تكشف الباحثة وناقدة المسرح السورية المرموقة عن تبلور مشروع مسرحي متفرد في سوريا متعالق مع البشر الذين يفعلونه في مجتمع راح ينشرخ بحدّة، منذ عقدين ونيف، إلى فئتي المهيمن والتابع، بعد أن أُجبرت .الفئة الاجتماعيّة الوسطى على التردي في إثم الانزياح إلى الحضيض والهامش المفقر

عن أسامة غنم ومختبر دمشق المسرحي

أثير محمد على

 

أسامة غنم (1975-) فنانٌ يختزل في شخصه جيلًا طليعيًّا كان مقدّر له أن يكون في واقع المسرح السوري، بيد أنّه لم يكن. وما زال أسامة يحمل على كاهله أنواء السنين التي مرّت على البلد، يتابع الاشتغال المسرحي في سورية وسط احتدام الخراب والمُلمّات، وبراثن صراعات أخلاقيّة لم تعرفها الأجيال الأسبق عهدًا. معه تحضر الثقافة كمشيئة لا مردّ لها، وفيها تتبدّى محاولة القول بصيرورةٍ تأتي على وهم الثابت؛ لأنَّ كل شيء إلى تغيّر وتحوّل.
ويندرج عمل أسامة في الفضاء الذي ما زال مُستَنْكَرًا من قبل الكثيرين. وهو فضاء راح ينمو منذ تفجرات العنف وهمجيّة التدمير، وفيه تتحاور يوميّات الناس رافضةً الاصطفاف خلف خطاب مُستعمِلي السياسة الذرائعيّة الذي يَتوكَّأ على «الأغيار»: مفهومٌ مستجلبٌ من التفكير الإقصائي والانحيازات الدينيّة، يلغي السياق ويقسم البشر إلى قطعان جوهرانيّة، تتوزع على ثنائيّات تراتبيّة الأقطاب («نحن»، «هم»)، («مع»، «ضدّ»). مفهوٌم يقيم في الذهن أسلاكًا شائكةً مصطنعة تعيق سجال الثقافة الجامعة بكل مواردها المتعددة والمختلفة على تساويها. مع أسامة غنم يعصف بنا الإحساس بالـ«نحن» المنفتحة على أهل البلد أجمعين، مقيمين ومُرحَّلين. ومع سياقات هذه «النحن» يتجلّى جدل التاريخ وحراك الجمع وغمغمة المفرد، وفيها يكمُنُ معنى اليأس الظاهر للعين كما الأمل المفترض.
مثقّفٌ موسوعيّ يمتلكُ مخيلة شديدة الامتداد وذاكرة لاقطة، علاوة على حساسيةٍ مغايرة، ومفرد مقدرة إبداعيّة على ابتكار «الوهم» الجميل من حنظليّة الواقع؛ وقبل أيّ شيء يمتلك مشروعًا فنيًّا-إنسانيًّا يرزح تحت حِملٍ ثقيلٍ. وتعبير «المشروع» هنا يرادف «المجازفة» في راهن المعيش السوري الراكدِ في الشقاء وانتزاع اللقمة المغموسة بالدم، وسط بُحْران تداولات سوق الحرب، وسُعَار استهلاكِ فنونٍ تَسْتخِفّ طَبائِعُها بالعقول وتَستَبِدّ. يتعامل أسامة غنم مع سيرورة واقعٍ مريع بضلاله التاريخي. يتحركُ في قلب الضجيج الناسوتي وسكونه. يستقرئ الوجوه الباحثة عن الرحمة والعدل، ويحملق في عمق الأشياء حتى الصامتة المستعصية على الفهم، أو تلك التي تكاد تكون مندثرة المعالم في وسائل الإعلام المتعارف عليها. يَنصُرُ الكائن الحيّ الآتي من سقط المتاع وحطام الدنيا في مدينة تغصّ بمعاني السُخام والعَرَق والبُصاق. يبذل ما في وسعه كي يكون الفنّ المسرحيّ ضرورة وحاجة حياتيّة للمهتمين بالفنّ وغيرهم ما استطاع له سبيلا. وينافح عن مصائر شغيلة المسرح وجمهوره بالفعل إخراجًا وكتابًة، فضلًا عن التدريس في المعهد العالي للفنون المسرحيّة بدمشق، وإقامة ورش عمل حول مرتكزات المسرح العمليّة والنظريّة ... إلى أن ينفثَ في الخشبة والصالة والكواليس وقاعة الدرس ومشواره اليوميّ حتى منزله في حي العفيف الدمشقيّ روح الفنّ والتفكير النقديّ وجِدال العيش المشترك واستنفاد حدود الممكن السوريّ.

مختبر دمشق المسرحي:
قبل أن ينجز أسامة غنم مسرحية «شمس ومجد» تأليفًا وإخراجًا (خريف 2021)، ويقدّمها في «مسرح فواز الساجر» (الدائري) في المعهد العالي للفنون المسرحيّة في دمشق، كان قد أنشأ سنة 2009 «مختبر دمشق المسرحي» كمقترح تجريبي جمالي، ومحترف تدريبي يقوم على النقاش الحرّ والتَبصّر في الأعمال الفنيّة المعاصرة وجماليّات ما بعد الحداثة أو ما بعد الدراما، والمنجزات التي أضحَتْ من كلاسيكيّات القرن العشرين الحداثيّة (الدراميّة والملحميّة والعبثيّة)، وكذلك التقاليد المسرحيّة عامةً؛ فضلًا عن مقاربة الخبرات التقنيّة المختلفة واشتغالاتها مع الممثل والمتلقي، وعلاقتها مع بقية الفنون على مدار سيرورة العرض المسرحي. وبالتالي حرص على تأسيس مساءلة مسرحيّة تناهض سكونيّة الاستنساخ وجاهزيّة الانقلاب إلى ناموس، أو الزوال بانقضاء اللحظة. بمعنى أنّها مساءلة ثقافيّة تسعى لمراكمة التجربة وهي تخلق فنًّا يشدّد على البحث المستمر وتلمّس الحلول؛ وتموضع العلاقة بين المخرج والممثل في حيّز الحوار والتلقي المتبادل، وتقاسم لحظة الخلق الإبداعي المشترك أثناء العرض كلّ ليلة وليلة تالية.
يكفي تأمّل المادة المسرحيّة الخام التي اقتبسها وعالجها أسامة غنم كدراماتورج وقدمها كمخرج، حتى يُستَدلّ على نوعية الجمال والهمّ الثقافي الذي شغل باله وما زال. وكذلك، يُستَدّل على وعيه بلا مركزيّة «ما هو جميل» من جهة واشتباكه بتاريخه من جهة أخرى. الأمر الذي يقود للقول بأنّ ارتباط عروض المختبر بزمانها لا يتجلّى بالموضوع المقدّم، وإنما بالتقنيّة وكيفيّة علاج الموضوع والمادة المسرحيّة ككلّ. فقد أنجز المختبر عروضًا انزاحتْ عن الفنيّة التي درجتْ العادة على تقديمها فوق الخشبة السوريّة منذ أزمان آباء مسرح السبعينيّات والثمانينيّات. وعمد إلى توسيع آفاق الخيارات المسرحيّة، وانتقاء أعمالٍ متنوعة المصادر الإبداعيّة. وهي: «الشريط الأخير» (2009) عن مسرحيّة الأيرلندي صموئيل بيكيت. و«حدث ذلك غدًا» (2010) عن توليفة نصيّة تعود مرجعيتها لـ: «ما يطلبه الجمهور» للألماني فرانز كزافيه كروتز، ومونولوجي «عاهرة المصح العقلي» و«حدث ذلك غدًا» للإيطاليين داريو فو وفرانكا راميه، ومشهد من مسرحية «تسوّق ومضاجعة» للإنجليزي مارك رافنهيل. ثم قدّم عرض «العودة إلى البيت» (2013) عن مسرحية الإنجليزي هارولد بينتر. وعرض «زجاج» (2016) انطلاقًا من «مجموعة التماثيل الزجاجيّة» للأمريكي تينيسي وليامز. و«دراما» عن مسرحية «غرب حقيقي» (2018) للأمريكي سام شيبارد. كما قدم في تونس عرض «فويتسك» (2019) للألماني جورج بوشنر.
يمكن القول إنّ هذه النصوص تميل في العمق إلى عدم اقتلاع الفرد-المفرد من شرطه التاريخي وبعده الإنسانيّ، كما أنّها تعبر عن زمنها، الثقافي والأخلاقي والسياسي، وما يفيض عنه من أزمنة قادمة، وعليه تنشقّ جمالياتها عن القول الأوحد باتجاه تعدد التأويل والانفتاح على القراءات الحرّة واحتمالات العرض في أمكنة وآوِنَة مغايرة أُخرى.
ومن الواضح أنّ التوجه الجمالي والفكري العام للمختبر، قد قاد أسامة غنم إلى اقتراحِ عروضٍ اعتبارًا من هذه الأعمال، ليس لأنّها تقوى على حمل حجته الدراماتورجيّة ورؤيته الإخراجيّة فقط؛ بل كذلك لصعوبة وصولها للجمهور لأسباب شتى، أهمّها أنّ نصوصها غير مترجمة، أو أنّ ترجمتها ضعيفة مسرحيًّا. فساعد بذلك على تحقيق عروة بين لحظة مسرحه مع الريبورتوار العالمي الحالي.
ويشير مسار المختبر إلى أنّ مسرح أسامة غنم متعالق مع البشر الذين يفعلونه في مجتمع راح ينشرخ بحدّة، منذ عقدين ونيف، إلى فئتي المهيمن والتابع، بعد أن أُجبرت الفئة الاجتماعيّة الوسطى على التردي في إثم الانزياح إلى الحضيض والهامش المفقر. وضمن هذا الظرف يشتبك فنّ أسامة غنم مع المعترين في «مسرح الدنيا العظيم» وصولًا إلى الفنانين والمتفرجين وشغيلة المسرح.
أما عن ممارسة الكتابة الدراماتورجيّة الركحيّة، فيمكن القول إنّ النص البدئي، المجلوب أو المهاجر من ثقافة أخرى، امتثل لإعادة التأليف كي يولد راضيًا مرضيًّا، قانعًا بسحنته المرئيّة المُستجِدّة التي تسنح له بولوج حيز اللعب المسرحي تارةً أخرى. ومن المهم التأكيد على أنّ أسامة غنم يقارب الأدب بدون استخدام الأدب خلال العمليّة الدراماتورجيّة، ذلك أنّ بصره وبصيرته الإبداعيّة تتطلع إلى الركح والصالة معًا أثناء تعامله مع النص. وفي معرض الحديث هنا، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ هذا التفكّر لا ينتقص من قيمة نصه المُعَدّ للعرض بأيّ حال من الأحوال، لأنه تفكّر لا يؤمن بسلّم قيمي هرمي للآداب والفنون، ويرفض تراتبيّة توزيعها إلى كبرى أو صغرى. ويرى أنّها قد تكون منجزاتٍ إبداعيّة، أو متهافتة القيمة متواضعة (ميديوكر). وإلى الأولى تنتمي الكتابة الركحيّة التي أنجزها أسامة غنم اعتبارًا من النصوص العالميّة المذكورة أعلاه.

انطلاقًا من معرفته الفلسفيّة ومعارفه الفنيّة الرحبة، يولد الفنّ بالنسبة لأسامة غنم من رحم المعيش اليومي. ولذلك، ليس بمستغرب أنّ محور اهتمامه كفنان هو الحياة كما هي الآن في سوريّة، وفيها مصدر الإلهام الأوليّ. ومن هذا المنظور يستحضر من الراهن السوريّ «حقيقة عارية» (بسيطة واضحة، لحميّة نيّئة) غير منقطعة عن الذاكرة التاريخيّة الجمعيّة، ويبني عليها مقترحاته الجماليّة، ويتركها كي تنسرب إلى النص العالمي، المستجيب تقنيًّا للإعداد الدراماتورجيّ، بدافع التقاء المقاصد الجماليّة والفكريّة بينهما في العمق. أيّ أنّه يستحضر ما هو في الخارج (واقع مدينته) ويجعله بحوزة الداخل (النص)، بعد المرور في مرشحة جماليّات المزج بين الواقع والمتخيّل، والعلاج التقني والبنائي، والتقطيع إلى لوحات مستقلة...إلخ. ومن هذا الخارج يأتي الأفراد بتعبيرهم الذاتي وسرديّاتهم الشفاهيّة وشرطهم الاجتماعي، ويتحولون عند عتبة النص، بمساعدة الأدوات الفنيّة، إلى شخصيات مشتبكة بالوهم، ومتأثرة بسياسات «التموضع» الإخراجي التي تحدد تحوّلات هويتها المسرحيّة، وبالتالي اكتسابها أدوار شخصيات متفاعلة ضمن مشهدٍ تُنتَج فيه الأفكار وتصدر. ومن المناسب التنويه هنا، إلى أن التشديد على مرجعيّة المعيش اليومي والمنقول مع أفراده وروامزه إلى النص، ومن ثم إلى حيّز اللعب، حيث تسود سنوغرافيا متقشفة، لا يعني بأيّ حال من الأحوال محاكاة حرفيّة للواقع ولا لراهنٍ ثابتٍ ساكنٍ فاقد لسيرورته؛ ذلك أنّ أسامة لا يستنسخ الواقع ويؤرشفه في نصه أو عرضه الركحيّ؛ بل يعمل على محاكاة جوهر هذا الواقع، ويحمّله على كاهل الشكلٌ الجمالي المعبر عن الرؤية الفنيّة.
وعليه، فإنّ إعادة التأليف تعني أنّ النصّ الوليد يرى النور بكيفيّة إبداعيّة قادرة على الإيماء الثقافي والإدراج في الزمكانيّة المحليّة بكافة نظام علاماتها السيميولوجيّة والاجتماعيّة-النفسيّة... هكذا، تصبح كتابةُ البيئة المحليّة، التي يعايشها الفنان ويعرف تغيّراتها، حاضنةً أمّ بلا أيّ لبس أو اغتراب. كما أنّ ابتعاد الفعل الدرامارتوجي عن المجرد الذهني، لصالح ارتباطه بالمتحدد والمتعين، إضافة إلى التركيز على الجدل بين البنية اللغويّة العاميّة المكتفية بذاتها مع بعدها الثقافيّ التاريخيّ، لا يتغيا محض تقريب المتفرج من حسّ واقعه؛ بل منحه –بواسطة الجمالي- فرصة النظر إلى الأشياء والواقع بشكلٍ مختلف. وتغدو هذه المحليّة المنكفئة إلى صميم الحياة الدنيا والآخرة في سوريّة، والمحمولة على كاهل الممثلين، هي الناطقة باسم كونيّة النصّ الأصلي لا العكس. هذا يعني أنّه يترك المساحة للمحلي (الهامش المهمّش الكوني) كي يستقل بنفسه فنيًّا على صعيد النص والعرض، ويخلق جماله بالأداء واللغة وكافة العناصر السينوغرافيّة والفنيّة الأخرى، إلى أن يقول قوله وهو يفكّك أساطيره الاجتماعيّة وملحقاتها النفسيّة على كيفه بحريّة عادلة. وبهذا المعنى يتبدّى فعل الفنّ في هذا السياق كزحزحةٍ أو تنحية لمركزيّة السرديّات -السياسيّة والثقافيّة واللغويّة- الرسميّة والجماعيّة المُتَسلّطة التي تزيّف وتبهدل صورة الواقع.
من جانب آخر، يمكن القول إنّ الخبرة المتراكمة في الأعمال السابقة لا تشكّل دليلاً أكيدًا على كيفيّة تنفيذ المخرج لعرضه التالي؛ فعلى الرغم من أنّ العروض تبدو كحلقاتٍ متسلسةٍ، فإنّها لا تكرّر نفسها. إنّ المخرج لا يبدأ من الفراغ أثناء البدء في إنجاز عرضه القادم؛ بل من «الرغبة» الملحّة في توصيل شيء ما. الأمر الذي يدفعه إلى الجوس في مواطن مادته الخام، وصياغتها وإكسابها تلك القدرة التواصليّة -التي يطمح لها- كلّ مرّة ومرّة.
وأشدّد على أنّه مسرح يتأتى من إمكانيّات الفنانين التواصليّة لا من الحِذق أو مهارة استعراض الصنعة. وتتيسّر هذه الطاقة التواصليّة للفاعلين المسرحيين -في جانب من جوانبها- من مدى استيعابهم ورفضهم للنزعة التي تُغيِّبُ معيش يومهم حين تقديم الأعمال الفنيّة. وكما ورد سابقًا، المسرح مع أسامة غنم هو امتداد لحيوات العاملين فيه وتجارب مبتكريه. إذن، في خضم المآل السوري اليوم، يُفترَضُ أنّ المسرح بالنسبة للممثل هو فعلٌ من أفعال الحياة، تواصل بين الممثل و»حقيقه داخليّة»، «ومكامن تعبيريّة فرديّة» متواشجة مع برانيّته الاجتماعيّة وجوانيّته النفسيّة أثناء أداء الشخصيّة على مرأى من الجمهور. هكذا، يكتشف الممثل-المؤدي حدوده بوعي أثناء التشخيص، والمشاركة الجماليّة في تحقيق القول المسرحي. وبهذا المعنى يبدو أن الأداء يشكّل تجربة حياتيّة تتواشج فيها الحدود بين الوهم والواقع بالنسبة للممثل بأجمل صورة من الصور كما أرى.
بالمقابل، فإنّ المتلقي المنفعل مع هذه الفرجة، لا بدّ وأن يتنابه الشعور بأنّه في خضم لقاء مع جميلٍ-ممثلٍ يسفر عن نفسه، ويكتشفها أمامه، مع غيره من الممثلين. الأمر الذي يستدعي من قبله –أيّ المتلقي- إحساس بحرجٍ ما، ومن ثم مراجعة ذاتيّة مفترضة، وحوارًا غير معلن (أو مجاهرة بينه وبين نفسه) وهو يقوم بفكّ شيفرات الخطاب والمشاركة في بناء المعنى (معناه). أي أنه يمارس مباعدة عن المتفرج المستهلك الخمول، لاحتمال اكتشاف موقفه مما يرى وإدراك طرق تفكيره.
هكذا، إن تقاطع حِراك الحوار والصمت بين الممثلين مع بعضهم من جهة، ومع المتلقي (مباشرة أو بالخفاء) من جهة أخرى، هو ما يمهد لسريان روح التواصل بين البشر في حيزيّ اللعب والفرجة. ولا أنسى في معرض الحديث هنا، أن أضيف إلى حراك الحوار والصمت، الموسيقى والأغاني المتضمّنة في ثنايا الهيكل الدرامي، بذائقة رفيعة عميقة الدلالة، التي تحتوي بدورها على دقائقَ من إيقاعِ صوتٍ وصمتٍ خاصين بها.
حسنًا، إن هذه التواصليّة التي يجعل المناخ المسرحي طرحها ممكنًا، بفعل التوتر المتكّون من تعشّق اللذّة الذهنيّة مع الانفعال الشعوري، تؤكد أنّ أسامة يتعامل مع متلقٍ ذكي حساس يجب احترامه، وعدم الوصاية عليه أو التعالي المعرفي أو العاطفي أو الجمالي تجاهه. كما تؤكد احترامه للتفرد الإنساني والمهني لكلّ فنان-مؤدٍ في مسرحه. حقًا، لدى أسامة غنم الكثير ليحكيه لنا فنيًّا.
لكلّ ذلك، يرفض أسامة غنم وهو يقيم مسرحه أيّ وصاية فنيّة أو إملاءات مسبقة الصنع. يعتقُ الممثلين الذين تلقوا تعليمًا أكاديميًّا من أغلال الإعداد المقولب المُحكَمِ الجودة، فهو لا يعتبر أنّ معرفة التقنيّة المسرحيّة هي غاية في حدّ ذاتها. وعليه، يطلق ممثليه للحدسِ والتخيّلِ، وكرامةِ الإدراك الحرّ حين وِرْدِ مساحات خفيّة غامضة فيهم، حتى تلك المحكوم عليها بالتهميش لافتراض قلّة حيلتها مسرحيًّا. بمعنى أنّه يؤكد على فاعلية كلّ موارد الممثل، بما فيها المخالفة للأعراف الفنيّة المستقرّة، ويشدّد على ضرورتها ما دامت صالحة بيد الفنان للتعبيرِ الجمالي عن رؤيته للعالم: من النقصان في الحياة عامةً، إلى خلل العيش في جانبها المفقر قبل الحرب، وبين سطور الحرب، وما وراء الحرب.
من جانب آخر، تبدو عروضه على أنّها متجاوزة للمسرح القائم على الفصل (الإيهام) أو التداخل بين حيزي اللعب والفرجة (كسر الايهام)، إلى ما هو ملحّ في الحالة السوريّة الآن. فالجماليّة لا تعلن عن نفسها من محض حيثيّات الموضع أو علاقات الفرجة في المكان؛ بل من الإخراج الفنيّ الذي يخلق الجمال في المكان المختار لا العكس. أي أنّ مسرحه التجريبي (حتى الآن) لا يشترط مكانًا محدّدًا لتقديم العرض. فهو مسرح منفتح على الأمكنة المختلفة، سواء كان في مؤسسة رسميّة أو مسرح دائري في أكاديميّة، أو قبو محدودة سِعتُه في فندق... إلخ. معه لا تنحصر قيم العرض الجماليّة بالمكان الذي يستقر فيه، ولا بالعمارة التي تضمّ حيزي الفرجة واللعب؛ بل -من باب أولى– بتقنية الأداء وكيفيّة القول الفني (والوعي بالهوية الفنيّة تحت ظلال الظرف والنظام السياسي القائم)؛ بالرغم مما تفرضه تضاريس المكان من تأثير على حركة الممثل وتنقلاته، وبالتالي على علاقة مغايرة مع المتفرج عرفتها مسارح النصف الثاني من القرن العشرين. وهي علاقة أدركتها –مؤخرًا- فئات فنيّة متنوعة المشارب الفكريّة، وعملت على استغلالها واستثمارها لصالحها مع أزمنة العولمة النيوليبراليّة وما بعد الحداثة. ويبدو أنّ أسامة يدرك هذا الأمر، وبأنّه من الممكن أن يُقام مسرح يحمل خطاب الهيمنة أو بروباجاندا أو رسالة خالدة أو محافظة أو تحرريّة أو مفرد ذاتيّة مطلقة... في أيّ مكان سواء كان العلبة الإيطاليّة أو مسرح دائري، أو قبو، أو محمصة، أو طاحونة، أو خان، أو خرابة... بمعنى أنّ الحيّز نفسه يمكن أن يستخدم لتقديم عروض مسرحيّة تبث رسائل مناقضة أو متعارضة فكريًّا.
ورغم أنّ أسامة غنم يَنْأى تمامًا عن المثقف البيروقراطي، وهو على طباق نقيض من الفنان الأداتي المقتدي بسرديّة المتجبر، فإنّ خيارات المكان بالنسبة له تتحدد تبعًا لمتطلبات تفرضها سيرورة المنجز الفنيّ حصريًّا (من العمل الدراماتورجي إلى الإخراج حتى الاحتفاء بمتعة التواصل). بمعنى أنّه يصرف نظره عن التصنيف اللانقدي ضيق الأفق في الحالة السوريّة الراهنة إلى: «أماكن رسميّة سلطويّة»، وأماكن «غير رسميّة سلطويّة» طالما أنّها تقع في المناطق التي يسيطر عليها النظام.
ولا بدّ من الإشارة هنا إلى أنّ المسارح الوطنيّة التابعة للقطاع العام في دمشق (مثل دار الأوبرا والقباني والقومي... إلخ) هي مسارح دولة لا نظام. وإقامة العرض فيها، كما في أماكن تابعة للقطاع الخاص (محمصة، منجرة خشب، مخبز، ملجأ... إلخ) هو تأكيد على مؤسسات دولة جامعة لمن تعاقدوا على العيش الثقافيّ معًا، وتقاسم تحدّي الزوال وانهيار الدولة المؤسساتي، وعليه تسطير عبارة: «لا نزال على قيد الحياة في سورية»، و»لن يمروا».
من كلّ ما سبق: صحيح أنّ المسرح منطقة نائية في سورية، إلا أنّ لكلِّ امرئ مسرحه الخاص. وفـي عروض أسامة غنم لا يمكن أن تترك جانبًا خراء يوم راهنك السوري، سواء كنت فنانًّا أم متلقيًّا أو عاملًا في الكواليس (وفق تفكير ألفريد جاري لو سنحت له الفرصة أن يتواجد في عروضه)؛ بل تحضر إلى المسرح بكل صديد حياتك ونصيبك المترهل (وفي أحيان كثر برفقة السحائب الدخانيّة ودوي البطش الذي يدّوم في التخوم)، تحضر هلعك، أو حتى تبرّمك من كلّ ما يحوّلك إلى مسخ نَفْسًا وبدنًا، أو يقتل في نفسك التحفّز المستجيب للحياة، ويُصَيُّرَك قبرًا متحرّكًا في شوارع المدينة.. تحضر بكل هذه المرايا المزايا، ووقتئذٍ يولد فن أسامة غنم بكل فرادة جماليّاته، التي تشابه «جميل» يقظة المحتضر، وهو يتملى في التناقض بين عرض قواه الخارقة وبين عثراته وتمزّقه وعريه الخائر.. إنه «جميل» صحوة المحتضر وهو يتأمل في أفانين المسرح وما وراء الأشياء أثناء الكارثة. وهنا نكون قد وصلنا إلى «الجميل السامي» المشتبك بسقط المتاع في مسرح أسامة غنم.
ولتوضيح الفكرة، أقول إنّ أسامة غنم اعتنى بعالم المدينة (مجاز دمشق)؛ حيث تنتمي شخصيّاته المسرحيّة، عامةً، إلى الفئات الوسطى التي تهاوت إلى العوالم السفليّة، وهناك راحتْ تحتكّ بمعنى القاع والحضيض. ومن المعروف أن الفئات الوسطى هي الحاملة لمفهوم المضي بالتاريخ وإنتاج الأفكار والإبداع. واتساع مكونها هو ركيزة أساسيّة في استقرار البنية المجتمعيّة. وانهيارها يعني استنساخ الزمان التاريخي والوقت «العبودي» اليومي على حدٍّ سواء.
بناء على ذلك، ينهمك أسامة فنيّا في البحث الجمالي عن تدهورات هذه الحالة الاجتماعيّة وتتاقضاتها المستجدة. وتقوده مخيلته الخلّاقة، المتواشجة مع تجربته الحسيّة والانفعاليّة، إلى ترجيح إفضاء بيكارسكيّة النجاة بخبز كل يوم، أو استشراء الطغيان في بيت ما على الخشبة مثلًا، إلى القول بتفشي أزمنة لاعقلانيّة قائمة على فقدان الحرية ودوام فَتك العنف والاستلاب.
وتبوح ممارسته الإبداعيّة بنوع من تماهي ذات الفنان مع «المدينة»: مدينته دمشق، والاغتراب الكلّي عمّا آلت إليه، وهي تهرول صوب المدينة وترتدّ إليها دومًا، خاصة حين بدأ بممارسة المسرح. ومن الحسّ التاريخي الجدلي بين ذات الفنان المتماهية حبًّا والمغتربة عن دمشق المدينة على حدّ سواء، استطاع أسامة غنم أن يقدم لتاريخ المسرح السوري عروضًا لم تكن جميلة بحدّ ذاتها فقط، وإنما جاء جمالها كذلك من النور المعرفي والعرفاني الذي يسطع من مشهدياتها الإخراجيّة، ومن العنصر الإنساني الكامن في الشخصيّات المسرحيّة، ومن الكيفيّة التي أماط فيها المخرج القناع عن وجه المدينة وأهلها، إلى أن طال قلبها الحزين الكئيب، بسخرية إنسانيّة، في الواقع الفني وحيّز اللعب.
إن الزمان وكرور الأيام في العمل المسرحيّ (حتى الآن 2022)، التي يغيب عنها الانقلاب أو التحول في الحدث، كذلك اختفاء وضوح الصراع الدرامي الذي تخوض فيه الشخصيّات، يأتي بالسؤال عن «معنى الوجود» في هذه المشاهد المسرحية. وعليه أشير إلى أنّه يكمن في الآن الذي تتعرى فيه الشخصيّات، في هذه اللحظة الفنيّة السوريّة، وتتجرد إلى مفرداتها الأبسط، ولحميّتها السافرة أمام احتمال الانهيار والفقر الأكبر: وتحسّ أنّها ذاتها، وتتحد مع نفسها ومصيرها أمام المتفرج. ونشوة الاعتراف بهذه اللحظات المضنيّة، والحقيقيّة الراقية فنيًّا، هي ما يحدد «معنى الوجود» لدى أسامة غنم، حيث يدّل عُري «أنا» الشخصيات البائن (مع ثرثراتها وغرائزها وضحكاتها وأغانيها) إلى محاولة خلقِ انتصار ما. لعلها محاولة انتصار على الإرادة المعطّلة. وأضيف: أن تفعل الفن يعني أنّك تنتصر حتى وأنت تمارس الموات مجبرًا في الحياة الدنيا. 
أخيرًا، يمكن القول إنّ مسرح أسامة غنم يتقاسم الكثير مع أهله وناسه، ومع التجارب المسرحيّة السوريّة والعربيّة والعالميّة المستقلة، حتى إنّه يتحدى القلّة في الميزانيّة الماليّة، محاولًا النجاة بـ»الجميل السامي» لـ»المهمشين»، و»المعذبين في الأرض» و»أسفل السافلين».

 

عن (مسرحنا) المصرية