النفسي إلى ثلاثة أقسام: هي اللاوعي وما قبل الوعي ثم الوعي وأعتبر أن لكل منها وظيفة تنجزها وأن معرفة طبيعة كل مساحة ووظيفتها، تمكننا من فهم النظام الذي تقوم عليه الحياة النفسية وكيفية اختلاله وبروز بعض الأمراض. إلا أنه أعاد ذلك التقسيم في كتبه الأخرى، منها كتابه بعنوان (الأنا والهو)، ثم كتابه بعنوان (ما يتجاوز مبدئي اللذة والواقع)، الصادرين سنة 1923 وذلك لبيان وإتمام نظريته الأولى.

وحسب هذا التقسيم الأخير، يتكون الجهاز النفسي من ثلاث عناصر هي الآتية ذكرها: الأنا، الأنا الأعلى، والهو، يختص كل عنصر منها بوظيفة معينة، هي مرتبطة بوظائف العناصر الأخرى.

يتضمن الأنا الأعلى القيم الاجتماعية والأخلاقية والقوانين والضوابط الخارجية .

بينما يتكون الهو من مجموعة النزوات والشهوات التي لا تعترف لا بالمكان ولا بالزمان نظرا لكونها لا تخضع إلا لمبدأ اللذة .

لذلك تتمثل مهمة الأنا في التوفيق بين القيم الاجتماعية والثقافية أي الأنا الأعلى وبين النزوات والرغبات التي يطمح الإنسان إلى تحقيقها أي الهو، ويرتبط الأنا بالجسد ويخضع لمبدأ الواقع، ولا يحتل إلا جزءا صغيرا من الوعي، بينما يحتل الهو منطقة اللاوعي ويقع الانا الأعلى بين منطقتي الوعي واللاوعي.

وبين فرويد أن العناصر المكونة للجهاز النفسي (الأنا والأنا الأعلى والهو) تتفاعل في ما بينها إلى حد الصراع والاحتدام  نظرا لخضوعها لديناميكية معينة ،كما بين أن التصورات التي يعبر عنها شخص ما، ليست خاوية ولا مجردة، بل هي محملة بما تزخر به النزوات والرغبات من طاقة ومعنى، ذلك أن الجهاز النفسي خاضع أيضا إلى بعد اقتصادي حسب تعبيره، أي إلى طاقة معينة قد تصطدم بحواجز الكبت، فتتحول إلى مصدر لمعاناة صاحبها، علاوة على البعد المكاني أو خريطة الجهاز النفسي كما بيناها.

وما يهمنا في هذا المجال، ليس نقل وتفسير ما اكتشفه فرويد في مجال علم النفس، بل التصور الذي بنى على أساسه نظريته عند صياغة مفاهيم "الأنا الأعلى" ثم الانا و"الهو" التي مثلها بأنها مساحات متصلة بعضها ببعض، تقوم كل منها بوظيفة ما، ومعنى ذلك أن المقاربة الفرويدية اعتمدت المكان لرسم خارطة النفس على حساب الزمان، وحتى إن كان ذلك على وجه الاستعارة. لكن كيف يمكن تصور أية حركية بين العناصر الثلاثة (الأنا الأعلى والأنا والهو المندمجة داخل مناطق الوعي واللاوعي وما قبل الوعي) دون الأخذ بعين الاعتبار العامل الزمني؟

ألا يخضع التطور النفسي للإنسان كما بينه فرويد في مراحله المتعددة (المرحلة الفمية، الشرجية، القضيبية ثم التناسلية) إلى الزمن؟ وألا تعتبر بعض الأمراض النفسية توقفا لذلك التطور عند مرحلة ما؟ لقد أثبت الطب أن حاجيات الجسم ووظائفه مرتبطة ارتباطا وثيقا بالزمن: مثل الأكل والنوم ونظام الخلايا المتجددة خلال مراحل معينة من حياتنا، مما يجعل نمو الجسد وتطوره مرتبط بالزمن. فهويتنا الذاتية ليست إلا حكاية أو سيرة ذاتية نؤسسها انطلاقا من إحساسنا بالزمن، أي من إدراكنا بالماضي والحاضر والمستقبل، ومعنى ذلك أنه لا يمكن لنا الحديث عن وظيفة الأنا، وعن منطقة الوعي خارج إدراكنا بالزمن لارتباطه بالجسد كما سبق وبيننا. أما حجتنا على ذلك، فمردها أن الشخص الذي فقد ذاكرته مهما كان السبب، هو فاقد لجزء كبير من هويته أي لحكايته الشخصية الفردية أي لما سماه فرويد "الأنا" لتلك المساحة التابعة لوعينا بذاتنا والمرتبطة أيضا بتحولات العالم الخارجي .

لذلك لا بد أن يكون للحيز الزمني مكانته حتى تصبح النفس باعتبارها فضاء ممكنا مرتبطة ارتباطا وثيقا بالزمان، وبالذاكرة المكونة لرواسب النفس وتحولاتها وتعقيداتها ، فالطفولة التي يعتمدها ستيقموند فرويد لتشخيص الأمراض النفسية ليست إلا مرحلة من مراحل حياتنا وهي زمنية دون أدنى شك ولا يمكن تشكيل أي خريطة مفترضة للنفس دون إدماج البعد الزمني. والسؤال المطروح لم أسس فرويد نظريته لبيان مكونات النفس على المكان (كما بيناه دون الزمان إلا باعتباره عرضيا)؟ والجواب الممكن لمثل هذا السؤال هو أن الهو الواقع بمنطقة اللاوعي، لا يدرك الزمان ولا يتأثر به، من وجهة نظر فرويدية الذي يعتبره مصدرا للرغبات الممنوعة، وسببا للأمراض النفسية؛ وبالتالي للصراعات التي يعيشها الإنسان سواء مع نفسه أو مع العالم الخارجي.

لكن ألا يعود ظهور تلك الأمراض إلى توقف نمو شخصية فرد ما في مرحلة من مراحل تطوره كما بينها فرويد؟ ألا يجعلنا ذلك نحتكم بشكل ما إلى البعد الزمني لفهم تلك الأمراض وتشخيصها؟ وصفوة القول، أن الخريطة التي وضعها فرويد لبيان عناصر الجهاز النفسي والقوانين التي تنظمه، هي استعارة لا تنفي تداخل البعد الزمني وأهميته في فهم وبيان ذلك الجهاز، حتى وإن لم يستند إليه فرويد بالقدر الكافي. فاختلال الإدراك بالزمان لدى بعض الأشخاص قد يكون مؤشرا على إصابتهم بمرض نفسي، كما هو الشأن لدى المصابين بالعصاب، لان علاقتنا بالزمان ليست فقط ضربا من ضروب التوازن بيننا وبين العالم الخارجي، بل هي مؤشر أيضا على توازننا النفسي .