هـل يحق لنا أن نتكلم) نحن(عن اليوم العالمي للمسرح؟ اليوم الذي له نكهته الخاصة وطعم آخر في حياة المسرحيين والمبدعين، من شرق الكون إلى غربه. فيه إلى أبعد الحدود؛ تسمو من خلاله جماليات المسرح بين انتصارها للتنوير والأنسة، وكذا مجابهة الإكراهات والتحديات التي تقف بوجهها؛ ولتقييم حصيلة تجربتهم في سياق الاحتفاء السنوي بعَـرض إنجازاتهم وإبداعاتهم وأفكارهم وتصوراتهم الآنية والمستقبلية؛ وعبر هذا اليوم الذي يعتبر محطة للمساءلة الإنتاجية؛ ومن خلاله يتم مواصلة العطاء بكلبأشكاله وأطيافه الفنية والفكرية والجمالية، من أجل تحقيق حرية الإبداع؛ ومن أجل تفعيل مسألة التكريم بأصوله وشروطه المادية والمعْـنوية، لمن أفنى زهرة عمره في العطاء وبذل الجُهد؛ كاعتراف لمن يستحق. وليس للزَّبانيَّـة وللزبُونيـة ولمن ظهر لأول مرة فوق الركح؛ حتى تميع التكريم (عندنا) وأمسى نموذجا لتكريس تفاهة التكريم.(1) ففي هذا اليوم. تترسخ ماهية الروح الطاهرة وعودتها لروح الانسان بنشوة خالصة، لأنه حيثما كان الإنسان فثمة المسرح بأشكاله وشغبه وألوانه وتجاربه. فكيف لنا بالأساس أن نشعر بأننا حركيون وأحياء بالمفهوم الإبداعي، إن لم نراكم خبرات وتجارب متعددة ومتنوعة، تعطي للمسرح قوته الخالصة وتوهجه المائز، ولحياتنا مذاقها الخاص؟ وتلك القوة المسرحية؛ تساهم في نكْهة الحرية؛ باعتبار أن الكائن البشري بفطرته وغريزته يقاوم الاستعْـباد والظلام والاستبداد. باحثا عن أوكسجين الحب والحرية. وبالتالي فالفعل المسرحي في كنهه يدعو الى ذلك، لتحقيق روحانية الاتصال والتواصل مع الآخرين؛ لتحقيق إنسانية الإنسان بنحو مباشر فرجَـويا وتوعَـويا، سواء في القاعات أو الساحات.
فالخطاب المسرحي الصادق بمكوناته الجمالية الفكرية يبدأ أساسا من مخاطبة وعي الحاضرين؛ قصد تحرير العقل. أملا في تحقيق معْـنى الوجود والحياة؛ وترسيخ معنى التسامح والإخاء والمحبة؛ باعتبار أن الله محبة. رغم طغيان عوالم التكنولوجيا والتقنيات المبهرة التي تشيئ الإنسان؛ في زمن الكوننة. هنا المغزى الحقيقي لليوم العالم للمسرح. هل هاته المفاهيم والمبادئ تنطبق على مسرحنا؟ وهل المسرحيون واعون بذلك؛ وبماهية اليوم؟
بدون مواربة؛ وبعيدا عن الأزمة التي خلقتها (كورونا) فموضوع الاحتفاء كان في زمن التضحيات ونكران الذات؛ وفي زمن ذاك الفنان المسرحي؛ الذي كان يرتمي في أحضان عشق الركح؛ يكفيه بذلك زرع بصيص الامل؛ في معمعان الإكراهات؛ ومن زاوية أخرى كان يكفيه استحضار روحانية ديونيزوس؛ عبر المخيال ونسج صور الواقع المعاش بشكل أو آخر، بأسلوب إبداعي وجمالي؛ وشفافية وجمالا وقيمة بكون إنتاج المعِـيش اليومي يكون أكثر حقيقة وصدقا، وله قيمته في واقع الكادحين والمضطهدين والمستعبدين في الأرض. تلك كانت قضية الفنان؛ من يوم انغراس المسرح في التربة المغربية إلى أواخر الثمانينات من القرن الماضي رغم أنه في بعض المحطات كان يعيش بين المنزلتين، ولاسيما أنه كانت تسعى بعض الأيادي لتسفيهه ولتدجينه؛ ونسف مراميه الإنسانية؛ لكي يظل كنوع من النشاط العفوي؛ لتزجية الوقت الثالث.
وفي شق آخر محاولة تنميط العروض المسرحية لكوميديا الفارس (الضحك للضحك بدون هدف) والمسألة لا تتعلق هنا بشق الهواة، بل بالعَـديد من التجارب ذات الصبغة الاحترافية وليست وَهْـما كما هو الآن؛ والتي كانت تسعى لتأسيس مسرح طلائعي حقيقة؟) وهَـذا لازال مسكوت عَـنه ضمن القضايا المسرحية؛ التي لم يعُـد أحد يثيرها أو يناقشها؛ كأن الأقلام جفـَّت والصحف طويَت في النسيج المسرحي المغربي! وبالتالي فالمسرح كائن حَركي، إنـْسي، مرتبط جدليا بسيرورة الحياة التي تفرض تأريخا للحركية الثقافية والفنية؛ من أجل تعاقب الأجيال. لكن المؤسف؛ ظهر جيل من الشباب لتطعيم النسيج المسرحي؛ ولكن بكل أريحية نشير أنه تبين فيما بعْـد، أن المسرح لا يهمه في تطويره والتصاقه بقضايا الشعب وبالشرائح المعَـذبة في الأرض؛ بقدرما يهمه الربح السريع؛ والتهافت على الأموال؛ والمقايضة دون مراعاة لظرفية الطرف الآخر الذي سيتعامل معه. لأن ثقافة التضحية ونكران الذات لا يؤمن بها؛ ولا يؤمن بتضحيات من سبقـوه؛ والأدهى لا يعْـترف بعطائهم ومجهوداتهم.
وإن كان هنالك من سيفند هذا الطرح؛ كان على الأقل أن يتم الرد وتفنيد ما ورد في مقالة نشرناها مؤخرا تحت خط الفنان الخبزي(2) وهـذا مرده؛ لسياسة الدعم المسرحي التي أفرزت مهرولون نحْـو المال والسراب؛ مما سقطت الأغلبية في براثين الابتذال؛ لأن القطاع يتسم أصلا بالهشاشة، ويتسم بمعضلة الدخلاء والسماسرة؛ ويتسم بعدم الضبط المؤسساتي؛ سواء الإداري أو المالي مما اختلطت معه الأوراق؛ وتداخل الحابل بالنابل؛ وأمسى التهافت على بطاقة الفنان، حرقة ما بعْـدها حُرقة! والركض وراء الدعْـم هاجس ما بعْـده هاجس! ولا سيما أن تعَـدد الأنواع الفنية اضمحلت؟؟ بحيث أصبح مسرح الهواة الواجهة الأصل للمسرح المغربي؛ اندحر وانقضى نحبه؛ أما المسرح الطلائعي فقد اغتيل في أواسط الثمانيات من القرن الماضي أما مسرح الشباب فقبل تمظهر (كوفيد 19) أمسى يتدحرج نحو النسف المطلق. أما مسرح الشارع؛ رغم ظهوره بشكل مشوه أصيب بعطب المنع؛ مقابـل هـذا لا ننكر بأن هناك مبدعُـون وفنانون يحترمون أنفـسهم؛ ولم يساهموا قط في اغتيال المسرح.
لأن للمسرح - في رأيي- أعداء يتآمرون عليه من داخله ومن خارجه؛ أما الذين من خارجه فهم التجَّار الذين يسعون إلى الربح، فيفعلون به كما فعلت روما بقرطاج عاصمة تونس التي أسَّسها الفينيقيون، حين احتلتها بعد قرابة مئة عام من مجدها، فهدمتها وقامت بحشو ترابها بالملح حتى لا تصلح للزراعة(3) من أجل مصالحهم وذواتهم؛ ولم يساهموا في صناعة التفاهة والرداءة الفنية؛ ولكن الإشكالية، إنهم مقصيون ومهمشون لأسباب مختلفة؛ منها أنهم خارج اللوبيات المصنوعة في كواليس الإدارة ومن جيوب ينابيع الدعم. وأنهم ساخطون على بؤس وتردي المشهد المسرحي والثقافي. والمحصلة ضاعت روحانية ونكهة الفعل المسرحي الخلاق؛ وهذا ساهم فيه الوباء؛ حتى أن المسرح المغربي أضحى خارج السياق وخارج هذا القول الذي لا يشمله "ففي ظل هذه الظروف الجديدة، حَـوّل الفنانون خيالهم إلى طرق إبداعية وترفيهية ومؤثرة ليتمكنوا من التواصل مع العالم، ويعود الفضل في ذلك بشكل كبير بالطبع إلى شبكة الإنترنت(4) هاته الشبكة أو بالأحرى التكنولوجيا الحديثة بشكل عام. يتهيب منها أغلب الفنانين؛ لأنهم لا يعرفون استعمالها واستغلالها. وهذا ليس حكما معياريا؛ فالقرينة بالقول يبطل الادعاء (أي) هناك نقابات مهنية متعددة؛ ولا واحدة فيهم تتوفر على موقع للتواصل ونشر قضاياها وأنشطتهما المعدومة سلفا. اللهم بعض التجمعات التي كانت قبل الوباء، لصرف ميزانية تندرج ضمن مختلفات؟ وهناك فرقتين لهما موقع إلكتروني؛ ولم يتم تفعيله؟ من يوم إقصائهما من الدعْـم المسرحي؟
ففي ظل وضع مسرحي متهالك مشكوك في جهازه التنفسي فأي نكهة تليق باليوم العالمي للمسرح؟ وأي خطاب يمكن أن يقدم في هذا اليوم كمحطة أساس في تاريخ المسرحيين، لاستعادة بهاء العطاء الإبداعي والفني؟ وأي استراتيجية يمكـن أن يضعها المسرحيون المغاربة قاطبة، للمساهمة الفاعلة في بناء وتجديد خطاب ثقافة مسرحية بديلة؟ سؤال يدفعنا لسؤال كيف؟ وأين هي اللغة، وما هي الحركات والصور التي قد تسمح لنا بفهم التحولات والتمزقات العميقة التي نمر بها؟ وكيف يمكننا أن ننقل مضمون حياتنا الآن ليس كريبورتاجٍ صحفي بل كتجربة؟(5) بدءً بتفعيل النقاش الجاد تجاه المسرح بالمغرب، وبقضاياه الأساس، والأجْـدر إلى إعادة طرح السؤال المسرحي طرحا مغايرا بمنظور جديد ومختلف يُعاد فيه الاعتبار للمسرح والمسرحيين، فلا مناص من فهْـم ووعي غايات هذا اليوم ومدى أهميته في انتعاش عقولنا، وتجديد حواسنا، وتخيلاتنا، وتاريخنا.
إن مسرح الرؤية الملحمية والغرض الملحمي والتعافي الملحمي والإصلاح الملحمي والرعاية الملحمية يحتاج إلى طقوسٍ جـديدة. لسنا بحاجة إلى الترفيه، بل إلى التجمع ومشاركة الفضاء الواحد، نحن بحاجة إلى إنشاء فضاءٍ مشترك ومساحاتٍ محمية للاستماع العميق والمساواة(6) يبدو لي هذا من باب المستحيلات، وهنا لست متشائما أو لـَدي رؤية سوداوية بل الواقع/ المشهد المسرحي؛ ومعطياته هو الذي يتكلم؛ ويفرض علينا أن نبوح تجاه ما أصاب عِـشقنا المتفرد. ولا نبالغ انطلاقا من معطيات الواقع كذلك. بأننا حقيقة نعـيش الآن زمن تفسخ وبؤس وهَـزيمة وانكسار في المجال الثقافي عموما؛ والمسألة ليست الآن بل بوادر ذلك تمظهر في أواخر العقد السابق(7) والغرابة أننا لم نـُرس تقاليد مسرحية وثقافية راسخة في البنى الإجتماعية؛ تساهِـم في تسابق الجماهير لحضور العُـروض ومتابعتها، لكي نقطع بها أشواطا طويلة في الحداثة والتجريب، تساهم إلى أبعد الحدود في تأسيس مدارس ومناهج مسرحية ذات منظور حَـداثي/ مواكب، للتطورات والابتكارات الجديدة والبديلة؛ في فنون الفرجة والآداء. وخاصة المسرح الرقمي الذي يعتبر الآن آخر تطور يسعى لكسر المألوف والسائد في مسرح ما بعْـد الحَـداثة.
إحـــالات :
1) انظر لموضوعنا- ثقافة التـكـريم - : في مجلة دنيا الرأي بتاريخ2014/05/14
2) انظر لمقال - الفنان الخبزي – في صحيفة - كفى بريس بتاريخ 09/03/ 2022
3) هموم ثقافية. المسرح والتعليم. لأنور محمد- في شبكة جيرون الإعلامية بتاريخ 03/12/ 2018
4) رسالة اليوم العالمي للمسرح لسنة 2021 كتبتها الفنانة: هيلين ميرين ( فنانة إنكليزية)
5) رسالة اليوم العالمي للمسرح – لسنة/ 2022 - كتبها: بيتر سيلرز(مخرج مسرح وأوبرا ومدير مهرجانات من الولايات المتحدة الأمريكية )
6) نفس الرسالة
7) انظر لموضوعنا - الجـفاف المسرحي - في :مجلة ثقافات بتاريخ 01/02/2016