تخوض الكاتبة العراقية في موضوع حساس جداً يلقي الضوء على ثقل القيم والأعراف الاجتماعية على الإنسان في وضع ثوري فتروي لنا تفاصيل تأثير تلك القيم على المرأة العراقية المتمردة الملتحقة بثورة مسلحة ومعاناتها في علاقتها الزوجية من زوجها الملتحق معها حيث يتجرد المسؤولين الثوريون من قيم التمرد ويذيقون رفاقهم ما أذاقهم المجتمع العراقي وقيمة الشكلية المزدوجة من قهر وحرمان.

غرفة الرفيقات

ناهدة جابر جاسم

 

مرَّ أكثر من شهر على مكوثي في فصيل المكتب السياسي لم أعتد بعد على طبيعة الحياة في مقرات الثوار في الأماكن التي لا يصلها المرء إلا مشياً على الأقدام وعبور قمم وأنهار ومضايق، حياة قاسية بدائية جداً، لا ماء إسالة لا كهرباء، حمام من الحجر مظلم تماماً تواليت واحدة هي عبارة عن بطانيات مرتبة بحيث تحجب النظر عن المستخدم وتبعد ما يقارب خمسين متراً والحياة العسكرية القاسية من التدريب على السلاح وإتقان استخدامه، وواجب ساعة الحراسة الليلية في عتمة الجبل الشديدة حيث ينتابني شعور في كل نوبة حراسة في ساعة متأخرة من الليل باقتراب نجوم الليل والقمم المحيطة مني حتى تكاد أن تجثم عليّ وكأنني محجوزة في صندوق أسود ضيق فتنحبس أنفاسي فاضطر إلى فتح البطارية اليدوية للحظة لأتأكد من المكان بالرغم من التوصيات بعدم استخدام الضوء كونه سيكون دليلاً في عتمة ليل الجبل في حالة تسلل مفارز الاستخبارات التي تقصف وتنسحب أحياناً، يضاف لكل هذا مبيتنا أنا وزوجي في غرفتين مستقلتين.

 

   كان زواجنا مدنياً بعقد وشرعياً بحكم الأعراف، لكننا لم نسكن في غرفة واحدة، وكان هذا بالنسبة لي أمرأ غريباً في مكان من المفترض أن يكون المثال في ممارسة الحرية واحترام الإنسان ووجوده تحت سقف "الإنسان أثمن رأسمال" لكن وجدت نفسي أعيش تجربة مريرة عشتها في ظروف تخفي زوجي حينما عاد من بين الثوار وسكن في أمكنة سرية تكشفت لي لاحقاً فرض فيها من أخفاه عدم اتصاله بيّ كوني قد أكون خيطاً يصل السلطات إلى مكانه فيما لوكنت مراقبة، وكنت أتفهم الوضع في تلك الظروف وأولئك البشر الذين خاطروا بحياتهم وأخفوا زوجي زمن الدكتاتور والحرب يحاسب فيها الإنسان على كلمة ورأي فكيف بإخفاء ثائر كان يحمل السلاح ويقاتل السلطات، كانت أياماً تطفح بالمرارة وأنا أتحسس بخيالي حضنه الدافئ وهو يعانقني ويعانق ولدنا الوحيد وقتها كفاح، ها أنا أعيش في ظروف أشد مرارة فزوجي قريب لكن يعز عليّ النوم جواره وعناقه وكأن ذلك في عُرف الثوار محروم على الأزواج العناق والوصال. عشت في اضطراب هذه الأفكار والحواس.  

سكنت مع عدد من الرفيقات المتزوجات ورفيقة واحدة لم تكن متزوجة في غرفة أطلق عليها "غرفة الرفيقات". لا تبعد سوى عشرة أمتار عن القاعة التي ينام فيها زوجي مع الرفاق، نساء لم أكن أعرف عنهنَّ أي شيء سوى أسمائهن الحركية، كن حيويات، متحمسات، تحلقن حولي في أول يوم ألتحاقي ورحن يسألنَّ عن الحياة وأحوال الناس في مدن العراق، وهل يعرفون بحركتنا المسلحة وبوجود عراقيات يحملن السلاح من أجل الحرية والعراق والناس ويحاربن الدكتاتور؟، فكنت أروى لهنَّ مشاهدات وملاحظاتي عن انشغال أبناء جلدتنا بمجرى الحياة ، وانصياع من نضحي ونعمل سراً من أجلهم للسلطات خوفاً من بطشها وكأن الدكتاتور قدر نزل على العراق إلا القلة القليلة من أمثالنا الذين يتعرضون للاعتقال والتصفية الجسدية من قوات الأمن الوحشية، كنت أرصد الخيبة والانكسار في عيونهنّ المحلقة في وجهي، وكانت أجسادهنَّ تتشنج ويطلقنّ صيحات الدهشة حينما رويت لهنَّ قصصاً من مدينتي أعرف أصحابها عن أبناء وشوا بالآباء، وعن أباء سلموا أبنائهم الفارين من الجبهات للسلطات فاعدموا.

كنتُ مع ست رفيقات، هدى، زينة، مجده، أم وهاب، ونغم.

قبل أن أسكن غرفة الرفيقات، كان الأزواج ينامون مع زوجاتهم في الغرفة نفسها، حيث تتجاور الأجساد في ضيق الغرفة والظلام، لكنني منذ الوهلة الأولى رفضت النوم وسط هذا الجو، حيث يشاركني بخصوصية علاقتي الحميمة رفاق ورفيقات فبالرغم من حلكة الغرفة، لكن فيها تتحول الأذان إلى عيون ترى أقل صوت مجسداً، رفضتُ الفكرة التي تعرض خصوصية لحظة توهج مشاعري وجسدي وهو يمنح كُلي لشريك حياتي، اعتبر هذه اللحظات خاصة جدا مقدسة وتخصني وتخص الساكن كياني.

كيفَ لي وصف مشهد لحظة رفضي؛ تبدلت نبرة أصواتهن خفتت مكسورة، تأتأنَّ بكلام مبهم، لم يستطعنّ الرد حينما بينت السبب وخصوصية سرير الزوجية وصار الاتفاق فانتقل أزواج الرفيقات إلى قاعة الرفاق حيث ينام زوجي، لأذوق لاحقاً لوعة عطش الجسد وحاجة الروح للارتواء من حنان ودفء جسد شريك الحياة الغافي في وسط أجساد الرفاق المحرومين من دفء العائلة والأم والزوجة، كان قرار قيادة القاطع بحرمان الأزواج من بناء غرف صغيرة خاصة بهم غير مبرر فالوادي كبير و شاسع وعميق ووعر من الصعوبة على قوات السلطة الوصول إليه.

على أساس موقفي لم يعد يسمح للأزواج بالمبيت مع زوجاتهم في الغرفة، لكن جرى أتفاق بين الزوجات على السماح للزوج الذاهب بمهمة في مفرزة تطول عادة أكثر من عشرة أيام المبيت مع زوجته وسط الرفيقات بما يحاكي سرير الوداع، فليس من المؤكد عودته، إذ تقع بعض المفارز المتوجهة من مقرنا "زيوة" خلف العمادية إلى مقر "لولان" في المثلث الحدودي العراقي الإيراني التركي في كمائن تنصبها قوات الجندرمة التركية حين تضطر المفارز لدخول الأراضي التركية في طريقها، كما حدث لمفرزة كبيرة استشهدت فيها الرفيقة "أنسام" في السنة التالية للأحداث التي أرويها.

وبمرور الأيام وتراكم الليالي الموحشة وشوق الجسد لعناق الحبيب والغور به، ولوعة الرغبة المكتومة في احتواء الآخر القريب البعيد الراقد بين أجساد الرفاق في القاعة المجاورة، المتقلب هو الآخر بجمر رغبته في احتواء جسد الزوجة الحبيبة الذي خبرَّ مفاتنه ومباهجه، أدركت بوقتٍ متأخر مرارة الخيبة التي ارتسمت على قسماتهن ومدى عمق الخذلان الذي جعلهن يصمتن وأنا أرفض بشدة نوم الأزواج بشكلٍ مشترك في نفس الغرفة.

 

عشتُ ورفيقاتي تجربة سحق المشاعر وكتمها في تجربة شديدة القسوة بالإضافة إلى مشاق الحياة وصعوبة المهام اليومية، من السير مسافات طويلة وصعود السفوح إلى الغابات البعيدة وتجميع وحمل الأشجار التي يقطّعها الرفاق والتي يسقطها القصف المدفعي، و استخدامها للطهي و لتسخين الماء لغرض الاستحمام، وغسل الصحون، والحراسات، مشاق يومية جعلها الحرمان من جسد الشريك القريب البعيد أشد وطأةً، فعشت الأمرين الحرمان من دفء الشريك الذي كان سيخفف لوعة ترك فلذة كبدي "كفاح" في مدينتي الجنوبية البعيدة الذي كنت أحلم كل مساء بأصابعه تلعب في شعري و أنفاسه الدافئة تلفح وجهي.