يكتب القاص المرموق عن إدوار الخراط، أحد أعلام الكتابة السردية الجديدة في مصر، وعن علاقته الحميمة به، وكأنما يكتب عن قرينه الذي تعرض في أواخر سنوات حياته لغبن شوّه الاعتراف الرسمي بقيمته أثناء منحه جائزة ملتقى الرواية العربية. كاشفا عن شيء من مسالب إدخال المثقفين لحظيرة فاروق حسني الشهيرة.

تنينٌ طليقٌ ينفُثُ الزعفران

عاطف سليمان

 

أفكرُ الآن بأن إدوار الخرّاط، بعدما كتبَ ونشرَ «رامة والتنين»، اتخذَ سَمتَ التنينِ ميخائيل، ومن فورِه اعتنقَ التواضعَ مع الاعتزاز بالذات، ووَلَدَ نفسَه في اللُطف وفي السماحة والسموِّ، منتوياً ألّا يَخدشَ صَرحَ بطلِهِ العتيد، سيدِ روايته الأشهر، بنأمةٍ، إذْ كان قد غدا يحدسُ بأن الناسَ باتوا يعتقدون، أو يوقنون، أنه هو ذاته ذلك العاشق المعشوق المتجلِّي في صحائفِه. ولعله، إدوار، كان لا يني يستمهلُ رفْعَ عينيه عن نجومٍ خُماسية فضيَّة في ثوب رامة الكُحليّ، إذْ كان عازماً على تأسيس جدارية يدوِّنُ فيها قصةً للحُب الفائق وتشبيباته المتقِدة أو بالأحرى قصةً للعشق ذي الوصال الحسِّي الـمُتعَدِّي إلى رِحابٍ غير منظورة، فما كان منه إلا أنْ هيّأَ لقسماتِ ميخائيل فرشاةً حوشيةً راحت، وهي تترسّمُ الحوادثَ، تتوخّى، أول ما تتوخى، إذكاءَ الحرارة الخرّاطيّة في عاشق رامة هذا، النَّهِمِ، ذلك أنّه، هو الكاتبُ الـمُتطلِّبُ، قد أراد لبطله، ومن ثَم لنفسه، أنْ يدفُق ناراً؛ ناراً للاستدفاء والاستهداء، ناراً للإغواء، فللإيواء، فللقِران الشهواني المتأجّج العارِم، ناراً على اسمِ رامة الشاسع، ولأجل كينونتها، وعلى مقام أنوثتها، تأنس إليها، وتستدفئ عليها، وتتنشّق عَبقَها، وتحرق فيها مراكبها.

رغبَ إدوار للأدبِ الذي كان يُكتَب في سنوات حضوره، ذاك الذي يكتبه الآخرون، أن يزدهر ويثرى وينتقل نقلةً بائنةً، وأرادَ لهذا الأدب أن يتسم بالجِدَّة، وبعلُوِ القيمة الفنية الأدبية فيه، وبالمغامرة في فنون الكتابة – حبّذا إذا كانت المغامرات رشيدة ناضجة محروسة بوازِع المسؤولية الإبداعية - وكان هذا هو منطلق وملامح رسالته النقدية التبشيرية – حسبما أظنُّ – لأنه تولّى الاهتمامَ بكل ما يُكتَب خارج نطاق الكتابة التقليدية القارّة المهيمنة في مصر وفي البلاد العربية. وأظنُّ أنّه بحث عن تلك النصوص بإخلاص وعكفَ عليها واحتفى بها، وأنّ احتفاءَه كان يتقصَّد، في الأساس، الوعودَ والتباشير والاحتمالات الكامنة الـمَوْشِيّ بها في النصوص التي جمعها واصطفاها ومالَ إليها، متفهماً أن النصوص نفسها، التي احتفى بها، متباينة فيما بينها أشد التباين، نوعاً ودرجةً، وقد يكون بعضُها في طور البزوغ ليس إلا، غير أنها جميعها تفي له بأمانيه الأدبية في بثِّ روحٍ طليقة في الكتابة الأدبية العربية، اعتماداً على التحرُّر المفضي إلى التجديد الحقيقي، ما دام الكاتبُ، يعي بمسؤوليةٍ، أنه لا يتحرر صوبَ التخفُّف أو المجانية أو صوب الهباء. بل يتحرر صوب التزاماتٍ فنية أعْوص وفروضٍ إبداعية جديدة أرقى مما تركَ وأرفع وأصعب.

وما من شكٍ في أن الخرّاط كان يدرك، من خلال الشِّق العملي البرّاني لتجربته الإبداعية الخاصة، أن الساحة الأدبية المصرية والعربية جامدةٌ، عموماً، راضيةٌ بتقليدية أوضاعها وممتثِلةٌ إلى سُنَنِ أدبائها المتنفِّذين أو المكرَّسين، وأنها لا تفسح طوْعاً لمثل هذه الإبداعات المتجرِّئة بجدارة على نظاميتها المستتبة المعهودة، ففَزَّ هو وأعلنَ ترحيباً من عندياته بتلك النصوص وأبدى ثقتَه في البشائر المرصودة فيها. ولعل الكثيرين من الكُتّاب أنفسِهم، أصحاب النصوص التي احتفى بها وواكبها برعايته، لم يكونوا يعرفونه، أو كانوا لا يعرفون كتبَه، أو لا يحبونها، أو يسيئون فهْمَ مقاصِده، أو غير ذلك، لكن هذا الأمر لم يكن مسألةَ إدوار الخرّاط، المستغني، المتورِّط في إتمام رسالته، الذي لم يعنَ مطلقاً باصطناع أتباعٍ أو مريدين أو تلامذةٍ له ولا بتلقي اعترافٍ مقابل اعتراف.

هكذا كان الخرَّاط، الكاتب، يكرزُ في معموديتيْن؛ ينبُشُ بيُسراه عن كتاباتٍ تأتلف مع أمانيه لمستقبل الأدب العربي وينتشلها من التجاهل والطمْر ويقدِّمها، ويحاول بيُمناه العكوفَ على إبداعاته واللحاق بما فاته والتعجيلَ بكتابة رواياته وقصصه التي تأخّر عنها سنواتٍ طويلة غابَ إبّانها في أضابير الوظيفة. في أواخر تسعينات القرن الماضي تدانت الخُطى، وعُومِلت من إدوار الخرّاط الدمث كزميلٍ له على قدم المساواة، بل أكثر. أهداني نُسخاً من كُتبه ودوَّنَ لي عباراتٍ أخوية على أغلفتها الداخلية، وكان يهديني نُسخاً من كُتب أصدقائه القريبين مثل أحمد مرسي وبدر الديب، وكنتُ حين أشيرُ له إلى بياض صفحاتها الأولى يتبسّم ويخُطُّ لي عليها بقلمه إهداءاتٍ ممضاة بالإنابة عنهم. ما سألني مرةً عن رأيي في أي كتابٍ له، لكننا تناقشنا فيها وعنها ببساطة وبصدق. وأهداني صديقُه الفنان عدلي رزق الله بعضاً من كتبه، على سبيل الأخوّة والمصادقة، إكراماً لي لِكوْن إدوار قد أثنى له على كتاباتي.

ولستُ أنسى الليلة التي سهرتُ أقرأُ فيها إحدى رواياته المفعمة بسيرته الشخصية، فهالني ما سرده فيها عن جنازةٍ قبطية، هي القرين لجنازة أبيه، وما لقِيَه موكبُ الجنازةِ الصغير من تَعَدٍّ وإيذاء أثناء مروره بشوارع الإسكندرية من بعض الصبية والأهالي. وبعد انتهائي من القراءة، قُرب الفجر، وجدتني أتصلُ به تليفونياً، وما سبقَ لي مكالمة أي شخص في وقت كهذا، وأخبرته بما كنتُ أقرأ، وقلتُ له إني أتصلُ به لتعزيته في وفاة والده، المتنيِّح منذ أكثر من نصف قرن، وإني أعزِّي بالأساس الصبي الذي شهدَ رجْم الأولاد لتابوت أبيه، فأفاض هو في التعبير عن رضائه من تعزيتي وعن قبوله لاتصالي المزعج وكنتُ خجِلاً بالتأكيد من الإزعاج المزدوج الذي أقدمتُ عليه بلا تبصُّر، غيرَ أن تفهُّمَه السريع، وقبوله العميق لدوافعي أعفياني من الشعور بالحرج، بل عزّزا الصلةَ الإنسانية بيننا.

وقد شرُفتُ بدعوته إياي لزيارته في بيته عدة مرات، وفي إحدى تلك الزيارات، بأوائل شهر فبراير 2008، قُبيل أيامٍ من مَنحِه جائزة ملتقى الرواية العربية، حدَّثني، في سياق حديثنا العادي المرتجل، عن عاداته في الكتابة وعن بعض ذكرياته السكندرية القديمة؛ فقال إنه يحب الصيفَ وإنه ينتعش فيه نفسياً وروحياً أكثر، ويحظى في شهورِه الحارّة برغبة متزايدة في الكتابة، على خلاف معظم الكُتّاب، فتتوالى فيه كتاباتُه. وأخبرني بأن «جبران خليل جبران» كان هو صاحب التأثير الأقوى عليه في سنوات شبابه الأولى حتى إنه ملأ عليه حياته، فانتقل حديثُنا إلى «مي وجبران»، وتبادلنا الاجتهادات بخصوص الرابطة التي ربطتهما بل اخترمتهما على الرغم من شتى الظروف المناوئة آنذاك. وبوصول حديثنا إلى «توفيق الحكيم» أخبرني أنه كان ولا يزال يحبه، وقد ذكرتُ له كتاباً لتوفيق الحكيم كنتُ قرأتُه قبل أسبوع، فسألني عنه، وأخبرته أنه كتاب «أنا والقانون والفن»، فرغبَ في مزيدٍ من الكلام عنه، فحكيتُ له حكاية جميلة من ذلك الكتاب، وأعجبته للغاية الحكاية البارعة من أدب توفيق الحكيم، وقال إن الحكيم يحذقُ كيف يجذب القارئ وكيف يكون أدبه ممتعاً وساخراً، وطلب مني أن أعيره نسختي من الكتاب، ووعدته.

وعاد هو إلى الثناء على أدب توفيق الحكيم وقال إنه يتذكّر نفسَه حين كان يمشي في شوارع الإسكندرية، وهو فتى صغير، يقرأ «رصاصة في القلب» ويضحك ويقهقه. سألني عن آخر ما كتبتُ، وسألني عن صديقٍ لنا، مشترك، يعمل خارج مصر، فأخبرته عن معاناته مؤخراً بسبب ضياع رواية جديدة له، كان يُوالي الكتابة فيها على الكومبيوتر الخاص به، الذي يستعمله أيضاً ابنُه الصغير، وقد كان أنْ عبثَ الابنُ بملفات الكومبيوتر فانمحى ملف الرواية ضِمن ملفات أخرى انمحت وفُقِدت، فتأسّف إدوارُ لحدوث ذلك وقال إنّ مثل هذا الضياع هو أمرٌ قاسٍ جداً على أي كاتب، وإنه شخصياً سعيدٌ لكونه لا يزال يستعمل الورقة والقلم، فقلتُ له إن الإنسان يستطيع، مع الورقة والقلم، أن يرى على الأقل أشياءَه وهي تُفقَد، وإنه يمكنه حتى استنقاذ بعض ما يخرِّبه الماء أو النار، إذْ يُمكن إنقاذ ولو سطر أو كلمة أو معالجة الخسارة، فحكى إدوار أنه حين كان في الرابعة عشرة من عمره ألقى بأوراقه وكتاباته في النار، على إثر نزوة، وبعد ما اندلع الحريق الصغير في الأوراق انتابه الأسفُ ونَدَمَ على فِعلته، فسارعَ بمحاولة استعادة أوراقه من اللهب، سُدى. وقال إنه لا يكفُّ عن الشعور بالحنين إلى تلك الأوراق والكتابات الطفولية التي أضاعها.

وبعد أن سلمتُ عليه ومضيتُ عائداً إلى بيتي تذكّرتُ مقالةً كان قد كتبَها عن إحدى رواياته ونشرَها بجريدة الأهرام! فوددتُ لو أني أعودُ كي أسأله عنها ولأتقصّى رأيَه في كاتبٍ يكتب نقداً أو يطرح مداخلةً تشتبكُ مع كتابٍ أو عملٍ من أعماله بالذات! فاتت الفرصةُ فعلياً، ولم يتسنَّ لي استجلاء ردِّه على استفساري مباشرةً، إنما وصلني متقطِّعاً، في ومضاتٍ متباعدة مثل تخاطُراتٍ حدْسية، وكأنه يقول: بطبيعة الحال لم أكن لأقوم بعمل دعاية لكتابي، فهذا عيب ومستهجَن وقبيح، بلا شك، إنّما الأمر هو أن غريزتي النقدية هي التي تنبري فلا تسكت عن مقاربة ومساءلة أيّ نَص، بصرف النظر عمَن هو صاحبه، إذا عثرت فيه على ما يحفِّزها، وقد أسجِّلُ بحماسٍ وطِيب خاطر في مثل هذه المقاربة النقدية مآخِذَ أو نقائصَ على كتابي لا ينتبه إليها غيري!

في أواخر الشهر نفسه، فبراير2008، مُنِحَ الخرّاط جائزة ملتقى الرواية العربية، في دورة الملتقى الرابعة، وكنتُ حاضراً ضمن كثيرين في مسرح الأوبرا حيث أُقيم الاحتفال بتسليم الجائزة، ورأيتُ صعودَ أعضاء لجنة التحكيم برئاسة الدكتورة يُمنى العيد وعضوية الأستاذ إبراهيم فتحي قنصوة والدكتور بطرس حلّاق والدكتور عبد المنعم تليمة وآخرين على خشبة المسرح، لكنهم وقفوا ينتظرون وصول وزير الثقافة فاروق حسني الذي تأخّر كثيراً، وظل بدءُ الاحتفال بإعلان اسم الفائز مُعطَّلاً إلى حين وصول الوزير، ولم يتجرّأ أحدٌ على إبداء الضيق أو "التهوُّر" بتدشين الاحتفال في غيابه، وحين وصلَ الوزيرُ دخلَ إلى المسرح بخطواتٍ عجلى، وصفَّق له الحاضرون في صالة المسرح، وصفقت له لجنة التحكيم على الخشبة المضاءة، وتـُمِّمت إجراءات تسليم الجائزة باختصار ٍوبأقصى سرعة، إلى أن حلَّ موعد الفقرة الأخيرة التي يطلبُ فيها رئيسُ لجنة التحكيم من الفائز إلقاءَ خطبته؛ إذْ وفق أعرافِ الجائزة يُدعى الفائزُ بها إلى إلقاء خطبةٍ أدبيةٍ، يكون قد أعدّها بعد إبلاغه رسمياً بخبر فوزه.

فتوجّه الخرّاط إلى منضدة مكبّر الصوت، جهة يمين المسرح، وأخرج ورقتَه وراح يقرأ منها. كان ابنُ الثانية والثمانين الحاضرُ في حالته الصحية العادية، واقفاً يقرأ لجمهورٍ جالسٍ في مقاعده، وعساه كان موقناً من أنه يُخاطِب جمعاً من مثقفين ذوي رُشدٍ بقدرٍ أو بقدر. كنتُ أتابع ما يتلوه من ورقته، ولم يكن "يرغي" أو "يعيد ويزيد"، فمثل هذا الادعاء هو وقاحة وتطاوُل وكذب عنيف ضده، بل إنه مضى يقرأ سطوراً من خلاصاتِه التي طُلِبَ منه تحضيرها وتلاوتها، والتي تستحق الإنصاتَ والتأمل، أو حتى الصبرَ عليها إلى أنْ تنتهي إذا أفلت خيطُ متابعتها، والتي اتضح لاحقاً بعد نشرها وتداولها أنها لم تكن طويلة، ولم تكن عسيرة ولا مضجرة، وهي مُتاحةٌ، على أية حال، تحت عنوان «عن الرواية والسؤال والمعرفة» لمن يرغب في تحرّي الأمر. لكن الوزير فاروق حسني كان يقف وسط لجنة التحكيم متأفِّفاً متململاً، بعد ما جاء متأخراً جداً، وكان بادياً أنه يتعجّل الانصراف عقب إتمام شكليات تسليم الجائزة، وكذلك كان هنالك طائفةٌ من الحاضرين، ممن استساغوا انتظارَ الوزير، لا يطيقون إمهالَ هذا الذي كان، في لحظته تلك، بمثابة ضيفٍ لديهم حتى يُنهي كلمتَه، ناهيك عن حقه عليهم في الإنصاتِ إليه وشكره على ما قدّم.

فبدأ هؤلاء ومعهم زُمرة الوزير في الهمهمة، ثم في إثارة الجلبة والغلوشة ومقاطعته ببعض التصفيق والصفير، وكان هو منصرفاً بكُليته إلى أداء واجبه، لا يخطر على باله أنه يُراد منه الكفّ عن إحداث تعطيلٍ في انصراف موكب الوزير، وأنه مُطالَب بالسكوت في يوم تكريمه. وبحُسن ظنِّه استمر الخراطُ في القراءة، معتقداً أن التصفيقَ أمارةٌ من أمارات الاستحسان، عندئذٍ التفتَ فاروق حسني ناحية اليسار فاليمين كالمستغيث، ثم مالَ ناحية إبراهيم فتحي الواقف إلى جواره، وبنظرةٍ جانبية وكلمةٍ مهموسة أوعزَ إليه مُسلِّطاً إياه كي يُنهي الموقفَ، وبدلاً من أن يشير إبراهيم فتحي – المستقر في الأخيلة بوصفه غير قابلٍ للإيعاز إليه – إلى المنفلتين الغوغائيين ليسكتوا أو لينصرفوا توجَّه إلى إدوار وقال له شيئاً من قبيل "كفاية كده يا أستاذ إدوار"، لأن إدوار توقّف فوراً وطوى ورقتَه وقال "شكراً. كما تشاءون". وقد لحقتُ بإدوار والسيدة زوجته فور وقوع الواقعة وانصراف المنصرفين. وحضرتُ معهما الحفل الفني الذي أحيته "مي فاروق"، مغنية دار الأوبرا، وكان إدوار الخراط، الذي لم يلاحظ حقيقةَ دوافع ما حدث، على خير حال في ذلك المساء، حتى انصرافه إلى بيته. وقد أردت تدقيق هذه الواقعة بتفاصيلها لأن ما جرى فيها مؤسِف ومحزِن ومزْرٍ. ولأن تناقُل روايتها تعرّضَ لتحريفٍ مجاني، أو بالأحرى غير مجاني.

بعد ذلك مرضَ إدوارُ الخرّاط بذاكرتِه في السنوات الخمس الأخيرة من حياته واحتجبَ في بيته، إلى أنْ جاء يومٌ في مارس 2014 فأعلنت إحدى دور النشر عن إقامة أمسيةٍ يُستضافُ ويظهر فيها الخراط، بمناسبة انتواء دار النشر هذه على إعادة نشر أعماله الكاملة والاحتفال بعيد ميلاده الثامن والثمانين، وكان أنْ حُشِر الحاضرون في غرفة شقة علوية بوسط القاهرة، ثم جيء بالخرّاط، مسكيناً، على مقعدٍ متحرك، وبدت الأمسية ارتجالية بالمعنى الأردأ، وكان أسوأ ما فيها هو إلحاح قسمٍ من الحاضرين على ضرورة أن يتكلّم الخرّاط، إذْ كانوا يتحرّقون بالطبع إلى التسلّي بالفُرجة على عاهة مرضِه وإشباع فضولهم بمعاينة حالِه، لولا أن تصدّى لهم الحاضرون من أصدقائه وأحبائه الحقيقيين، على رأسهم دكتورة سيزا قاسم ودكتور ماهر شفيق فريد فخلّصوه من ذلك الانتهاك الضاري. ولستُ أدري أحقاً نشرت دارُ النشر أعمالَه الكاملة، وما أظنها فعلت، أم كان الأمرُ أمرَ استدراجٍ ومغافَلة ومخاتَلة ومتاجَرةلا ترحم!

في ضُحى الأربعاء، اليوم الثاني من ديسمبر 2015، أُقيم في كنيسة قصر الدوبارة بوسط القاهرة الحفلُ الجنائزي لشخص إدوار الخرّاط، من أجل أن يودِّعه خُلصاؤه ومحبوه لآخر مرة وهو ظاهر على الأرض ومن أجل الصلاة على جثمانه وإحاطته بالسلام والرجوات والتبريكات. لم يمتلئ بهو الكنيسة عن آخره تماماً، فبقيَت هنالك فراغاتٌ صغيرة، وشعرتُ أن هذا يُلائم إدوارَ أكثر ويعطيه فسحةً للنظر إلى آلِهِ الحاضرين لتأبينه ويتيح له السمْعَ أفضل مما لو كان الحاضرون حشوداً مزدحمة متراكبةً تتأتّى منها بالضرورة همهماتٌ تؤذي السكونَ والجلال.

احتُفِلَ بإدوار المسجّى في تابوته احتفالاً راقياً فوُضِعت له وحول حرم جثمانه الزهورُ البِيض؛ وحدها الزهور البيض، وعُزِفت موسيقى لها إشراقٌ وعذوبة، وترنَّمت أصواتُ نساءٍ ورجالٍ في حبورٍ وفي حزنٍ وفي اعتزازٍ وفي تواضُع. وتكلَّم المتحدثون، منهم آباءٌ كَنسيِّون، عن إدوار الدمث الكيِّس الرقيق اللطيف، وأثنوا على كتابات الخرّاط باعتبارها أعماله الحسنة في الحياة الدنيا، وباعتبارها رسالته التي أدّاها مثلما يليق برجلٍ جادٍ موهوب. لم يصرخ أحدٌ، ولم يستدرك، ولم يُؤْذَن أبداًلكلمة "ولكن"، ولم تنتقص التقدمات، فتكلم المتكلمون بوداعةٍ ولياقةٍ وخفوت وبإخلاصٍ شَفَّ من حناجرهم، ولم يكن ثمة نشاز، فكل شيء قد اتحدَ بانسجامٍ كيلا يكون هنالك إلا الطلاقة والبهاء في نهار إدوار الأخير على ظاهر أرضه أرضنا، فطوبى له.

من طين أخميم وطين الطرّانة وزعفران الإسكندرية وطمْي نِيل الزمالك شَبَّ جسدٌ وسعى، وائتلفت روحٌ واستوت، وانبثق نهارُ إدوار قلتة فلتس يوسف الخرّاط، مارْ إدوار، ثم حُقَّ الرجوعُ والارتحالُ إلى المنتهى.

       في لُطفٍ، ليس إلا في لُطف، ارتحلَ هذا الذي أتى وأقامَ وكَتب.

 

(نُشِرت في جريدة "الأخبار" اللبنانية)