(الجزيرة) - عندما شنت الولايات المتحدة حربا لإعادة تشكيل الشرق الأوسط في عام 2003، انتقد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الطموح الأميركي ودافع عن المؤسسات الدولية والتعددية والسيادة الوطنية، لكن الصورة الآن تبدو معاكسة مع تطورات الحرب الروسية على أوكرانيا.
وفي مقاله بصحيفة نيويورك تايمز (The New York Times) كتب المحلل السياسي الشاب روس دوثات أن موقف بوتين إبان حرب العراق كان يدعو للتهكم وينطلق من مصلحته الخاصة إلى أقصى حد، لكن الأحداث التي تكشّفَ عنها الغزو الأميركي المتغطرس أثبتت وجاهته فيما بعد، حيث كشف فشل الولايات المتحدة في العراق ثم في أفغانستان تحديات الغزو ومخاطر الاحتلال والتداعيات غير المقصودة للحرب، بحسب الكاتب.
وواصلت روسيا بقيادة الرئيس فلاديمير بوتين، والتي استفادت إلى حد كبير من الحماقات التي ارتكبتها أميركا، انبعاثها المتدرج، من خلال الاستيلاء بدهاء على الأراضي على نطاق محدود في مناطق "الصراعات المجمدة"، وتوسيع نفوذها بحذر.
مقامرة كبرى
لكن الآن يقوم بوتين بمقامرة تاريخية عالمية، ويتبنى نسخة أكثر شرا من الرؤية التي قادت جورج دبليو بوش في السابق إلى طريق الخطأ. ويجدر بنا أن نتساءل هنا عن سبب إقدام زعيم كان يبدو في الماضي مدركا لمخاطر الغطرسة على خوض هذه المقامرة الآن؟
ويقول الكاتب -مؤلف كتاب "المجتمع المنحل: كيف أصبحنا ضحايا نجاحنا"- إنه يعتقد بأن بوتين كان صادقًا عندما انتقد حصار روسيا من قبل الناتو وأصر على أن النفوذ الغربي يهدد العلاقة التاريخية بين أوكرانيا وروسيا. ومن الواضح أنه يرى فرصة سانحة في الفوضى المترتبة على تفشي وباء كورونا، والتوسع الإمبراطوري لأميركا والانقسام الداخلي الذي يعاني منه الغرب.
لكن رغم ذلك فإن كل السيناريوهات -بما فيها السيناريو الأكثر نجاحًا لغزو أوكرانيا بالنسبة لبوتين، والذي يتوقع تحقيق نصر سهل وعدم مواجهة تمرد حقيقي وتنصيب حكومة موالية في كييف- ستؤدي على الأرجح إلى تقويض بعض المصالح التي يقاتل الجيش الروسي دفاعا عنها.
وسيظل الناتو محاصرًا لغرب روسيا تقريبًا، وقد ينضم مزيد من الدول إلى الحلف، كما سيزيد الإنفاق العسكري الأوروبي، وسنشهد الدفع بمزيد من القوات والآليات العسكرية نحو أوروبا الشرقية. ناهيك عن الضغط من أجل استقلال أوروبا في مجال الطاقة، وبعض المحاولات للاستغناء على المدى الطويل عن خطوط أنابيب الغاز والإنتاج الروسي.
وستكون الإمبراطورية الروسية المعاد تشكيلها أكثر فقرا وأشد عزلة عن الاقتصاد العالمي، في مواجهة الغرب الذي سيتعزز اتحاده، وكل ما سبق بافتراض عدم وجود احتلال طاحن أو مشاعر رفض مناهضة للحرب داخل روسيا.
عالم مقسم لحضارات دول
ويقول الكاتب إنه من الممكن أن يكون بوتين قد افترض أن الغرب فاسد للغاية وأن من السهل شراءه، للحد الذي ستمر معه نوبات الغضب ويستأنف علاقته المعتادة معه في السابق دون أي عواقب طويلة المدى. لكن لنفترض أنه يتوقع حدوث بعض هذه العواقب بما في ذلك مستقبل أكثر عزلة لبلاده، فما الذي يدفعه لاختيار هذا الطريق؟
قد يكون الجواب هو أن بوتين يعتقد أن عصر قيادة أميركا للعالم في نهايته لا محالة، وأن بعض الجدران التي فرضها الوباء ستبقى في كل مكان، وأن الهدف خلال الـ50 عامًا المقبلة هو تعزيز ما يمكن تعزيزه من الموارد والمواهب والشعوب والأراضي داخل أسوار حضارتك الخاصة.
وانطلاقا من هذه الرؤية، فإن المستقبل ليس لإمبراطورية عالمية ليبرالية، ولا يحمل حربًا باردة متجددة بين قوتين عالميتين متنافستين. بل المستقبل لعالم مقسم إلى ضرب مما أطلق عليه برونو ماسيس الباحث بمعهد هدسون الأميركي "حضارات دول"، وهي قوى عظمى متماسكة ثقافيا لا تطمح للهيمنة على العالم، بل تطمح لأن تكّون عالمها الخاص بها على حدة، تحت مظلتها النووية الخاصة.
هذه الفكرة، التي تحمل رائحة حجج المنظر السياسي الأميركي صامويل هنتنغتون في "صراع الحضارات" الذي راج في الجيل الماضي، تؤثر بوضوح على العديد من القوى الصاعدة في العالم -من أيديولوجية هندوتفا (Hindutva) التي يتبناها رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي إلى التحول ضد التبادل الثقافي والتأثير الغربي عند شي جين بينغ رئيس الصين.
ويأمل ماسيس أن يقود ضرب من الحمية للحضارة إلى إعادة إحياء أوروبا، وربما توفر مغامرة بوتين حافزا لتماسك قاري أقوى. وحتى داخل الولايات المتحدة، يمكن أن ينظر إلى عودة ظهور القومية الاقتصادية والحروب المتعلقة بالهوية الوطنية على أنها تحول نحو هذا النوع من الاهتمامات الحضارية.
الإقناع والقوة في العالم الروسي
في ضوء ما سبق، يبدو غزو أوكرانيا ضربا من التمسك المسعور بالحضارة، ومحاولة لتشكيل ما يطلق عليه الكاتب القومي الروسي أناتولي كارلين "العالم الروسي" باستخدام القوة، أي خلق "حضارة تكنولوجية قائمة بذاتها، مكتملة بنظامها البيئي الخاص وبتكنولوجيا المعلومات الخاصة بها.. ومشروعها الفضائي، ورؤيتها التكنولوجية.. تمتد من بريست (في بيلاروسيا) إلى فلاديفوستوك (أقصى شرق روسيا)".
والهدف هنا ليس إشعال ثورة عالمية أو غزو العالم، بل الاحتواء الذاتي الحضاري وتوحيد "تاريخنا وثقافتنا ومساحتنا الروحية" كما عبر عن ذلك بوتين في خطابه عن "الحرب مع بعض الأطفال الضالين" (كناية عن الدول التي تحاول الابتعاد عن نفوذ روسيا) الذين يسعى لجرهم للعودة إلى الوطن رغم عدم رغبتهم في ذلك.
لكن إذا لم تستطع دولتك الحضارية جذب الأطفال المنفصلين عنها بالإقناع، فهل يمكن حقا إبقاؤهم داخلها بالقوة؟ حتى لو نجح الغزو، ألن يجد الكثير من الشعب الأوكراني -خاصة الشباب وأصحاب المواهب والطموح- طرقًا للفرار أو الهجرة، تاركين بوتين ليرث بلدًا فقيرًا محطمًا ومليئًا بالمتقاعدين؟
وإلى أي حد ستكون الرؤية القومية للاكتفاء الذاتي الروسي خيالية، ألا يمكن أن ينتهي المطاف بروسيا الكبرى -وفق رؤية بوتين- إلى أن تكون مجرد عميل أو تابع للصين تجذبها جاذبية بكين الأقوى إلى علاقة أكثر تبعية كلما زادت علاقاتها معها وضعفت روابطها بأوروبا؟
تلك هي التحديات -كما يختم الكاتب- بعيدة المدى لرؤية بوتين التي تقبل الاكتفاء بالذات والعزلة ثمنا لتوحيد روسيا. لكن في الوقت الراهن، وطالما أن الأوكرانيين مستمرون في القتال، فهناك أمل في أن لا يحتاج بوتين لمواجهة التداعيات طويلة الأمد لإستراتيجيته، وأن يسجل التاريخ، الذي يتخيل الرئيس الروسي أنه يصنعه، هزيمته!